الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي بَاقِي حوادث هَذِه السّنة وَدخُول قراقوش إِلَى الْمغرب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي سَابِع شوّال وصل أَخُو السُّلْطَان شمس الدولة من الْيمن إِلَى دمشق
وَذكر ابْن شَدَّاد أَنه قدم فِي ذِي الْحجَّة
قلت ولمّا سمع السُّلْطَان بقدُومه أرسل إِلَيْهِ بالمثال الفاضليّ كتابا أوّله {أَنا يُوسُفُ وَهَذا أَخي قَدْ مَنَّ اللهُ علينا} وَقَالَ فِي آخِره وَلَقَد أحسن عدنان المبشر إذْ طلع علينا طُلُوع الْفجْر قبل شمسه وغرس فِي الْقُلُوب مَا يسرّنا ويسرّه جنى غرسه
قَالَ ابْن أبي طيّ كَانَ سَبَب خُرُوجه من الْيمن كَرَاهِيَة الْبِلَاد والشّوق إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر وَأَن يرى مُلُوك الشَّام وَغَيرهَا وأمراء العساكر مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من النّعم وَالْأَمْوَال
قَالَ وَحكى أَنه لما تحدّث النَّاس بِخُرُوج شمس الدّولة من الْيمن كَانَ بِالْيمن رجل يُقَال لَهُ عَبَّاس وَكَانَ صهر يَاسر بن بِلَال الحبشي صَاحب عدن وَكَانَ بَين عَبَّاس وياسر عَدَاوَة فافتعل عَبَّاس كتابا على لِسَان يَاسر
وزوّر عَلَيْهِ علامته إِلَى زيد بن عَمْرو بن حَاتِم صَاحب صنعاء يَقُول فِيهِ إِن شمس الدولة سَائِر إِلَى أَخِيه الْملك النَّاصِر إِلَى الشَّام وَسبب خُرُوجه ضعفه عَن الْيمن فأمسكوا مَا كُنْتُم تحملون إِلَيْهِ من الأتاوة والرشوة يبْق لكم واحتال حتّى وصل الْكتاب إِلَى شمس الدولة وَكَانَ نازلا على حصن يعرف بالخضراء يحاصره
فَلَمَّا وقف شمس الدولة على الْكتاب استدعى ياسراً وَقَالَ لَهُ هَذَا خطك وعلامتك قَالَ كَأَنَّهُ هُوَ قَالَ فَبِأَي شَيْء استحققت مِنْك هَذَا وَقد قرّبت منزلتك وأبقيت عَلَيْك بلادك وَرفعت بضبعك على أهل إقليمك وَأرَاهُ الْكتاب فَلَمَّا وقف عَلَيْهِ يَاسر حلف أَنه مَا كتبه وَلَا يعرفهُ وَلَا أملاه لأحد وَلم يعلم خَبره فَلم يصدقهُ شمس الدولة وَأمر بِهِ فَقتل صبرا بَين يَدَيْهِ فهاب شمس الدولة مُلُوك الْيمن وحملوا إِلَيْهِ الْأَمْوَال وحلفوا لَهُ على الطَّاعَة
ثمَّ إِن شمس الدولة خرج إِلَى تهَامَة وَتوجه إِلَى الشَّام واستخلف على تهَامَة سيف الدولة مبارك بن كَامِل بن منقذ وَعُثْمَان بن عَليّ الزنجيلي على عدن وَتوجه إِلَى حَضرمَوْت فَفَتحهَا واستناب عَنهُ بهَا رجلا كرديا يُسمى هَارُون وَكَانَ مقَامه بشبام واستمرّ الْكرْدِي بهَا مُدَّة
ثمَّ أَن صَاحب حَضرمَوْت تحرّك وَجمع فَقتل وعاث هَارُون فِي تِلْكَ الْبِلَاد واستقام أمره وَولى شمس الدولة ثغر تعز مَمْلُوكه ياقوت وَجعل إِلَيْهِ أَمر الْجند وَولى قلعة تعكر مَمْلُوكه قايماز
قَالَ وَكَانَ وُصُول شمس الدولة إِلَى السُّلْطَان قبل وقْعَة المواصلة وكسرتهم وَكَانَ شمس الدولة هُوَ سَبَب الظفر وَأَعْطَاهُ السُّلْطَان سرادق سيف الدّين صَاحب الْموصل بِمَا كَانَ فِيهِ من الْفرش والأثاث والالات وولاه دمشق وأعمالها والشَّام وَأمره أَن يكون فِي وَجه الفرنج لِأَن السُّلْطَان خَافَ من الحلبيين أَن يكاتبوا الفرنج كعادتهم
قَالَ وفيهَا قتل صدّيق بن جَوْلَة صَاحب بُصرى وصَرْخد قَتله ابنُ أَخِيه وَملك بعدهُ بُصْرى وصرخد شهورا فكاتبه شمس الدولة أَخُو السُّلْطَان وَحلف لَهُ على مَا يُريدهُ من إقطاع واقترح شمس الدولة أَن يكْتب هُوَ مَا يُريدهُ ليحلف عَلَيْهِ فأنفذ من بُصْرى نُسْخَة يَمِين كتبهَا قَاضِي بصرى وَكَانَ قَلِيل الْمعرفَة بالفقه والتصرّف فِي القَوْل فَلم يستقص فِيهَا وُجُوه التَّأْوِيل فَلَمَّا استوثق بهَا من شمس الدولة وَخرج إِلَيْهِ تأوَّل عَلَيْهِ شمس الدولة فِي الْيَمين وَقَبضه ثمَّ أقطعه عشْرين ضَيْعَة ثمَّ أَخذهَا مِنْهُ بعد أَيَّام
قَالَ وفيهَا عصى الْأَمِير غرس الدّين قليج بتلّ خَالِد بِسَبَب كَلَام جرى
بَينه وَبَين كمشتكين فأنهد إِلَيْهِ من حلب عسكرا فحاصروه أَيَّامًا وَسلم الْحصن وصلحت حَاله
قَالَ وَلما ملك شمس الدّولة الْيمن سمت نفس ابْن أَخِيه تقيِّ الدِّين إِلَى الْملك وَجعل يرتاد مَكَانا يحتوى عَلَيْهِ فأُخبر أنَّ قلعة ازبري هِيَ فَم درب الْمغرب وَكَانَت خرابا فأشير عَلَيْهِ بعمارتها وَقيل لَهُ مَتى عمرت وسكنها أجنادٌ أقوياء شجعان مُلِكَت برقة وَإِذا ملكت برقة ملك مَا وَرَاءَهَا فأنفذ مَمْلُوكه بهاء الدِّين قراقوش وقدّمه على جمَاعَة من أجناده ومماليكه فصاروا إِلَى القلعة الْمَذْكُورَة وشرعوا فِي عمارتها
وَاجْتمعَ بقراقوش رجل من الْمغرب فحدّثه عَن بِلَاد الجريد وفزّان وَذكر لَهُ كَثْرَة خَيرهَا وغزارة أموالها وَضعف أَهلهَا ورغبّه فِي الدُّخُول إِلَيْهَا فَأخذ جمَاعَة من أَصْحَابه وَسَار فِي حادي عشر المحرّم من هَذِه السّنة فَكَانَ يكمن النَّهار ويسير اللَّيْل مدّة خَمْسَة أَيَّام وأشرف على مَدِينَة أوجلة فَلَقِيَهُ ملكهَا وأكرمه واحترمه وَسَأَلَهُ الْمقَام عِنْده ليعتضد بِهِ ويزوجه بنته ويحفظ الْبِلَاد من الْعَرَب وَله ثلث ارتفاعها فَفعل قراقوش ذَلِك فَحصل لَهُ من ثلث الِارْتفَاع ثَلَاثُونَ ألف دِينَار فَأخذ عشرَة آلَاف لنَفسِهِ وفرّق على رِجَاله عشْرين ألفا
وَكَانَ إِلَى جَانب أوجلة مَدِينَة يُقَال لَهَا الأزراقية فَبلغ أَهلهَا صَنِيع قراقوش فِي أوجلة وَأَنه حرس غلالهم فصاروا إِلَيْهِ ووصفوا لَهُ بلدهم وَكَثْرَة خَيره وَطيب هوائه ورغبوه فِي الْمصير إِلَيْهِم على انهم يملكونه عَلَيْهِم فَأجَاب إِلَى ذَلِك واستخلف على أوجلة رجلا من أَصْحَابه يُقَال لَهُ صباح وَمَعَهُ تِسْعَة فوارس من أَصْحَابه فَحصل لقراقوش أَمْوَال كَثِيرَة
وَاتفقَ أنّ صَاحب أوجلة مَاتَ فَقتل أهل أوجلة أَصْحَاب قراقوش فجَاء قراقوش وحاصرها حَتَّى افتتحها عنْوَة وَقتل من أَهلهَا سبع مئة رجل وغنم أَصْحَابه مِنْهَا غنيمَة عَظِيمَة وَاسْتولى على الْبَلَد
ثمّ إِن أَصْحَابه رَغِبُوا فِي الرّجوع إِلَى مصر وخشى قراقوش أَن يُقيم وَحده فَرجع مَعَهم فَلَمَّا حصل بِمصْر طَابَ لَهُ الْمقَام وَثقل عَلَيْهِ الْعود وزوّجه تقيّ الدّين بِإِحْدَى جواريه وَكَانَ استناب بأوجلة وَقَالَ لأَهْلهَا أَنا أمضى إِلَى مصر لتجديد رجال وأعود إِلَيْكُم
قَالَ ابْن الْأَثِير وَفِي ربيع الآخر سنة إِحْدَى وَسبعين استوزر سيف الدّين صَاحب الْموصل جلال الدّين أَبَا الْحسن عَليّ بن جمال الدّين الْوَزير رحمهمَا الله تَعَالَى ومكنّه فِي ولَايَته فظهرت مِنْهُ كِفَايَة لم يُظَّنها النَّاس وبدا مِنْهُ معرفَة بقواعد الدّول وأوضاع الدّواوين وَتَقْرِير الْأُمُور والاطلاع على دقائق الحسبانات وَالْعلم بصناعة الْكِتَابَة الحسابية والإنشاء حيّرت الْعُقُول وَوضع فِي كِتَابَة الإنشاد وضعا لم يعرفوه
وَكَانَ عمره حِين ولي الوزارة خمْسا وَعشْرين سنة ثمّ قبض عَلَيْهِ فِي
شعْبَان سنة ثَلَاث وَسبعين وشفع فِيهِ كَمَال الدّين بن نيسان وَزِير صَاحب آمد وَكَانَ قد زوجه بنته فأُطلق وَسَار إِلَيْهِ وَبَقِي بآمد يَسِيرا مَرِيضا ثمَّ فَارقهَا وتُوفي بدنيسر سنة أَربع وَسبعين وحُمل إِلَى الْموصل فَدفن بهَا ثمّ حُمل مِنْهَا فِي موسم الحجّ إِلَى الْمَدِينَة وَدفن عِنْد وَالِده وَكَانَ من أحسن النَّاس صُورَة وَمعنى رَحمَه الله تَعَالَى
قَالَ ثمّ إِن سيف الدّين استناب دُزْدَاراً بقلعة الْموصل الْأَمِير مُجَاهِد الدّين قايماز فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وردّ إِلَيْهِ أزمة الْأُمُور فِي الحلّ وَالْعقد وَالرَّفْع والخفض وَكَانَ بِيَدِهِ قبل هَذِه الْولَايَة مَدِينَة إربل وأعمالها وَمَعَهُ فِيهَا ولدٌ صَغِير لزين الدَّين على لقبه أَيْضا زين الدِّين فَكَانَ الْبَلَد لولد زين الدِّين اسْما لَا معنى تَحْتَهُ وَهُوَ لمجاهد الدِّين صُورَة وَمعنى
قلت وَفِي حادي عشر رَجَب توفيّ حَافظ الشَّام أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن الْحسن بن عَسَاكِر صَاحب التَّارِيخ الدِّمَشْقِي رَحمَه الله تَعَالَى وَحضر السُّلْطَان صَلَاح الدّين جنَازَته وَدفن فِي مَقَابِر بَاب الصَّغِير
وفيهَا قدم دمشق أَبُو الْفتُوح عبد السَّلام بن يُوسُف بن
مُحَمَّد بن مقلد الدّمشقي الأَصْل الْبَغْدَادِيّ المولد التنوخي الجماهري الصُّوفِي ابْن الصُّوفِي ذكره الْعِمَاد فِي الخريدة وَقَالَ كَانَ صديقي وَجلسَ للوعظ وَحضر عِنْده صَلَاح الدّين وَأحسن إِلَيْهِ وَعَاد إِلَى بَغْدَاد
وَذكر الْعِمَاد من أشعاره مقطعات مِنْهَا فِي الْحَقَائِق وأنشدها فِي مَجْلِسه
(يَا مَالِكًا مهجتي يَا مُنْتَهى أملي
…
يَا حَاضرا شَاهدا فِي الْقلب والفكر)
(خلقتني من تُرَاب أَنْت خالقه
…
حَتَّى إِذا صرتُ تمثالاً من الصُّور)
(أجريت فِي قالبي رُوحاً منورة
…
تمرُّ فِيهِ كَجَرْي المَاء فِي الشّجر)
(جمعت بَين صفا روح منورة
…
وهيكل صغته من مَعْدن كدر)
(إِن غبت فِيك فيافخري وَيَا شرفي
…
وَإِن حضرت فيا سَمْعِي وَيَا بَصرِي)
(أَو احْتَجَبت فَسرِّي مِنْك فِي ولهٍ
…
وإنْ خطرتُ فقلبي مِنْك فِي خطر)
(تبدو فتمحوُ رسومي ثمَّ تثبتُها
…
وَإِن تغيبت عنّي عشتُ بالأثر)