المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في وفاة نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وطرف من أخباره - الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية - جـ ٢

[أبو شامة المقدسي]

فهرس الكتاب

- ‌ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي وَفَاة زين الدّين وَالِد مظفر الدّين صَاحب إربل

- ‌ثمَّ دخلت سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِيمَا فعله نور الدّين

- ‌فصل فِي الْقَبْض على شاور وَقَتله

- ‌فصل فِي وزارة أَسد الدّين

- ‌فصل فِي وَفَاة أَسد الدّين وَولَايَة ابْن أَخِيه صَلَاح الدّين مَكَانَهُ

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي قتل المؤتمن بالخرقانية ووقعة السودَان بَين القصرين وَغير ذَلِك

- ‌ثمَّ دخلت سنة خمس وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي مسير نجم الدّين أَيُّوب إِلَى مصر بباقي أَوْلَاده وَأَهله

- ‌فصل فِي ذكر الزلزلة الْكُبْرَى

- ‌فصل فِي غَزْوَة صَاحب البيرة ووفاة صَاحب الْموصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِيمَا جرى بِمصْر فِي هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل فِي ذكر غَزْو الفرنج فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي عزم نور الدّين على الدُّخُول إِلَى مصر

- ‌فصل فِي الحَمَام

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة

- ‌ثمَّ دخلت سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي جِهَاد السلطانين للفرنج فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي فتح بِلَاد النّوبَة

- ‌فصل فِي وَفَاة نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين وطرف من أخباره

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة تسع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي فتح الْيمن

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي صلب عمَارَة اليمني الشَّاعِر وَأَصْحَابه

- ‌فصل فِي التَّعْرِيف بِحَال عمَارَة وَنسبه وشعره

- ‌فصل فِي وَفَاة نور الدّين رحمه الله

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة سبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِيمَا جرى بعد فتح دمشق من فتح حمص وحماة وحصار حلب

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل فِي فتح بعلبك

- ‌فصل فِيمَا جرى للْمَوَاصلة والحلبييّن مَعَ السُّلطان فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل

- ‌ثمَّ دخلت سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِيمَا تجدّد للمواصلة والحلبيين

- ‌فصل فِي فتح جملَة من الْبِلَاد حوالي حلب

- ‌فصل فِي وثوب الحشيشية على السُّلْطَان مرّة ثَانِيَة على عزاز وَكَانَت الأولى على حلب

- ‌فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَدخُول قراقوش إِلَى الْمغرب

- ‌ثمَّ دخلت سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَخمْس مئة

- ‌فصل فِي ذكر جمَاعَة من الْأَعْيَان تجدّد لَهُم مَا أقتضى ذكرهُ فِي هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي رُجُوع السُّلْطَان إِلَى مصر

- ‌فصل فِي بيع الْكتب وَعمارَة القلعة والمدرسة والبيمارستان

- ‌فصل فِي خُرُوج السُّلْطَان إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَغير ذَلِك من بواقي حوادث هَذِه السّنة

- ‌فصل فِي نوبَة كسرة الرَّملة

- ‌فصل فِي وَفَاة كمشتكين وَخُرُوج السُّلْطَان من مصر بِسَبَب حَرَكَة الفرنج

- ‌فصل فِي ذكر أَوْلَاد السُّلْطَان

- ‌فصل

الفصل: ‌فصل في وفاة نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وطرف من أخباره

مَعَه رَسُولا يعرف بمسعود الْحلَبِي وأوصاه أَن يكْشف لَهُ خبر الْبِلَاد ليدخلها فَسَار الْحلَبِي مَعَ الرَّسول حَتَّى وصل دنقله وَهِي مَدِينَة الْملك قَالَ مَسْعُود فَوجدت بلادا ضيقَة لَيْسَ لَهُم زرع إِلَّا الذّرة وَعِنْدهم نخل صغَار مِنْهُ إدَامهمْ وَوصف ملكهم بأوصاف مِنْهَا أَن قَالَ خرج علينا يَوْمًا وَهُوَ عُرْيَان قد ركب فرسا عريا وَقد التف فِي ثوب أطلس وَهُوَ أَقرع لَيْسَ على رَأسه شعر قَالَ فَأتيت فَسلمت عَلَيْهِ فَضَحِك وتغاشى وَأمر بِي أَن تكوى يَدي فكوى عَلَيْهَا هَيْئَة صَلِيب وَأمر لي بِقدر خمسين رطلا من الدَّقِيق ثمَّ صرفني قَالَ وَأما دنقلة فَلَيْسَ فِيهَا عمَارَة إِلَّا دَار الْملك فَقَط وباقيها أخصاص

‌فصل فِي وَفَاة نجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين وطرف من أخباره

قَالَ الْعِمَاد وَركب نجم الدّين أَيُّوب فشب بِهِ فرسه بِالْقَاهِرَةِ عِنْد بَاب النَّصْر وسط المحجَّة يَوْم الِاثْنَيْنِ الثَّامِن عشر من ذِي الْحجَّة وَحمل إِلَى منزله وعاش ثَمَانِيَة أَيَّام ثمَّ توفّي فِي يَوْم الثُّلَاثَاء السَّابِع وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة

وَكَانَ كَرِيمًا رحِيما عطوفا حَلِيمًا وبابه مزدحم الْوُفُود وَهُوَ متْلف الْمَوْجُود ببذل الْجُود وَكَانَ وَلَده صَلَاح الدّين عَنهُ غَائِبا وَفِي بِلَاد الكرك

ص: 248

والشوبك على الْغُزَاة مواظبا فَدفن إِلَى جَانب قبر أَخِيه أَسد الدّين فِي بَيت فِي الدَّار السُّلْطَانِيَّة ثمَّ نقلا بعد سِنِين إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة النَّبَوِيَّة على ساكنها أفضل الصَّلَاة والسّلام والتحية وَالْإِكْرَام والإجلال والإعظام وعَلى آله وَصَحبه وَسلم

قلت وقبرهما فِي تربة الْوَزير جمال الدّين الْأَصْفَهَانِي وَزِير الْموصل الْمُقدم ذكره رَحِمهم الله تَعَالَى

وَقَالَ القَاضِي ابْن شَدَّاد وَلما عَاد صَلَاح الدّين من غزاته بلغه قبل وُصُوله إِلَى مصر وَفَاة أَبِيه نجم الدّين فشقّ ذَلِك عَلَيْهِ حَيْثُ لم يحضر وَفَاته وَكَانَ سَبَب وَفَاته وُقُوعه من الْفرس وَكَانَ رَحمَه الله تَعَالَى شَدِيد الرّكض ولعاً بلعب الكرة بِحَيْثُ من رَآهُ يلْعَب بهَا يَقُول مَا يَمُوت إِلَّا من وُقُوعه عَن ظهر الْفرس

وَمن كتاب فاضليّ عَن السُّلْطَان إِلَى عز الدّين فرخشاه بِمصْر يَقُول فِيهِ صحّ من الْمُصَاب بالمولى الدارج غفر الله لَهُ ذَنبه وَسَقَى بِالرَّحْمَةِ تربه مَا عظمت بِهِ اللوعة واشتدت الروعة وتضاعفت لغيبتنا عَن

ص: 249

مشهده الْحَسْرَة فاستنجدنا بِالصبرِ فَأبى وأنجدت الْعبْرَة فياله فقيداً فقد عَلَيْهِ العزاء وهانت بعده الأرزاء وانتثر شَمل الْبركَة بفقده فَهِيَ بعد الِاجْتِمَاع أَجزَاء

(وتخطفته يَد الردى فِي غيبتي

هبني حضرت فَكنت مَاذَا أصنع)

قَالَ ابْن أبي طي الْحلَبِي هُوَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي وَلَا يعرف فِي نسبه أَكثر من وَالِده شاذي وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ كَانَ تَقِيّ الدّين عمر يزِيد فَيَقُول شاذي بن مَرْوَان

قلت وَسمعت أَنا من يَقُول شاذي بن مَرْوَان بن يَعْقُوب

قَالَ ابْن أبي طي وَقد أدّعى ابْن سيف الْإِسْلَام لما ملك الْيمن أَنهم من بني مَرْوَان بن مُحَمَّد الْجَعْدِي الْمَعْرُوف بالحمار يعْنى آخر خلفاء بني أُميَّة قَالَ وَقد نقبت عَن ذَلِك فأجمع الْجَمَاعَة من آل أَيُّوب أَن هَذَا كذب وَأَن جَمِيع آل أَيُّوب لايعرفون جدَّاً فَوق شاذي وَكَذَلِكَ أَخْبرنِي السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر رَحمَه الله تَعَالَى

قلت وَدَلِيل صِحَة ذَلِك أنني وقفت على كتاب وقف الرّباط النجمي بِدِمَشْق وَلم يزدْ فِيهِ على نجم الدّين أَبُو سعيد أَيُّوب بن شاذي العادلي وَابْن سيف الْإِسْلَام هَذَا هُوَ أَبُو الْفِدَاء اسماعيل بن طغتكين بن

ص: 250

أَيُّوب بن شاذي ابْن أخي السُّلْطَان صَلَاح الدّين ملك الْيمن بعد أَبِيه وتعاظم إِلَى أَن ولي نَفسه الْخلَافَة وَادّعى أَنه من بني أُميَّة وعزم على إِعَادَة الْخلَافَة من بني هَاشم إِلَى بني أُميَّة وَله فِي ذَلِك أشعار كَثِيرَة وتلقب بِالْإِمَامِ الْهَادِي بِنور الله الْمعز لدين الله أَمِير الْمُؤمنِينَ ومدحه كثير من الشُّعَرَاء بذلك وزينوا لَهُ فعله وَمَا هُوَ فِيهِ فَمن شعره

(وَإِنِّي أَنا الْهَادِي الْخَلِيفَة وَالَّذِي

أدوس رِقَاب الغُلب بالضُّمَّر الجرد)

(وَلَا بُد مِنْ بَغْدَاد أطوي ربوعها

وأنشرها نشر السماسر للبرد)

(وأنصب أعلامي على شرفاتها

وأُحيي بهَا مَا كَانَ أسسه جدّي)

(ويُخطبُ لي فِيهَا على كل مِنْبَر

وَأظْهر دين الله فِي الْغَوْر والنّجد)

ثمَّ قَالَ ابْن أبي طيّ وَكَانَ نجم الدّين أَيُّوب عدلا مرضيا كثير الصَّلَاة والصلات غزير الْفضل والخيرات يحبّ الْعلمَاء ويميل إِلَى الْفُضَلَاء وَكَانَ ممدحا مدحه الْعِمَاد الْكَاتِب بعدة قصائد

قَالَ وَكَانَ مولد نجم الدّين أَيُّوب بِبَلَد شبختان كَذَا حَكَاهُ مؤيد

ص: 251

الدّين ابْن منقذ وحدّثني جمَاعَة أَن مولد نجم الدّين كَانَ بجبل جور وربى فِي بلد الْموصل وَنَشَأ شجاعا باسلا وخدم السُّلْطَان مُحَمَّد بن ملكشاه فَرَأى مِنْهُ أَمَانَة وعقلاً وسداداً وشهامة فولاّه قلعة تكريت فَقَامَ فِي ولايتها أحسن قيام وضَبَطها أكْرم ضبط وَأجلى من أرْضهَا المفسدين وقطاع الطَّرِيق وَأهل العيث حَتَّى عمرت أرْضهَا وَحسن حَال أَهلهَا وَأمنت سبلها

فَلَمَّا ولي السُّلْطَان مَسْعُود الْملك أقطع قلعة تكريت لمجاهد الدّين بهروز الْخَادِم شحنة بَغْدَاد ومُتولي الْعرَاق وَكَانَ هَذَا بهروز أَمِيرا ينفذ أمره فِي جَمِيع الْعرَاق إِلَى الْبَصْرَة إِلَى الْموصل إِلَى أصفهان وَكَانَت خيله خَمْسَة الآف فَارس فَأقر الْأَمِير نجم الدّين فِي ولَايَة تكريت وأضاف إِلَيْهِ النّظر فِي جَمِيع الْولَايَة المتاخمة لَهُ وَقرر أمره عِنْد السُّلْطَان مَسْعُود وَجعل بهروز قلعة تكريت خزانَة أَمْوَاله وَبَيت عقائله وَجعل جَمِيع ذَلِك مَنُوطًا بالأمير نجم الدّين ومعذوقا بهمته

وَكَانَ نجم الدّين عَظِيما فِي أنفس النَّاس بِالدّينِ وَالْخَيْر وَحسن السياسة وَكَانَ لَا يمر أحد من أهل الْعلم وَالدّين بِهِ إِلَّا حمل إِلَيْهِ المَال والضيافة الجليلة وَكَانَ لَا يسمع بِأحد من أهل الدّين فِي مَدِينَة إِلَّا أنفذ إِلَيْهِ

ص: 252

وَقد ذكر الْعِمَاد الْكَاتِب فِي سيرة السلجوقية الْأَمِير نجم الدّين وقرظة وَأثْنى عَلَيْهِ وَذكر من دينه وعفته ووفور أَمَانَته وَكَثْرَة خَيره أَشْيَاء حَسَنَة وَحكى قَضِيَّة عمّه الْعَزِيز حِين حبس عِنْده بقلعة تكريت من جِهَة الْوَزير الدركزيني وَأمره بقتْله فَأبى نجم الدّين إِلَى أَن قَتله بهروز بِنَفسِهِ بِأَمْر الدركزيني

ثمَّ إِن السُّلْطَان مسعوداً حشد وَخرج فِي أَخذ السلطنة وطمع هُوَ وأتابك زنكي بن آق سنقر فِي بَغْدَاد وجردا عسكراً ضخما وسارا إِلَى تكريت طامعين فِي بَغْدَاد واتصل هَذَا الْخَبَر بقراجه السّاقي وَهُوَ أتابك ابْن السُّلْطَان مَحْمُود فَجرد ألف فَارس للقاء زنكي ثمَّ أردفهم بعسكر ضخم فَانْهَزَمَ زنكي وقُتل جمَاعَة من أَصْحَابه وَنهب جَمِيع مَا كَانَ فِي عسكره ولجأ إِلَى سور تكريت وَبِه عدَّة جراحات وَعلم مَكَانَهُ الْأَمِير نجم الدّين وَأَخُوهُ شيركوه فمتحاه إِلَى القلعة بحبال وداويا جراحاته وخدماه أحسن خدمَة وتقربا إِلَيْهِ فَأَقَامَ عِنْدهمَا بتكريت خَمْسَة عشر يَوْمًا ثمَّ سَار إِلَى الْموصل وأعوزه الظّهْر فأعطياه جَمِيع مَا كَانَ عِنْدهمَا من الظّهْر حَتَّى إنَّهُمَا أعطياه جملَة من الْبَقر حمل عَلَيْهَا مَا سلم مَعَه من امتعته فَكَانَ زنكي يرى لأيوب هَذِه الْيَد وَيعرف لَهُ هَذِه الصنيعة ويواصله بالهدايا والألطاف مُدَّة مُقامه فِي تكريت فَلَمَّا انْفَصل عَنْهَا على

ص: 253

مَا سَنذكرُهُ تَلقاهُ زنكي بالرحب وَالسعَة واحترامه احتراماً عَظِيما وأقطعه عدَّة قطائع

وَكَانَ نجم الدّين قد سَاس النَّاس بتكريت أحسن سياسة حَتَّى ملك بذلك حبّات قُلُوبهم وَكَانَ أَخُوهُ شيركوه مَعَه فِي القلعة وَكَانَ شجاعاً باسلا ينزل من القلعة ويصعد إِلَيْهَا فِي أَسبَابه وحاجاته وَكَانَ نجم الدّين لَا يُفَارق القلعة وَلَا ينزل مِنْهَا فاتفق أَن أَسد الدّين نزل من القلعة يَوْمًا لبَعض شَأْنه ثمَّ عَاد إِلَيْهَا وَكَانَ بَينه وَبَين كَاتب صَاحب القلعة قوارص وَكَانَ رجلا نَصْرَانِيّا فاتفق فِي ذَلِك الْيَوْم أَن النَّصْرَانِي صَادف أَسد الدّين صاعداً إِلَى القلعة فعبث بِهِ بِكَلِمَة مُمضة فَجرد أَسد الدّين سَيْفه وَقتل النَّصْرَانِي وَصعد إِلَى القلعة وَكَانَ مهيباً فَلم يتجاسر أحدُ على معارضته فِي أَمر النَّصْرَانِي بِشَيْء وأُخذ النَّصْرَانِي بِرجلِهِ فألُقي من القلعة

وَبلغ بهروز صَاحب قلعة تكريت مَا جرى وَحضر عِنْده من خَوفه جُرأة أَسد الدّين وَأَنه ذُو عشيرة كَبِيرَة وَأَن أَخَاهُ نجم الدّين قد استحوذ على قُلُوب الرعايا وَأَنه رُبمَا كَانَ مِنْهُمَا أمرُ تخشى عاقبته ويصعب استدراكه فَكتب إِلَى نجم الدّين يُنكر عَلَيْهِ مَا جرى من أَخِيه ويأمره بِتَسْلِيم القلعة إِلَى نَائِب سيره صَحبه الْكتاب فَأجَاب نجم الدّين ذَلِك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَأنزل من القلعة جَمِيع مَا كَانَ لَهُ بهَا من أهل وَمَال وَاجْتمعَ هُوَ وَأَخُوهُ أَسد الدّين وصمما على قصد عماد الدّين زنكي بالموصل

وَقيل إِن أَسد الدّين كَانَ خرج إِلَى الْموصل قبل نجم الدّين

ص: 254

وَأعظم أهل تكريت خُرُوج نجم الدّين من بَين أظهرهم وَلم يبْق أحدُ إِلَّا خرج لتوديعه وَأظْهر الْبكاء والأسف على مُفَارقَته

وَلما أتصل بأتابك زنكي قُدومُهما أفرحه ذَلِك وَأمر الموكب بلقائهما وأكرمهما إِكْرَاما عَظِيما وأقطعهما من بلد شهرزور إقطاعاً سنيّا وَقيل إِنَّه أقطع أَسد الدّين بالموزر

وَجرى بَين أَسد الدّين وجمال الدّين الْوَزير مَوَدَّة عَظِيمَة حَتَّى حلف كل وَاحِد مِنْهُمَا للْآخر أَنه يقوم بأَمْره فِي حَيَاته وَبعد وَفَاته وتجرد جمال الدّين فِي أَمر أَسد الدّين وَأمر أَخِيه نجم الدّين حَتَّى قربهما من قلب أتابك وجعلهما عِنْده بالمنزلة الْعَظِيمَة وخرجا مَعَه إِلَى الشَّام وشهدا مَعَه حروب الْكفَّار وقتال الفرنج لعنهم الله تَعَالَى وَكَانَ لأسد الدّين فِي تِلْكَ الوقائع الْيَد الْبَيْضَاء والفَعْلَةُ الغراء

وحَدثني أبي رَحمَه الله تَعَالَى قَالَ حَدثنِي سعد الدولة أَبُو الميامن المؤملي وَكَانَ أحد أَصْحَاب نجم الدّين أَيُّوب قَالَ وحَدثني أَيْضا بِهَذِهِ الْحِكَايَة مجد الدّين ابْن داية الْملك الصَّالح قَالَ حَدثنِي حسام الدّين سنقر غُلَام الْأَمِير نجم الدّين أبي طَالب وَكَانَ سنقر هَذَا يخْدم مَعَ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب بن شاذي قَالَ كنت فِي صحابة الْأَمِير نجم الدّين لما نفذه نور الدّين بن زنكي إِلَى ابْنه السُّلْطَان الْملك النَّاصِر إِلَى مصر من أجل قطع خطْبَة المصريين وَإِقَامَة دَعْوَة بني الْعَبَّاس فِي أول سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة وَاتفقَ أَنِّي كنت حَاضرا وَقد اجْتمع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر

ص: 255

ووالده الْأَمِير نجم الدّين فِي دَار الوزارة وَقد قعدا على طُرّاحة وَاحِدَة والمجلس غاصُّ بأرباب الدولتين وَعند النَّاس من الْفَرح وَالسُّرُور مَا قد أذهل الْعُقُول فَبينا النَّاس كَذَلِك إِذْ تقدم كَاتب نَصْرَانِيّ كَانَ فِي خدمَة الْأَمِير نجم الدّين فَقبل الأَرْض بَين يَدي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر ووالده الْأَمِير نجم الدّين والتفت إِلَى نجم الدّين وَقَالَ لَهُ يَا مولَايَ هَذَا تَأْوِيل مَقَالَتي لَك بالْأَمْس حِين وُلد هَذَا السُّلْطَان فَضَحِك نجم الدّين وَقَالَ صدقت وَالله ثمَّ أَخذ فِي حمد الله وشكره وَالثنَاء عَلَيْهِ والتفت إِلَى الْجَمَاعَة الَّذين حوله من أكَابِر الْعلمَاء والقضاة والأمراء وَقَالَ لكَلَام هَذَا النَّصْرَانِي حِكَايَة عَجِيبَة وَذَلِكَ أنني لَيْلَة رزقت هَذَا الْوَلَد يَعْنِي السُّلْطَان الْملك النَّاصِر أَمرنِي صَاحب قلعة تكريت فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بالرّحلة عَنْهَا بِسَبَب الفعلة الَّتِي كَانَت من أخي أَسد الدّين شيركوه رحمه الله وَقَتله النَّصْرَانِي وَكنت قد ألفت القلعة وَصَارَت لي كالوطن فثقل عَليّ الْخُرُوج مِنْهَا والتحول عَنْهَا إِلَى غَيرهَا واغتممت لذَلِك وَفِي ذَلِك الْوَقْت جَاءَنِي البشير بولادته فتشاءمت بِهِ وتطيرت لما جرى عَليّ وَلم أفرح بِهِ وَلم أستبشر وَخَرجْنَا من القلعة وَأَنا على طيرتي بِهِ لَا أكاد أذكرهُ وَلَا أُسَمِّيهِ وَكَانَ هَذَا النَّصْرَانِي معي كَاتبا فَلَمَّا رأى مَا نزل بِي من كَرَاهِيَة الطِّفْل والتشاؤم بِهِ استدعى مني أَن آذن لَهُ فِي الْكَلَام فَأَذنت لَهُ فَقَالَ لي يَا

ص: 256

مولَايَ قد رَأَيْت مَا قد حدث عنْدك من الطَّيرَة بِهَذَا الصَّبِي وَأي شَيْء لَهُ من الذَّنب وَبِمَ اسْتحق ذَلِك مِنْك وَهُوَ لَا ينفع ولايضر وَلَا يُغني شَيْئا وَهَذَا الَّذِي جرى عَلَيْك قَضَاء من الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَقدر ثمَّ مَا يدْريك أَن هَذَا الطِّفْل يكون ملِكاً عَظِيم الصيت جليل الْمِقْدَار فعطفني كَلَامه عَلَيْهِ وَهَا هُوَ قد وقفني على مَا كَانَ قَالَه فتعجب الْجَمَاعَة من هَذَا الِاتِّفَاق وَحمد السُّلْطَان ووالده الله تَعَالَى سُبْحَانَهُ وشكراه

قلت ولعُمارة فِي نجم الدّين مدائح ومراثٍ مِنْهَا قَوْله

(ثغر الزَّمَان بِنَجْم الدّين مبتسم

وَوَجهه بدوام الْعِزّ متسم)

يَقُول فِيهَا

(أضحى بك النّيل محجوبا ومعتمرا

كَأَنَّمَا حلّ فِيهِ الحلّ وَالْحرم)

(جَاءَت بنوك وَشَمل الدّين منتثر

فقارعوا عَنهُ فَهُوَ الْيَوْم مُنْتَظم)

(وَمَا درى أحدُ من قبل رُؤْيَتهمْ

أَن الحظوظ بلثم الأَرْض تقتسم)

(نَامَتْ عُيُون الورى فِي عدل سيرتهم

كَأَن يقظتنا فِي عصرهم حلم)

(والناصر ابْنك كَاف كلِّ معضلة

إِذا الْحَوَادِث لم يُكشف لَهَا غمم)

(أعز بالبأس وَالْإِحْسَان حوزتنا

فَلم يُلّم بِنَا خوف وَلَا عدم)

(تَبَسم الدّست من أَيُّوب عَن ملك

تنحطّ عَن قدره والأقدار والهمم)

وَقَالَ فِي مرثيته

(هِيَ الصدمةُ الأولى فَمن بَان صبره

على هول ملقاها تضَاعف أجره)

ص: 257

(أذمُّ صباح الْأَرْبَعَاء فَإِنَّهُ

تَبَسم عَن ثغر الْمنية فجره)

(أصَاب الْهدى فِي نجمه بمصيبة

تداعى سماك الجوّ مِنْهَا ونسره)

(فَلَا تعذلونا واعذرونا فَمن بَكَى

على فقد أيوبٍ فقد بَان عُذره)

(أَقَامَ بأعمال الْفُرَات وخيله

يُراع بهَا نيل الْعَزِيز ومصره)

(إِلَى أَن رَمَاهَا من أَخِيه بضيغم

فرى نابه أهل الصَّلِيب وظفره)

(فَلَمَّا قضى نحبي حَيَاة ودولة

بِأَمْرك فِي إِدْرَاكهَا تمّ أمره)

(تعاقبتما مصرا تعاقب وابل

يبيت بقطر النّيل ينهل قطره)

(نزلت بدار حلهَا فحللتها

فمغناك مغناة وقطرك قطره)

(وواخيته فِي البرّ حيّا وميتّا

فقبرك فِي دَار الْقَرار وقبره)

(وَقد شخصت أهل البقيع إلَيْكُمَا

وَإِلَّا فسكان الْحجُون وحجره)

(هَنِيئًا لملك مَاتَ والعزّ عزه

وقُدْرته فَوق الرّجال وَقدره)

(وَأدْركَ من طول الْحَيَاة مُرَاده

وَمَا طَال إِلَّا فِي رضَا الله عمره)

(وأسعد خلق الله من مَاتَ بَعْدَمَا

رأى فِي بني أبنائه مَا يسره)

(شَهِيد تلقى ربه وَهُوَ صَائِم

فَكَانَ على أجر الشَّهَادَة فطره)

مِنْهَا

(مضى وَهُوَ رَاض عَنْك لم ترم صَدره

بِضيق وَلَا جَاشَتْ من الغيظ قدره)

(حمى حوزة الْإِسْلَام وَالدّين بعده

ثَمَانِيَة من أَجلهم عزّ نَصره)

(فَكيف بخيس آل أَيُّوب أسده

لقد بَان خوف الدَّهْر مِنْهُ وذعره)

(رعى الله نجماً تعرف الشَّمْس أَنه

أَبوهَا وَنور الْبَدْر مِنْهَا وزهره)

ص: 258

(وَأبقى الْمقَام الناصريّ فَإِنَّهُ

لدولتكم كنز الرّجاء وذخره)

وَقَالَ أَيْضا

(صفو الْحَيَاة وَإِن طَال المدى كدر

وحادث الْمَوْت لَا يبْقى وَلَا يذر)

(وَمَا يزَال لِسَان الدَّهْر ينذرنا

لَو أثرت عندنَا الْآيَات وَالنّذر)

(فَلَا تقل غرت الدُّنْيَا مطامعنا

فَمَا مَعَ الْمَوْت لَا غش وَلَا كدر)

(كأس إِذا مَا الردى حَيا الْحَيَاة بهَا

لم ينج من سكرها أُنْثَى وَلَا ذكر)

(كم شامخ الْعِزّ لَاقَى الذل من يَدهَا

مَا أَضْعَف الْقدر إِن ألوى بِهِ القَدَر)

(فِي كل جيلٍ وعصر من وقائعها

شعواء يقطر مِنْهَا الناب وَالظفر)

(أودى عليُّ وَعُثْمَان بمخلبها

وَلم يفتها أَبُو بكر وَلَا عمر)

(وَمن أَرَادَ التأسِّي فِي مصيبته

فللورى برَسُول الله مُعْتَبر)

(نجمُ هوى من سَمَاء الدّين منكدرا

والنجم من أفقه يهوى وينكدر)

(منظومة أنجم الجوزاء من جزع

لَهُ وَعقد الثريا مِنْهُ منتثر)

(وَكَيف يُنسى محياه الْكَرِيم وَمن

نُعماه فِي كلّ عَيْش صَالح أثر)

(جددت من أَسد الدّين الشَّهِيد لنا

حُزنا بِهِ يتساوى الصَّبْر وَالصَّبْر)

(قد كَانَ للدّين وَالدُّنْيَا بعزمكما

ذكر يعبر عَنهُ الصارم الذّكر)

(إِن فاح نشر كَلَام تُمدحان بِهِ

مِسكاً فعترة أَيُّوب هِيَ العتر)

ص: 259