الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمَنْ كَانَ بَينَ الصَّفَّينِ عِنْدَ الْتِحَامِ الْحَرْب، أوْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ عِنْدَ هَيَجَانِهِ، أوْ وَقَعَ الطَّاعُونُ بِبَلَدِهِ، أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَصَّ مِنْهُ، وَالْحَامِل عِنْدَ الْمَخَاضِ، فَهُوَ كَالْمَرِيضِ. وَقَال الْخِرَقِيُّ: وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ إذَا صَارَ لَهَا سِتَّةُ أشْهُرٍ. وَقِيلَ عَنْ أحْمَدَ، مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ عَطَايَا هَؤُلَاءِ مِنَ الْمَالِ كُلِّهِ.
ــ
2632 - مسألة: (ومَن كان بينَ الصَّفَّينِ عندَ التِحامِ الحَرْبِ، أو في لُجَّةِ البَحْرِ عندَ هَيَجانِه، أو وَقَع الطّاعُونُ ببَلَدِه، أو قُدِّم ليُقْتَصَّ منه، والحامِلُ عندَ المَخاضِ، فهو كالمَرِيضِ)
وجُمْلَةُ ذلك، أنَّ الخَوْفَ يَحْصُلُ في هذه المواضِعِ الخَمْسَةِ المَذْكُورَةِ، فيَقُومُ مَقامَ (1) المَرَضِ؛ أحَدُها، إذا الْتَحَمَ الحَرْبُ واخْتَلَطَتِ الطّائِفَتان للقِتالِ، وكانت كلُّ واحِدَةٍ منهما مُكافِئَةً للأُخْرَى أو مَقْهُورَةً. فأمّا القاهِرَةُ منهما بعدَ ظُهُورِها فليست خائِفَةً. وكذلك إذا لم يَخْتَلِطُوا، بل كانت كلُّ واحِدَةٍ منهما مُتَمَيِّزَةً، سَواء كان بينَهما رَمْيُ السِّهامِ أو لم يكُنْ، فليست حالةَ
(1) سقط من: الأصل.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
خَوْفٍ. ولا فَرْقَ بينَ كَوْنِ الطّائِفَتَين مُتَّفِقَتَين في الدِّينِ أوْ لا. وبه قال مالِكٌ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ. ونحوُه عن مَكْحُولٍ. وعن الشافعيِّ قَوْلان؛ أحَدُهما، كقولِ الجَماعَةِ. والثانِي، ليس بخَوْفٍ؛ لأنَّه ليس بمَرِيضٍ (1). ولَنا، أنَّ تَوَقُّعَ التَّلَفِ ههُنا كتَوَقُّعِ المَرَضِ أو أكْثَرَ، فوَجَبَ أن يُلْحَقَ به، ولأنَّ المَرَضَ إنَّما جُعِل مَخُوفًا لخَوْفِ صاحِبِه التَّلَفَ، وهذا كذلك. قال أحمدُ: إذا حَضَر القِتال كان عِتْقُه مِن الثُّلُثِ. وعنه، إذا الْتَحَمَ الحَرْبُ فوَصِيَّتُه مِن المالِ كلِّه، لكنْ يَقِفُ الزَّائِدُ عن الثُّلُثِ على إجازَةِ الوَرَثَةِ، فإنَّ حُكْمَ وصِيَّةِ الصَّحِيحِ وخائِفِ التَّلَفِ واحِدٌ، فيَحْتَمِلُ أن يُجْعَلَ هذا رِوايَةً ثانيةً؛ وسَمَّى العَطيَّةَ وَصِيَّةً تَجَوُّزًا؛ لكَوْنِها في حُكْمِ الوَصِيَّةِ. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على حَقِيقَتِه في صِحَّةِ الوَصِيَّةِ مِن المالِ كلِّه. الثانيةُ، إذا قُدِّمَ ليُقْتَلَ، فهي حالةُ خَوْفٍ، سَواء أُرِيدَ قَتْلُه للقِصاصِ أو لغيرِه. وللشافعيِّ فيه قَوْلان؛ أحَدُهما، هو مَخُوفٌ.
(1) في م: «بمرض» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
والثانِي، إن جُرِح فهو مَخُوفٌ، وإلَّا فلا؛ لأنَّه صَحِيحُ البَدَنِ، والظّاهِرُ العَفْوُ عنه. ولَنا، أنَّ التَّهْدِيدَ بالقَتْلِ جُعِل إِكْراهًا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلاقِ وصِحَّةَ البَيعِ، ويُبِيحُ كَثِيرًا مِن المُحَرَّماتِ، ولولا الخَوْفُ لم تثْبُتْ هذه الأحْكامُ، وإذا حُكِم للمَرِيضِ وحاضِرِ الحَرْبِ بالخَوْفِ مع ظُهُورِ السَّلامَةِ وبُعْدِ وُجُودِ التَّلَفِ، فمع ظُهُورِ التَّلَفِ وقُرْبِه أوْلَى، ولا عِبْرَةَ بصِحَّةِ البَدَنِ، فإنَّ المَرَضَ لم يكنْ مُثْبِتًا لهذا الحُكْمِ لعَينِه، بل لخَوْفِ إفضائِه إلى التَّلَفِ، فيَثْبُتُ الحُكْمُ ههُنا بطَرِيقِ التَّنْبِيهِ، لظُهُورِ التَّلَفِ. الثالثةُ، إذا رَكِب البَحْرَ، فإن كان ساكِنًا، فليس بمَخُوفٍ، وإنِ اضْطَرَبَ وهَبَّتِ الرِّيحُ العاصِفُ، فهو مَخُوفٌ، وقد وَصَفَهَم الله تعالى بشِدَّةِ الخَوْفِ، فقال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآية إلى قَوْلِه: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} (1). الرابعةُ، الأسِيرُ [والمَحْبُوس](2) إذا كان مِن عادَتِهم القَتْلُ، فهو خائِفٌ، عَطيَّتُه مِن الثُّلُثِ، وإلَّا فلا. وهذا قولُ أبي
(1) سورة يونس 22.
(2)
في الأصل: «المحبوس» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
حنيفةَ، ومالِكٍ، وابنِ أبي لَيلَى، وأحَدُ قَوْلَي الشافعيِّ. وقال الحَسَنُ لَمّا حَبَسَ الحَجّاجُ إياسَ بنَ مُعاويةَ: ليس له مِن مالِه إلَّا الثُّلُثُ. وقال أبو بكرٍ: عَطِيَّةُ الأسِيرِ مِن الثُّلُثِ. ولم يُفَرِّقْ. وبه قال الزُّهْرِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وإسحاقُ. وحَكاه ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وتَأوَّلَ القاضِي ما رُوِيَ، وهو على ما ذَكَرْناه مِن التَّفْصِيلِ ابْتِداءً. وقال الشَّعْبِيُّ، ومالِكٌ: الغازِي عَطِيَّتُه مِن الثُّلُثِ. وقال مَسْرُوقٌ: إذا وَضَع رِجْلَه في الغَرْزِ. وقال الأوْزاعِيُّ: المَحْصُورُ في سِبيلِ الله والمَحْبُوسُ يَنْتَظِرُ القَتْلَ، هو في ثُلُثِه. والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ، ما ذَكَرْناه مِن التَّفْصِيلِ؛ لأنَّ مُجَرَّدَ الحَبْسِ والأسْرِ مِن غيرِ خَوْفِ القَتْلِ، ليس بمَرَضٍ، ولا هو في مَعْنَى المَرَضِ في الخَوْفِ، فلم يَجُزْ إلحاقُه به، وإذا كان المَرِيضُ الذي لا يَخافُ التَّلَفَ، عَطِيَّتُه مِن رَأْسِ مالِه، فغيرُه أوْلَى. الخامسةُ، إذا وَقَع الطّاعُونُ ببَلَدِه، فعن أحمدَ، أنَّه مَخُوفٌ. ويَحْتَمِلُ أنَّه ليس بمَخُوفٍ، فإنَّه ليس بمَرِيضٍ، وإنَّما يَخافُ المَرَضَ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وكذلك الحامِلُ عندَ المَخاضِ؛ لأنَّه يَحْصُلُ لها أَلَمٌ شَدِيدٌ يُخافُ منه التَّلَفُ، أشْبَهَتْ سائِرَ أصحابِ الأمْراضِ المَخُوفةِ، وما قبلَ ذلك فلا ألَمَ بها، فلا يكونُ مَخُوفًا (وقال الخِرَقِيُّ: وكذلك الحامِلُ إذا صار لها سِتَّةُ أشْهُرٍ) يَعْنِي عَطِيُتها مِن الثُّلُثِ. وبه قال مالِكٌ. وقال إسحاقُ: إذا ثَقُلَتْ لا يَجُوزُ لها إلا الثُّلُثُ. ولم يَحُدَّ حَدًّا. وحَكاهُ ابنُ المُنْذِرِ عن أحمدَ. وقال سعيدُ بنُ المُسَيَّب، وعَطاءٌ، وقَتادَةُ: عَطِيَّةُ الحامِلِ مِن الثُّلُثِ. وقال أبو الخَطّابِ: عَطيَّتُها مِن المالِ كلِّه ما لم يَضْرِبْها المَخاضُ، فإذا ضَرَبَها المَخَاضُ، فعَطيَّتُها مِن الثُّلُثِ. وبه قال النَّخَعِيُّ، ومَكْحُولٌ، ويَحْيىَ الأنْصارِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، والعَنبرِيُّ، وابنُ المُنْذِرِ. وهو ظاهِرُ مَذْهَبِ الشافعيِّ؛ لأنَّها لا تَخافُ إلَّا إذا ضَرَبَها الطَّلْقُ، فأشْبَهَتْ صاحِبَ الأمْراضِ المُمْتَدَّةِ قبلَ أن يَصِيرَ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
صاحِبَ فِراشٍ. وقال الحَسَنُ، والزُّهْرِيُّ: عَطيَّتُها كعَطِيَّةِ الصَّحِيحِ. وهو القولُ الثانِي للشافعيِّ؛ لأن الغالِبَ سلامَتُها. ووَجْهُ قولِ الخِرَقِيِّ، أنَّ سِتَّةَ الأشْهُرِ وَقْتٌ يُمْكِنُ الولادَةُ فيه، وهو مِن أسْبابِ التَّلَفِ. والصَّحِيحُ، إن شاء اللهُ تعالى، ما ذَكَرْناه، مِن أنَّه إذا ضَرَبَها الطَّلْقُ كان مَخُوفًا، بخِلافِ ما قبلَ ذلك؛ لأنَّه لا ألَمَ بها، واحْتِمالُ وُجُودِه خِلافُ العادَةِ، فلا يَثْبُتُ الحُكْمُ باحْتِمالِه البَعِيدِ مع عَدَمِه، كالصَّحِيحِ. وقِيلَ عن أحمدَ ما يَدُلُّ على أنَّ عَطايا هؤلاءِ مِن المالِ كلِّه؛ لأنَّه لا مَرَضَ بهم. وقد ذَكَرْنا الخِلافَ في ذلك.
فصل: فأمّا بعدَ الولَادَةِ، فإن بَقِيَتِ المَشِيمَةُ معها، فهو مَخُوفٌ،
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وإن مات الوَلَدُ معها، فهو مَخُوفٌ؛ لأنَّه يَصْعُبُ خُرُوجُه. فإن وَضَعَتِ الوَلَدَ وخَرَجَتِ المَشِيمَةُ، فحَصَلَ ثَمَّ وَرَمٌ أو ضَرَبانٌ شَدِيدٌ، فهو مَخُوفٌ. وإن لم يكنْ شيءٌ مِن ذلك، فقد رُوِيَ عن أحمدَ في النُّفَساءِ: إن كانت تَرْمِي الدَّمَ، فعَطيَّتُها مِن الثُّلُثِ. فيَحْتَمِلُ أنَّه أراد بذلك إذا كان معه ألَمٌ للُزُومِه ذلك في الغالِبِ. ويَحْتَمِلُ أن يُحْمَلَ على ظاهِرِه، فإنَّها إذا كانت تَرَى (1) الدَّمَ كانت كالمَرِيضِ. وحُكْمُها بعدَ السَّقْطِ مثلُ حُكْمِها بعدَ الوَلَدِ التامِّ. فإن أسْقَطَتْ مُضْغَةً أو عَلَقَةً فلا حُكْمَ لها، إلَّا أن يكونَ ثَم مَرَضٌ أو ألَمٌ. وهذا كلُّه مَذْهَبُ الشافعيِّ، إلَّا أنَّ مُجَرَّدَ الدَّمِ عندَه ليس بمَخوفٍ.
(1) في م: «ترمى» .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: وما لَزِم المَرِيضَ في مَرَضِه مِن حَقٍّ لا يُمْكِنُه دَفْعُه وإسْقاطُه، كأَرْشِ جِنايته، وجِنايَهَ عَبْدِه، وما عاوَضَ عليه بثَمَنِ المِثْلِ، وما يَتغابَنُ النّاسُ بمِثْلِه، فهو مِن رَأْسِ المالِ. لا نَعْلَمُ فيه خِلافًا. وهو قولُ الشافعيِّ، وأصحابِ الرَّأْي. وكذلك النِّكاحُ بمَهْرِ المِثلِ، يَجُوزُ مِن رَأْسِ المالِ؛ لأنَّه صَرَف ماله في حاجَةِ نَفْسِه، فقُدِّمَ بذلك على وارِثِه. وكذلك لو اشْتَرَى أمَةً للاسْتِمْتاعِ بها كَثِيرَةَ الثَّمَنِ بثَمَنِ مِثْلِها، أو اشْتَرَى مِن الأطْعِمَةِ التي لا يَأْكُلُ مثلُه مثلَها، جاز، وصَحَّ شِراؤُه له؛ لأنَّه صَرَفَ ماله في حاجَتِه. وإن كان عليه دَينٌ، أو مات وعليه دَينٌ، قُدِّمَ بذلك على وارِثِه؛ لقولِ اللهِ تعالى:{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَينٍ} (1).
(1) سورة النساء 11.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
فصل: فأمّا إن قَضَى المَرِيضُ بعضَ غُرَمائِه، ووَفَّتْ تَرِكَتُه بسائِرِ الدُّيُونِ، صَحَّ قَضاؤُه، ولم يكنْ لسائِرِ الغُرَماءِ الاعْتِراضُ عليه. وإن لم تَفِ بها، ففيه وَجْهان؛ أحَدُهما، أنَّ لسائِرِ الغُرَماءِ الرُّجُوعَ عليه، ومُشارَكَتَه فيما أخَذَه. وهو قولُ أبي حنيفةَ؛ لأنَّ حَقَّهم تَعَلَّقَ بمالِه بمَرَضِه، فمَنَعَ تَصَرُّفَه فيه بما يَنْقُصُ دُيُونَهم، كتَبَرُّعِه، ولأنَّه لو وَصَّى بقَضاءِ بعضِ دُيُونِه، لم يَجُزْ، فكذلك إذا قَضاها. والثانِي، لا يَمْلِكُون الاعْتِراضَ عليه ولا مُشارَكَتَه. وهو قِياسُ قولِ أحمدَ، ومَنْصُوصُ الشافعيِّ؛ لأنَّه أدَّى واجِبًا عليه، فصَحَّ، كما لو اشْتَرَى شيئًا فأدَّى ثَمَنَه، أو باع بعضَ مالِه وسَلَّمَه. ويُفارِقُ الوَصِيَّة، فإنَّه لو اشْترى ثِيابًا مُثَمَّنَةً، صَحَّ، ولو وَصَّى بتَكْفِينِه بثِيابٍ مُثَمَّنَةٍ، لم يَصِحَّ. يُحَقِّقُ هذا أنَّ إيفاءَ ثَمَنِ المَبِيعِ قَضاءٌ لبعضِ غُرَمائِه، وقد صَحَّ عَقِيبَ البَيعِ، فكذلك إذا تَراخَى، إذ لا أثَرَ لتَراخِيه.
فصل: وإذا تبرعَ المَرِيضُ أو أعْتَقَ ثم أقَرَّ بدَينٍ، لم يَبْطُلْ تَبَرُّعُه. نَصَّ عليه أحمدُ، في مَن أعْتَقَ عَبْدَه في مَرَضِه ثم أقَرَّ بدَينٍ، عَتَق العَبْدُ، ولم يُرَدَّ إلى الرِّقِّ؛ لأنَّ الحَقَّ ثَبَت بالتَّبَرُّعِ في الظّاهِرِ، فلم يُقْبَلْ إقْرارُه فيما يَبْطُلُ به حَقُّ غيرِه.