الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفِيل فَإِنَّهُ وصل إِلَيْنَا فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَنحن بحلب بالميدان الْأَخْضَر وأهداه نور الدّين إِلَى ابْن أَخِيه سيف الدّين غَازِي صَاحب الْموصل مَعَ شَيْء من تحفه الثِّيَاب وَالْعود العنبر ثمَّ سيره سيف الدّين غَازِي إِلَى بَغْدَاد هَدِيَّة للخليفة مَعَ مَا سيّره مَعَه من التحف اللطيفة وسير نور الدّين الحمارة الْعَتَّابِيَّةِ إِلَى بَغْدَاد مَعَ هَدَايَا وتحف سنايا
فصل فِي جِهَاد السلطانين للفرنج فِي هَذِه السّنة
قَالَ الْعِمَاد وَنزل صَلَاح الدّين على الكرك والشوبك وَغَيرهمَا من الْحُصُون فبرح بهَا وَفرق عَنْهَا عربها وَخرب عماراتها وشنت على أَعمالهَا سراياه بغاراتها
وَوصل مِنْهُ كتاب بالمثال الفاضلي سَبَب هَذِه الْخدمَة إِلَى مَوْلَانَا الْملك الْعَادِل أعز الله سُلْطَانه وَمد أبدا إحسانه وَمكن بالنصر إِمْكَانه وشيد بالتأييد مَكَانَهُ وَنصر أنصاره وأعان أعوانه علم الْمَمْلُوك بِمَا يؤثره الْمولى بِأَن يقْصد الْكفَّار بِمَا يقص أجنحتهم ويفلل أسلحتهم وَيقطع موادهم وَيخرب بِلَادهمْ وأكبر الْأَسْبَاب الْمعينَة على مَا يرومه من هَذِه الْمصلحَة أَلا يبْقى فِي بِلَادهمْ أحدُ من العربان وَأَن يَنْتَقِلُوا من ذل الْكفْر إِلَى عز الْإِيمَان وَمِمَّا اجْتهد فِيهِ غَايَة الِاجْتِهَاد وعده من أعظم أَسبَاب
الْجِهَاد ترحيل كثير من أنفارهم والحرص فِي تَبْدِيل دَارهم إِلَى أَن صَار الْعَدو الْيَوْم إِذا نَهَضَ لَا يجد بَين يَدَيْهِ دَلِيلا وَلَا يَسْتَطِيع حِيلَة وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلا
ثمَّ ذكر بَاقِي الْكتاب
قَالَ ابْن شَدَّاد وَهَذِه أول غَزْوَة غَزَاهَا صَلَاح الدّين من الديار المصرية وَإِنَّمَا بَدَأَ بِبِلَاد الكرك والشوبك لِأَنَّهَا كَانَت أقرب إِلَيْهِ وَكَانَت فِي الطَّرِيق تمنع من يقْصد الديار المصرية وَكَانَ لايمكن أَن تصل قافلة حَتَّى يخرج هُوَ بِنَفسِهِ يعبرها بِلَاد الْعَدو فَأَرَادَ توسيع الطَّرِيق وتسهيله لتتصل الْبِلَاد بَعْضهَا بعض وتسهل على السابلة فَخرج قَاصِدا لَهَا فِي أثْنَاء سنة ثَمَان وَسِتِّينَ فحاصرها وَجرى بَينه وَبَين الفرنج وقعات وَعَاد عَنْهَا وَلم يظفر مِنْهَا بِشَيْء فِي تِلْكَ الدفعة وَحصل ثَوَاب الْقَصْد وَأما نور الدّين فَإِنَّهُ فتح مرعش فِي ذِي الْقعدَة من هَذِه السّنة وَأخذ بهسني فِي ذِي الْحجَّة مِنْهَا
وَقَالَ الْعِمَاد حضرت عِنْد الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق فِي الْعشْرين من صفر وَوَجهه بِنور الْبشر قد سفر والْحَدِيث يجْرِي فِي طيب دمشق وَحسن آلائها ورقَّة هوائها وبهجة بهائها وإزهار أرْضهَا كزهر سمائها وكلّ منا يمدحها وبحبه يمنحها وكلّ منا يطريها فَقَالَ
نور الدّين أَنا حُبّ الْجِهَاد يسليني عَنْهَا فَمَا أَرغب فِيهَا فارتجلت هَذَا الْمَعْنى فِي الْحَال فَقلت
(لَيْسَ فِي الدُّنْيَا جَمِيعًا
…
بلدةُ مثل دمشق)
(ويسليني عَنْهَا
…
فِي سَبِيل الله عشقي)
(والتقى الأَصْل وَمن يَتْرُكهَا
…
يَشْقَى ويُشْقي)
(كم رشيقٍ شاغل عَنهُ
…
بِسَهْم الْغَزْو رشقي)
(وامتشاق الْبيض يُغني
…
عَنهُ بالإقلام مشقي)
قَالَ وسألني نور الدّين أَن أعمل دوبيتيات فِي معنى الْجِهَاد على لِسَانه فَقلت
(للغزو نشاطي وَإِلَيْهِ طربي
…
مَالِي فِي الْعَيْش غَيره من أرب)
(بالجد وبالجهاد نجح الطّلب
…
والراحة مستودعة فِي التَّعَب)
وَقلت أَيْضا
(لَا رَاحَة فِي الْعَيْش سوى أَن أغزو
…
سَيفي طَربا إِلَى الطلي يَهْتَز)
(فِي ذل ذَوي الْكفْر يكون الْعِزّ
…
وَالْقُدْرَة فِي غير جهادٍ عجز)
وَقلت أَيْضا
(أَقْسَمت سوى الْجِهَاد مَالِي أرب
…
والراحة فِي سواهُ عِنْدِي تَعب)
(إِلَّا بالجد لَا ينَال الطّلب
…
والعيش بِلَا جدِّ جهادٍ لعب)
قَالَ وَاتفقَ خُرُوج كلب الرّوم اللعين فِي جنود الشَّيَاطِين يقْصد الْغَارة على زرَّا من نَاحيَة حوران وهم فِي جمع غلبت كثرته الْخَبَر والعيان ونزلوا بقرية تعرف بشمسكين فَركب نور الدّين وَهُوَ نَازل بالكسوة إِلَيْهِم وأقدم بعساكره عَلَيْهِم فَلَمَّا عرفُوا وُصُوله رحلوا إِلَى الفوار ثمَّ إِلَى السوَاد ثمَّ نزلُوا بالشلالة وَنزل نور الدّين عشترا وَقد سرَّه مَا جرى فأنفذ سريّة إِلَى أَعمال طبرية واغتنم خلّوها فأدلجت تِلْكَ اللَّيْلَة وحمدت فِي شن الْغَارة غدوها فَلَمَّا عَادَتْ لحقها الفرنج عِنْد المخاضة فَوقف الشجعان وَثَبت من ثبته الْإِيمَان حَتَّى عبرت السّريَّة وانفصلت تِلْكَ الْقَضِيَّة ورحل نور الدّين من عشترا فَنزل بِظَاهِر زرَّا
قَالَ الْعِمَاد وَكنت رَاكِبًا فِي لقائهم مَعَ الْملك الْعَادِل وَهُوَ يَقُول لي كَيفَ تصف مَا جرى فمدحته بقصيدة مِنْهَا
(عُقدت بنصرك راية الْإِيمَان
…
وبدت لعصرك آيَة الْإِحْسَان)
(يَا غَالب الغلب الْمُلُوك وصائد الصَّيْد
…
اللُّيوث وَفَارِس الفرسان)
(يَا سالب التيجان من أَرْبَابهَا
…
حُزت الفخار على ذَوي التيجان)
(محمودُ الْمَحْمُود مَا بَين الورى
…
فِي كل إقليم بِكُل لِسَان)
(يَا وَاحِدًا فِي الْفضل غير مُشارك
…
أَقْسَمت مَالك فِي البسيطة ثَانِي)
(أحلى أمانيك الجهادُ وإنهُ
…
لَك مؤذنُ أبدا بِكُل أَمَان)
(كم بكر فتح ولَّدته ظُباك من
…
حَرْب لقمع الْمُشْركين عَوان)
(كم وقعةٍ لَك بالفرنج حَدِيثهَا
…
قد سَار فِي الْآفَاق والبلدان)
(قمصت قومصهم رِدَاء من ردى
…
وقرنت رَأس برنسهم بسنان)
(وملكت رقّ مُلوكهم وتركتهم
…
بالذل فِي الأقياد والأسجان)
(وَجعلت فِي أَعْنَاقهم أغلالهم
…
وسحبتهم هُوناً على الأذقان)
(إِذْ فِي السوابغ تحطم السمر القنا
…
وَالْبيض تخضب بالنجيع القاني)
(وعَلى غناء المشرفية فِي الطلى
…
والهام رقص عوالي المّران)
(وَكَأن بَين النَّقْع لمع حديدها
…
نارُ تألقُ من خلال دُخان)
(فِي مأزق ورد الوريد مكفل
…
فِيهِ برىّ الصارم الظمآن)
(غطى العجاج بِهِ نُجُوم سمائه
…
لتنوب عَنْهَا أنجم الخرصان)
(أَو مَا كفاهم ذَاك حَتَّى عاودوا
…
طُرُق الضلال ومركب الطغيان)
(يَا خيبة الإفرنج حِين تجمعُوا
…
فِي حيرة وَأتوا إِلَى حوران)
وَمِنْهَا
(وجلْوتَ نور الدّين ظلمَة كفرهم
…
لما أتيت بواضح البُرهان)
(وهزمتهم بِالرَّأْيِ قبل لقائهم
…
والرأي قبل شجاعة الشجعان)
(أَصبَحت لِلْإِسْلَامِ رُكناً ثَابتا
…
وَالْكفْر مِنْك مضعضع الْأَركان)
(قوضت آساس الضلال بعزمك الْمَاضِي
…
وشدْت مباني الْإِيمَان)
(قُل أَيْن مثلك فِي الْمُلُوك مُجَاهِد
…
لله فِي سِر وَفِي إعلان)
(لم تلقهم ثِقَة بِقُوَّة شوْكةٍ
…
لَكِن وثقت بنصرة الرحمان)
(مَا زَالَ عزمك مُسْتقِلّا بِالَّذِي
…
لايستقل بثقله الثَّقَلَان)
(وَبَلغت بالتأييد أقْصَى مبلغ
…
مَا كَانَ فِي وسع وَلَا إِمْكَان)
(دَانَتْ لَك الدُّنْيَا فقاصيهما إِذا
…
حققته لنفاذ أَمرك داني)
(فَمن الْعرَاق إِلَى الشآم إِلَى ذرا
…
مصر إِلَى قوص إِلَى أسوان)
(لم تله عَن بَاقِي الْبِلَاد وَإِنَّمَا
…
ألهاك فرض الْغَزْو عَن همذان)
(للروم والإفرنج مِنْك مصائب
…
بِالتّرْكِ والأكراد والعربان)
(أذعنت لله الْمُهَيْمِن إِذْ عنت
…
لَك أوجه الْأَمْلَاك بالإذعان)
(أَنْت الَّذِي دون الْمُلُوك وجدته
…
ملآن من عرف وَمن عرفان)
(فِي بَأْس عَمْرو فِي بسالة حيدرٍ
…
فِي نطق قس فِي تقى سلمَان)
(سير لَو أَن الْوَحْي ينزل أنزلت
…
فِي شَأْنهَا سورُ من الْقرَان)
(فَاسْلَمْ طَوِيل العُمْر ممتد المدى
…
صافي الْحَيَاة مخلد السُّلْطَان)