الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(تَمَادى بِنَا فِي جَاهِلِيَّة بخلها
…
وَقد قَامَ بِالْمَعْرُوفِ فِي النَّاس شَارِع)
(وتحسب ليل الشحّ يمتدّ بَعْدَمَا
…
بدا طالعا شمس السخاء طلائع)
فصل
ثمَّ أرسل السُّلْطَان الْخَطِيب شمس الدّين بن الْوَزير أبي المضاء إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز برسالة ضمنهَا القَاضِي الْفَاضِل كتابا طَويلا رائقا فائقا يشْتَمل على تعداد مَا للسُّلْطَان من الأيادي من جِهَاد الإفرنج فِي حَيَاة نور الدّين ثمَّ فتح مصر واليمن وبلادٍ جمةٍ من أَطْرَاف الْمغرب وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية بهَا يَقُول فِي أَوله للرسول
فَإِذا قضى التَّسْلِيم حق اللِّقَاء واستدعى الْإِخْلَاص جهد الدُّعَاء فليعد وليعد حوادث مَا كَانَت حَدِيثا يفترى وجواري أُمُور إِن قَالَ فِيهَا كثيرا فَأكْثر مِنْهُ مَا قد جرى وليشرح صَدرا مِنْهَا لَعَلَّه يشْرَح منا صَدرا وليوضح الْأَحْوَال المستسرة فَإِن الله لَا يعبد سرا
(وَمن الغرائب أَن تسير غرائب
…
فِي الأَرْض لم يعلم بهَا المأمول)
(كالعيس أقتل مَا يكون لَهَا الصدى
…
وَالْمَاء فَوق ظُهُورهَا مَحْمُول)
فَإنَّا كُنَّا نقتبس النَّار بأكفنا وغيرنا يَسْتَنِير ونستنبط المَاء بِأَيْدِينَا وسوانا يستمير ونلقى السِّهَام بنحورنا وغيرنا يعْتَمد التَّصْوِير ونصافح الصفاح
بصدورنا وغيرنا يَدعِي التصدير وَلَا بُد أَن نسترد بضاعتنا بموقف الْعدْل الَّذِي تُرد بِهِ الغصوب وَتظهر طاعتنا فنأخذ بحظ الألسن كَمَا أَخذنَا بحظ الْقُلُوب وَمَا كَانَ العائق إِلَّا أَنا كنّا نَنْتَظِر ابْتِدَاء من الْجَانِب الشريف بِالنعْمَةِ يضاهي ابتداءنا بِالْخدمَةِ وإيجابا للحق يشاكل إيجابنا للسبق وَكَانَ أول أمرنَا أَنا كُنَّا فِي الشَّام نفتتح الْفتُوح مباشرين بِأَنْفُسِنَا ونجاهد الْكفَّار مُتقدمين لعساكرنا نَحن ووالدنا وعمنا فَأَي مَدِينَة فتحت أَو معقل مُلك أَو عَسْكَر لِلْعَدو كُسر أَو مصَاف لِلْإِسْلَامِ مَعَه ضرب لم نَكُنْ فِيهِ فَمَا يجهل أحد صنعنَا وَلَا يجْحَد عدونا أَنا نصطلي الْجَمْرَة ونملك الكرة ونتقدم الْجَمَاعَة ونُرتب الْمُقَاتلَة وندبر التعبئة إِلَى أَن ظَهرت فِي الشَّام الْآثَار الَّتِي لنا أجرهَا وَلَا يضرنا أَن يكون لغيرنا ذكرهَا
وَكَانَت أَخْبَار مصر تتصل بِنَا بِمَا الْأَحْوَال عَلَيْهِ فِيهَا من سوء تَدْبِير وَبِمَا دولتها عَلَيْهِ من غَلَبَة صَغِير على كَبِير وَأَن النظام بهَا قد فسد وَالْإِسْلَام بهَا قد ضعف عَن إِقَامَته كل من قَامَ وَقعد والفرنج قد احْتَاجَ من يدبرها إِلَى أَن يقاطعهم بأموال كَثِيرَة لَهَا مقادير خطيرة وَأَن كلمة السّنة بهَا وَإِن كَانَت مَجْمُوعَة فَإِنَّهَا مقموعة وَأَحْكَام الشَّرِيعَة وَإِن كَانَ مُسَمَّاة فَإِنَّهَا متحاماة وَتلك الْبدع بهَا على مَا يعلم وَتلك الضلالات فِيهَا على مَا يُفْتى فِيهِ بِفِرَاق الْإِسْلَام وَيحكم وَذَلِكَ الْمَذْهَب قد خالط من أَهله اللَّحْم وَالدَّم وَتلك الأنصاب قد نصب آلِهَة تُعبد من دون الله وتعظم وتفخم فتعالى الله
عَن شبه الْعباد وويل لمن غرّه تَقَلُّبُ الذَيِنَ كَفَرُوا فِي البلادِ فَسَمت همتنا دون همم أهل الأَرْض إِلَى أَن نستفتح مُقفلها ونسترجع لِلْإِسْلَامِ شاردها ونعيد على الدّين ضالته مِنْهَا فسرنا إِلَيْهَا فِي عَسَاكِر ضخمة وجموع جمة وبأموال انتهكت الْمَوْجُود وَبَلغت منا المجهود أنفقناها من حَاصِل ذممنا وَكسب أَيْدِينَا وَثمن اسارى الفرنج الواقعين فِي قبضتنا فعرضت عوارض منعت وتوجهت للمصريين رسل باستنجاد الفرنج قطعت و {لكل أجلٍ كتابُ} ولكلّ أمل بَاب وَكَانَ فِي تَقْدِير الله تَعَالَى أَنا نملكها على الْوَجْه الْأَحْسَن ونأخذها بالحكم الْأَقْوَى الأمكن فغدر الفرنج بالمصريين غدرة فِي هدنة عظم خطبهَا وخبطها وَعلم أَن استئصال كلمة الْإِسْلَام محطها فكاتبنا الْمُسلمُونَ من مصر فِي ذَلِك الزَّمَان كَمَا كاتبنا الْمُسلمُونَ من الشَّام فِي هَذَا الأوان بِأَنا إِن لم ندرك الْأَمر وَإِلَّا خرج عَن الْيَد وَإِن لم ندفع غَرِيم الْيَوْم لم نمهل إِلَى الْغَد فسرنا بالعساكر الْمَجْمُوعَة وأمراء الْأَهْل الْمَعْرُوفَة إِلَى بِلَاد قد تمهد لنا بهَا أَمْرَانِ وتقرر لنا فِي الْقُلُوب وُدان الأول مَا علموه من إيثارنا للْمَذْهَب الأقوم وإحياء الحقّ الأقدم وَالْآخر مَا يرجونه من فك أسارهم وإقالة عثارهم فَفعل الله مَا هُوَ أَهله وَجَاء الْخَبَر إِلَى الْعَدو فَانْقَطع حبله وَضَاقَتْ بِهِ سبله وَأَفْرج عَن الديار بعد أَن كَانَت ضياعها ورساتيقها وبلادها وأقاليمها قد نفذت فِيهَا أوامره وخفقت عَلَيْهَا صلبانه ونصبت بهَا أوثانه وأيس من أَن
يسترجع مَا كَانَ بِأَيْدِيهِم حَاصِلا وَأَن يستنقذ مَا صَار فِي ملكهم دَاخِلا ووصلنا الْبِلَاد وَبهَا أجناد عَددهمْ كثير وسوادهم كَبِير وَأَمْوَالهمْ وَاسِعَة وكلمتهم جَامِعَة وهم على حَرْب الْإِسْلَام أقدر مِنْهُم على حَرْب الْكفْر وَالْحِيلَة فِي السّر فيهم أنفذ من الْعَزِيمَة فِي الْجَهْر وَبهَا راجل من السودَان يزِيد على مئة ألف كلهم أغتام أعجام {إِن هم إِلَّا كالأنعام} لَا يعْرفُونَ رَبًّا إِلَّا سَاكن قصره وَلَا قبْلَة إِلَّا مَا يتوجهون إِلَيْهِ من رُكْنه وامتثال أمره وَبهَا عَسْكَر من الأرمن باقون على النَّصْرَانِيَّة مَوْضُوعَة عَنْهُم الْجِزْيَة كَانَت لَهُم شَوْكَة وشكة وحمة وحمية وَلَهُم حواش لقصورهم من بَين دَاع تلطف فِي الضلال مداخله وتصيب الْقُلُوب مخاتله وَمن بَين كُتاب تفعل أقلامهم أَفعَال الأسل وخُدام يجمعُونَ إِلَى سَواد الْوُجُوه سَواد النَّحْل ودولة قد كبر نملها الصَّغِير وَلم يعرف غَيرهَا الْكَبِير ومهابة تمنع من خطرات الضَّمِير فَكيف بخطوات التَّدْبِير هَذَا إِلَى اسْتِبَاحَة للمحارم ظَاهِرَة وتعطيل للفرائض على عَادَة جائرة وتحريفٍ للشريعة بالتأويل وعدول إِلَى غير مُراد الله بالتنزيل وَكفر سُمي بِغَيْر اسْمه وشرعٍ يتستر بِهِ وَيحكم بِغَيْر حكمه فَمَا زلنا نسحتهم سحت المبارد للشفار ونتحيفهم تحيف اللَّيْل وَالنَّهَار للأعمار بعجائب تَدْبِير لَا تحتملها المساطير وغرائب تَقْدِير لَا تحملهَا الأساطير ولطيف توصل مَا كَانَ من حِيلَة الْبشر وَلَا قدرتهم لَوْلَا إِعَانَة الْمَقَادِير وَفِي أثْنَاء ذَلِك استنجدوا علينا الفرنج دفْعَة إِلَى
بلبيس ودفعة إِلَى دمياط وَفِي كلّ دفْعَة مِنْهَا وصلوا بِالْعدَدِ المجهر والحشد الأوفر وخصوصا فِي نوبَة دمياط فَإِنَّهُم نازلوها بحراً فِي ألف مركب مقَاتل وحامل وبرَّا فِي مئتي ألف فَارس وراجل وحصروها شَهْرَيْن يباكرونها ويراوحونها ويماسونه ويصابحونها الْقِتَال الَّذِي يصلبه الصَّلِيب والقراع الَّذِي يُنَادى بِهِ الْمَوْت من كلّ مَكَان قريب وَنحن نُقَاتِل العدوين الْبَاطِن وَالظَّاهِر ونصابر الضدين الْمُنَافِق وَالْكَافِر حَتَّى أَتَى الله بأَمْره وأيدنا بنصره وخابت المطامع من المصريين والفرنج وشرعنا فِي تِلْكَ الطوائف من الأرمن والسودان والأجناد فأخرجناهم من الْقَاهِرَة تَارَة بالأوامر المرهقة لَهُم وبالأمور الفاضحة مِنْهُم وبالسيوف الْمُجَرَّدَة وبالنار المحرقة حَتَّى بَقِي الْقصر وَمن بِهِ من خدم وَمن ذرّية قد تفرّقت شيعه وتمزقت بدعه وخفتت دَعوته وخَفِيت ضلالته فهنالك تمّ لنا إِقَامَة الْكَلِمَة والجهر بِالْخطْبَةِ وَالرَّفْع للواء الْأسود الْمُعظم وعاجل الله الطاغية الْأَكْبَر بهلاكه وفنائه وبرأنا من عُهدة يَمِين كَانَ إِثْم حنثها أيسر من إِثْم إبقائه لِأَنَّهُ عوجل لفرط رَوْعَته وَوَافَقَ هَلَاك شخصه هَلَاك دولته وَلما خلا ذرعنا ورحب وسعنا نَظرنَا فِي الْغَزَوَات إِلَى بِلَاد الْكفَّار فَلم تخرج سنة إِلَّا عَن سنة أُقِيمَت فِيهَا برا وبحرا مركبا وظهرا إِلَى أَن أوسعناهم قتلا وأسرا وملكنا رقابهم قهرا وقسرا وفتحنا لَهُم معاقل مَا خطر أهل الْإِسْلَام فِيهَا مذ أُخذت من أَيْديهم وَلَا أُوجفت عَلَيْهَا خيلهم وَلَا رِكَابهمْ مذ ملكهَا أعاديهم فَمِنْهَا مَا حكمت فِيهِ يَد الخراب وَمِنْهَا
فعجَّل جائزته لتكذيب قَوْله وتصديق ظنِّه فشرِّفه وَجمع لَهُ بَين الخلعة والضَّيْعة
وعني الْفَاضِل مَا قَالَه فِي قصيدة فِي مدح الصَّالح بن رزيك الَّتِي أَولهَا
(أما كَفاك تلافي فِي تلافيكا
)
يَقُول فِيهَا
(يَا كعبة الْجُود إِن الْفقر أقعدني
…
ورقّة الْحَال عَن مَفْرُوض حجيكا)
(من أرتجي يَا كريم الدَّهْر تنعشني
…
جدواه إِن خَابَ سعيي فِي رجائيكا)
(أأمدح التّرْك أبغي الْفضل عِنْدهم
…
وَالشعر مَا زَالَ عِنْد التُّرك متروكا)
(أم أمدح السُّوقة النوكي لرفدهم
…
واضيعتا إِن تخطتني أياديكا)
(لَا تتركني وَمَا أملَّت فِي سَفَرِي
…
سواك أقفلُ نَحْو الْأَهْل صعلوكا)
قلت وَقد مضى ذكر ابْن أسعد هَذَا فِي أَخْبَار سنة ثَمَان وَخمسين وَسَيَأْتِي من شعره أَيْضا فِي أَخْبَار سنة سِتّ وَسبعين وثمان وَسبعين
وَمَا أحسن مَا خرج ابْن الدهان من الْغَزل إِلَى مدح ابْن رزيك فِي قَوْله من قصيدة أَولهَا
(إِذا لَاحَ برق من جنابك لامع
…
أَضَاء لواش مَا تجن الأضالع)
يَقُول فِيهَا
بِحَمْد الله قد تملكنا مِمَّا يجاورنا مِنْهُ بلادا تزيد مسافتها على شهر وسيرنا إِلَيْهَا عسكرا بعد عَسْكَر فَرجع بنصر بعد نصر وَمن الْبِلَاد الْمَشَاهِير والأقاليم الجماهير برقة قَفْصة قسطيلية تَوْزَر كلّ هَذِه تُقَام فِيهَا الْخطْبَة لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ سَلام الله عَلَيْهِ وَلَا عهد لِلْإِسْلَامِ بإقامتها وَينفذ فِيهَا الْأَحْكَام بعلمها الْمَنْصُور وعلامتها
وَفِي هَذِه السّنة كَانَ عندنَا وفْدُ قد شَاهده وُفُود الْأَمْصَار ورموه بأسماع وأبصار مِقْدَاره سَبْعُونَ رَاكِبًا كلّهم يطْلب لسلطان بَلَده تقليدا ويرجو منا وَعدا وَيخَاف وعيدا وَقد صدرت عَنَّا بِحَمْد الله تقاليدها وألقيت إِلَيْنَا مقاليدها وسيَّرنا الْخلْع والمناشير والألوية بِمَا فِيهَا من الْأَوَامِر والأقضية فَأَما الْأَعْدَاء المحدقون بِهَذِهِ الْبِلَاد وَالْكفَّار الَّذين يقاتلوننا بالممالك الْعِظَام والعزائم الشّداد فَمنهمْ صَاحب قسطنطينية وَهُوَ الطاغية الْأَكْبَر والجالوت الأكفر وَصَاحب المملكة الَّتِي أكلت على الدّهر وشربت وقائم النَّصْرَانِيَّة الذّي حكمت دولته على ممالكها وغلبت جَرَت لنا مَعَه غزوات بحريّة ومناقلات ظَاهِرَة وسّرية وَلم نخرج من مصر إِلَى أَن وصلتنا رسله فِي جُمُعَة وَاحِدَة نَوْبتين بكتابين كلّ واحدٍ مِنْهُمَا يظْهر فِيهِ خفض الْجنَاح وإلقاء السِّلَاح والانتقال من معاداة إِلَى مهاداة وَمن مفاضحة إِلَى مناصحة حَتَّى إِنَّه أنذر بِصَاحِب صقلية وأساطليه الَّتِي ترّدد ذكرهَا وعساكره الَّتِي لم يخف أمرهَا
وَمن هَؤُلَاءِ الْكفَّار هَذَا صَاحب صقلية كَانَ حِين علم بِأَن صَاحب الشَّام وَصَاحب قسطنطينية قد اجْتمعَا فِي نوبَة دمياط فغلبا وقُسرا وهزما وكُسرا أَرَادَ أَن يظْهر قوته المستقلة فعمر أسطولا استوعب فِيهِ مَاله
وزمانه فَلهُ الْآن خمس سِنِين يكثر عدته وينتحب عُدّته إِلَى أَن وصل مِنْهَا فِي السّنة الخالية إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة أَمر رائع وخطب هائل مَا أثقل ظهر الْبَحْر مثل حمله وَلَا مَلأ صَدره مثل خيله وَرجله وَمَا هُوَ إِلَّا إقليم بل أقاليم نَقله وجيش مَا احتفل ملك قطّ بنظيره لَوْلَا أَن الله خذله
وَمن هَؤُلَاءِ الجيوش البنادقة والبياشنة والجنوية كل هَؤُلَاءِ تَارَة يكونُونَ غزَاة لَا تطاق ضراوة ضرهم وَلَا تطفأ شرارة شرّهم وَتارَة يكونُونَ سُفّاراً يحتكمون على الْإِسْلَام فِي الْأَمْوَال المجلوبة وتقصر عَنْهُم يَد الْأَحْكَام المرهوبة وَمَا مِنْهُم إِلَّا من هُوَ الْآن يجلب إِلَى بلدنا آلَة قِتَاله وجهاده ويتقرب إِلَيْنَا بإهداء طرائف أَعماله وتلاده وَكلهمْ قد قُرّرت مَعَهم المواصلة وانتظمت مَعَهم المسالمة على مَا نُرِيد ويكرهون وعَلى مَا نؤثر وهم لَا يؤثرون
وَلما قضى الله سُبْحَانَهُ بالوفاة النورية وَكُنَّا فِي تِلْكَ السّنة على نيّة الْغُزَاة والعساكر قد تجهزت وَالْمُضَارب قد برزت وَنزل الفرنج بانياس وأشرفوا على احتيازها ورأوها فرْصَة مدُّوا يَدَ انتهازها استصرخ بِنَا صَاحبهَا فسرنا مراحل اتَّصل بالعدوّ أمرهَا وعوجل بالهدنة الدمشقية الَّتِي لَوْلَا مسيرنا مَا انتظم حكمهَا
ثمَّ عدنا إِلَى الْبِلَاد وتوافت إِلَيْنَا الْأَخْبَار بِمَا المملكة النورية عَلَيْهِ من تشعُّب الآراء وتوزعها وتشتُّت الْأُمُور وتقطعها وَأَن كلّ قلعة قد حصل
فِيهَا صَاحب وكلّ جَانب قد طمح إِلَيْهِ طَالب والفرنج قد بنوا قلاعا يتحيفون بهَا الْأَطْرَاف الإسلامية ويضايقون بهَا الْبِلَاد الشامية وأمراء الدولة النورية قد سجن كبارهم وعُوقبوا وصودروا والمماليك الأغمار الَّذين خلقُوا للأطراف لَا للصدور وَجعلُوا للْقِيَام لَا للقعود فِي الْمجْلس المحضور قد مدوا الْأَيْدِي والأعين وَالسُّيُوف وَسَاءَتْ سيرتهم فِي الْأَمر بالمنكر والنهيّ عَن الْمَعْرُوف وكلّ وَاحِد يتَّخذ عِنْد الفرنج يدا ويجعلهم لظهره سندا وَعلمنَا أَن الْبَيْت الْمُقَدّس إِن لم تتيسرّ الْأَسْبَاب لفتحه وَأمر الكُفر إِن لم يُجرد الْعَزْم فِي قلعه وَإِلَّا نَبتَت عروقه واتسعت على أهل الدّين خُروقه وَكَانَت الْحجَّة لله قَائِمَة وهمم القادرين بالقعود آثمة وَإِنَّا لَا نتمكن بِمصْر مِنْهُ مَعَ بعد الْمسَافَة وَانْقِطَاع الْعِمَارَة وكلال الدَّوَابّ الَّتِي بهَا على الْجِهَاد الْقُوَّة وَإِذا جاورناه كَانَت الْمصلحَة بادية وَالْمَنْفَعَة جَامِعَة وَالْيَد قادرة والبلاد قريبَة والغزوة مُمكنَة والميرة متسعة وَالْخَيْل مستريحة والعساكر كَثِيرَة الجموع والأوقات مساعدة وأصلحنا مَا فِي الشَّام من عقائد معتّلة وَأُمُور مختلة وأراء فَاسِدَة وأمراء متحاسدة وأطماع غالبة وعقول غَائِبَة وحفظنا الْوَلَد الْقَائِم بعد أَبِيه فَأَنا بِهِ أولى من قوم يَأْكُلُون الدّنيا باسمه ويُظهرون الْوَفَاء فِي خدمته وهم عاملون بظلمه
وَالْمرَاد الْآن هُوَ كلّ مَا يقوّي الدولة ويؤكد الدعْوَة وَيجمع الْأمة ويحفظ الألفة وَيضمن الرأفة وَيفتح بَقِيَّة الْبِلَاد وَأَن يطبق بِالِاسْمِ العباسي كل مَا تطبقه العهاد وَهُوَ تَقْلِيد جَامع بِمصْر واليمن وَالْمغْرب وَالشَّام وكل مَا تشْتَمل عَلَيْهِ الْولَايَة النورية وكلّ مَا يَفْتَحهُ الله
تَعَالَى للدولة العباسية بسيوفنا وسيوف عساكرنا وَلمن نقيمه من أَخ أَو ولد من بَعدنَا تقليدا يضمن للنعمة تخليدا وللدعوة تجديدا مَعَ مَا ينعم بِهِ من السمات الَّتِي فِيهَا الْملك وَبِالْجُمْلَةِ فالشام لَا تنتظم أُمُوره بِمن فِيهِ وَالْبَيْت الْمُقَدّس لَيْسَ لَهُ قرنٍ يقوم بِهِ ويكفيه والفرنج فهم يعْرفُونَ منا خصما لَا يمل الشَّرّ حَتَّى يملوا وقرنا لَا يزَال محرم السَّيْف حَتَّى يحلوا وَإِذا شدّ رَأينَا حسن الرَّأْي ضربنا بِسيف يقطع فِي غمده وبلغنا المنى بِمَشِيئَة الله تَعَالَى ويّدُ كلّ مُؤمن تَحت برده واستنقذنا أَسِيرًا من الْمَسْجِد الَّذِي أسرى الله إِلَيْهِ بِعَبْدِهِ
وَمن كتاب آخر فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى الدّيوان فِي تعداد مَاله من الأيادي قَالَ وَالَّذِي أجراه الله تَعَالَى على يَد الْمَمْلُوك من الممالك الَّتِي دوخها وَسنَن الضلال الَّتِي نسخهَا وعقود الْإِلْحَاد الَّتِي فَسخهَا ومنابر الْبَاطِل الَّتِي رَحَضَها وحجج الزندقة الَّتِي دحضها فَللَّه عَلَيْهِ الْمِنَّة فِيهِ إذْ أَهله لشرف مشهده وَمَا فعله إِلَّا لوجهه ويدُ الله كَانَت عون يَده وَإِلَّا فقد مَضَت اللَّيَالِي وَالْأَيَّام على تِلْكَ الْأُمُور وَمَا تحركت للفلك فِي قلعهَا نابضة وغبرت الْأَحْوَال على تِلْكَ الْبِدْعَة وَمَا ثارت لأفراسها رابضة فَشكر يَد الله تَعَالَى فِيمَا أجراه على يَده مِنْهَا أَن يجْتَهد فِي أُخْرَى مثلهَا فِي الْكفَّار وَقد عَاد الْإِسْلَام إِلَى وَطنه وصوّحت من الْكفْر خضراء دمنه
وَمن كتاب آخر للفاضل يذكر فِيهِ إِعَادَة صَلَاح الدّين الْخطْبَة بِمصْر للدولة العباسية يَقُول فِيهِ حَتَّى أَتَى الدّنيا ابْن بجدتها فَقضى من الْأَمر
مَا قضى وأسخط من لله فِي سخطه رضَا وَجعل وَجه لابسي السوَاد مُبيضا فَأدْرك لَهُم بثأرٍ نَامَتْ عَنهُ الهمم ودوّخت عَلَيْهِ الْأُمَم وشفى الصُّدُور وَجَاء بِالْحَقِّ إِلَى من غره بِاللَّه الْغرُور واستبضع إِلَى الله تَعَالَى تِجَارَة لن تبور
وَمن كتاب آخر قد بورك للخادم فِي الطَّاعَة الَّتِي لبس الْأَوْلِيَاء شعارها وأمضى فِي الْأَعْدَاء شفارها وَجمع عَلَيْهَا الدّين وَكَانَ أديانا واستقامت بهَا الْقُلُوب على صبغة التَّكَلُّف وَكَانَت ألوانا
وَمن كتاب آخر لم يكن سَبَب خُرُوج الْمَمْلُوك من بَيته إِلَّا وعد كَانَ انْعَقَد بَينه وَبَين نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى فِي أَن يتجاذبا طرفِي الْغُزَاة من مصر وَالشَّام الْمَمْلُوك بعسكري برّه وبحره وَنور الدّين من جَانب سهل الشَّام ووعره فَلَمَّا قضى الله بالمحتوم على أَحدهمَا وَحدثت بعد الْأُمُور أُمُور اشتهرت للْمُسلمين عورات وضاعت ثغور وتحكمت الآراء الْفَاسِدَة وفُورقت المحاج القاصدة وَصَارَت الباطنية بطانة من دون الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار مَحْمُولَة إِلَيْهَا جزى الْمُسلمين والأمراء الَّذين كَانُوا لِلْإِسْلَامِ قَوَاعِد وَكَانَت سيوفهم للنصر موارد يَشكونَ ضيق حلقات الأسار وتطرق الْكفَّار بِالْبِنَاءِ فِي الْحُدُود الإسلامية وَلَا خَفَاء أَن الفرنج بعد حلولنا بِهَذِهِ الخطة قَامُوا وقعدوا واستنجدوا علينا أنصار النَّصْرَانِيَّة فِي الأقطار وسيروا الصَّلِيب وَمن كسى مذابحهم بقمامة وهددوا طاغية كفرهم بأشراط الْقِيَامَة ونفذوا البطارقة والقسيسين برسائل صور من يصورّونه مِمَّن يسمونهم