الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
فَفِي أول صفر مِنْهَا نزل الفرنج خذلهم الله تَعَالَى على دمياط من الديار المصرية
قَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ فرنج السَّاحِل لما ملك أَسد الدّين مصر قد خَافُوا وأيقنوا بِالْهَلَاكِ فكاتبوا الفرنج الَّذين بالأندلس وصقلية يستمدونهم ويعرفونهم مَا تجدّد من ملك مصر وَأَنَّهُمْ خائفون على الْبَيْت الْمُقَدّس من الْمُسلمين وَأَرْسلُوا جمَاعَة من القسوس والرهبان يحرضون النَّاس على الْحَرَكَة فأمدوهم بِالْمَالِ وَالرِّجَال وَالسِّلَاح وأتعدوا على النُّزُول على دمياط ظنا مِنْهُم أَنهم يملكونها ويتخذونها ظهرا يملكُونَ بِهِ ديار مصر فَلَمَّا نازلوها حصروها وضيقوا على من بهَا فَأرْسل إِلَيْهَا صَلَاح الدّين العساكر فِي النّيل وَحشر فِيهَا كل من عِنْده وأمدهم بِالْمَالِ وَالسِّلَاح والذخائر وتابع رسله إِلَى نور الدّين يشكو مَا هُوَ فِيهِ من المخاوف وَأَنه إِن تخلف عَن دمياط ملكهَا الفرنج وَإِن سَار إِلَيْهَا خَلفه المصريون فِي مخلّفيه ومخلفيّ عسكره بالسوء وَخَرجُوا من طَاعَته وصاروا من خَلفه والفرنج من أَمَامه فَجهز إِلَيْهِ نور الدّين العساكر أَرْسَالًا كلما تجهزت طَائِفَة أرسلها فسارت إِلَيْهِ يَتْلُو بَعْضهَا بَعْضًا ثمَّ سَار نور الدّين فِيمَن عِنْده من العساكر فَدخل بِلَاد الإفرنج فنهبها وأغار عَلَيْهَا واستباحها ووصلت الغارات إِلَى مَا لم تكن تبلغه لخلو الْبِلَاد من ممانع
فَلَمَّا رأى الفرنج تتَابع العساكر إِلَى مصر وَدخُول نور الدّين بلادها ونهبها وإخرابها رجعُوا خائبين وَلم يظفروا بِشَيْء وَهَذَا مَوضِع الْمثل ذهبت النعامة تطلب قرنين فَعَادَت بِلَا أذنين فوصلوا إِلَى بِلَادهمْ فرأوها خاوية على عروشها
وَكَانَ مُدَّة مقامهم على دمياط خمسين يَوْمًا أخرج فِيهَا صَلَاح الدّين أَمْوَالًا لَا تحصى حُكيَ لي عَنهُ أَنه قَالَ مَا رَأَيْت أكْرم من العاضد أرسل إليّ مُدَّة مُقام الفرنج على دمياط ألف ألف دِينَار مصرية سوى الثِّيَاب وَغَيرهَا
قَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد لما علم الفرنج مَا جرى من الْمُسلمين وعساكرهم وَمَا تمّ للسُّلْطَان من استقامة الْأَمر فِي الديار المصرية علمُوا أَنه يملك بِلَادهمْ وَيخرب دِيَارهمْ ويقلع آثَارهم لما حدث لَهُ من الْقُوَّة وَالْملك فَاجْتمع الفرنج وَالروم جَمِيعًا وَحَدثُوا نُفُوسهم بِقصد الديار المصرية والاستيلاء عَلَيْهَا وملكها وَرَأَوا قصد دمياط لتمكن القاصد لَهَا من الْبر وَالْبَحْر ولعلمهم أَنَّهَا إِن حصلت لَهُم حصل لَهُم مغرس قدم يأوون إِلَيْهِ فاستصحبوا المنجنيقات والدبابات والجروخ وآلات الْحصار وَغير ذَلِك وَلما سمع الفرنج بِالشَّام ذَلِك اشْتَدَّ أَمرهم فسرقوا حصن
عكار من الْمُسلمين وأسروا صَاحبهَا وَكَانَ مَمْلُوكا لنُور الدّين يُسمى خطلخ العلمدار وَذَلِكَ فِي ربيع الآخر مِنْهَا
وَفِي رَجَب مِنْهَا توفّي الْعِمَادِيّ صَاحب نور الدّين وأمير حَاجِبه وَكَانَ صَاحب بعلبك وتدمر
وَلما رأى نور الدّين ظُهُور الفرنج وبلغه نزولهم على دمياط قصد شغل قُلُوبهم فَنزل على الكرك محاصراً لَهَا فِي شعْبَان من هَذِه السّنة فقصده فرنج السَّاحِل فَرَحل عَنْهَا وَقصد لقاءهم فَلم يقفوا لَهُ
ثمَّ بلغه وَفَاة مجد الدّين ابْن الداية بحلب فِي رَمَضَان فاشتغل قلبه لِأَنَّهُ كَانَ صَاحب أمره فَعَاد يطْلب الشَّام فَبَلغهُ خبر الزلزلة بحلب الَّتِي خربَتْ كثيرا من الْبِلَاد وَكَانَت فِي ثَانِي عشر شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وَهُوَ بعشترا فَسَار يطْلب حلب فَبَلغهُ موت أَخِيه قطب الدّين بالموصل وَكَانَت وَفَاته فِي الثَّانِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة وبلغه الْخَبَر وَهُوَ بتل بَاشر فَسَار من ليلته طَالبا بِلَاد الْموصل
وَلما علم صَلَاح الدّين شدَّة قصد الْعَدو دمياط أنفذ إِلَى الْبَلَد وأودعه من الرِّجَال والأبطال والفرسان والميرة والآت السِّلَاح مَا أَمن مَعَه عَلَيْهِ ووعد المقيمين فِيهِ بإمدادهم بالعساكر والآلات وإزعاج الْعَدو عَنْهُم إِن نزل
عَلَيْهِم وَبَالغ فِي العطايا والهبات وَكَانَ وزيرا متحكما لَا يرد أمره فِي شَيْء ثمَّ نزل الفرنج عَلَيْهَا فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور وَاشْتَدَّ زحفهم عَلَيْهَا وقتالهم لَهَا وَهُوَ رَحمَه الله تَعَالَى يَشن الغارات عَلَيْهِم من خَارج والعسكر يقاتلهم من دَاخل ونْصرُ الله للْمُسلمين يؤيدهم وَحسن قَصده فِي نصْرَة دين الله يسعدهم وينجدهم حَتَّى بَان لَهُم الخسران وَظهر على الْكفْر الْإِيمَان وَرَأَوا أَنهم ينجون برؤوسهم ويسلمون بنفوسهم فرحلوا خائبين خاسرين فحرقت مجانيقهم ونهبت الآتهم وَقتل مِنْهُم خلق عَظِيم وَسلم الْبَلَد بِحَمْد الله ومنِّه
وَقَالَ الْعِمَاد أَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْقَاهِرَةِ فِي دَار ملكه ومدار فلكه يُنهض إِلَيْهَا المدد بعد المدد وَيُرْسل إِلَيْهَا الْعدَد بعد الْعدَد ويسهر ليله وَلَا يقيل نَهَاره وَقد أخْلص لله سره وجهاره وَلَا ينَام وَلَا ينيم وَعِنْده من ذَلِك المُقْعِد الْمُقِيم وَسبق تقيّ الدّين ابْن أخي السُّلْطَان إِلَى دمياط فَدَخلَهَا وَكَذَا خَاله شهَاب الدّين مَحْمُود فنزلها واتَّصل الْحصار وتواصل الْأَنْصَار ودب فِي الفرنج الفناء وهب عَلَيْهِم الْبلَاء فرحلوا عَنْهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الأول بالذل الْأَكْمَل وَالصغَار الأشمل
وَكَانَ لما وصل الْخَبَر إِلَى نور الدّين بوصولهم واجتماعهم على دمياط ونزولهم اغتنم واهتم واستصعب الملم وأنهض من عِنْده عسكراً ثقيلا مقدمه الْأَمِير قطب الدّين خسرو الهذباني وَكَانَ مقداماً مقدّما وهُماما مُعْلما وَأمره أَن يسير بالعسكر ويخوض بهم بَحر العجاج الأكدر
فوصل فِي النّصْف من ربيع الأول قبل رحيل الفرنج بأسبوع فَوَقع رَوْعه من الْكفْر فِي كل رُوع
قُلت وَبَلغنِي من شدَّة اهتمام نور الدّين رحمه الله بامر الْمُسلمين حِين نزل الفرنج على دمياط أَنه قرئ عَلَيْهِ جُزْء من حَدِيث كَانَ لَهُ بِهِ رِوَايَة فجَاء فِي جملَة تِلْكَ الْأَحَادِيث حَدِيث مسلسل بالتبسُّم فَطلب مِنْهُ بعض طلبة الحَدِيث أَن يتبسم لتتم السلسة على مَا عرف من عَادَة أهل الحَدِيث فَغَضب من ذَلِك وَقَالَ إِنِّي لأستحيي من الله تَعَالَى أَن يراني مُتَبَسِّمًا والمسلمون محاصرون بالفرنج
وَبَلغنِي أَن إِمَامًا لنُور الدّين رأى لَيْلَة رحيل الفرنج عَن دمياط فِي مَنَامه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ أعلم نور الدّين أَن الفرنج رحلوا عَن دمياط فِي هَذِه اللَّيْلَة فَقَالَ يَا رَسُول الله رُبمَا لَا يصدقني فاذكر لي عَلامَة يعرفهَا فَقَالَ قل لَهُ بعلامة مَا سجدت على تل حارم وَقلت يَا رب انصر دينك وَلَا تنصر مَحْمُودًا من هُوَ مَحْمُود الْكَلْب حَتَّى ينصر قَالَ فانتبهت وَنزلت إِلَى الْمَسْجِد وَكَانَ من عَادَة نور الدّين أَنه ينزل إِلَيْهِ بِغَلَس وَلَا يزَال يتركع فِيهِ حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح قَالَ فتعرضت لَهُ فَسَأَلَنِي عَن أَمْرِي فَأَخْبَرته بالمنام وَذكرت لَهُ الْعَلامَة إِلَّا أنني لم أذكر لَفْظَة الْكَلْب فَقَالَ نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى اذكر الْعَلامَة كلهَا وألح عَليّ فِي ذَلِك فقلتها