الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(وزاروا مصلّى عسقلان بأرعن
…
يفِيض إِنَاء الْبر مِنْهُ ويفهق)
(وَكَانَت على مَا شَاهد النَّاس قبلكُمْ
…
طرائق من شوك القنا لَيْسَ تُطرق)
(وَمَا عصمتهم مِنْك إِلَّا معاقل
…
تأنوا على تحصينها وتأنقوا)
(جلبت لَهُم من سُورَة الْحَرْب مَا التقى
…
بوادره سور عَلَيْهِم وَخَنْدَق)
(وأخربت من أَعْمَالهم كل عَامر
…
يمر بِهِ طيف الخيال فَيُفَرق)
(أضفت إِلَى أجر الْجِهَاد زِيَارَة الْخَلِيل
…
فأبشر أَنْت غازٍ مُوفق)
(وهيجت للبيت المقدّس لوعة
…
يطول بهَا مِنْهُ إِلَيْك التشوق)
(تَنْشَق من ملقاك أعطر نفحة
…
تطيب على قلب الْهدى حِين تَنْشَق)
(وغزوك هَذَا سُلم نَحْو فَتحه
…
قَرِيبا وَإِلَّا رائد ومطرق)
(هُوَ الْبَيْت إِن تفتحه وَالله فَاعل
…
فَمَا بعده بَاب من الشَّام مغلق)
ثمَّ دخلت سنة سبع وَسِتِّينَ وَخمْس مئة
واستفتحها صَلَاح الدّين رَحمَه الله تَعَالَى بِإِقَامَة الْخطْبَة فِي الْجُمُعَة الأولى مِنْهَا بِمصْر لبني الْعَبَّاس وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة خطب لَهُم بِالْقَاهِرَةِ وَانْقطع ذكر خلفاء مصر مِنْهَا وَتُوفِّي العاضد يَوْم عَاشُورَاء بِالْقصرِ وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة بانتهاء مَا دَامَ لَهَا من الْعَصْر
وَذكر الْعِمَاد أَيْضا فِي أَخْبَار سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين كَمَا سَيَأْتِي أنّ الَّذِي خطب بِمصْر لبني الْعَبَّاس أَولا هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المحسن بن الْحُسَيْن بن أبي المضاء البعلبكي وَذكر ذَلِك أَيْضا ابْن الدبيثي فِي تَارِيخه وَقد أَشَارَ إِلَيْهِ القَاضِي الْفَاضِل فِي كتاب لَهُ إِلَى وَزِير بَغْدَاد سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ ابْن الْأَثِير كَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لما ثبتَتْ قدمه فِي مصر وَزَالَ المخالفون لَهُ وَضعف أَمر العاضد وَهُوَ الْخَلِيفَة بهَا وَلم يبْق من العساكر المصرية أحد كتب إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود يَأْمُرهُ بِقطع الْخطْبَة العاضدية وَإِقَامَة الْخطْبَة العباسية فَاعْتَذر صَلَاح الدّين بالخوف من وثوب أهل مصر وامتناعهم من الْإِجَابَة إِلَى ذَلِك لميلهم إِلَى العلويين فَلم يصغ نور الدّين إِلَى قَوْله وَأرْسل إِلَيْهِ يلْزمه بذلك إلزاما لَا فسحة لَهُ فِيهِ
وَاتفقَ أَن العاضد مرض وَكَانَ صَلَاح الدّين قد عزم على قطع الْخطْبَة لَهُ فَاسْتَشَارَ الْأُمَرَاء كَيفَ يكون الِابْتِدَاء بِالْخطْبَةِ العباسية فَمنهمْ من أقدم على المساعدة وَأَشَارَ بهَا وَمِنْهُم من خَافَ ذَلِك إِلَّا أَنه لم يُمكنهُ إِلَّا امْتِثَال أَمر نور الدّين وَكَانَ قد دخل إِلَى مصر إِنْسَان أعجمي يعرف بالأمير
الْعَالم وَقد رَأَيْنَاهُ بالموصل كثيرا فَلَمَّا رأى مَا هم فِيهِ من الإحجام قَالَ أَنا ابتدئ بهَا فَلَمَّا كَانَ أول جُمُعَة من الْمحرم صعد الْمِنْبَر قبل الْخَطِيب ودعا للمستضيء بِأَمْر الله فَلم يُنكر أحد ذَلِك عَلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ الْجُمُعَة الثَّانِيَة أَمر صَلَاح الدّين الخطباء بِمصْر والقاهرة بِقطع خطْبَة العاضد وَإِقَامَة الْخطْبَة للمستضيء بِأَمْر الله فَفَعَلُوا ذَلِك وَلم ينتطح فِيهَا عنزان وَكتب بذلك إِلَى سَائِر الديار المصرية
وَكَانَ العاضد قد اشْتَدَّ مَرضه فَلم يُعلمهُ أَهله وَأَصْحَابه بذلك وَقَالُوا إِن سلم فَهُوَ يعلم وَإِن توفّي فَلَا يَنْبَغِي أَن ننغص عَلَيْهِ هَذِه الْأَيَّام الَّتِي قد بقيت من أَجله فَتوفي يَوْم عَاشُورَاء وَلم يعلم
قَالَ وَلما توفّي جلس صَلَاح الدّين للعزاء وَاسْتولى على قصره وعَلى جَمِيع مَا فِيهِ وَكَانَ قد رتب فِيهِ قبل وَفَاة العاضد بهاء الدّين قراقوش وَهُوَ خصيُّ لحفظه وَجعله كأستاذ دَار العاضد فحفظ مَا فِيهِ حَتَّى تسلمه صَلَاح الدّين وَنقل أهل العاضد إِلَى مَكَان مُنْفَرد ووكل بحفظهم وَجعل أَوْلَاده وعمومته وأبناءهم فِي الإيوان فِي الْقصر وَجعل عِنْدهم من يحفظهم وَأخرج من كَانَ بِالْقصرِ من العبيد وَالْإِمَاء فَأعتق الْبَعْض ووهب الْبَعْض وَبَاعَ الْبَعْض وأخلى الْقصر من أَهله وسكانه فسبحان من لايزول
ملكه وَلَا يُغَيِّرهُ ممر الْأَيَّام وتعاقب الدهور
قَالَ وَلما أَشْتَدّ مرض العاضد أرسل يَسْتَدْعِي صَلَاح الدّين فَظن أَن ذَلِك خديعة فَلم يمض إِلَيْهِ فَلَمَّا توفّي علم صدقه فندم على تخلفه عَنهُ
قلت أَخْبرنِي الْأَمِير أَبُو الْفتُوح بن العاضد وَقد اجْتمعت بِهِ وَهُوَ مَحْبُوس مُقَيّد سنة ثَمَان وَعشْرين وست مئة بقلعة الْجَبَل بِمصْر أَن أَبَاهُ فِي مَرضه استدعى صَلَاح الدّين فَحَضَرَ قَالَ وأحضرنا يَعْنِي أَوْلَاده وهم جمَاعَة صغَار فَأَوْصَاهُ بِنَا فالتزم إكرامنا واحترامنا رحمه الله وَأما ندمُ صَلَاح الدّين فبلغني أَنه كَانَ على استعجاله بِقطع خطبَته وَهُوَ مَرِيض وَقَالَ لَو علمت أَنه يَمُوت من هَذَا الْمَرَض مَا قطعتها إِلَى أَن يَمُوت
قَالَ الْعِمَاد وَجلسَ السُّلْطَان للعزاء وَأغْرب فِي الْحزن والبكاء وَبلغ الْغَايَة فِي إِجْمَال أمره والتوديع لَهُ إِلَى قَبره ثمَّ تسلم الْقصر بِمَا فِيهِ من خزائنه ودفائنه وَكَانَ مذ نَافق مؤتمن الْخلَافَة وَقتل صُرف مَنْ هُوَ زِمَام الْقصر وعُزل ووكل بهاء الدّين قراقوش بِالْقصرِ وَجعله زمامه واستنابه مقَام نَفسه وأقامه فَمَا دخل إِلَى الْقصر شَيْء وَلَا خرج إِلَّا بمرأى مِنْهُ
ومسمع وَلَا حصل أهل الْقصر بعد ذَلِك على صفو مشرع فَلَمَّا توفّي العاضد بطلت تِلْكَ الْقَوَاعِد ووهت المقاعد وَأمر السُّلْطَان بِالِاحْتِيَاطِ على أَهله وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر مَا يكون لَهُم برسم الكسوات والأقوات والأزواد
قلت أَخْبرنِي أَبُو الْفتُوح أَنه جعلهم فِي دَار برجوان فِي الحارة المنسوبة إِلَيْهِ بِالْقَاهِرَةِ وَهِي دَار كَبِيرَة وَاسِعَة كَانَ عيشهم فِيهَا طيبا ثمَّ نقلوا بعد الدولة الصلاحية مِنْهَا وأبعدوا عَنْهَا
قَالَ الْعِمَاد وهم إِلَى الْيَوْم فِي حفظ قراقوش واحتياطه واستظهاره يكلؤهم ويحرسهم بِعَين حزمه فِي ليله ونهاره وَجمع البَاقِينَ من عمومتهم وعترتهم من الْقصر فِي إيوَان وَاحْترز عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْمَكَان بِكُل إِمْكَان وَأبْعد عَنْهُم النِّسَاء لِئَلَّا يتناسلوا فيكثروا وهم إِلَى الْآن محصورون محسورون لم يظهروا وَقد نقص عَددهمْ وقلص مددهم ثمَّ عرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد والعدّة والعديد والطريف والتليد فَوجدَ أكثرهن حرائر فأطلقهن وَجمع الْبَاقِيَات فوهبهن وفرقهن وأخلى دوره وأغلق قصوره وسلّط جوده على الْمَوْجُود وأبطل الْوَزْن وَالْعد عَن الْمَوْزُون والمعدود وَأخذ كل مَا صلح لَهُ ولأهله ولأمرائه وخواص مماليكه وأوليائه من أخاير الذَّخَائِر وزواهر الْجَوَاهِر ونفائس
الملابس ومحاسن العرائس وقلائد الفرائد والدّرة الْيَتِيمَة والياقوتة الْعَالِيَة الغالية الْقيمَة والمصوغات التبريّة والمصنوعات العنبرية والأواني الفضية والصواني الصينية والمنسوجات المغربية والممزوجات الذهبية والمحوكات النضارية والكرائم واليتائم والعوذ والتمائم والعقود والنقود والمنظوم والمنضود والمحلول والمشدود والمنعوت والمنحوت والدر والياقوت والحلي والوشي والعبير والحبير والوثير والنثير والعيني واللجيني والبسط والفرش وَمَا لايعد إحصاء وَلَا يحد استقصاء فَوَقع فِيهَا الفناء وكشف عَنْهَا الغطاء وأسرف فِيهَا الْعَطاء وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق ولبيس وسحيق وبال وأسمال ورخيص وغال وكل مَنْقُول ومحمول ومصنوع ومعمول وَاسْتمرّ البيع فِيهَا مُدَّة عشر سِنِين وتنقلت إِلَى الْبِلَاد بأيدي الْمُسَافِرين الواردين والصادرين
ونقلت من ديوَان الْعِمَاد بِخَطِّهِ قَالَ وَلما وصل الْخَبَر بِمَوْت العاضد الَّذِي كَانَ بِمصْر فِي الْقصر موسوماً بِالْأَمر فِي لَيْلَة عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ بعد الْخطْبَة بهَا للمستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ عملت هَذِه الأبيات فَذكر قصيدة مِنْهَا
(توفّي العاضد الدّعي فَمَا
…
يفتح ذُو بدعةٍ بِمصْر فَمَا)
(وعصر فرعونها انْقَضى وَغدا
…
يوسُفها فِي الْأُمُور محتكما)
(وانطفأت جَمْرَة الغواة وَقد
…
باخ من الشّرك كل مَا اضطرما)
(وَصَارَ شَمل الصّلاح ملتئما
…
بهَا وَعقد السداد منتظما)
(لما غَدا مُعْلنا شعار بني الْعَبَّاس
…
حَقًا وَالْبَاطِل اكتتما)
(وَبَات دَاعِي التَّوْحِيد منتصرا
…
وَمن دُعاة الْإِشْرَاك منتقما)
(وظلّ أهل الضلال فِي ظلل
…
داجية من غيابة وعمى)
(وارتبك الجاهلون فِي ظلم
…
لما أَضَاءَت مَنَابِر العُلما)
(وَعَاد بالمستضيء ممتهدا
…
بناءُ حق قد كَانَ منهدما)
(واعتلت الدولة الَّتِي اضطهدت
…
وانتصر الدّين بَعْدَمَا اهتضما)
(واهتز عطف الْإِسْلَام من جذل
…
وافتر ثغر الْإِيمَان وابتسما)
(واستبشرت أوجه الْهدى فَرحا
…
فليقرع الكُفر سِنّهُ ندما)
(عَاد حَرِيم الْأَعْدَاء منهتك الْحمى
…
وفيء الطغاة مقتسما)
(قُصُور أهل الْقُصُور أخربها
…
عَامر بَيت من الْكَمَال سما)
(أزعج بعد السّكُون ساكنها
…
وَمَات ذلا وَأَنْفه رُغما)
وَمن كتاب فاضلي عَن السُّلْطَان صَلَاح الدّين إِلَى وَزِير بَغْدَاد على يَد الْخَطِيب شمس الدّين بن أبي المضاء فِي بعض السنين كتب الْخَادِم هَذِه الْخدمَة من مستقره وَدين الْوَلَاء مَشْرُوع وَعلم الْجِهَاد مَرْفُوع وسؤدد السوَاد متبوع وَحكم السداد بَين الْأمة مَوْضُوع وَسبب الْفساد مَقْطُوع
مَمْنُوع وَقد توالت الْفتُوح غرباً ويمناً وشآما وَصَارَت الْبِلَاد بل الدُّنْيَا والشهر بل الدَّهْر حرما حَرَامًا وأضحى الدّين وَاحِدًا بَعْدَمَا كَانَ أديانا والخلافة إِذا ذكر بهَا أهل الْخلاف لم يخروا عَلَيْهَا صُمَّاً وعُميانا والبدعة خاشعة وَالْجُمُعَة جَامِعَة والمذلة فِي شيع الضلال شائعة ذَلِك بِأَنَّهُم أتخذوا عباد الله من دونه أَوْلِيَاء وَسموا أَعدَاء الله أصفياء وتقطعوا أَمرهم بَينهم شيعًا وَفرقُوا أَمر الْأمة وَكَانَ مجتمعا وكذبوا بالنَّار فعجلت لَهُم نَار الحتوف وَنَثَرت أَقْلَام الظبى حُرُوف رؤوسهم نثر الأقلام للحروف ومزقوا كل ممزق وَأخذ مِنْهُم كل مخنق وَقطع دابرهم وَوعظ آتيهم غابرهم ورغمت أنوفهم ومنابرهم وحقت عَلَيْهِم الْكَلِمَة تشريدا وقتلا وتمَّت كَلِمَات رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً وَلَيْسَ السَّيْف عَمَّن سواهُم من كفار الفرنج بصائم وَلَا اللَّيْل عَن سير إِلَيْهِم بنائم وَلَا خَفَاء عَن الْمجْلس الصاحبي أَن من شدّ عقد خلَافَة وحلّ عقد خلاف وَقَامَ بدولة وَقعد بِأُخْرَى قد عجز عَنْهَا الأخلاف والأسلاف فَإِنَّهُ مفتقر إِلَى أَن يُشكر مَا نصح ويُقلَّد مَا فتح ويبَّلغ مَا أقترح وَيقدم حَقه وَلَا يطرَّح وَيقرب مَكَانَهُ وَإِن نزح وتأتيه التشريفات الشَّرِيفَة وتتواصل إِلَيْهِ أَمْدَاد التقويات الجليلة اللطيفة وتُلَّبى دَعوته بِمَا أَقَامَ من دَعْوَة وتوصل غزوته بِمَا وصل من غَزْوَة وترفع دونه الْحجب المعترضة وَترسل إِلَيْهِ السحب المروضة فَكل ذَلِك تعود عوائده وتبدو فَوَائده بالدولة الَّتِي كشف وَجهه لنصرها وجرد سَيْفه لرفع منارها وَالْقِيَام بأمرها وَقد أَتَى الْبيُوت من أَبْوَابهَا وَطلب النجعة من سحابها ووعد آماله الواثقة بِجَوَاب كتابها وأنهض لإيصال ملطفاته وتنجز تشريفاته خطيب الخطباء بِمصْر وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ لصعود دَرَجَة الْمِنْبَر وَقَامَ بِالْأَمر
قيام من برّ واستفتح بلباس السوَاد الْأَعْظَم الَّذِي جمع الله عَلَيْهِ السوَاد الْأَعْظَم أملا أَنه يعود إِلَيْهِ بِمَا يطوي الرَّجَاء فضل عقبه ويخلد الشّرف فِي عقبه
ولصاحبنا مجد الدّين مُحَمَّد بن الظهير الإربلي من قصيدة فِي مدح بعض ذُرِّيَّة السُّلْطَان رَحمَه الله تَعَالَى
(مليك من الْقَوْم الَّذين رماحهم
…
دعائم هَذَا الدّين فِي كل مشْهد)
(هم نصروا التَّوْحِيد نصرا مؤزرا
…
بِهِ عزّ فِي الْآفَاق كلّ موحد)
(وهم قهروا غُلب الفرنج ببأسهم
…
فدانوا لَهُم بالرغم لَا عَن تودد)
(وردوا إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس نُوره
…
وَقد كَانَ فِي ليل من الشّرك أسود)
(وهم سهلوا سبل الحجيج وآمنوا
…
بهَا الركب خوف الْكَافِر المتشدد)
(وَقد ركبت فرسانه بَحر أَيْلَة
…
يَخُوضُونَ فِي بَحر من الكيد مُزبد)
(وهم رجعُوا مصرا إِلَى دَعْوَة الْهدى
…
بعزمٍ وَرَأى فِي العظائم محصد)
(وهم شيّدوا ركن الْخلَافَة بالذّي
…
أعادوه من حقّ طريفٍ ومتلد)
(وهم شرفوا قدر المنابر باسمها
…
وَذكر مَنُوط بالرسول ممجد)
(وهم وهبوا غر الممالك واكتفوا
…
بسُمر العوالي والْعَلَاء المشيد)
(فَسَل عَن ظباهم يَوْم حطين كم قَضَت
…
بمرّ مُرَاد الله فِي كل أّصيد)
(وَضّعَّفْ حَدِيث الْعدْل والبأس والندى
…
إِذا كَانَ عنْ أيامهم غَير مُسند)
وَقَالَ ابْن أبي طيّ الْحلَبِي قد قدمنَا ذكر مُكَاتبَة نور الدّين رحمه الله وإلحاحه على صَلَاح الدّين فِي إِقَامَة الْخطْبَة بِمصْر للعباسيين وَأَنه أنفذ إِلَيْهِ أَبَاهُ الْأَمِير نجم الدّين أَيُّوب لأجل ذَلِك لما كتب الْخَلِيفَة المستنجد إِلَى نور الدّين فِي ذَلِك وَلما ولي ابْنه المستضيء أقبل أَيْضا على مُكَاتبَة نور الدّين فِيهِ وألح نور الدّين على صَلَاح الدّين فِي طلبه وأفضى بِهِ الْأَمر إِلَى أَنه اتهمَ صَلَاح الدّين وشنع عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ وَأكْثر القَوْل فِي ذَلِك
وَلما قدم الْأَمِير نجم الدّين حداه على فعل ذَلِك فَاعْتَذر إِلَيْهِ بِأَن أَحْوَاله لم تَسْتَقِر بعد وأموره مضطربة وأعداؤه كَثِيرُونَ وَأَن المصريين لَهُم جمَاعَة كَبِيرَة مُتَفَرِّقَة فِي بِلَاد مصر من السودَان وَغَيرهم وَأَن هَذَا الْأَمر وَإِن لم يُؤْخَذ على التدريج وإلَاّ فَسدتْ أَحْوَاله فَلَمَّا أوقع السُّلْطَان الْملك النَّاصِر بالسودان والأرمن ونكب أُمَرَاء المصريين وَقطع أخبارهم وَنزل أجناده فِي دُورهمْ ثمَّ قطع إقطاع العاضد وَقبض جَمِيع مَا كَانَ بِيَدِهِ من الْبِلَاد وَاسْتولى على الْقُصُور ووكل بهَا وبمن فِيهَا قراقوش الْخَادِم وخلت لَهُ بِلَاد مصر من معاند ومنابذ ثمَّ شرع وأبطل من الْأَذَان حيّ على
خير الْعَمَل وَأنكر على من يتسم بمذهبهم الانتساب إِلَيْهِم فَلَمَّا رأى أُمُوره مواتية وأعداؤه قَلِيلُونَ شرع حِينَئِذٍ فِي الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَلما عول على ذَلِك أَمر وَالِده الْأَمِير نجم الدّين بالنزول إِلَى الْجَامِع فِي جمَاعَة من أَصْحَابه وأمراء دولته وَذَلِكَ فِي أول جُمُعَة من السّنة وَأمره أَن يحضر الْخَطِيب إِلَيْهِ ويأمره بِمَا يختاره وَإِنَّمَا فعل الْملك النَّاصِر ذَلِك ووكل الْأَمر إِلَى غَيره استظهارا وخوفا من فادحة رُبمَا طرأت أَو عَدو رُبمَا ثار فَيكون هُوَ معتذرا من ذَلِك
وَلما حصل نجم الدّين بالجامع أحضر الْخَطِيب وَقَالَ لَهُ إِن ذكرت هَذَا الْمُقِيم بِالْقصرِ ضربت عُنُقك فَقَالَ فَلِمَنْ أَخطب قَالَ للمستضيء العباسي فَلَمَّا صعد الْمِنْبَر وخطب وَوصل إِلَى ذكر العاضد لم يذكر أحدا لكنه دَعَا للأئمة المهديين وللسلطان الْملك النَّاصِر وَنزل فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ مَا علمت اسْم المستضيء وَلَا نعوته وَلَا تقرر معي فِي ذَلِك شَيْء قبل الْجُمُعَة وَفِي الْجُمُعَة الثَّانِيَة أفعل إِن شَاءَ الله مَا يجب فعله فِي تَحْرِير الِاسْم والألقاب على جاري الْعَادة فِي مثل ذَلِك
قَالَ وَقيل إِن العاضد لما اتَّصل بِهِ مَا فُعل من قطع اسْمه من الْخطْبَة قَالَ لمن خُطب قيل لَهُ لم يخْطب لأحد مُسَمّى قَالَ فِي الْجُمُعَة الْأُخْرَى يخطبون لرجل مُسَمّى وَاتفقَ أَنه مَاتَ قبل الْجُمُعَة الثَّانِيَة قيل إِنَّه أفكر وَاسْتولى عَلَيْهِ الْفِكر والهم حَتَّى مَاتَ وَقيل إِنَّه لما سمع أَنه قطعت خطبَته اهتم وَقَامَ ليدْخل إِلَى دَاره فعثر وَسقط فَأَقَامَ متعللَا خَمْسَة أَيَّام وَمَات وَقيل إِنَّه امتص فص خَاتمه وَكَانَ تَحْتَهُ سم فَمَاتَ
وَلما أتصل مَوته بِالْملكِ النَّاصِر قَالَ لَو علمنَا أَنه يَمُوت فِي هَذِه الْجُمُعَة مَا غصصناه بِرَفْع اسْمه من الْخطْبَة فحُكي أَن القَاضِي الْفَاضِل قَالَ للسُّلْطَان لَو علم أَنكُمْ مَا ترفعون اسْمه من الْخطْبَة لم يمت أَشَارَ إِلَى أَن العاضد قتل نَفسه وَكَانَ مَوته يَوْم عَاشُورَاء
قَالَ وَحكى ابْن المارستانية فِي سيرة ابْن هُبَيْرَة الْوَزير قَالَ إِنَّه من عَجِيب مَا جرى فِي أَمر المصريين أَنه رأى إِنْسَان من أهل بَغْدَاد فِي سنة خمس وَخمسين وَخمْس مئة كَأَن قمرين أَحدهمَا أنور من الآخر والأنور مِنْهُمَا مُسامت للْقبْلَة وَله لحية سَوْدَاء فِيهَا طول ويهب أدنى نسيم فيحركها وَأثر حركتها وظلها فِي الأَرْض وَكَانَ الرجل يتعجب من ذَلِك وَكَأَنَّهُ سمع أصوات جمَاعَة يقرؤون بألحان وأصوات لم يسمع قطّ مثلهَا وَكَأَنَّهُ سَأَلَ بعض من حضر فَقَالَ مَا هَذَا فَقَالُوا قد استبدل النَّاس بإمامهم قَالَ وَكَانَ الرجل قد اسْتقْبل الْقبْلَة وَهُوَ يَدْعُو الله أَن يَجعله إِمَامًا برَّا تقياً واستيقظ الرجل وَبلغ هَذَا الْمَنَام ابْن هُبَيْرَة الْوَزير إِذْ ذَاك بِبَغْدَاد فَعبر الْمَنَام بِأَن الإِمَام الَّذِي بِمصْر يسْتَبْدل بِهِ وَتَكون الدعْوَة لبني
الْعَبَّاس لمَكَان اللِّحْيَة السَّوْدَاء وقوى هَذَا عِنْده حَتَّى كَاتب نور الدّين حِين دخل أَسد الدّين إِلَى مصر فِي أول مرّة بِأَنَّهُ يظفر بِمصْر وَتَكون الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس بهَا على يَده
وقيلت فِي ذَلِك الزَّمَان أشعار فِي هَذَا مِنْهَا قصيدة شمس الْمَعَالِي أبي الْفَضَائِل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن ترْكَان وَكَانَ صَاحب ابْن هُبَيْرَة قَالَهَا حِين سمع تَأْوِيله الْمَنَام
(لتهنك يَا مولى الْأَنَام بِشَارَة
…
بهَا سيف دين الله بِالْحَقِّ مرهف)
(ضربت بهَا هام الأعادي بهمة
…
تقاصر عَنْهَا السمهري المثقف)
(بعثت إِلَى شَرق الْبِلَاد وغربها
…
بعوثا من الآراء تحيي وتتلف)
(فَقَامَتْ مقَام السَّيْف وَالسيف قاطر
…
ونابت مناب الرمْح وَالرمْح يرعف)
(وقدت لَهَا جَيْشًا من الروع هائلا
…
إِلَى كل قلب من عداتك يزحف)
(ملكت بِهِ أقْصَى المغارب عنْوَة
…
وكادت بِمن فِيهَا الْمَشَارِق ترجف)
(لِيَهنك يَا مولَايَ تَتَابَعَت
…
إِلَيْك بِهِ خوص الركائب توجف)
(أخذت بِهِ مصرا وَقد حَال دونهَا
…
من الشّرك بَأْس فِي لهى الْحق يقذف)
(وَقد دنست مِنْهَا المنابر عصبَة
…
يعاف التقي وَالدّين مِنْهُم ويأنف)
(فطهرّها من كل شرك وبدعة
…
أغر غرير بالمكارم يشغف)
(فَعَادَت بِحَمْد الله باسم إمامنا
…
تتيه على كل الْبِلَاد وتشرف)
(وَلَا غرو أَن دَانَتْ ليوسف مصره
…
وَكَانَت إِلَى عليائه تتشوف)
(تَملكهَا من قَبْضَة الْكفْر يُوسُف
…
وخلصها من عصبَة الرَّفْض يُوسُف)
قَالَ يحيى بن أبي طيّ يُرِيد بِيُوسُف الأول يُوسُف الصّديق النَّبِي صلى الله عليه وسلم وبيوسف الثَّانِي المستنجد بِاللَّه الْخَلِيفَة يَوْمئِذٍ وَقَالَهُ على سَبِيل الفأل أَلا ترَاهُ قَالَ بعد هَذَا الْبَيْت
(فشابهته خلقا وخلقا وعفة
…
وكل عَن الرَّحْمَن فِي الأَرْض يخلف)
وَجرى الفأل فِي الْبَيْت باسم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب لِأَن المستنجد مَاتَ قبل تَغْيِير الْخطْبَة لبني الْعَبَّاس وَهَذَا من عَجِيب الِاتِّفَاق
قلت وَذكر ابْن المارستانية فِي السِّيرَة الْمَذْكُورَة قَالَ وَكَانَ هَذَا الْمَنَام سَببا إِلَى أَن كَاتب الْوَزير ابْن هُبَيْرَة نور الدّين بن زنكي يحثه على التَّعَرُّض لمصر والبعث إِلَيْهَا وَاتفقَ فِي اثناء ذَلِك نوبَة شاور وَزِير صَاحب الْقصر وقدومه هَارِبا مِنْهُ إِلَى نور الدّين فحرك ذَلِك مَا كَانَ تخمر فِي نَفسه مِمَّا كَانَ كَاتبه بِهِ ابْن هُبَيْرَة فاستطلع من شاور الْأَسْبَاب الَّتِي يُمكن بهَا الدُّخُول على المصريين فشرحها وأوضحها فسير إِلَيْهَا أَسد الدّين كَمَا سبق ذكره
قَالَ وَلما قطعت خطْبَة العاضد استطال أهل السّنة على الإسماعيلية وتتبعوهم وأذلوهم وصاروا لَا يقدرُونَ على الظُّهُور من دروهم وَإِذا وجد أحد من الأتراك مصريا أَخذ ثِيَابه وعظمت الأذية بذلك وجلا أَكثر أهل مصر عَنْهَا إِلَى الْبِلَاد وَفَرح النَّاس بذلك وكتبت الْكتب بِهِ إِلَى الأقطار وتحدث بِهِ السُّمار
وَلما وصل خبر ذَلِك إِلَى نور الدّين ندب للبشارة بِهِ إِلَى بَغْدَاد شهَاب الدّين أَبَا الْمَعَالِي المطّهر بن أبي عصرون وَكتب مَعَه نُسْخَة بِشَارَة تقْرَأ بِكُل مَدِينَة يمر بهَا يَقُول فِيهَا اصدرنا هَذِه الْمُكَاتبَة إِلَى جَمِيع الْبِلَاد الإسلامية عَامَّة بِمَا فتح الله على أَيْدِينَا رتاجه وأوضح لنا منهاجه وَهُوَ مَا اعتمدناه من إِقَامَة الدعْوَة الهادية العباسية بِجَمِيعِ المدن والبلاد والأقطار والأمصار المصرية والإسكندرية ومصر والقاهرة وَسَائِر الْأَطْرَاف الدانية والقاصية
والبادية والحاضرة وانتهت إِلَى الْقَرِيب والبعيد وَإِلَى قوص وأسوان بأقصى الصَّعِيد وَهَذَا شرف لزماننا هَذَا وَأَهله يفتخر بِهِ على الْأَزْمِنَة الَّتِي مَضَت من قبله وَمَا بَرحت هممنا إِلَى مصر مصروفة وعَلى افتتاحها مَوْقُوفَة وعزائمنا فِي إِقَامَة الدعْوَة الهادية بهَا مَاضِيَة والأقدار فِي الْأَزَل بِقَضَاء آرابنا ونجاز مواعدنا قاضية حَتَّى ظفرنا بهَا بعد يأس الْمُلُوك مِنْهَا وقدرنا عَلَيْهَا وَقد عجزوا عَنْهَا وطالما مرت عَلَيْهَا الحقب الخوالي وآبت دونهَا الْأَيَّام والليالي وَبقيت مئتين وَثَمَانِينَ سنة ممنوَّة بدعوة المبطلين مملوَّة بحزب الشَّيَاطِين سابغة ظلالها للضلال مقفرة الْمحل إِلَّا من الْمحَال مفتقرة إِلَى نصْرَة من الله تَملكهَا ونظرة ستدركها رَافِعَة يَدهَا فِي إشكائها متظلمة إِلَيْهِ ليكفل بإعدائها على أعدائها حَتَّى أذن الله لغُمتها بالانفراج ولعلتها بالعلاج وسبَّب قصد الفرنج لَهَا وتوجههم إِلَيْهَا طَمَعا فِي الِاسْتِيلَاء عَلَيْهَا وَاجْتمعَ داءان الْكفْر والبدعة وَكِلَاهُمَا شَدِيد الروعة فملكنا الله تِلْكَ الْبِلَاد ومكنّ لنا فِي الأَرْض وأقدرنا على مَا كُنَّا نؤمله فِي إِزَالَة الالحاد والرفض من إِقَامَة الْفَرْض وتقدمنا إِلَى من استنَبنْاه أَن يستفتح بَاب السَّعَادَة ويستنجح مَا لنا من الْإِرَادَة وَيُقِيم الدعْوَة الهادية العباسية هُنَالك ويورد الأدعياء ودعاة الْإِلْحَاد بهَا المهالك
وَهُوَ كتاب طَوِيل اخْتَرْت مِنْهُ الْغَرَض وَهُوَ هَذَا
قَالَ وَسَار شهَاب الدّين بن أبي عصرون إِلَى جِهَة بَغْدَاد وَلم يتْرك مَدِينَة إِلَّا دَخلهَا بِهَذِهِ الْبشَارَة الجليلة الْقدر وَقَرَأَ فِيهَا هَذَا المنشور الْعَظِيم الْخطر وَالذكر حَتَّى وصل إِلَى بَغْدَاد فَخرج الموكب إِلَى تلقيه وَجَمِيع أهل بَغْدَاد مكرمين لخطير وُرُوده معظمين لجليل موروده وَنَثَرت عَلَيْهِ دَنَانِير الإنعام وحُبى بِكُل إِحْسَان وإكرام وَأرْسلت التشريفات إِلَى نور الدّين وَصَلَاح الدّين كَمَا سَيَأْتِي ذكره
وَقَالَ الْعِمَاد كَانَ صَلَاح الدّين لَا يخرج عَن أَمر نور الدّين وَيعْمل لَهُ عمل القوى الْأمين وَيرجع فِي جَمِيع مَصَالِحه إِلَى رَأْيه المتين وَقد كَانَ كَاتبه نور الدّين فِي شَوَّال سنة سِتّ وَسِتِّينَ بتغيير الْخطْبَة وتذليل أمورها الصعبة وافتراع بكر هَذِه الْقَضِيَّة وَفرع الرُّتْبَة وأيقن أَن أمره متبوع وَقَوله مسموع وَحكمه مَشْرُوع ونطقت بذلك قبل التَّمام ألسُن الْخَواص والعوام فسيَّر نور الدّين شهَاب الدّين بن أَبَا الْمَعَالِي المطهر بن الشَّيْخ شرف الدّين بن أبي عصرون بِهَذِهِ الْبشَارَة وإشاعة مَا تقدم لَهُ بهَا من الإشاعة وَأَمرَنِي بإنشاء بِشَارَة عَامَّة تقْرَأ فِي سَائِر بِلَاد الْإِسْلَام وَبشَارَة خَاصَّة للديوان الْعَزِيز بِحَضْرَة الإِمَام فِي مَدِينَة السَّلَام ثمَّ ذكر نُسْخَة الْكِتَابَيْنِ
ثمَّ قَالَ ونظمت قصيدة مُشْتَمِلَة على الْخطْبَة بِمصْر أَولهَا
(قد خَطَبنَا للمستضيء بِمصْر
…
نَائِب الْمُصْطَفى إِمَام الْعَصْر)
(وخذلنا لنصرة الْعَضُد العاضد
…
والقاصر الَّذِي بِالْقصرِ)
أَرَادَ بالعضد وَزِير بَغْدَاد عضد الدّين بن رَئِيس الرؤساء
قَالَ الْعِمَاد فِي كتاب الخريدة قصدت بالعضد والعاضد المجانسة
ونصرة وزيرالخليفة كنصرته ثمَّ قَالَ
(وأشعْنا بهَا شعار بني الْعَبَّاس
…
فاستبشرت وُجُوه النَّصْر)
(وَتَركنَا الدَّعي يَدْعُو ثبورا
…
وَهُوَ بالذل تَحت حجر وَحصر)
(وتباهت مَنَابِر الدّين بِالْخطْبَةِ
…
للهاشمي فِي أَرض مصر)
(ولدينا تضاعفت نعم الله
…
وجلّت عَن كل عدّ وَحصر)
(فاغتدى الدّين ثَابت الرُّكْن فِي مصر
…
محوط الْحمى مصون الثغر)
(واستنارت عزائم الْملك الْعَادِل
…
نور الدّين الْكَرِيم الْأَغَر)
(وَبَنُو الْأَصْفَر القوامص مِنْهُ
…
بِوُجُوه من المخافة صُفر)
(عرف الحقَّ أهل مصر وَكَانُوا
…
قبله بَين مُنكر ومقر)
(قل لداعي الدعي حَسبك فَالله
…
أقرّ الْحُقُوق خير مقرّ)
(هُوَ فتح بكر وَدون البرايا
…
خصنا الله بافتراع الْبكر)
(وحصلنا بِالْحَمْد وَالْأَجْر والنصر
…
وَطيب الثنا وَحسن الذّكر)
(ونشرنا أعلامنا السود قهرا
…
للعدى الرزق بالمنايا الْحمر)
(واستعدنا من أدعياء حقوقا
…
تدعيّ بَينهم لزيد وَعَمْرو)
(وَالَّذِي يَدعِي الْإِمَامَة بِالْقَاهِرَةِ
…
انحط فِي حضيض الْقَهْر)
(خانه الدَّهْر فِي مَنَاة ولايطمع
…
ذُو اللب فِي وَفَاء الدَّهْر)
(مَا يُقَام الإِمَام إِلَّا بِحَق
…
مَا تحاز الْحَسْنَاء إِلَّا بِمهْر)
(خلفاء الْهدى سراة بني الْعَبَّاس
…
والطيبون أهل الطُّهْر)
(بهمُ الدّين ظافر مُسْتَقِيم
…
ظَاهر قُوَّة قوى الظّهْر)
(كشموس الضُّحَى كَمثل بدور التم
…
كالسحب كَالنُّجُومِ الزهر)
(قد بلغنَا بِالصبرِ كل مُرَاد
…
وبلوغ المُرَاد عُقبى الصَّبْر)
(لَيْسَ مُثرى الرِّجَال من ملك المَال
…
ولكنما أَخُو اللب مثرى)
(وَلِهَذَا لم ينْتَفع صَاحب الْقصر
…
وَقد شَارف الدُّثُور بدثر)
(دَامَ نصر الْهدى بِملك بني الْعَبَّاس
…
حَتَّى يقوم يَوْم الْحَشْر)
قَالَ الْعِمَاد فِي ديوانه ونقلته من خطه قَالَ وَوصل الْخَبَر بِالْخطْبَةِ فِي الْإسْكَنْدَريَّة يَوْم الْجُمُعَة سَابِع شهر رَمَضَان وَفِي مصر والقاهرة يَوْم الْجُمُعَة ثامن عشري شهر رَمَضَان لمولانا الإِمَام المستضيء بِأَمْر الله أَمِير الْمُؤمنِينَ وإشاعة شعار بني الْعَبَّاس بهَا فَقلت وَنحن نزُول بجسر الْخشب من دمشق فِي عَاشر شَوَّال وكتبت بهَا إِلَى بَغْدَاد فَذكر هَذِه القصيدة
وَقَالَ فِي الْبَرْق وَوصل من دَار الْخلَافَة فِي جَوَاب هَذِه الْبشَارَة عماد الدّين صندل وَهُوَ من أكَابِر الخدم المقتفوية من ذَوي الروية والهمَّة القوية وَتَوَلَّى أستاذية الدَّار العزيزة بعد عزل كَمَال الدّين بن عضد الدّين عَنْهَا فَأكْرم نور الدّين بإرسال مثله إِلَيْهِ وعول فِي هَذَا الْأَمر المهم عَلَيْهِ
وَهُوَ أكْرم رَسُول وصل فأنجح الأمل وَجَاء بالتشريف الشريف لنُور الدّين مكملا مُعظما مُجملا بأهبته السَّوْدَاء العراقية وحلله الموشية وطوقه الثقيل ولوائه الْجَلِيل
وَعين يَوْم يحضر فِيهِ الرَّسُول ونصوا على من يحضر فِي مجْلِس نور الدّين وأغفلوا ذكر الْعِمَاد فَطَلَبه نور الدّين لما حَضَرُوا وَقَامَ لقِيَام الرُّسُل لَهُ لما حضر وَقصد أَن يعرفهُمْ مَنْزِلَته عِنْده وناوله الْكتاب ليقرأه قَالَ فتناوله منى الْمُوفق بن القيسراني خَالِد وَكَانَ عِنْده فِي مقَام الْوَزير وَله انبساط زَائِد فداريته وماريته وَتركته يقْرَأ وَأَنا أرد عَلَيْهِ وأرشده فِي التِّلَاوَة إِلَى مَا لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ حَتَّى أنهاه وَأَنا على افتئاته عليّ لَا أنهاه فأعجب نور الدّين صمتي وسمتي وَأحمد مني فضل التأتي واجتاب الأهبة وَلبس الفرجية فَوْقهَا وتقلد مَعَ تقلد السيفين طوقها وَخرج وَركب من دَاخل القلعة وَهُوَ حالٍ بِمَا عَلَيْهِ من الخلعة واللواء منشور والنضار منثور والمركبان الشريفان أَحدهمَا مركوبه وَالْآخر بحليته مجنوبه
قَالَ وَسَأَلت عَن معنى تَقْلِيده السيفين واشتماله بالنجادين فَقيل هما للشام ومصر وَالْجمع لَهُ بَين البلادين
وَخرج إِلَى ظَاهر دمشق حَتَّى انْتهى إِلَى مُنْتَهى الميدان الْأَخْضَر ثمَّ عَاد شرِيف المفخر جميل المنظر جليل الْمحْضر حميد الْمخبر سعيد المورد والمصدر لبيقاً بالأعظمين السرير والمنبر وَكَانَ وزن الطوق مَعَ أكرته ألف دِينَار من الذَّهَب الْأَحْمَر وحملوا لصلاح الدّين تَشْرِيفًا فَاضلا فائقاً رائعا رائقاً لجماله وكماله لائقاً لَكِن تشريف نور الدّين أميز وَأفضل وأجمل وأكمل فسير تشريفه برمتِهِ إِلَيْهِ بِمصْر ليجتابه وسير أَيْضا
بخلع من عِنْده يكرم بهَا أَصْحَابه ووصلت تِلْكَ الخلعة إِلَيْهِ ولبسها وَأنس من السَّعَادَة الدائمة قبسها وَطَاف بهَا فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من رَجَب وَهِي أول أهبة عباسية دخلت الديار المصرية يَعْنِي بعد اسْتِيلَاء بني عبيد عَلَيْهَا
قَالَ وَكَانَت وصلت مَعَ الرُّسُل أَعْلَام وبنود ورايات سود وأُهب عباسية للخطباء فِي الديار المصرية فسيُرّت إِلَى صَلَاح الدّين ففرقها على الْمَسَاجِد والجوامع والخطباء والقضاة وَالْعُلَمَاء وَالْحَمْد لله على مَا أنعم وَأولى ووهب وَأعْطى
قَالَ ابْن أبي طيّ وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر الْخطْبَة أَمر بِالْقَبْضِ على الْقُصُور وَجَمِيع مَا فِيهَا من مَال وذخائر وفرش وَسلَاح وَغير ذَلِك فَلم يُوجد من المَال كَبِير أَمر لِأَن شاور كَانَ قد ضيّعه فِي إِعْطَائِهِ الفرنج فِي المرات الَّتِي قدمنَا ذكرهَا وَوجد فِيهَا ذخائر جليلة من ملابس وفرش وخيول وخيام وَكتب وجوهر وَمن عَجِيب مَا وجد فِيهِ قضيب زمرد طوله شبر وكَسْر قِطْعَة وَاحِدَة وَكَانَ سمت حجمه مِقْدَار الْإِبْهَام وَوجد فِيهِ طبل للقولنج وَوجد فِيهِ إبريق عَظِيم من الْحجر الْمَانِع وَوجد فِيهِ سبع مئة يتيمة من الْجَوْهَر فَأَما قضيب الزمرد فَإِن السُّلْطَان أَخذه وأحضر صائغا ليقطعه فَأبى الصَّائِغ قطعه فَرَمَاهُ السُّلْطَان فَانْقَطع ثَلَاث قطع وفرَّقه السُّلطان على نِسَائِهِ وَأما طبل القولنج فَإِنَّهُ وَقع إِلَى بعض الأكراد
فَلم يَدْر مَا هُوَ فَكَسرهُ لِأَنَّهُ ضرب بِهِ فحبق وَأما الأبريق فأنفذه السُّلْطَان إِلَى بَغْدَاد
واحتاط السُّلْطَان على أهل العاضد وَأَوْلَاده فِي مَوضِع خَارج الْقصر جعله برسمهم على الِانْفِرَاد وَقرر لَهُم مَا يكفيهم وَجعل أَمرهم إِلَى قراقوش الْخَادِم وفرّق بَين النِّسَاء وَالرِّجَال ليَكُون ذَلِك أسْرع إِلَى انقراضهم واستعرض من بِالْقصرِ من الْجَوَارِي وَالْعَبِيد وَالْعدة والعديد والطريف والتليد فَأطلق مَنْ كَانَ مِنْهُم حرا وَأعْتق من رأى إِعْتَاقه ووهب من أَرَادَ هِبته وَفرق على الْأُمَرَاء وَالْأَصْحَاب من نفائس الْقصر وذخائره شَيْئا كثيرا وَحصل هُوَ على اليتيمات وَقطع البلخش والياقوت وقضيب الزمرد وَأطلق البيع بعد ذَلِك فِي كل جَدِيد وعتيق فَأَقَامَ البيع فِي الْقصر مدّة عشر سِنِين
قَالَ وَمن جملَة مَا باعوا خزانَة الْكتب وَكَانَت من عجائب الدُّنْيَا وَيُقَال إِنَّه لم يكن فِي جَمِيع بِلَاد الْإِسْلَام دَار كتب أعظم من الدَّار الَّتِي بِالْقَاهِرَةِ فِي الْقصر وَمن عجائبها أَنه كَانَ بهَا ألف ومئتان وَعِشْرُونَ نُسْخَة بتاريخ الطَّبَرِيّ وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت تحتوى على ألفي ألف وست مئة ألف كتاب وَكَانَ فِيهَا من الخطوط المنسوبة أَشْيَاء كَثِيرَة وَحصل القَاضِي الْفَاضِل نخبها وَذَلِكَ أَنه دخل إِلَيْهَا واعتبرها فكلّ كتاب صلح لَهُ قطع جلده ورماه فِي بركَة كَانَت هُنَاكَ فَلَمَّا فرغ النَّاس من شِرَاء الْكتب اشْترى تِلْكَ الْكتب الَّتِي أَلْقَاهَا فِي الْبركَة على انها مخرومات ثمَّ جمعهَا بعد ذَلِك
وَمِنْهَا حصل مَا حصّل من الْكتب كَذَا أَخْبرنِي جمَاعَة من المصريين مِنْهُم الْأَمِير شمس الْخلَافَة مُوسَى بن مُحَمَّد
واقتسم النَّاس بعد ذَلِك دور الْقصر وَأعْطى السُّلْطَان الْقصر الشمالي لِلْأُمَرَاءِ فسكنوه وأسكن أَبَاهُ نجم الدّين فِي اللؤلؤة وَهُوَ قصر عَظِيم على الخليج الَّذِي فِيهِ الْبُسْتَان الكافوري وَنقل الْملك الْعَادِل إِلَى مَكَان آخر مِنْهُ وَأخذ بَاقِي الْأُمَرَاء دور من كَانَ ينتمي إِلَيْهِم وَزَاد الْأَمر حَتَّى صَار كل من اسْتحْسنَ دَارا أخرج مِنْهَا صَاحبهَا وسكنها وَانْقَضَت تِلْكَ الدولة برمتها وَذَهَبت تِلْكَ الْأَيَّام بجملتها بعد أَن كَانُوا قد احتووا على الْبِلَاد واستخدموا الْعباد مئتين وَثَمَانِينَ سنة كسورا
قَالَ وَحكى أَن الشريف الجليس وَهُوَ رجل كَانَ قَرِيبا من العاضد يجلس مَعَه ويحدثه عمل دَعْوَة لشمس الدولة بن أَيُّوب أخي السُّلْطَان بعد الْقَبْض على الْقُصُور وَأخذ مَا فِيهَا وانقراض دولتهم وَغرم هَذَا الشريف على هَذِه الدعْوَة مَالا كثيرا وأحضرها أَيْضا جمَاعَة من أكَابِر الْأُمَرَاء فَلَمَّا جَلَسُوا على الطَّعَام قَالَ شمس الدولة لهَذَا الشريف حدّثني بِأَعْجَب مَا شاهدته من أَمر الْقَوْم قَالَ نعم طلبني العاضد يَوْمًا ولجماعة من الندماء فَلَمَّا دَخَلنَا عَلَيْهِ وجدنَا عِنْده مملوكين من التّرْك عَلَيْهِم أقبية مثل أقبيتكم وقلانس كقلانسكم وَفِي أوساطهم مناطق كمناطقكم فَقُلْنَا لَهُ يَا أَمِير
الْمُؤمنِينَ مَا هَذَا الزي الَّذِي مَا رَأَيْنَاهُ قطّ فَقَالَ هَذِه هَيْئَة الَّذين يملكُونَ دِيَارنَا وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالنَا وذخائرنا
قَالَ الْعِمَاد وَأخذت ذخائر الْقصر ففصلها كَمَا سبق ثمَّ قَالَ وَمن جُمْلَتهَا الْكتب فَإِنِّي أخذت مِنْهَا جملَة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَكَانَت خزائنها مُشْتَمِلَة على قريب مئة وَعشْرين ألف مجلدة مُؤَبّدَة من الْعَهْد الْقَدِيم مخلدة وفيهَا بالخطوط المنسوبة مَا اختطفته الْأَيْدِي واقتطعه التعديّ وَكَانَت كالميراث مَعَ أُمَنَاء الْأَيْتَام يتَصَرَّف فِيهَا بشره الانتهاب والالتهام ونقلت مِنْهَا ثَمَانِيَة أحمال إِلَى الشَّام وتقاسم الْخَواص بِدُور الْقصر وقُصوره وَشرع كل من سكن فِي تخريب معموره وانتقل إِلَيْهِ الْملك الْعَادِل سيف الدّين لما نَاب عَن أَخِيه واستمرت سكناهُ فِيهِ وخطب لإمامنا المستضيء فِي قوص وأسوان والصعيد والقاصي والداني والقريب والبعيد وشاعت البشائر وذاعت المفاخر وَسَار بهَا البادي والحاضر وتملك السُّلْطَان أَمْلَاك أشياعهم وَضرب الألواح على دُورهمْ ورباعهم ثمَّ ملكهَا أمراءه وَخص بهَا أولياءه وَبَاعَ مِنْهَا أَمَاكِن ووهب مِنْهَا مسَاكِن وعفّى الْآثَار الْقَدِيمَة واستأنف السّنَن الْكَرِيمَة
وَقَالَ ابْن الْأَثِير لما استولى صَلَاح الدّين على الْقصر وأمواله وذخائره اخْتَار مِنْهُ مَا أَرَادَ ووهب أَهله وأمراءه وَبَاعَ مِنْهُ كثيرا وَكَانَ فِيهِ من