الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفى فى ذى القعدة سنة أربع وسبعين وأربعمائة. وثقه ابن السمعانى فى الأنساب. وسأل شيخه إسماعيل بن محمد الحافظ عنه، فقال: عدل ثقة كبير. انتهى.
قرأت على فاطمة وعائشة بنتى محمد بن عبد الهادى بالسفح، أن أبا الحجار أخبرهما عن أبى الحسن المؤرخ، قال: أنا أبو جعفر النقيب، قال: أنا أبو على الشافعى، قال: أخبرنا ابن فراس، قال: نا محمد بن إبراهيم الدّيبلىّ [ ..... ](1).
993 ـ الحسن بن عبد الأحد بن عبد الرحمن بن محمد الرّسعنىّ، المؤدّب، بدر الدين الحنبلى:
نزيل مكة. سمع بالإسكندرية على بهاء الدين عبد الله بن أبى بكر الدّمامينى المخزومى، منتقى من مشيخة محمد بن عبد السلام الإسكندرى، المعروف بابن المقدسيّة، وحدث به. سمع منه أصحابنا المحدّثون.
وتوفى سنة ست وعشرين وثمانمائة بمكة، ودفن بالمعلاة فى ربيع الآخر، أو آخر ربيع الأول. وقد جاور بمكة سنين كثيرة، وأدّب بها الأطفال بالمسجد الحرام. وكان متعبّدا خيرا ساكنا.
994 ـ الحسن بن عتبة بن إبراهيم بن أبى خداش بن عتبة بن أبى لهب عبد العزّى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف القرشى الهاشمى المكى:
ذكر الزبير بن بكار: أن حماد البربرى، رفعه ورفع أخاه حمزة فى نفر، رفعهم من مكة إلى الرشيد، ذكر أنهم يتشيعون فى آل أبى طالب، فأدخلوا على الرشيد. فعاتب حمزة على ما نسب إليه من التشيع، فأنكر وأجاب بجواب أعجب الرشيد، يأتى إن شاء الله فى ترجمة حمزة، فخلى عنه وعن أخيه حسن، وأثبتهما فى صحابته.
995 ـ حسن بن عجلان بن رميثة بن أبى نمى بن أبى سعد حسن بن على بن قتادة الحسنى المكى، يلقب بدر الدين:
أمير مكة ونائب السلطنة بالأقطار الحجازية. ولى إمرة مكة من غير شريك، أحد
(1) ما بين المعقوفتين بياض فى الأصل.
993 ـ انظر ترجمته فى: (الضوء اللامع 3/ 102).
994 ـ انظر ترجمته فى: (الدرر الكامنة 2/ 251).
995 ـ انظر ترجمته فى: (الأعلام 2/ 198).
عشرة سنة وتسعة أشهر وأياما يسيرة، وهى ستة أيام، ووليها سنة وسبعة أشهر، بتقديم السين، شريكا لابنه السيد بركات، وهو الساعى له فى ذلك، وولى نيابة السلطنة سبع سنين إلا شهرا وأياما، وولى ابنه السيد أحمد عوضه نصف الإمرة الذى كان بيده، قبل أن يلى نيابة السلطنة.
وما ذكرناه فى مدة ولايته لإمرة مكة، مستقلا وشريكا لولده بركات، هو باعتبار تاريخ الولاية بمصر، لا باعتبار وصول الخبر بذلك إلى مكة. وكذلك ما ذكرناه فى مدة ولايته لنيابة السلطنة، هو باعتبار تاريخ الولاية والعزل، لا باعتبار بلوغ الخبر بهما إلى مكة فتكون ولايته على مكة أميرا ونائبا للسلطنة، عشرين سنة وثلاثة أشهر إلا أربعة أيام. وربما زاد ذلك أياما قليلة وبعض أيام قليلة. وسنوضح ذلك أكثر من هذا وغيره من خبره. وذلك أنه ولد فى سنة خمس وسبعين وسبعمائة تقريبا، ونشأ فى كفالة أخيه أحمد مع أخيه على بن عجلان أمير مكة الآتى ذكره، حتى مات أحمد. ويقال: إن أحمد استولى على ذهب جيد تركه عجلان لابنيه حسن وعلى، ولأخ لهما شقيق لعلى، ولاءم المذكوران كبيشا بعد قتل محمد بن أحمد بن عجلان، ثم سافر حسن بعد الحج من سنة تسع وثمانين وسبعمائة إلى مصر، لتأييد أمر أخيه علىّ فى إمرة مكة، فإنه ولى إمرتها فى أثناء سنة تسع وثمانين وسبعمائة، عوض عنان، وما تمكن من دخولها، ثم ولى نصف إمرتها شريكا لعنان بعد أن حضر إلى السلطان بمصر فى النصف الأخير من رمضان من هذه السنة.
ووصل مع الحاج فى هذه السنة، ودخل مكة فى أول ذى الحجة بعد مفارقة عنان وأصحابه مكة، وعاد حسن إلى مكة، ومعه جماعة من التّرك، لتأييد أخيه علىّ، ثم حصل بين مقدمهم وبين حسن منافرة بالمروة. فقال المقدم ـ وأنا أسمع ـ لحسن: أنت صغير، فسمعت حسنا يقول له: إن كنت عندك صغيرا، فأنا عند الله كبير. فاستدللت بذلك على تيقظه.
وكان وصوله بهذا العسكر فى ربيع الآخر أو جمادى الأولى من سنة تسعين وسبعمائة. وكان ملائما لأخيه علىّ فى غالب مدة ولايته، وأخوه مكرم له، وما ظهر بينهما منافرة فاحشة، إلا فى وقتين، بان فيهما حسن عن علىّ، وغزا فى كلا الوقتين أخاه بمكة، فدخلها فى المرة الأولى هجما فى جماعة من أصحابه، وخرجوا منها من فورهم، وقتل بعضهم شخصا يقال له بحر. وذلك فى أول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، والغزوة الأخرى فى سنة سبع وتسعين وسبعمائة، فى جمادى الآخرة منها.
وأقام بمن معه من الأشراف وغيرهم فى الزّاهر أياما، ثم رحلوا بغير قصد؛ لأن بعض أصحاب علىّ أمر بعض أصحاب حسن بالرحيل، فرحل وتلاه الباقون. وسافر حسن بعد ذلك إلى مصر راجيا لإمرة مكة. فحضر عند الملك الظاهر صاحب مصر بالقلعة غير مرة، ثم اعتقل بقلعة الجبل فى شهر رمضان من السنة المذكورة.
ووصل كتاب السلطان إلى علىّ يخبره بذلك، ويأمره فيه بالعدل مع خلعة، فلبسها وقرأ الكتاب بالمسجد الحرام، فى سلخ رمضان، وبعد جمعة استشهد علىّ، وذلك فى سابع شوال من السنة المذكورة. وبلغ قتله السلطان فى تاسع ذى القعدة من السنة المذكورة، فأطلق حسنا، وولّاه عوض أخيه إمرة مكة، وجعل إلى الأمير يلبغا السالمى تقليد حسن للإمرة. وكان يظن أنه يدرك الحج. فما قدر ذلك.
ووصل الخبر بولايته إلى مكة، فى أثناء العشر الأخير من ذى القعدة. وقام بخدمة الحاج، أخوه محمد بن عجلان. وكان بالبلد من حين قتل علىّ. ووقع فى هذا الموسم فتنة فى يوم التروية، نهبت فيها للحاج أموال كثيرة، وطمع الحرامية فى الحجاج، فنهبوهم بطريق عرفة. وكان معظم النّهب بالمأزمين، مأزمى عرفة، ويسميها أهل مكة المضيق، ورحل الحاج أجمع فى هذه السنة، يوم النفر الأول، وما توجه السيد حسن من مصر إلا بعد وصول الحاج إليها بأيام نحو نصف شهر، وتوجه معه بجماعة من الترك، قيل إنهم مائة وثلاثون، وقيل سبعون، ومعه من الخيل تسعون ـ بتقديم التاء ـ وغير ذلك مما يحتاج إليه ويتجمّل به. ولما انتهى إلى ينبع طالب أميرها وبير بن مخبار، بما أنعم به عليه السلطان عنده؛ لأن السلطان كان بعث قمحا للبيع إلى ينبع، فاستولى عليه وبير، ثم أنعم به السلطان على السيد حسن. فتوقف وبير فى تسليم ذلك إليه، فأمر حسن غلمانه بلبس السلاح والتهيؤ للقتال.
فلما عرف ذلك وبير أرضاه بخمسة وثلاثين ألف درهم، ورحل عنه حسن إلى مكة، وأمر أخاه محمد وأصحابه بلقائه، فاجتمعوا قريبا من ثنيّة عسفان أو السويق.
وكان الأشراف لما سمعوا بإقبال حسن إلى مكة، وخروج محمد ومن معه منها للقائه، رحلوا من عسفان إلى غران إلى شق طريق الماشى، فطلب حسن الأشراف يوما وليلة، فلم يلحقهم لارتفاعهم فى الحرار، وأمر علىّ بن كبيش، أن يخرج من مكة بجماعة من أهلها إلى خيف بنى شديد، ليقطعوا بها نخيلا للأشراف، ففعل ذلك، ثم أشير عليه بالإعراض عن ذلك، فترك وانتهى إلى بئر شميس وأقام بها عشرا، ثم دخل مكة فى يوم
السبت الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وسبعمائة، فلبس الخلعة، وقرئ عهده بالولاية وطاف بالبيت، وأقام بها إلى أثناء ليلة الأحد.
وخرج ومن معه إلى بئر شميس، ثم انتقل منها فى النصف الثانى من جمادى الآخرة من السنة المذكورة، إلى العدّ، وكان الأشراف قد أقاموا به نحو خمسة وعشرين يوما بمعاونة الحميضات، ثم رحلوا منه إلى جهة اليمن، وأمر فى النصف الثانى من رجب بقطع نخيل الفائجة والبريقة بخيف بنى شديد، وكلاهما لبعض الأشراف. وكانوا قد اجتمعوا بدريب بن أحمد بن عيسى صاحب حلى، وخوّفهم من حسن فى مرورهم عليه إلى وادى مرّ. فذكروا له أنه لا قدرة له عليهم. ووقع كلامه فى قلوبهم؛ لأنهم لما قربوا من الموضع الذى حسن فيه مقيم، أرسلوا يطلبون الجيرة من بعض أصحابه فى حال مرورهم، وأوهموا رسولهم أنهم لا يمرون حتى يعود عليهم بالخبر، وقصدوا بذلك أن يتثّبط عنهم أصحاب حسن.
فلما كان الليل، مروا وأصحاب حسن لا يشعرون حتى انتهوا إلى الوادى. وتأثر لذلك حسن وأصحابه، وتحركوا للأخذ بثأر علىّ بن عجلان.
وكان محمد بن محمود ممن انتصب لذلك لحسن سياسته. فتكلم مع القواد فى ذلك فأجابوه لما طلب، لظنهم أنه لا يتم ذلك على عادة بنى حسن فى التثبط عن القتال بالجيرة فى كل يوم، فيمل الطالب للقتال ويصالح المطلوب، فجاء القدر بخلاف ذلك؛ لأن الفريقين لما التقيا، وبادر الأشراف إلى الحرب، لاستخفافهم بالقواد. وكانوا عرفوا بمكان القواد العمرة، فحملوا عليهم حملة منكرة، زالت بها القواد عن أماكنهم، وكادوا ينهزمون، فعطف الحميضات والسيد حسن، وكان فى القلب، ومن جمع لهذا الحرب، على الأشراف فانكسروا، وقتل من سراة الأشراف سبعة، ومن أتباعهم نحو ثلاثين، وما قتل من أصحاب حسن فيما قيل غير مملوك وعبد.
وكان معه ألف رجل ومائتا رجل من الترك والعبيد والمولدين، وأهل مكة والأعراب، وأجار على حلّة الأشراف من النهب فسلمت، وقصدوا جهة الهدة، وأقام بالجديد، حتى أتى الموسم.
واستفحل أمره بعد هذه الوقعة. وكانت بمكان يقال له الزّبارة، بوادى مر، قريبا من أبى عروة، فى الرابع والعشرين من شوال من السنة المذكورة. وقيل فى هذا التاريخ فى شهر رمضان، وما أتى إلى جدة فى هذه السنة من تجار اليمن غير قليل، ومضى أكثرهم إلى ينبع.
وكان مقدمهم القاضى وجيه الدين عبد الرحمن بن القاضى نور الدين على بن يحيى ابن جميع؛ لأنهم أتوا إلى جدة أيام الحرب المذكور، فعدلوا عنها إلى ينبع.
ولما عادوا منها فى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، تعرض لهم السيد حسن، لأخذ الجبا منهم، فراضوه فى ذلك بعد أن أسقط عنهم الثلث منه، وذبح بعض غلمانه رجلا يقال له محمد بن جمّاز، ويعرف بابن أبى داعس، من غلمان الأشراف، لتحسينه لابن جميع المرور على جدّة. والذى حمله على ذلك، أن نفسه لم تطب بأن يحصل لحسن نفع من التجار. وكان جماعة من التجار واصلين من اليمن لقصد ينبع. فلما سمعوا بذبح المذكور، وبإسقاط حسن لثلث الجبا عمّن تقدم، دخلوا إلى جدة، وعنى حسن بحفظ الواصلين إليه من اليمن فى توجههم إلى مكة، وفى عودهم منها إلى جدة، فعادوا حامدين له، ونال منهم نفعا جيدا تجمّل به حاله.
وما زال يزداد جمالا فى حاله، وهيبته تعظم فى القلوب؛ لأن صاحب مصر بعث إليه بخلعتين فى هذه السنة، وذهب، لشكره له على قتل أعدائه. ووصل ذلك إليه على طريق سواكن (1)، لخوف قصّاده من صاحب ينبع. وكان وصول ذلك إليه فى آخر جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
وفيها قبل ذلك فى ربيع الآخر، غزا بعض بنى شعبة، فأخذ منهم ثلاثمائة بعير وغير ذلك.
وفيها أخرج الأشراف من جدة، وكانوا نزلوها فى شهر رجب بمعونة القواد والحميضات، لغضبهم على حسن، واستمالهم بالإحسان، حتى ساعده على إخراجهم من جدة وتبعهم إلى عسفان، فهربوا إلى خليص، فتبعهم فهربوا أيضا، فرجع عنهم وتوصلوا بغير حريم إلى الخيف، فأجارهم بعض القواد إلى انقضاء السنة، وسكنوا الخيف وما جسروا على فعل ما يخالف هواه، إلى ذى القعدة من السنة المذكورة، وفيها قصدوا نخلة، وتكلموا مع أهلها فى أن يمكنوهم من إنزال أهلهم بنخلة.
وكان الذى حركهم على ذلك الطمع فى التجار الواصلين إلى جدة فى هذه السنة. وكان الواصل منهم كثيرا فى هذه السنة. وبلغ الشريف خبرهم، فأشار إلى هذيل بأن لا يجيبوا الأشراف لقصدهم، وأحسن لهذيل بشيء من المال، والتزم للأشراف بخمسين ألف
(1) سواكن: مدينة بقرب جزيرة عيذاب. انظر: الروض المعطار 332، تقويم البلدان 370، نخبة الدهر 151.
درهم، على أن لا يخالف عليهم ولا يخالفون عليه، إلى انقضاء السنة، وانقضاء شهر المحرم بعدها، وضمن عليه وعليهم جماعة من بنى حسن.
وقدم التجار إلى مكة، وسافروا منها فى المحرم من سنة ثمانمائة فى قافلتين، كل قافلة أزيد من ألف جمل. وصحبهم السيد حسن فى مسيرهم إلى جدة، وحاطهم بالحراسة حتى ركبوا إلى بلادهم، وأعطى الأشراف ما التزم لهم به، وصالحهم فى ربيع الأول فيما أحسب، من سنة ثمانمائة إلى انقضاء سنة ثمانمائة، والتزم لهم على ذلك تسعين ألف درهم.
فلما كان قبل يوم التروية بليلة أو ليلتين، توجه حسن بأمراء الحاج كلهم، وجماعة من الترك والمغاربة، إلى وادى مرّ، لقصد الأشراف بسبب سوء بلغه عنهم، فيما قيل، فانهزموا إلى الهدة، وما ظفروا إلا بأحمد بن فيّاض بن أبى سويد، فقتل. وعادوا إلى مكة.
وفى آخر سنة ثمانمائة قبيل الموسم، كحل بعض غلمان ذوى عمر، لتنجيله بعض الجلاب قبل بلوغها ساحل جدة. وحصل من ذلك رعب فى قلوب بنى حسن، وما جسر أحد على أن ينجل قبل جدة، إلا فى الوقت الذى أذن فيه حسن، وهو هلال ذى الحجة، وما قرب منه بأيام يسيرة.
وفى هذه السنة، حج من اليمن فى البر ناس كثير، مع محمل أنفذه الملك الأشرف صاحب اليمن، وعليهم أمير من جهته، وعضدهم محمد بن عجلان أخو حسن. وكان قدم اليمن فى هذه السنة، وناله برّ طائل من الأشراف، وأصاب الحجاج هؤلاء فى إقبالهم إلى مكة بالقرب منها، عطش عظيم هلك فيه فيما قيل ألف نفس، وتوجه المحمل ومن معه، وفى خدمته السيد محمد لليمن، فى ثانى عشرى ذى الحجة من السنة المذكورة. وكان قد انقطع المحمل من اليمن من سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة.
وفى سنة إحدى وثمانمائة، تغير القواد الحميضات عليه، لطمعهم فيما حصله من الخيل والدروع، وما ظفروا منه بقصد؛ لأنه لما ظهر له ذلك منهم، وصل إليه فى جمادى الآخرة من السنة المذكورة ثلاثة نجابة. وأخبروا أن الأمير بيسق أمير الحاج فى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، وصل إلى مكة فى جماعة من الترك، وأنه يتوجه فى سنة إحدى وثمانمائة. ووصل إليه مع النجّابة المخبرين بذلك، خلعتان من قبل السلطان، فلبسهما وقرئ كتاب السلطان بالمسجد الحرام، فتخوف الحميضات منه، ومن الترك الواصلين
إلى مكة. وسافروا إلى الشرق قبل وصول الخبر بدنوّ الترك من مكة بيوم. وذلك فى أول العشر الأخير من شعبان.
وفى ثالث عشرى شعبان، وصل الأمير بيسق ومعه خمسون فرسا ومائة مملوك وغيرهم من الفقهاء وغيرهم لقصد العمرة والحج. وكان شميلة بن محمد بن حازم، أحد أعيان الأشراف، لاقى الأمير بالطريق. فخلع عليه وأعطاه دراهم، وحمل دقيق وحلوى، وأمره أن يأتيه بأصحابه، ليصلح بينهم وبين السيد حسن، فأجابه إلى ذلك، وبعد مفارقته له، قصد الأمير حلة الأشراف، وكانوا قريبا منه بأم الدّمن، فما وجد لهم أثرا، لفرارهم قبل وصول إلى حلّتهم.
وكان السيد حسن، قد لقى الأمير بقاع بن غزى، ووصل إلى مكة بعد وصوله، وخلع عليه وعلى محمد بن محمود، وعلى بن كبيش، ومكن حسن أهل مكة من لبس السلاح. وكان الأمير قد منعهم من ذلك. ونقص سعر الذهب عما قرره الأمير فى قيمته، لشكوى الناس إليه ذلك. وكان منع من الدعاء لصاحب اليمن بعد المغرب على زمزم، فنهاه السيد حسن عن ذلك، ومكن من الدعاء لصاحب اليمن على العادة.
وفى شهر رمضان من هذه السنة، غزا حسن عربا يقال لهم البقوم، فغنم منهم مائتى ناقة وبقرا وغنما. وعاد بذلك، وكان البقر والغنم قد وكل بحفظه إلى بعض غلمان ممن ليس فيه كبير قوة، فاستنقذ ذلك منهم المنهوبون، وقتلوا من غلمانه جار الله بن أبى سليمان، وتركيّا، وفاتتهم الإبل.
وفى أول شوال منها، توجه إلى وادى الطائف؛ لأن الحمدة أهل الجبل حشموه فى جيرته أهل الطائف، وهو مكان مخصوص من وادى الطائف، فاسترضاه الحمدة بثمانين ألف درهم، وخلى عن جرمهم، ونال مثل ذلك من بنى موسى أهل ليّة (2)، وهو مكان مشهور بقرب وادى الطائف، واستدعى آل بنى النمر للحضور إليه فتوقفوا. فبذل له الحمدة أربعين ألفا على أن يسير معهم إلى آل بنى النمر، فسار معهم، وهدم حصن آل بنى النمر، وحصل فيه نهب كثير، وقتل بعضهم، وقتل من جماعته مملو كان، وعاد إلى مكة فى سادس شوال، ومعه أزيد من عشرين فرسا، فأهدى منها للأمير أربعا، ثم راح إلى الوادى.
وفى ليلة ثانى عشر شوال، استدعى إليه من فى خدمة الأمير من الترك، ومن بمكة
(2) لية: موضع من نواحى الطائف. انظر معجم البلدان (لية).
من غلمانه من العبيد والمولّدين، فذهبوا إليه إلى الوادى، ومضوا معه إلى الخيف، فقطعوا فيه ثمر نخيل ذوى راجح، وقطعوا بالبرقة نخيلا لبنى أبى سويد، وقطعوا فى الروضة الخضراء، نخيلا للأشراف؛ لأنهم دخلوا على الحميضات بعد عودهم من الشرق. وحصل بينهم حميل، فأدّبهم السيد حسن بذلك ومضى الأشراف إلى ساية (3).
فلما توجه الحاج من مكة فى سنة إحدى وثمانمائة، بلغ الشريف حسنا أن القوّاد وغيرهم، طمعوا فى أهل اليمن، فخرج فى صحبتهم إلى جدة، ومعه الأمير بيسق فى آخر ذى الحجة. وعاد إلى مكة بعد سفر اليمنة من جدة سالمين.
وفى أول شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة، توجه إلى الشرق، وأخذ من الطائف وليّة القطعة التى قررها عليهم، وعاد إلى مكة فى الخامس من ربيع الآخر، وفيها اصطلح هو والأشراف آل أبى نمىّ مدة سنة، وصاروا يدخلون مكة برفقة وبغير رفقة. وأظن ذلك اتفق بعد عوده من الشرق. والله أعلم.
وفى آخر جمادى الأولى منها، وصل إليه خلعة من صاحب مصر، فلبسها.
وفى هذه السنة حصل له من التجار الواصلين من اليمن، نفع أزيد من العادة بكثير، لكثرة من وصل منهم فى هذه السنة. وكانت مراكبهم تزيد على العشرة غير الجلاب، ووصلوا جدة فى آخر رمضان، ومكة فى شوال.
وفى سنة ثلاث وثمانمائة فى ثانى صفر، توجه إلى المدينة النبوية زائرا لجده المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، على طريق الماشى، فى مائتى راحلة ومائة جمل وستين فرسا وثلاثمائة رجل، وعاد إلى مكة فى عاشر ربيع الأول.
وفيها ندب إلى مصر القائد سعد الدين جبروه، بهدية ولشراء مماليك ترك وغير ذلك من مصالحه، فوصل إليه فى الموسم من هذه السنة بجماعة من الترك.
وفيها فى ثانى شعبان توجه إلى الشرق، وأخذ من أهل الطائف وليّة القطعة التى قررها عليهم.
وفيها وقف رباطه الذى أنشأ عمارته، وهو بالقرب من مدرسته، وما عرفت هذه المنقبة لغيره من أمراء مكة الأشراف.
(3) ساية: بعد الألف ياء مثناة من تحت مفتوحة وهاء، اسم وادى من حدود الحجاز.
انظر: معجم البلدان (ساية).
وفى سنة أربع وثمانمائة فى صفر، توجّه إلى حلى؛ لأن كنانة استدعوه إليها عقيب فتنة، كانت بينهم وبين دريب بن أحمد بن عيسى صاحب حلى وجماعته.
وفيه قتل دريب فى يوم عرفة من سنة ثلاث وثمانمائة. وكان الأشراف آل أبى نمىّ فى خدمته، ومن انضم إليه من زبيد. وكان فى خدمته حين توجه إلى حلى القوّاد العمرة والحميضات. وما مرّ فى طريقه بأحد فيه قوة إلا وأمره بالمسير فى خدمته بالظّعن.
وكان قد سار إليها بذلك. ولما دنا من حلى، خضع له موسى بن أحمد بن عيسى أخو دريب. وكان قد قام مقام أخيه؛ لأنه كان شريكه فى حال حياته فى ولاية حلى، ولكن السمعة لدريب. فلاطف موسى حسنا، وأجاب إلى ما طلب حسن من الدروع والخيل والإبل وغير ذلك، وشرط على حسن أن لا ينزل الموضع المعروف بحلى، وأن يقصر دونه، فما تم له قصد؛ لأن حسنا نزل المكان المذكور، وأقام به أياما.
وشق ذلك على بعض من كان فى خدمتة من القواد العمرة والحميضات، لالتزامهم لموسى عن حسن أنه لا يدخل حلى.
وبلغنى أنه لما انتهى إلى حلى، عبّأ من معه فى عدة صفوف، وأن موسى أقبل إليه راجلا يشقّ الصفوف، وهى تفرج له، حتى انتهى إلى حسن وهو راكب. وعاد حسن بعد ذلك بأيام إلى مكة، فانتهى إلى موضع بالقرب منها يقال له الأطوى، فى شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، ثم دخل مكة بعد أيام من وصوله إلى الأطوى، وخلع عليه الأمير بيسق يوم دخوله إلى مكة، واحتفل بلقائه؛ لأنه لما توجه لحلى استنابه فى الحكم بمكة، ثم نقم عليه حسن بعض أوامره بمكة؛ لأن بيسقا منع من الدعاء لصاحب اليمن على زمزم بعد المغرب. فأمر السيد حسن بالدعاء له. فأرسل مرسومين من صاحب مصر، فى أحدهما أن لا يمنع الدعاء بمكة لسلطان اليمن. وفى الآخر، أن ليس لأحد من الأمراء الواصلين من مصر، فى أوساط السنة على صاحب مكة السيد حسن يد ولا حكم، بل يعضدونه ويقوّون كلمته ويعلون شأنه، وإن لم يسمع الأمير، وخالف وطلبكم القتال قاتلوه.
وقرئ هذان المرسومان خلف المقام بحضرة قاضى مكة عز الدين النويرى، وجماعة من أهل الحرم، فى سلخ جمادى الأولى أو مستهل جمادى الثانية. ولم يكن الأمير بيسق ـ إذ ذاك ـ بمكة؛ لأنه توجه من مكة بقصد مصر وقت العصر، من اليوم التاسع والعشرين من جمادى الأولى.
وفى الليلة التى تلى هذا اليوم بعد المغرب، كان وصول أمر السيد حسن إلى مكة بالدعاء لصاحب اليمن مع قاصد من جهته، ومعه المرسومان، ثم تنافرا بعد ذلك؛ لأن الأمير بيسق، كان كتب شفاعات لنفسه، وذكر فيها أنه أزال من مكة المنكر. فأخذ ذلك منه السيد حسن، وأخذ منه قفل باب الكعبة ومفتاحه.
وكان الأمير بيسق لما أخذ ذلك، عمل قفلا ومفتاحا عوض ذلك، وركبه فى باب الكعبة، وقت العصر من اليوم الثانى والعشرين من جمادى الأولى، وأعيد القفل القديم إلى الكعبة، وكان أمر بسدّ الشبابيك التى بالجانب الغربى، فأذن حسن فى فتحها، وكان أمر بنقل السوق من المسعى إلى سوق اللّيل، فأمر حسن بإعادته إلى المسعى، وكان نقله إلى سوق الليل، فى أول ربيع الآخر، وعوده إلى المسعى فى عاشر جمادى الآخرة، واتفق أن عوده كان بحضوره؛ لأنه كان عاد إلى مكة فى ليلة رابع جمادى الآخرة، بعد أن بلغ كليّة (4)، ثم سافر منها فى ليلة الثامن والعشرين من جمادى الآخرة إلى مصر، وهو واجد على أهل مكة، وكانوا نقموا عليه إهانته لكثير منهم؛ لأنه رسم على القاضى الشافعى بمكة بغير موجب، وضرب بعض فقهاء الحرم وفرّاشيه وغيرهم من أهل مكة.
ومما حمد عليه أمره لبوّابى المسجد الحرم، بملازمة أبوابه وتنظيف الطرقات من الأوساخ والقمائم، ونقل الكدى التى كانت بسوق الليل والمعلاة، وأن لا يحمل السلاح بمكة، وإخراج بنات الخطا والمخنّثين وغيرهم من أهل الفساد من مكة.
وكان سبب إقامته بمكة، توليه لأمر عمارة المسجد الحرام؛ لأن فى آخر شوال سنة اثنتين وثمانمائة، احترق منه الجانب الغربى، وبعض الجانب الشمالى، فقدم المذكور إلى مكة فى موسم سنة ثلاث وثمانمائة، وأقام بها لأجل ذلك إلى التاريخ السابق. ووكّل بباقى العمارة جماعة من غلمانه. وقد أوضحنا فى كتابنا «شفاء الغرام» ومختصراته، خبر هذه العمارة وسببها أكثر من هذا.
وفى أول رجب من هذه السنة، وصل بعض الأشراف آل أبى نمىّ، وهم شميلة بن محمد بن حازم، وعلى بن سويد، وابن أخيه، إلى حسن، وسألوه فى الصلح، فأجابهم إلى ذلك مدة سنة، ولم يذكر لهم أن القواد العمرة يدخلون معه فى الصلح، ولما سمع بذلك القواد العمرة، شق ذلك عليهم. فذكر لهم أنه لم يدخلهم معه فى الصلح، وإنما
(4) كلية: قرية بين مكة والمدينة. انظر: معجم البلدان (كلية).
صالحهم عن نفسه وجماعته، فرضوا منه بذلك، وغمّ بذلك الأشراف، فتجهزوا ورجعوا إلى أهلهم بحلى أو قربها.
وفيها فى أول شعبان، وصل إليه موسى صاحب حلى، فأعطاه ألف مثقال وعشرة أفراس، وأظنه جاء إليه مستنصرا به على كنانة؛ لأنهم فى جمادى الأولى، دخلوا حلى بالسيف ونهبوها، وهرب هو إلى آل أبى نمىّ إلى الطالعى.
وفيها فى صفر، حصل له خمسة وستون ألف مثقال وأزيد، فيما قيل، من القاضى شهاب الدين أحمد بن القاضى برهان الدين المحلّى، وجماعة من تجار الكارم؛ لأن المركب الذى كانوا فيه انصلح بقرب مكة، فأعطوه هذا المقدار، عوضا عن الربع الذى يأخذه ولاة البلاد، فيما ينصلح فى بلادهم من الجلاب.
ولما بلغ ذلك القاضى برهان الدين المحلّى اشتد غضبه عليه، وسعى فى إرسال شخص من خواص السلطان بمصر، يطالبه بذلك، فوصل إليه فى آخر رجب، وبلغ رسالته، فاعتذر بتفرّق ذلك من يده. ووعد بالخلاص وماطل فيه.
وفى ليلة رابع عشر شوال منها، وصل إليه نجّابه أحمد بن خليل الفراء، بخلعة وكتاب من صاحب مصر، فلبس الخلعة، وقرأ الكتاب بالمسجد الحرام، فى رابع عشر شوال. ومما فى الكتاب الوصية بالرعية، ولما دنا الموسم من السنة التى جرى فيها ذلك، تخوف حسن من لقائه الحاج المصرى، لكثرة من فيه من الترك، فإنهم كانوا نحو مائتى نفر فيما قيل. وكانت خيلهم قليلة، وما خرج إليهم إلا بجمع كثير جدا، فهالهم ذلك، وخلعوا عليه على العادة.
ودخل مكة وخدم الحاج. وكان المحّلى قد غلب على ظنه، أن حسنا لا يعيد إليه شيئا من ذلك. فسعى فى إحضار عنان بن مغامس بن رميثة إلى مصر، فحضر إليها من الإسكندرية. وكان معتقلا بها، ونوّه له المحلّى بولاية مكة، فاخترمت المنيّة عنانا قبل ذلك. ووصل نعيه إلى مكة فى آخر ربيع الآخر من سنة خمس وثمانمائة، وكانت وفاته فى أول الشهر الذى قبله.
وفى خامس عشر جمادى الآخرة سنة خمس وثمانمائة، وصل من مصر خلعة للسيد حسن مع نجّابه أحمد بن خليل، ولبسها يوم السبت سادس عشر الشهر المذكور بالمسجد الحرام.
وفى آخر الشهر، وصل خادم من جهة السلطان، يقال له بلبل العلائى، مشدّ الحوش، وخلع على السيد حسن خلعة، وكان مقيما بعرفة فى هذا التاريخ وقبله بمدة.
وفى هذه السنة، أرضى المحلّى بعشرة آلاف مثقال، التزم له بها ووعد بخلاصها فى الموسم.
وفى هذه السنة أمر السيد حسن غلمانه بالاستيلاء على غلال أموال الأشراف آل أبى نمى.
وفى سنة ست وثمانمائة، قصده جماعة منهم لاستعطافه، وما شعر بهم إلا عند منزله. فعطف عليهم.
وفى سنة ست وثمانمائة، استخدم بجدة الفقيه جابر بن عبد الله الحراشى، وفوض إليه الأمر فى جميع ما يصل إليها من جهة الشام واليمن. فنهض بخدمته نهوضا لم ينهض بمثله أحد من خدّامه فيما مضى، وعمر الحراشى الموضع الذى يقال له الفرضة بجدة، ليحاكى به فرضة عدن، وقرر لبنى حسن الرسوم التى يتناولونها الآن، وجعلها لهم فى ثلاث حلات، وأبطل رسومهم السابقة. وكانت تؤخذ من التاجر مع الجبا. فلم تجعل لهم على التجار سبيل، فأراح التجار من مطالبتهم.
وفى سنة ست وثمانمائة فيما أظنه، بعث حسن رتبة إلى حلى، مقدمهم علىّ بن كبيش، فاستغفلهم بعض جماعة موسى صاحب حلى. وفتكوا فى أصحاب حسن بالقتل وغيره.
وفى سنة ست أو فى سنة سبع وثمانمائة، توجه الحراشى إلى حلى، وبنى فيها مكانا يتحصن فيه أصحاب حسن ومن انضم إليهم، وحفر حوله خندقا.
وفى سنة ست وثمانمائة، أتى الخبر إلى حسن بوفاة القاضى برهان الدين المحلى، فاستراح من طلبه.
وفى آخرها توفى ابنه القاضى شهاب الدين أحمد بن المحلى بمكة، فى آخر ذى القعدة، وبين وفاتيهما تسعة أشهر أو نحوها. فنال من تركة الولد أشياء طائلة. ووجد فى ديوان ابن المحلى، أن الذى صار للسيد حسن من زكائبه ألف وأربعمائة زكيبة.
وفى سنة سبع وثمانمائة، أتاه طالب بمال المحلى فماطل.
وفيها شفع إليه الملك الناصر أحمد بن إسماعيل صاحب اليمن، فى تركه التشويش على موسى صاحب حلى، فما أبعده، وحثه على الموافقة أديب العصر، القاضى شرف الدين إسماعيل بن المقرى اليمنى بقصيدة مدحه فيها أولها [من الكامل]:
أحسنت فى تدبير ملكك يا حسن
…
وأجدت فى تحليل أخلاط الفتن
ومنها:
موسى هزبر لا يطاق نزاله
…
فى الحرب لكن أين موسى من حسن
هذاك فى يمن وما سلمت له
…
بمن وذا فى الشام لم يدع اليمن
وفى أوائل سنة ثمان وثمانمائة، ورد عليه كتاب الملك الناصر صاحب مصر، يخبره فيه بهزيمته لأعدائه بالسعيدية، ورجوعه إلى كرسى مملكته بقلعة الجبل بمصر، والذى وصل إليه بذلك بعض جماعة الأمير إينال باى، المعروف بابن قشماس. وكان إليه تدبير المملكة بمصر، راجيا للبر من السيد حسن، فما خيب أمله، وأمر بقراءة ختمة وبالدعاء عقيبها للملك الناصر. وكتب بذلك محضرا، أنفذ مع حامل كتابه.
وفى ثانى ربيع الآخر، وصل إليه من صاحب مصر، خلعة مع خلعة القاضى جمال الدين بن ظهيرة بولاية قضاء مكة، فلبس كل منهما خلعته.
وفى آخر هذه السنة، ذهب إلى الشرق، ثم إلى ليّة، وحارب بعض أهلها، واستولى على بعض حصون من حاربه.
وفى هذه السنة، أمر بهدم بيتى حسب الله بن سليمان بن راشد، والخان المعروف به وغيره؛ لأن شخصا يقال له سلمان، شكا إليه من ابن راشد، وبعد أيام قتل سلمان غيلة، فاتهم بقتله بعض أصحاب ابن راشد، وما استطاع ابن راشد أن يتظاهر بمكة، حتى أذن له فى ذلك السيد حسن بعد سنتين، مع كونه صهرا لبعض أعيان القواد العمرة.
وفى سنة تسع وثمانمائة، تغير السيد حسن على الخراشى، لخبث لسانه وامتنانه عليه بالخدمة. فقبض عليه فى رمضان، وبعثه إلى مكة وسجنه بها إلى الموسم، ثم أطلقه بشفاعة الإمام صاحب صنعاء باليمن، وكان قد استقصى أمواله، فمنّ عليه بشيء منها عند إطلاقه.
وفى سنة تسع وثمانمائة، سأله التجار الذين بمراكب الكارم، أن ينجلوا بجدّة لخراب مراكبهم، فأجاب سؤالهم، ووافقوه على تسليم ما شرطه عليهم، وقيل إن الذى حصل له من التجار ومن الحراشى، نحو أربعين ألف مثقال.
وفى سنة تسع وثمانمائة أيضا، سعى لابنه السيد بركات فى أن يكون شريكه فى إمرة
مكة، فأجيب سؤاله. ووصل لابنه تقليد مؤرخ بشعبان سنة تسع وثمانمائة. وأكبر ظنى أنه فى النصف الثانى من شعبان سنة عشر وثمانمائة. وذهب إلى الشرق فى زمن الصيف، ثم عاد إلى مكة.
وفى هذه السنة، قدم المدينة زائرا من الشرق فى جمع كثير، فخاف منه أهل المدينة. وتزوج ببعض أقارب أميرها جمّاز بن هبة.
وفيها أيضا حمل إلى القاضى الشافعى بمكة جمال الدين بن ظهيرة ثلاثين ألف درهم، عوضا عن مال كان أخذه ليقيم تحت حجر الحكم العزيز بمكة. واستحسن الناس منه تخليص ذمته.
وفيها وقف دارين بمكة صارتا إليه بالشراء، من ورثة العماد عيسى بن الهليس.
وفيها تشوّش لانقطاع أخبار مصر عنه. فبعث القاضى أبا البركات بن أبى السعود ابن ظهيرة يتعرف له الخبر، ويسد ما لعله يجد من خلل. ووكله فيما له من الرسم بمصر، وأمره أن لا يظهر وكالته عنه، إن كان وكيله القاضى نور الدين بن الجلال الطّنبدىّ غير متوار؛ فخالف ما أمره به فى أمر الوكالة، وما وجد عليه خللا؛ لأن صاحب مصر كان بعث إليه تشريفا وكتابا يتضمن دوام ولايته مع أمير من جهته، ووصل ذلك إليه فى رمضان من هذه السنة، قبل وصول قاصده المذكور إلى مصر.
وفى رمضان من هذه السنة. وصل إليه الشريفان: وبير ومقبل ابنا مخبار أميرا ينبع، مواليين له، فأقبل عليهما. وكان بينه وبينهما وحشة، فزالت. وحلفا له وحلف لهما على التناصر. وأحسن إليهما بمال جيد.
وفى رمضان من هذه السنة، وقف عدة وجاب بالهنية والعقيق، والفتيح، والريان، بعضها على رباطه، وبعضها على رباط ربيع، وبعضها على رباط الموفق، وبعضها على رباط العز، ورباط العباس، وبعضها على الأشراف من أقاربه.
وفيها وصل إليه هدية طائلة من صاحب بنجالة، السلطان غياث الدين أعظم شاه، ووزيره خان جهان على يد الناخوذا محمود، ووصلت معه صدقة من السلطان المذكور لأهل الحرمين، وخلع لقضاة الحرم وأئمته وغيرهم من أهله.
وفيها وصل إليه هدية من صاحب كنبايه، وكتاب يخبره فيه، بأنه أنهى إلينا أن الناس فى يوم الجمعة، لا يجدون ما يستظلون به عند سماع الخطبة بالمسجد الحرام، وأن بعض
الناس، وسمى جماعة، منهم الشيخ موسى ـ يعنى المناوىّ ـ استحسنوا أن يكون هناك ما يستظل به الناس، وإنا أرسلنا بخيام يستظل فيها الناس، فأمر بنصب الخيام، فنصبت حول المطاف مدة قليلة، ثم صارت إليه. وكان فى نصبها ضرر لما يحصل للناس من العثار فى حبالها. وكان نصبها بعد سفر الحاج المصرى من مكة.
وفى هذه السنة أيضا، مكن المصريين من القبض على أمير الحاج الشامى، بسؤالهم له فى ذلك. وصورة ما فعل، أنه أتى إلى أمير الشامى، فى جماعة من أصحابه. وهو عند مقام الخليل لصلاة الطواف، فى نفر قليل جدا. فقال له: تذهب تسلّم على أمير الحاج المصرى. فقال له: فى غير هذا الوقت، فما مكّنه حسن من ذلك، ومضى به إلى أمير الحج المصرى، فقّيد.
وفى سنة إحدى عشرة وثمانمائة فى المحرم. ندب القائد سعد الدين جبروه إلى مصر بهدية طائلة، ليسعى له فى أن يكون ولده السيد أحمد شريكا لأخيه بركات فى إمرة مكة. فأجيب إلى ذلك. وولى حسن نيابة السلطنة بالأقطار الحجازية، وذلك فى العشر الوسط من ربيع الأول سنة إحدى عشرة. ووصل إليه رسوله بغتة فى النصف الثانى من ربيع الثانى من السنة المذكورة، ووصل معه خلعة للمذكور، وخلعتان لولديه، وكتاب من السلطان يشهد بولايتهم لما ذكر.
وفى آخر ربيع الآخر منها: ولى إمرة المدينة لعجلان بن نعير بن جمّاز بن منصور، عوض أخيه ثابت بن نعير. وكان قد عاد لإمرة المدينة. وعزل عنها جماز، وما وصلت ولايته إلا بعد موته، وبعث حسن إلى جماز يعلمه بعزله، وينهاه عن التعرض لما فى حاصل الحرم، فكان ذلك سبب إغرائه؛ لأنه نهب ما فى حاصل الحرم. وخرج من المدينة قبل أن يصل إليها عجلان، وكان حسن أمره بالمضى إليها، فمضى على طريق الشرق، ليضم إليه جماعته، ويسير بهم إلى المدينة، وبعث حسن ابنه أحمد فى جماعة من بنى حسن إلى المدينة على طريق الجادة، فوصلوها بعد خروج جماز منه.
ولما دخل عجلان إلى المدينة، صار الخطيب بها يدعو للسيد حسن على المنبر فى الخطبة قبل عجلان وبعد السلطان. واستمر له الدعاء فى الخطبة وبعد المغرب على سدّة المؤذنين، إلى أن زالت ولاية عجلان، فى وقت وصول الحاج الشامى للمدينة، فى النصف الثانى من ذى القعدة فى سنة اثنتى عشرة وثمانمائة.
وفى سنة إحدى عشرة وثمانمائة، نزل السيد حسن بعرفة مدة، ثم مضى إلى جهة اليمن، حتى بلغ مكانا يقال له البديح.
وفى آخر هذه السنة، أخذ من العفيف عبد الله بن أحمد الهبّى خمسة آلاف مثقال على ما قيل، عوضا عن بيت شعر بعثه لصاحب اليمن، لما طلب ذلك منه صاحب اليمن. وما كان عوّضه عن ذلك؟ .
وفى سنة إحدى عشرة، عمّر دورا عدة فى المكان المعروف بدار عيسى، وكان المتولى لأمر عمارتها الحراشى، وكانت قبل عمارتها براحا متسعا مملوءا بالأوساخ، حتى صار كالمزبلة.
وفى سنة اثنتى عشرة وثمانمائة، وصل الخبر إلى مكة، بأن صاحب اليمن أمر بحبس الجلاب عن مكة غضبا على حسن، بسبب ما أخذه من سفيره العفيف عبد الله الهبّى. فشق ذلك على السيد حسن، فأغراه الحراشى بغزو اليمن، وقال له: أنا أقوم بجهازك، وأجمع لك الرجال من اليمن. فتحرك لذلك، ثم أشير عليه بالملاطفة، فمال إليها، وبعث الشبيكىّ إلى اليمن رسولا يعتذر، ويلتزم عنه بما يطيب الخاطر، وهدية للترك، فقبل ذلك السلطان، وأذن للناس فى السفر فقدموا. ولكن دون العادة.
وفى هذه السنة، وصل إليه خلعة من صاحب مصر، فلبسها فى شعبان.
وفيها تغير صاحب مصر على السيد حسن، فرسم بالقبض عليه وعلى ابنيه، وعزلهم والاحتفاظ بهم، وأسرّ ذلك إلى أمير الحاج المصرى الأمير بيسق، فاستعد لحرب المذكور، وحصل مدافعا وسلاحا كثيرا، ثم سعى عند السلطان فى تقرير المذكورين فى ولايتهم، على أن يخدمه السيد حسن بما يليق بمقامه. فأجاب إلى ذلك، وبعث إليهم بالعهد والخلع مع خادمه الخاص فيروز السّاقى.
وكتب إلى أمير الحاج المذكور بالكف عن محاربتهم، وكان قد أعلن بينبع أنه يريد حرب حسن، وكان حسن قد استعد لحربه لما بلغه الخبر فى عاشر ذى القعدة، وما انقضى شهر ذى القعدة إلا وعنده ـ فيما بلغنى ـ نحو ستمائة فرس وأربعة آلاف من الأعراب، غير بنى حسن والمولدين والعبيد. وبينما الناس فى كرب لهذا الحال، أتاهم من اللطف ما لم يخطر لهم ببال، وذلك أنه وصل من أخبر بوصول فيروز، وما معه من العهد والخلع للمذكورين.
وما كان غير قليل، حتى وصل فيروز فألبس المذكورين الخلع السلطانية، وقرئ عهدهم بالولاية، وسعى عند السيد حسن لأمير الحاج فى دخول مكة والإغضاء عنه، فأجاب سؤاله على أن يسلم أمير الحاج ما معه من السلاح، فأجاب إلى ذلك أمير الحاج، على أن يعاد إليه سلاحه عند سفره.
فأمضى له شرطه ودخل مكة، واجتمع بالسيد حسن بمنزله بأجياد فأحسن ملاقاته، ولم يجتمعا بعد ذلك، وسلم إليه سلاحه عند سفره من منى.
وما حج السيد حسن ولا غالب عسكره فى هذه السنة، وحج قليل من أهل مكة خائفين، وذهب للناس أموال كثيرة وجرحوا، ولولا كف السيد حسن أصحابه عن إذاية الحجيج لكثر عليهم العويل والضجيج.
وتأخر فيروز عن الحجاج بمكة، لقبض ما التزم به السيد حسن من الخدمة. وذلك ألف زكيبة للسلطان غير ما لفيروز، ومضى بعد أيام إلى جدة، فشحنت الزكائب بحضوره، ووصلت سالمة إلى الطور، ثم إلى مصر. ويقال إنها بيعت فيها بخمسين ألف مثقال.
وفى سنة ثلاث عشرة وثمانمائة، ودى السيد حسن الإمام أبا الخير بن الشيخ أبى اليمن الطبرى من عنده، وسلم الدية دراهم إلى ورثته وإخوته؛ لأن بعض مماليكه ـ فيما قيل ـ طعن أبا الخير ليلا، وهو لا يشعر به لظنه حراميّا، فمات لوقته.
وكان قتله فى صفر، وتسليم ديته فى ربيع الأول فى سنة ثلاث عشرة.
وفيها فى ربيع الآخر، وصل إليه تشريف من صاحب مصر، فلبسه فى العشرين من الشهر المذكور.
وكان جهز إليه مع نجّابه أحمد بن خليل، فقتل فى الطريق. ووصل إليه ذلك مع بعض رفقته.
وفيها وصل له من صاحب بنجالة السلطان غياث الدين هدية طائلة، ومن وزيره خان جهان. ووصل إليه كتاب السلطان بأن يعين رسوله ياقوت الغياثى فيما ندبه له من عمارة مدرسة بمكة، وشراء وقف لها. فباع منه دارين متلاصقتين مجاورتين للمسجد الحرام، صارتا مدرسة للسلطان غياث الدين بعد هدمهما وأنشأ عمارتهما. وباع منه أيضا أصيلتين بالرّكانى وأربع وجاب من عين الرّكانى، ليكون ذلك وقفا على المدرسة، وما رضى فى ذلك إلا باثنى عشر ألف مثقال. فسلم إليه شاشات عوضا عن ذلك؛ لأنه لم يعذره. وأخذ منه أيضا شيئا كان معه لعمارة عين عرفة، على أن يتولى هو ذلك.
وكان السلطان المذكور قد ندب حاجى إقبال مولى خان جهان بصدقة لأهل المدينة، وهدية لأميرها جمّاز. فإنه لم يكن سمع بعزله ولا موته، وكان موته بإثر نهبه للمدينة
مقتولا، وأمر بعمارة مدرسة له بالمدينة، وشراء وقف لها بالمدينة، فاتفق أن المركب الذى فيه ما بعث به السلطان لأجل ذلك، انصلح فى بعض مراسى الشّقان، فأخذ السيد حسن ربعه مع ما كان لجماز. ويقال إن الذى أخذه من إقبال وياقوت يساوى ثلاثين ألف مثقال.
وكان مع ياقوت صدقة لأهل مكة، ففرقها عليهم وانتفع بها الناس. وكان معه خلع لقضاة الحرم وأئمته وشيخ الحجبة وزمزم، فأوصلها إليهم.
وفى آخر هذه السنة بعد الحج، قبض السيد حسن ما كان للقاضى وجيه الدين عبد الرحمن بن جميع مع سفرائه من الأموال، واستقصى فى ذلك. ويقال إن بعض غلمانه من المولدين هموا فيه بسوء، لكونه لم يسمح لهم ولا لغيرهم بشيء من ذلك، فما تمكنوا منه لتيقظه لهم، فإن خبرهم بلغه من بعض من كان حالفهم عليه من القوّاد، وأحسن لمن أعلمه بذلك ولغيره من القواد، وأعرض عن المولدين ونفر منهم، فبانوا عنه ولا يموا القواد مدة أشهر، وما كل المولدين بان عنه. وإنما بان منهم المسئ فى حقه، وبعث إلى صاحب اليمن يخبره بما أخذ، ويذكر له أن سببه ما وقع من ابن جميع من استيلائه على ما كان بيد سفير شكر مولاه، من المال لشكر.
وكان ابن جميع قد تعرض لسفير شكر، لما بلغه ما أخذ بمكة من خاله العفيف عبد الله الهبّى، وبعث مع كتابه بكتاب وصل إليه من مصر، من صاحبها الناصر، يتضمن ذمّ ابن جميع.
وأمر صاحب اليمن بالقبض عليه، وتخليص حقوق الناس منه، وإرساله إلى مصر معتقلا. فشق ذلك على صاحب اليمن، وأعرض عن الكتابه إلى صاحب مكة، ثم تلطف به، فكتب له كتابا، أوله بعد البسملة والصلاة على النبى صلى الله عليه وسلم:(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ)[الصف: 2]، نحن لا نقول ما نفعل إلا حسنا، ولا نرى الأرض وأهلها إلا ودائع معنا، ولا نريد المال إلا للصنائع وحسن الثناء، ولا ندين إلا بالوفاء لمن عاقدنا، وبالجفاء لمن خادعنا. وشر الكلام كلام ينقض يومه غده، وشر المواعيد موعد من لا يصدق لسانه يده. وقفنا على كتاب المجلس السامى ـ وذكر له ألقابا ـ ثم قال: فوجدنا فيه ألفاظا تدعى بالمودة، وهى مستوحشة من دعواها، مستخيبة ممن سمعها أو رآها، وما بالمجلس حاجة إلى أن يقول بلسانه ما ليس فى قلبه، ويضمر أمرا ويودع غيره فى كتبه، قارئا [من الكامل]:
فارغب بنفسك أن ترى
…
إلا عدوّا أو صديقا
أما الشكوى من عبد الرحمن، فقد عرفت ممن كان الابتدا، ومن كأفاك فما اعتدى.
ومع ذلك فقد حصلت عقود وحساب، وحصل منا تفضل واحتساب، وأمرناه فعوض وانسد الباب. وأما المال فما لعبد الرحمن مال فيستلف، ولا حال فيستخفّ. وأما دفعه فى العام الماضى عن التاجر الذى أوذى ببلده وهو حاضر، فما كنا نستغرب منه حفظ الجار، ولا نظنه يستغربه، وإنا لنعجب ممن يمن حفظ جاره والمصون منصبه وأمر التمادى فى الذى هو بيننا يكفيك، فاستأخر به أو تقدم. انتهى.
وربما بعض ألفاظ هذا الكتاب، أمليت هنا بالمعنى، ولم يفت منه إلا ألفاظ يسيرة فى ألقاب المكتوب إليه.
ووصل إليه هذا الكتاب مع القاضى شرف الدين إسماعيل بن المقرى، وهو فى جهة اليمن فى آخر رمضان، أو فى شوال من سنة أربع عشرة وثمانمائة.
ووصل إليه قبيل هذا التاريخ من هذه السنة، وهو بهذه الجهة، كتاب من الناصر صاحب مصر وخلعة، وعرفه الرسول بذلك أن السلطان يعتب عليه تقصيره فى الخدمة. وكان هذا الرسول قد تعوق كثيرا فى الطريق، وتشوف حسن لمعرفة الأخبار، فأمر قبل وصول هذا الرسول إليه مولاه، مفتاح الزفتاوى بالسفر إلى مصر، يتعرف له الأخبار، وما قدر أنه سافر من مكة إلا بعد وصول الرسول المذكور إليها.
فلما وصل مصر، وجد الأطماع كثيرة فى مولاه، فحضر عند السلطان، وبلغ رسالته واعتذر عن مولاه فى تأخير الجواب.
وذكر أنه يقوم بواجب الخدمة. وعاد إلى مكة مع الحاج. وشاع أن السلطان أعد نجباء كثيرة ومزادات. فظن حسن أنه يريد الحج فما حج، وظهر أن تجهزه إلى الشام. ولما انقضى الحج من سنة أربع عشرة وثمانمائة، ندب السيد حسن سعد الدين جبروه إلى مصر، بهدية لصاحبها الناصر، فى مقابلة ما التزم له به، فوجده قد توجه للشام.
وفى سنة أربع عشرة وثمانمائة، تصدق السيد حسن بصدقة جيدة قيل إنها عشرة آلاف درهم، والصدقة من عادته. والذى حركه عليها فى هذا الوقت، أنه مرض مرضا شديدا، خيف عليه منه. فرأى فيما قيل، النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم، ومسح بيده الشريفة عليه، وأمره فشفى بإثر ذلك، وفعل ما ذكرنا من الصدقة.
وفى العشرين من جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وثمانمائة، وصل للسيد حسن وابنيه خلع، وكتاب للسيد حسن من الخليفة المستعين بالله أمير المؤمنين أبى الفضل العباسى، بعد عوده إلى مصر من الشام، وقيامه فى مقام السلطنة، عوض الناصر فرج، لقتله فى صفر من هذه السنة.
وكان وصول الكتاب والخلع على يد سعد الدين جبروه، وكتاب أمير المؤمنين يتضمن إعلامه بقتل الناصر فرج بسيف الشّرع. وأنه فوض تدبير الأمور بالممالك للأمير شيخ، ولقبه بنظام الملك، وأنهم على ولاياتهم. وقرئ الكتاب بالمسجد الحرام، ولبس المذكورين الخلع، وذلك فى يوم الأربعاء العشرين من جمادى الآخرة. ودعى فى هذا المجلس للخليفة وللأمير شيخ، ودعى للخليفة على زمزم بعد المغرب وفى الخطبة. وكان الدعاء للخليفة بمكة مقطوعا من دهر طويل جدا. وبعد ذلك بقليل، وصل كتب الخليفة إلى السيد حسن يخبره فيه بالقبض على علىّ بن مبارك. وذلك فى شعبان، أعنى وصول كتابه.
وفى شوال من السنة المذكورة، وهى سنة خمس عشرة. وصل خلع للمذكورين من السلطان الملك المؤيد أبى النصر شيخ، بعد ما بويع بالسلطنة بالديار المصرية، فى مستهل شعبان من السنة المذكورة. ووصل منه كتاب يخبر فيه بذلك، وباستقرار المذكورين فى ولايتهم.
وفى سنة خمس عشرة أيضا، نفر الأشراف أولاد محمد بن عجلان، من عمهم السيد حسن؛ لأن أحمد بن محمد، ضرب مسعود الصبحى نائب عمه بجدة، لكثرة مطله له فى بقية حوالة عليه، وأمر بإخراجه من البلاد، والأمر أهون من ذلك. فغضب لأحمد أخوه رميثة، وأظهر التجهز للخروج، فما ترضاه عمه. فمضى على جهازه حتى كمل، وخرج وإخوته، غير واحد منهم، صوب القواد العمرة. فمكثوا عندهم أياما، وتكلموا مع عمهم فى تطييب خواطرهم فأعرض، فمضوا إلى ينبع، ثم إلى مصر. فما وجدوا بها كبير وجه، وحسن لهم القاضى نور الدين بن الجلال، الرجوع إلى عمهم، وأنه يرضيهم، فمالوا إلى ذلك، وتوجهوا مع الحاج حتى بلغوا ينبع. ولما سمع عمهم بوصولهم، منع من دخولهم مكة، فأقاموا بينبع إلى أثناء السنة الآتية.
وفى أثناء سنة خمس عشرة، أجاب السيد حسن إلى أن يعوض صاحب اليمن عما أخذه لابن جميع، بثلاثين ألف مثقال، تؤدى إليه فى كل سنة عشرة آلاف؛ لأن ابن
جميع أظهر أن الذى أخذه له حسن بمكة، لا يساوى إلا هذا المقدار، لئلا يكثر فيه طمع مخدومه، وقال سرّا: إن ذلك يساوى ثمانين ألف مثقال. حكى لى ذلك عنه الجمال المصرى بنخل زبيد. وكان ممن سعى فى ذلك عند السيد حسن، مولاه القائد زين الدين شكر؛ لأنه كان قدم إلى اليمن فى أثناء هذه السنة، بعد أن وصلته ذمة من صاحب اليمن.
فلما اجتمع بصاحب اليمن، سأله فى إطلاق الجلاب إلى مكة، فقال: لا يكون إلا بعد تسليم المال، فوافقه على القدر المذكور، فرضى به السلطان. وعاد شكر إلى مكة، فبلغها فى العشر الأخير من رمضان. فعرف مولاه الخبر، فما أمكنه إلا الموافقة، وسافر من مكة فى أوائل شوال، بعد أن حصّل عروضا من القماش والحرير يساوى ذلك، فلما بلغ كمران أقبلت الجلاب إلى مكة؛ لأن السلطان قال لهم: إذا وصل إليكم شكر، فاذهبوا إلى مكة، وكان لهم بكمران مدة على نية التنجيل بينبع، وكان المقدم على الجلاب، القاضى أمين الدين مفلح التركى الملكى الناصرى. فوصل إلى مكة فى أوائل العشر الوسط من ذى القعدة، ونجلت الجلاب بجدة، وتوجه بعد الحج إلى اليمن، بعد أن جمع أعيان الناس من أهل مكة والمجاورين بها، لقراءة ختمة شريفة بالمسجد الحرام ليلا، وأمر بإهداء ثوابها لمخدومه، والدعاء له. واحتفل بإحضار شمع كثير أوقد فى حالة القراءة، وإحضار بخور وطيب للحاضرين، وعمل فى صبيحة هذه الليلة سماطا عظيما، حضره الأعيان من الناس وغيرهم، وفعل فى مدة مقامه بمكة معروفا كثيرا.
وفى موسم هذه السنة، أقبل السيد حسن، على الحراشى. وكان قد نافر السيد حسن فى سنة اثنتى عشرة، ووشى به إلى الناصر صاحب مصر، مع من وشى به. وكان ممن أبلغ فى ذلك لكونه يعرف حاله لخدمته له.
فلما خاب سعيه فى حسن، لرجوع الناصر عما كان وافق عليه من عزله، أقام الحراشى بينبع، ولايم ولاتها، واكتسب مالا، وصار يغرى صاحب اليمن بحسن، فأشار حسن إلى إخراجه من ينبع فتوجه إلى مصر، فلقى بها سوءا، وأمر السلطان بإيصاله إلى حسن. ووصل مع الحاج إلى مكة والباشة فى عنقه.
فرآه حسن فى هذه الحالة وحيّاه، ونزل برباط الشّرابى عند الأمير. وكان يخرج ليلا للطواف مع بعض غلمان الأمير. فلما كانت ليلة يوم التروية، خرج كذلك وانفلت ممن هو موكل به، ومضى إلى مكى بن راجح. وكان موادّا له، فعرف به حسنا، فما راعاه
ولا دل عليه. فلما انقضى الموسم، ظهر جابر وكثر تردده للسيد حسن، وحلف كل منهما للآخر على الوفاء بالصحبة. ففوض إليه السيد حسن أمر جدة، فحصل له ما أرضى به صاحب اليمن من التجار، من غير كثير ضرر يلحقهم فى ذلك، وما زال فى خدمته حتى شنق للتهامه بالميل مع رميثة بن محمد بن عجلان، فى ليلة النصف من ذى الحجة سنة ست عشرة وثمانمائة بباب المعلاة. وفى هذه الليلة شنق ابنه محمد بن جابر بباب الشّبيكة.
وفى سنة ست عشرة وثمانمائة، تقرب السيد حسن بتسبيل البيمارستان المستنصرى بالجانب الشامى من المسجد الحرام للضعفاء والمجانين، وتصرف غلّة القيساريّة المعروفة بدار الإمارة عند باب بنى شيبة، فى مصالح المشار إليهم وذلك لأنه كان استأجر المكانين المذكورين فى سنة خمس عشرة، مدة مائة سنة هلالية، من القاضى الشافعى بمكة، بأجرة معلومة، على أن يصرفها فى عمارة المكانين لخرابهما فعمرهما. وزاد فى البيمارستان فأكثر فيه النفع، ووقف ما زاده وما يستحقه من منفعة المكانين، فى باقى المدة المذكورة على الوجه السابق.
وثبت ذلك عند حاكم مالكى، وحكم به لموافقته رأى بعض متأخرى المالكية فى وقف المنافع، وبعضهم يمنع ذلك، وهو مقتضى مذهب الشافعى وأبى حنيفة وابن حنبل، رحمهم الله.
وكان إثبات ذلك والحكم به، فى صفر من السنة المذكورة.
وفيها شرع فى عمارة رباط آخر بأجياد للفقراء، وكمل فى التى بعدها، وفيه بقية تحتاج للعمارة، فالله تعالى يتقبل منه ذلك.
وفى ليلة سادس جمادى الأولى من سنة ست عشرة وثمانمائة، وصل رميثة إلى حدّا من وادى مرّ، على غفلة من أهلها؛ لأن عمه رغب فى إخراجه من ينبع، وما وجد مذهبا غير هذا.
ولما بلغ عمه خبره، أمر بالمبادرة بإبعاده، وصمم على ذلك، وركب إلى جهته. فما وسع الذين نزل عليهم إلا إبعاده. فمضى إلى ينبع، والتحق به فيها بعض القوّاد العمرة. فعاد به إلى منزلهم بالعدّ، وأخبر السيد حسن بوصوله، فتوجه للعدّ بعسكره.
وكان رميثة قد توجه منه بعض القوّاد والشريفين: ميلب وشفيع ابنى علىّ بن مبارك. وما شعر الناس به إلا وقد هجم مكة من درب اليمن، فى ضحى يوم الخميس رابع
عشرى جمادى الآخرة سنة ست عشرة وثمانمائة، وما قدر الذين بمكة من جماعة حسن على دفعهم، وانضم إليه منهم جماعة، وما أحدث بمكة سوءا ولا من معه، ثم خرجوا منها لتخوّفهم من قصد حسن لهم.
وكان من خبر حسن أنه أخبر بقصدهم لمكة، فشق ذلك عليه لتخيله أنهم ينهبونها، ويتقوون بذلك ويتحصنون فيها.
فلما انتهى إلى الزاهر، أتاه بعض أصحابه من مكة، فأخبره بخروجهم منها وعدم إفسادهم، وقصدهم إلى الأبطح. فنزل على الأبطح من ثنيّة المقبرة، ورأى سوابق عسكره رميثة ومن معه، فاتبعوهم وتلاهم الباقون.
ثم إن السيد حسن سئل فى الرجوع عنهم رحمة لهم، فرحمهم وعاد إلى مكة، ثم بلغه أنهم مقيمون بنخلة، فتوجه إليهم حتى انتهى إلى نخلة، ففارقوها وقصدوا الطائف، فبعث بعض خواص حسن إلى أهل الطائف، بالإعراض عن المذكورين، فأعرض عنهم ناس، وأكرمهم ناس، بما ليس فيه كبير جدوى. فقصدوا نعمان ليتوصلوا منه إلى اليمن، فسلكوا طريق النقب حتى بلغوه. وانتهوا إلى عرب باليمن، فحاربوهم وكسبوا منهم ما تجمل به حالهم، وبدا من رميثة فى هذا اليوم، ما يدل على كثرة شجاعته، وأقاموا باليمن مدة، ثم عادوا فقصدوا جدة، وخفى مسيرهم إليها على السيد حسن.
ولما وصلوا جدة نهبوها وأخربوا بيت الصبحى. وذلك فى العشر الوسط من رمضان سنة ست عشرة، وبلغ خبرهم السيد حسنا، فبادر إليهم ولقوه بقرب جدة متأهبين للقائه، فمنعه من محاربتهم القواد، فلم يمكنه المخالفة، وطيبوا نفسه بإخراج رميثة ومن معه من جدة ومكنوه منها، ثم قطعوا بين الفريقين حسبا، وسعوا فى الصلح بين الفريقين.
فلم يتفق ذلك؛ لأن حسنا لم يوافق على دخول من التف على رميثة من العبيد والمولدين فى الصلح، وأبى رميثة إلا دخولهم، وعرف كل من حسن ورميثة، أن القواد لا تمكن أحدا منهما من الآخر، فتسالموا من القتال حتى انقضى الحج من هذه السنة.
وبعد الحج توجه السيد حسن إلى العد بعسكره، ومعه مقبل بن مخبار وجماعة من أصحابه. وكانوا قدموا فى هذه السنة للحج ولنصر حسن، وعرف رميثة وأصحابه أنه لا قدرة لهم على المذكورين، وأن من يتخيلون منه النصر من ذوى عمر، الملايمين لحسن، لا يمكنهم النصر فى هذا الوقت. فقصد رميثة والأقوياء من أصحابه إلى جهة اليمن فى
البر، وركب الضعفاء منهم البحر، واجتمعوا بحلى، وكان السيد حسن بعد دخول رميثة إلى مكة، أمر بعمارة سور باب المعلاة، وباب الماجن، لتخلل البناء فيهما، وقصّر جدريهما، فعمّرا حتى كملا بالبناء، غير موضع فى سور باب المعلاة، فإنه متخلّل من البناء، ولكن الذى تحته مهواة، وارتفع جدرانهما.
وكان الحجاج من اليمن فى هذه السنة كثيرين، ومعهم متاجر كثيرة، ومقدمهم القاضى أمين الدين مفلح، فجباهم غلمان السيد وعنّفوا بهم. وكانوا يتوسلون فى التخفيف عنهم بالقاضى أمين الدين. فيتكلم لهم ولا يجدى كلامه فتأثر لذلك. ومضى على ذلك إلى اليمن، فلقى رميثة بحلى فأكرمه وأزال كثيرا من ضروراته، وكتب إلى مولاه الملك الناصر يخبره بخبره، وسأله فى كرامته، فسر الملك الناصر بقدوم رميثة، وأمر بتلقيه وإكرامه حتى انتهى إليه، فرأى من السلطان ما سره.
وكان قد تجدد فى نفس السلطان حنق على السيد حسن وشكر، لكونه لم تصل إليه العشرة الآلاف المثقال، المقررة له فى كل سنة عن مال ابن جميع، ولا قيمة ما بعث به من الطعام إلى مكة مع شكر.
وكان ما قرره لرميثة مدّ طعام فى كل يوم، وهو أربع غرائر مكية، وخمسون دينارا جددا، غير المقرر لهم من التمر فى أيام النخل، وهو قلّ أن ينفصل عن السلطان وقت الأكل، وطلع مع السلطان إلى تعزّ، ونزل معه إلى زبيد، وتوجه منها إلى مكة بعد أن أحسن له السلطان بذهب جيد، وإبل وطعام وكسوة. فوصل فى رمضان من سنة سبع عشرة إلى وادى الأبيار، ونزل بها على ذوى حميضة، وما سهل ذلك بعمه، وهمّ بمحاربتهم، ثم سعى الناس فى الصلح بينهم على مائتى ألف درهم يسلمها حسن لرميثة، ويكون لحسن جبا الجلاب الواصلة فى هذه السنة، وأن يكون الفريقان سلما إلى انقضاء العشر الأول من المحرم سنة ثمانى عشر وثمانمائة، فرضيا بذلك. وضمن على كلّ منهما جماعة أصحابه. فما حصل فى ذلك خلل منهما.
وكان السيد حسن بعد توجه ابن أخيه إلى اليمن، عاد إلى مكة بعد مقامه مدة بالعدّ وجدة، وتوجه إلى الشرق، وتلاه بنو حسن يرجون المنافع منه، فتعذر منهم، وراحوا بغير طائل. فشق عليه ذلك، وأخذ من أهل الطائف وليّة القطعة التى قررها عليهم، وعاد إلى مكة بعد أن أقام بالشرق مدة، وأتاه وهو بمكة كتاب السلطان المؤيد صاحب مصر، يخبره فيه بقتله لأعدائه، نوروز الحافظى ومن تبعه، وعوده إلى مصر منصورا.
وفى الكتاب بيتان من نظم الأديب الكبير تقى الدين أبى بكر بن حجة الحموى. وهما [من الطويل]:
أيا ملكا بالله أضحى مؤيدا
…
ومنتصبا فى ملكه نصب تمييز
كسرت بمسرى نيل مصر وتنقضى
…
وحقّك بعد الكسر أيام نوروز
وفى هذين البيتين من الكياسة، والتورية بالنوروز الذى يكون بإثر كسر النيل ـ وهو يوم مشهور عند المصريين، لما يقع فيه من المجون ـ ونوروز الذى كان أميرا بالشام وقتله السلطان، ويقال له نوروز. وفيهما من الكياسة أيضا، صحة الاتفاق المقول، فإنه قد لا يتمّ الظّفر بنيروز فتّم.
وكان السيد حسن فى موسم سنة سبع عشرة، تخوف من أمير الحاج المصرى، وتوقف عن ملاقاة المحمل بنفسه. فما قنع منه أمير الحاج بغير حضوره بنفسه. فوافق على ذلك، لما أن لم يجد منه بدّا، بعد أن توثق من أمير الحاج، والتزم له مما يحسن من الخدمة وللسلطان، بثمن ما أخذه من الغلة التى بعثها السلطان للبيع، وخلع عليه الأمير وعلى ولديه لما خدموا على العادة، ثم حصل بينهما نفرة؛ لأن أمير الحج أدب بعض غلمان القواد العمرة، على حمله السلاح بمكة، لنهيه عن ذلك، وتشفع مواليه فى إطلاقه بالسيد حسن عند أمير الحاج، فأبى أن يطلقه، فهجم جماعة منهم المسجد الحرام، راكبين خيولهم لابسين سلاحهم، فقاتلهم الحاج حتى أخرجوهم من المسجد، وظن أمير الحاج أن الشريف حسن ينضم إليه، فقدر أنه انضم إلى المذكورين بالطّنبداوية، ولكنه منعهم من التعرض للحاج، ولولا ذلك لتم على الحاج بلاء عظيم، فسبحان المسلّم، وأدخل الأمير خيله إلى المسجد. فباتت به حتى الصباح، وسمّر أبوابه خلا باب بنى شيبة والدّريبة وباب المجاهدية.
وأوقدت فيه المشاعل ثم فتحت؛ لأن السيد حسن بعث ولده السيد أحمد، إلى أمير الحج مطمّنا له، فخلع عليه وأطلق مولى القواد، وأعرض السيد حسن عن الحج فى هذه السنة بغالب عسكره، وكذا القواد. فقام بحفظ الحاج من أهل مكة وغيرهم أمراء الحاج.
وأصاب بعض الحجاج نهب فى توجههم إلى عرفة، وغالب المنهوبين من أهل مكة واليمن، لتخلفهم بمكة إلى الظهر.
وكان الحجاج توجهوا منها بعد طلوع الشمس. ولما نفر الحاج من منّى وطافوا
للوداع، لم يتمكنوا من الخروج من أسفل مكة، بإغلاق باب الشّبيكة دونهم، فخرجوا من باب المعلاة، وتأثر أعيان الحجاج لذلك، فكان كذلك من الأثر ما يأتى ذكره.
وفى ليلة رابع عشر المحرم سنة ثمانى عشرة وثمانمائة، قبض السيد حسن على القاضى كمال الدين موسى بن جميع، والخواجا بدر الدين المزلق، والشهاب أحمد العينى، وكيل الخواجا برهان الدين بن مبارك شاه، وضيق عليهم حتى أرضوه بما شرط من المال، فأخذ من ابن جميع ما يساوى سبعة آلاف مثقال، ومن ابن المزلق ما يساوى ثلاثة وثلاثين ألف افرنتيا، ومن العينى ما ظهر من مال موكله، ثم أطلقهم متعاقبين، ابن جميع أولا فى أول صفر، وابن المزلق فى آخره، وتلاه العينى.
وفى آخر المحرم أو صفر من السنة المذكورة، ورد إلى جدة القاضى مفلح بما فى صحبته من المراكب والطراريد والمؤلفات والجلاب فاستقوا من جدة بمعاونة رميثة. وأخذ منهم الزالة ومضوا إلى ينبع.
وكان حسن يرغب فى أن يعينه بنو حسن على منع المراكب من السّقية بجدة فما أعانوه، وعاد رميثة بعد سفر الجلاب من جدة إلى الجديد. وأقام به إلى شعبان من سنة ثمانى عشر.
وفى سادس عشر ربيع الأول منها، وصل إليه الخبر بولايته لإمرة مكة، عوض عمه وابنيه.
وكان عمه بمكة، فرغب فى أن يعينه بنو حسن على حرب رميثة قبل أن يصل إليه المدد من مصر، فما أعانوه، فمضى إلى الشرق، وترك ابنيه فى البلد، وشكرا مولاه، وجماعة من أصحابه، ثم إن القواد العمرة استدعوه من الشرق، وأطمعوه بنيل أربه من محاربة ابن أخيه ومن معه، ومضى إليه بعض كبارهم لإحضاره إليهم، فوصل إلى مكة فى سلخ جمادى الأولى، وهم بالمسير من فوره إلى الوادى؛ لأن ابن أخيه كان نازلا بالجديد من الوادى، فما طله الذين استدعوه، وآخر الأمر أنهم لم يوافقوه على المسير إلا بشيء جيد يأخذونه منه، فلم يسمح به، فعاد إلى الشرق ثانيا فى أول العشر الوسط من رجب من السنة المذكورة.
وأقام به مدة، وذهب من هناك إلى المدينة النبوية، فزار جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعاد إلى مكة وتوجه إلى جدة، فأزال منها رميثة وأصحابه. وكانوا قد أقاموا بها بعد رحيلهم من الوادى، واندفع رميثة إلى جهة الشام.
ووصل الحجاج بإثر ذلك، فلايم رميثة الحجاج، ووصل معهم مكة، لتقرير السلطان الملك المؤيد له على ولايته وهو بحلب.
وكان خرج إليها لقتال بعض أعدائه، فظفر بهم غير واحد أو اثنين، فأقام لتحصيل عدوه، وبعث مبشرا بالنصر إلى رميثة، فوصله فى شوال من السنة المذكورة وهو بجدة. واستمر الدعاء للسيد حسن وابنيه فى الخطبة وعلى زمزم، إلى استهلال ذى الحجة منها، لاستيلاء حسن على مكة إلى هذا التاريخ، ثم فارقها فى هذا التاريخ، وقصد الشّقان فأخذ منها زالة وتعرف ما فى الجلاب فجباه، وأمرهم بالتدبير أو المضى إلى ينبع. وكان بعضهم نفر منه لما سمع باستيلائه على الجلاب، ودبر إلى اليمن قبل أن يصل إليه.
فلما كان فى صفر سنة تسع عشرة وثمانمائة، وصلت المراكب الكارمية والجلاب الينبعيّة إلى الشّقان، فأخذ منها زالة له ولخواصه ثلاثة عشر ألف مثقال ومائتا مثقال، ومكنهم من السّقية من جدة ومضوا إلى ينبع.
وكان قبل وصولهم إلى جدة، قد نزل بالجديد من وادى مر، واستولى على غلال أموال أصحاب رميثة، وما قدروا على أخذها منه، وهو بالجديد ساكن إلى آخر جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وثمانمائة.
وفى شهر رجب منها، بعث ولده السيد بركات ومولاه القائد زين الدين شكرا، لاستعطاف مولانا السلطان الملك المؤيد نصره الله، فأنعم على السيد حسن بإمرة مكة. وكتب له بذلك عنه توقيع ومثال شريف، مؤرخ بثامن عشر رمضان سنة تسع عشرة، وجهز له مع ذلك خلعة شريفة، مع بعض الخاسكيّة المؤيدية والنجابة السلطانية وانتهوا إلى السيد حسن، وهو فى ناحية جدة، فى أوائل العشر الوسط من شوال، وبعث إلى القواد العمرة، وكانوا قد بانوا عنه فى شعبان، وانضموا إلى السيد رميثة بمكة، يأمرهم بالخروج من مكة، فتوقفوا فى ذلك، ولما تحقق أنهم ورميثة، ومن انضم إليهم، مجمعون على المقام بمكة، قصدهم وانتهى إلى وادى الزّاهر ظاهر مكة، فى بكرة يوم السبت ثانى عشرى شوال، فخيم بوادى الزاهر، ومعه الأشراف آل أبى نمى، وذوى علىّ، وذوى عبد الكريم، والأدارسة، وصاحب ينبع الشريف مقبل بن مخبار، فى عسكر جاء به معه من ينبع، غير من فى خدمته من عبيده ومن الترك.
وكان الترك مائة وعشرين فيما قيل، وأرسل إلى مشايخ القوّاد العمرة، فحضر إليه منهم ثلاثة نفر، فخوفهم من داهية الحرب، فسألوه أن يمهلهم هذا اليوم والذى يليه،
ليلزموا أصحابهم بالخروج من مكة، فأتوا أصحابهم فعرفوهم الخبر. فصمم أكثرهم على عدم الخروج، فلم يسع الراغبون فى ذلك إلا الموافقة.
ولما تحقق ذلك للسيد حسن، رحل فى بكرة يوم الاثنين رابع عشرى شوال من الزاهر، وخيم بقرب العسيلة على الأبطح، وأتى بعض أصحابه إلى رءوس القواد المعروفين بالحميضات، وكانوا مع رميثة، فثبطهم عن القتال وخوفهم غائلته، فلم يصغوا لذلك.
فلما كان بكرة يوم الثلاثاء خامس عشرى شوال، ركب السيد حسن فى عسكره وكانوا فيما قيل ثلاثمائة فارس، وأزيد من نحو ألف راجل، وكان الذين بمكة على نحو الثلث من ذلك. ولما انتهى إلى المعابدة، بعث إلى الذين بمكة، يحذرهم عاقبة القتال، لرغبته فى الإبقاء على أكثرهم، فلم يقبلوا نصحه، ومثله ومثلهم فى ذلك كما قيل [من الطويل]:
بذلت لهم نصحى بمنعرج اللوى
…
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وسار بمن معه حتى دنوا من باب المعلاة، فأزالوا من كان على باب المعلاة وقربه من أصحاب رميثة بالرمى بالنشاب والأحجار، وعمد بعضهم إلى باب المعلاة، فدهنه وأوقد تحته النار، فاحترق حتى سقط إلى الأرض، وقصد بعضهم طرف السور الذى يلى الجبل الشامى مما يلى المقبرة، فدخل منه جماعة من الترك وغيرهم، ورقوا موضعا مرتفعا من الجبل المشار إليه، ورموا منه بالنشّاب والأحجار من كان داخل الدرب من أصحاب رميثة. فتعبوا لذلك كثيرا، ونقب بعضهم مما يلى الجبل الذى هم فيه من السور نقبا متسعا، حتى اتصل بالأرض، فدخل منه جماعة من الفرسان من عسكر حسن، ولقيهم جماعة من أصحاب رميثة، وقاتلوهم حتى أخرجوهم من السور، وحصل فى الفريقين جراحات، وهى فى أصحاب رميثة أكثر، وقصد بعض أصحاب حسن، وهم عسكر صاحب ينبع، السور مما يلى بركة الصارم، فنقبوه نقبا متسعا، ولم يتمكنوا من الدخول منه، لأجل البركة، فإنها مهواة. فنقبوا موضعا آخر فوقه، ثم إن بعض الأعيان من أصحاب السيد حسن، أجار من القتال لرغبة بعض القواد فى ذلك على ما قيل. وكان السيد حسن كارها للقتال، ولو أراد الدخول إلى مكة بكل عسكره من الموضع الذى دخل منه بعض عسكره لقدر على ذلك، وأمضى الجيرة بترك القتال، وبإثر ذلك وصل إليه جماعة من القضاة والفقهاء والصالحين بمكة، ومعهم ربعات شريفة، وسألوه فى
كف عسكره عن القتال فأجاب إلى ذلك، على أن يخرج من عانده من مكة. فمضى الفقهاء إليهم وأخبروهم بذلك، فتأخروا عنه إلى جوف مكة، بعد أن توثقوا ممن أجار فى كف القتال. فدخل السيد حسن من السور بجميع عسكره، وخيم حول بركتى المعلاة.
وأقام هناك حتى أصبح، فدخل مكة فى بكرة يوم الأربعاء سادس عشرى شوال، لابسا للخلعة الشريفة والعسكر فى خدمته، فطاف بالكعبة الشريفة سبعا، والمؤذن يدعو له على زمزم، وبعد فراغه من الطواف وركعتيه، أتى إلى جهة باب الصفا، فقرئ هناك توقيعه بإمرة مكة، وكتاب السلطان بذلك، فحضرت القضاة والأعيان وخلق لا يحصون كثرة، وركب بعد ذلك فدار البلد ونادى بالعدل والأمان، وكان قد أمن المعاندين له خمسة أيام، فتوجهوا إلى جهة اليمن، وبعث لابن أخيه رميثة بزوادة ومركوب فيما بلغنا.
وانتهى رميثة، ومن معه إلى قرب حلى، وأمر السيد حسن بعمل باب لباب المعلاة عوض الباب المحرّق، فعمل وعمر من هذا السور ما كان أخرب فى وقت الحرب، وبعث إلى القواد العمرة يستميلهم. فقدم عليه منهم جماعة أيام الحج، وسألوه فى مصافاتهم والإحسان إليهم، فأجابهم إلى ذلك بشرط أن يبينوا عن ابن أخيه ويلجئوه للسفر إلى اليمن. فإذا فارق حلى مسافرا لليمن قدموا عليه فأنالهم قصدهم، فأظهروا له الموافقة على ذلك، وبعث إلى خواص ابن أخيه يستميله بالدخول فى طاعته، فمال إلى ذلك ابن أخيه، لما بلغه عن القواد، ولتقصير من معه من موالى عجلان وابنه أحمد بن عجلان فى حقه، لقلة طواعيتهم له، ولإمساك سعد الدين سعيد جبروه يده عن إعطائه ما ظن رميثة أن صاحب اليمن بعث به إليه من النقد والكسوة والطعام على يد سعد الدين، فإن صاحب اليمن كان استدعى سعيدا ليوصله برا لنفسه ولرميثة، وقدم رميثة إلى مكة بإخوته وزوجته، وهى أعظم من حمله على ملاءمة عمه.
وكان عمه قد توجه من مكة لقصد الشرق. ولما أتاه الخبر بإقبال ابن أخيه إليه، أمر خواص غلمانه بتلقيه وكرامته، فخرجوا للقائه موكبين له، ودخل معهم مكة، فأنزلوه بمكان أعدوه له، وكسوه وضيفوه وخدموه واستحلفوه على إخلاص الود منه لعمه، وحلفوا له كذلك عن أنفسهم وعن عمه، واستحلفوا إخوته كذلك لعمهم وحلفوا لهم. فكان هذا الحلف فى يوم الجمعة العشرين من صفر سنة عشرين وثمانمائة فى جوف الكعبة.
وفى يوم الخميس قبله، قدم مكة رميثة ومن معه، ومضى بعد ذلك بأيام قليلة ومعه إخوته لعمهم، فأكرم ملاقاتهم وأحسن إليهم، وبالغ فى الإحسان إلى رميثة وأظهر للناس الاغتباط به كثيرا، وما سهل ذلك بأكثر بنى حسن لتخيلهم أن حالهم لا يروج كثيرا إلا فى زمن الفتنة، ورام الشريف حسن حفظ القواد العمرة والحميضات، فأخذ ما معهم من الخيل والدروع، وألزمهم بذلك بعد عوده إلى مكة من الشرق، فى جمادى الأولى سنة عشرين وثمانمائة، أو الجلاء من بلاده ومحل ولايته، وأجلهم للجلاء نحو نصف شهر وعاد إلى الشرق، وأمر بعض خواصه بأخذ المطلوب من القواد، أو إخراجهم من البلاد، وظن أنه لابد من حصول أحد الأمرين لإطماع الشرفاء ذوى أبى نمى له بالموافقة على ذلك، والمساعدة له عليه، فتلطف القواد بالشرفاء وخضعوا لهم وخوفوهم من غائلة هذا الأمر، لما فيه من إضعاف الفريقين. فإن الشرفاء كانوا وافقوه على تسليم خيلهم ودروعهم إذا فعل ذلك القواد، وقصد الشرفاء بذلك إضعاف القواد، فمال الشرفاء لقول القواد، وأعطوا الشرفاء دية قتيل شريف قتله بعض القواد فى دولة رميثة.
وكان القواد ممتنعين من ديته، ويقولون: نحاسبكم به مما لنا عندكم من القتلى، وتحالف الفريقان على كف الأذى، واستعطف القواد ذوى رميثة، أولاد أحمد بن ثقبة ابن رميثة وأولاد على بن مبارك ولفيفهم، فعطفوا على القواد، ومالوا لما قال إليه ذوو أبى نمى وحلفوا عليه.
وبلغ ذلك الشريف حسن، فعاد من الشرق إلى مكة فى أول النصف الثانى من رجب، ولم يجد أكثر الشرفاء على ما كان يعهد منهم، وهم مع ذلك يظهرون له الطاعة والموافقة على قصده، ويشرطون عليه فى ذلك، أن يجزل الإحسان إليهم بالمال والخيل والدروع، وتوقف هو فى ذلك، لما عهد من الفريقين من الأخذ وعدم الإسعاف بالقصد، كعادة أسلافهم مع أسلافه، وبعد قدومه إلى مكة بأيام قليلة، استولى على جدة الشرفاء من بنى ثقبة، ومبارك والقواد ولفيفهم، وأعلنوا بالسلطنة لثقبة بن أحمد بن ثقبة، وميلب بن على بن مبارك وجعلوا لكل منهما بجدة نوابا، وأخذوا طعاما كثيرا بجدة، وجبا بعض الجلاب الواصلة إليه، فشق ذلك على الشريف حسن، وحمله الشرفاء على النزول عندهم بالدكناء، ففعل. ثم رحل منها إلى الجديد، ثم إلى حدّا، وأشار عليه جماعة من الشرفاء بأن يذهبوا عنه إلى القواد. وكانوا نزولا بالعد، مع جماعة من آل أبى نمى، ومع ذوى ثقبة وذوى مبارك، ليأمروا المشار إليهم بالدخول فى طاعته، ويخوفونهم
من غائلته، فمضى جماعة من الشرفاء الذين فى خدمة الشريف، إلى الذين بالعدّ، وغابوا عنهم مدة، وعادوا إلى الشريف بما لم يعجبه، وحضوه على الإحسان إلى الذين بالعدّ، وأن يلين لهم جانبه، فلم يمل لذلك لما غلب على ظنه ـ وهو الواقع ـ أن الإحسان إليهم لا ينال به منهم قصدا، وبعث خيلا ورجلا إلى جدة، فاستولوا عليها .. وكانت خالية من أكثر المباينين له، وتواطأ الأشراف والقواد على أن يرحل جماعة من القواد من العد، حتى ينزلوا فى حلّة الأشراف بالدكناء بوادى مرّ، للاستنصار بالأشراف، ففعل القواد ذلك لحزمهم، فأكرمهم الأشراف، وقصد المريدون لذلك من الأشراف، أن الشريف إذا أمرهم بقتال القواد ومن انضم إليهم، قالوا له الأشراف: كيف نقاتل من استجار بنا ونزل بحلّتنا، لكون ذلك لا يحسن عند العرب.
ولما اتفق ذلك، خرج جماعة من آل أبى نمى، وذوى مبارك وغيرهم من الدكناء لقصد مكة، فخرج إليهم منها نائبها مفتاح الزفتاوى، فتى الشريف حسن بن عجلان، فى خيل ورجل، فالتقوا مع القواد والشرفاء، فكان النصر للشرفاء ومن انضم إليهم، وخفروا جماعة من عسكر مكة، وأخذوا خيلهم وسلاحهم ولجأ الزفتاوى إلى جبل قرب المعركة، وما زال به حتى قتل وقتل غيره من جماعته، وقتل من الشرفاء فوّاز بن عقيل ابن مبارك.
وكانت هذه الوقعة فى يوم السبت ثانى عشر رمضان سنة عشرين وثمانمائة. ورجع الشرفاء ومن انضم إليهم إلى العدّ، وشق على الشريف كثيرا ما صدر منهم وقتلهم لنائبه، ثم سعى جماعة من الشرفاء من ذوى أبى نمى وغيرهم، فى الصلح بينه وبين الذين بالعدّ، على مال يبذله لهم الشريف، ولا يحدثون حدثا فى طريق من طرق مكة، إلى انقضاء هذه السنة، وعشرة أيام من المحرم سنة إحدى وعشرين وثمانمائة. فرضى بذلك الفريقان وتعاقدوا عليه وتواثقوا، وأحسن إليهم الشريف بتسليم ما وقع الاتفاق على تسليمه معجّلا، واطمأن الناس، وقدم التجار من اليمن أكثر من كل سنة. من غير توقف فى الدخول إلى جدة لإذن السلطان لهم فى ذلك.
وكان دخول التجار إلى جدة فى صفر من هذه السنة بغير إذن من السلطان باليمن، وإنما ذلك باختيار المتقدمين فى أمر المراكب، لعدم قدرتهم على التّجوير على جدة إلى ينبع، لكون تجويرهم عليها يوافق اختيار صاحب اليمن.
ولما دخلوا إلى جدة لم يشوش عليهم نواب الشريف، وساهلهم الشريف فى المكس
المتعلق بحمل السلطان، وأسقط عنهم بعضه، واعتذر مما أخذه بالحاجة إليه، فأعجب ذلك السلطان، وأمر التجار بقصد جدة، فقصدوها ثانيا كما ذكرنا، ومضوا إلى بلادهم بعد الحج وهم سالمون من النهب ولله الحمد.
وفى النصف الثانى من شوال سنة عشرين وثمانمائة، قدم من مصر على الشريف ابنه السيد بركات فسر به، ولما طاف بركات بالكعبة، دعى له على زمزم كعادة أمراء مكة. وصار أبوه يفوه له بالإمرة، ويقول لبنى حسن وغيرهم: هو سلطانكم.
وفى شهر ربيع الأول من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، أظهر للناس أنه تخلى عن إمرة مكة لابنه السيد بركات، بحيث أجلسه على المفرشة بالمسجد الحرام، وجلس هو على مفرشة عنده، وأمر من فى خدمته بالحلف له، فحلفوا له وأمرهم بالخروج فى خدمته والنزول بالركانىّ بوادى مرّ، ففعلوا؛ لأن أكثر الذين بالعدّ من ذوى رميثة وذوى أبى نمى والقواد، رحلوا من العد حتى نزلوا حدّا، ولم يسهل بالشريف نزولهم بحدّا؛ لأن جماعة من وجوه القواد، كانوا ذكروا للشريف أن الذى بالعدّ، لا يرحلون منه إلى غيره إلا بإخباره، ولما نزل السيد بركات ومن معه بالركانىّ، لم يسهل ذلك بالذين نزلوا بحدّا، ورغبوا فى أن الشريف يأمر ولده بالرحيل عنهم إلى الجديد ونحوه من وادى مرّ، ويدخلون بأجمعهم فى طاعته ويمضى إلى الشرق، فإنه يختار ذلك ولا يحدثون حدثا إلى انقضاء سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وعشرة أيام من التى بعدها. فوافق الشريف على ذلك وأجابهم إلى ما سألوه من الإحسان إليهم، بما عوّدهم به فى كل سنة قبل هذه الفتنة، على عادتهم فى أخذ ذلك منجّما، وأعطى ذوى مبارك دية رضوها فى فواز ابن عقيل بن مبارك، مع كونه يرى أنها لا تلزمه، وحمله على ذلك حبّه لحسم مواد الشر، وما انطوى عليه من الصفح والحلم، ولذلك حلم على الذين خرجوا عن طاعته، ولا يموا ابن أخيه رميثة، وقاتلوه، من عبيد أبيه وأخيه وأولادهم، واستدعاهم من حلى ومن اليمن، وأجراهم على رسومهم التى كانوا عليها قبل جموحهم عن طاعته، فالله تعالى يزيده توفيقا، ويسهل له إلى كل خير طريقا. وكان وصول أكثرهم إليه، فى أخريات ذى القعدة من سنة عشرين وثمانمائة.
وفى ربيع الأول من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، جمح أحمد بن الشريف حسن عن طاعة أبيه، لكونه قدم أخاه بركات عليه فى الإمرة، وأرسل إليه أبوه من يستعطفه ويعده عنه بذهب ومركوب، فلم يمل أحمد لذلك.
واجتمع إليه جماعة من الطّمّاعة، ومضوا لجدة وتخطفوا منها أشياء، ولم يسهل ذلك بأبيه. ثم إن كثيرا من الذين كانوا مع أحمد، تخلوا عنه لملاءمة أقاربهم لهم على ملاءمته، لكون ذلك لا يرضى أباه، ولما عرف هو ذلك حضر إلى حدّا، ونزل بها. والله يصلح أحوالهم، ثم دخل فى الطاعة، وأقام على ذلك وقتا، ثم خالف ومضى إلى ينبع، وأتى منها مع الحجاج فى سنة إحدى وعشرين إلى أبيه بمكة، فلم ير ما يعجبه، فعاد مع الحجاج إلى صوب ينبع، بعد الحج من هذه السنة.
وفيها بعث أبوه ولده السيد إبراهيم إلى بلاد اليمن، مستعطفا لصاحبها الملك الناصر، فعطف عليه كثيرا، بعد أشهر كثيرة، وجهزه إلى مكة بعد أن أمر له بصلة متوسطة.
وفيها كتب الملك الناصر إلى صاحب مصر الملك المؤيد، كتابا يذكر فيه شيئا من حال السيد حسن بن عجلان؛ لأن الملك المؤيد كتب إلى الملك الناصر على يد سفيره القاضى أمين الدين مفلح التركى، كتابا يستعطفه على السيد حسن، وذكر فيه شيئا من حاله. وأما ما ذكره الملك المؤيد فهو:
وأما الشريف حسن بن عجلان، فإنه بلغنا أنه طابق تسميته بالعكس، فرسمنا بطرده، وقلنا هذا الكدر لا يليق عند سكان الصّفا، فقربنا إليهم المسرة ببعده، وعلمت أهل مكة منا بذلك، فأنكرت مشاركته فى البيت وأخرجته من الحرم الشريف وأغلقت الأبواب، وقالت: هيت. وانقطع أمله من ورود زمزم، وقد جرعته كئوس البين مرارة الإصدار، وتيقن قتل نفسه عند خروجه من الديار، ولم تتعرف به عرفات، لما طرد منكرا على وجل، ولا يمكن أن يقول بعدها: ساوى إلى جبل. وأيقن أن يصاب من كنانة مصر بسهام يبلغ بها المقام الغرض، ويقول ببلاغة وإيجاز: سهم أصاب وراميه بذى سلم، من بالحجاز. وعلمنا أن سيفنا المؤيدى، لابد أن يسبق فيه العذل، ويدخله فى خبر كان، وتتنغص حياته، ويأتيه الموت كأبيه عجلان [من الطويل]:
ويمسى اليمانى نائما ملء جفنه
…
ومن كثرة التطويل يختصر الرمح
كذاك مديد البحر يمضى زحافه
…
بتقطيعه قهرا ويتضح الشرح
وفى خده يمسى السرور مجدا
…
وللطير فى أفنانها بالهنا صدح
ويعذب من عيذاب أرياق ثغرها
…
وشام بها من لذة الشرب ما يصحو
وأعداؤنا أعداؤكم غير أنهم
…
ظلام محاه من صداقته الصبح
ونزل بعد ذلك على الطور. فقال له لسان الحال: (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذابَ
رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الطور: 6، 7] وفيهم أغراب سيفنا عن صرفه، فصرف نفسه ولم يتقو على الصرف بمانع، وتحقق أنه فعل فاحشة وظلم نفسه، فذكر الله تعالى واستغفر لذنبه، واستجار بقوله تعالى:(وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا)[التغابن: 14] إلى آخر الآية.
فرأينا العفو أليق به، وعلى كل حال فهو شريف، ورتبته فى الشرف رفيعة. وقد تاب من ذنبه، وطمع فى أن يكون المقام الأحمدىّ شفيعه، والتزم بالتوصل إلى رضا الخواطر الكريمة عليه، وبردّ الأمانات إلى أهلها، ليفوز بالتفات العواطف الناصرية إليه، وأقسم بالبيت العتيق، أن يتقرب إلى المقام بإخلاص جديد. وقال: كل أحد يعرف أن الحنوّ الأحمدى على الحسن غير بعيد. انتهى.
وأما ما كتب به الملك الناصر فى هذا المعنى فهو:
وأما الإيماء إلى الصفح عن الشريف بدر الدين، فما كان إلا صديقا صدوقا، ورفيقا رفيقا. ثم بدا له فى ذلك، فأخذ ينقض غزل تلك الصداقة بعد القوة، ويحل عرى ذلك الرفق عروة عروة، ويحدث على التجار كل عام حادثة، وكلما تضجروا من واحدة أتبعها بثانية وثالثة، حتى تواصلت بشكواه الألسنة، فأردنا إيقاظه من هذه السنة، بأن ينقل موسم التجار إلى ينبع، وأن يشحن المراكب بالمقاتلة، صيانة لها عن التتبع، ليعلم أن العدل هدى وعمارة، وأن الجور خراب وخسارة.
ولما حصلت الإشارة الشريفة بتلافى ما فرط منه، وتدارك ما صدر عنه، أرسل ولده وشرط على نفسه هذه الشروط الصادرة، وقد تحاملنا له فيها على التجار لتطييب خاطره، فإن زيادتها على ما كان يأخذه سلفه منهم ظاهرة. وأردنا أن يكون تمام ما بدا به المقام الشريف على يديه، ويعرف ما شرط على نفسه لينفذه ويقضى به عليه. فقد رضينا جميعا بأن يكون هو الحاكم، والآخذ على يد الظالم. وحتى يعلم من يحور بعد الكور، ويركب مطيّة الخلف والجور، ويسأله كتب منشور عن المرسوم الشريف، يعتصم به السفراء والتجار عند الحاجة إليه، ويشار فيه إلى أمير الحاج أن يكون فى الوفاء به شاهدا وحاكما عليه، فما يتقض أمر أبرمته عنايته، ولا يضل سالك أرشدته هدايته. انتهى.
وكتاب صاحب اليمن، من إنشاء أديب اليمن وفاضله، القاضى شرف الدين إسماعيل بن أبى بكر، المعروف بابن المقرى، وهو مؤرخ برمضان أو شوال من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، وكتاب صاحب مصر من إنشاء الأديب البارع تقى الدين أبى بكر بن على بن حجّة الحموىّ. وهو مؤرخ بالمحرم سنة عشرين وثمانمائة.
وفى اليوم الأول من ربيع الآخر من سنة إحدى وعشرين وثمانمائة، توجه السيد حسن من مكة قاصدا للشرق، وعدل إلى صوب الطائف، فخرب أماكن بلقيم، والعقيق، ووجّ، من وادى الطائف، خرابا كثيرا، وهدم حصنا لعوف بليّة. وسبب ذلك، توقف أهل الأماكن المشار إليهم، عن تسليم ما قرره عليهم من القطعة لزيادتها على العادة، مع ما هم فيه من ضيق الحال، بسبب الجناية التى أخذها منهم فى العام الماضى، ومع ذلك فما وسع أهل الأماكن المشار إليها، إلا استعطافه وتسليم ما رضيه، واتهموا جويعد بن نمير صاحب أبى الأخيلة، بأنه أغرى بهم فى ذلك الشريف حسن بن عجلان. فلما عاد الشريف حسن من الشرق إلى مكة، خادعوا جويعد واستحضروه إليهم بقرية السلامة، ومنعوه الخروج من المنزل التى اجتمعوا فيه، وقصد طائفة كثيرة منهم حصنه أبا الأخيلة فأخربوه خرابا فاحشا، ثم أطلقوه سالما فى بدنه.
وفيها وصل من صاحب مصر إلى الشريف حسن عدّة كتب، منها كتاب فى حادى عشرى ربيع الأول، فيه إعلامه بقوة عزم السلطان على الحج فى هذه السنة، وأمره بتسليم ما وصل من الغلال إلى جدة، ونقل ذلك إلى مكة، والاحتفاظ بذلك.
وفيه مطالبة بعشرة آلاف مثقال، بقيت عنده من الثلاثين الألف المثقال، التى التزم بها للخزانة الشريفة، لما سأله العود إلى إمرة مكة.
ومنها كتاب آخر فيه إعلامه بتفويض أمر بيع الغلّة إلى علاء الدين القائد، لإعراض السلطان عن الحج، وفيه العتب عليه لكونه لم يرسل مع علاء الدين بالعشرة الآلاف المثقال.
وكان وصول ذلك إليه فى آخر ذى القعدة وهو بجدة، وحضر إلى مكة قبل هلال ذى الحجة بليلة أو ليلتين، وحضر لخدمة المحمل المصرى، وتردد لأمراء الحاج والأعيان بمكة ومنى، وأقام بمكة إلى تاسع عشرى ذى الحجة.
وتوجه إلى جدة عند توجه الناس إليها لليمن. وأقام بجدة أياما كثيرة، وتوجه منها بعد سفر أكثر الناس، ووصول الطيّب ابن مكاوش سفير صاحب اليمن، وى تابة فيها حمل للسلطان وغيره. وقصد صوب اليمن ناحية الخريفين. وجاوز ذلك وراسل صاحب حلى محمد بن موسى بن أحمد عيسى الحرامى، فى أن يزوجه أخته، ورغب فى أن تزفّ إليه، فأجابه إلى تزويجها بشرط حضوره إليهم، فأعرض عن الحضور إليهم، ولم يأت مكة إلا فى الحادى عشر من ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة.
وفى آخر اليوم الثانى عشر منه، توجه لصوب الشرق؛ لأنه بلغه أنه كثير المطر وليقوى به أمر من أرسلهم إلى الطائف وليّة، لقبض القطعة التى قررها على أهل الطائف وليّة. والله يحمد العاقبة.
وكان من خبره بعد ذلك، أن عسكره أخربوا أماكن بلقيم، والعقيق، ووج، من وادى الطائف، ثم أمر بإخراب حصن الطائف المعروف بحصن الهجوم، بسعى جماعة من الحمدة عنده فى ذلك، فأخرب جانب كبير منه، وأعان المخربين له على إخرابه، أن بعض أعيان عسكر الشريف، استدعوا بعض أعيان أصحاب الحصن، فحضروا إليهم وهم لا يشعرون بما يريده عسكر الشريف.
فلما أوثقهم عسكر الشريف، ساروا لإخراب الحصن فرماهم منه بعض النسوة الذى به، وكادوا يحمونه، ثم قيل لهم فيه، إما أن تسلموا الحصن وإلا ذبحنا الذين عندنا منكم، فرق لهم الذين بالحصن وسلموه، فهدم.
ثم سعى أصحابه عند الشريف، فى أن يوقف عسكره عن هدمه وفى عمارته، فأجابهم لقصدهم، وأعادوا كثيرا مما هدم بالبناء، وأمر بإخراب الموضع المعروف بأم السكارى، جبل بالسلامة من وادى الطائف؛ لأن الذين بنوا فيه من الحمدة، هم الذين قاموا فى هدم حصن أبى الأخيلة، حصن جويعد، لانتمائه للشريف، فهدم ذلك هدما دون هدمه الأول.
وعاد الشريف إلى مكة، بعد أن صارت إليه القطعة التى قررها على أهل الطائف وليّة، وسلك فى طريقه طريق نخلة اليمانية.
فلما كان بالزّيمة منها، أمر بقطع نخيل فيها وبإخرابها، لعتبه أمرا على أهلها. فاستعطفوه وهادوه بخيل، ومضى منها إلى سولة، ثم إلى خيف بنى عمير، ثم إلى المبارك، ثم إلى وادى مرّ، وأتى منه إلى مكة، فى أثناء رجب سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة، وتردد منه إلى مكة غير مرة، وزوج بالوادى ابنه أبا القاسم فى شعبان.
وفيه ظهر منه ميل إلى القواد العمرة، على الشرف آل أبى نمى، ولفيفهم من القواد العمرة. وكان قد حصل منهم فى غيبته بالشرق فى هذه السنة كدر، سببه أن مقبل بن هبة بن أحمد بن سنان بن عبد الله بن عمر القائد العمرىّ، استغفل جلبان بن أبى سويد ابن أبى دعيج بن أبى نمى، فضربه بالسيف ليلا، وهو متوجه إلى مكة، فحمى لجلبان قومه، واحترز منهم القواد العمرة، واستتنصروا عليهم وامتنعوا منهم، إلى أن وصل
الشريف من الشرق. فاستماله القواد فمال معهم، وأمر الشرف ولفيفهم من القواد، أن لا ينزلوا بحدّا بطريق جدة، فخالفوه. فلم يسهل به ذلك، وكثر ميله ونصرته للمعاندين للشرف من القواد، فتعبوا لذلك. ورحلوا من حدّا، بعد إقامتهم بها شهر رمضان وأياما من شوال، بعد أن صرف لهم نحو ألف وخمسمائة افرنتى. وكان هو فى غالب شهر رمضان وشوال والقعدة بجدة ونواحيها، وأتاه فى شوال جلاب من جنوب اليمن، فيها ما خرج منا حمل مراكب الكارم، التى انصلحت برأس المخلاف، فى شهر صفر من هذه السنة. فحصل له منها نفع جيد، ثم وصلت المراكب الكارميّة إلى جدة، وهو بها فى آخر ذى القعدة، فصالحه التجار الذين بها على عشرة آلاف افرنتى، بعد وصوله إلى مكة لملاقاة الحاج، وتردد إلى أعيان الحجاج وخدمهم وهاداهم وهادوه، وحج الناس مطمئنين، فلله الحمد.
وحصل بجدة فى أوائل سنة ثلاث وعشرين، خلل فى بعض مراكب الكارم، عندما عزموا من جدة إلى ينبع، فأمرهم الشريف بالتنجيل، فصالحوه فى ذلك بألفى افرنتى، وتوجه هذا المركب وغيره من مراكب الكارم وجلا بهم، إلى ينبع ونجلوا بها.
وفى الرابع عشر من صفر من هذه السنة، وصل كتاب من الملك المؤيد صاحب مصر نصره الله، إلى الشريف يتضمن عتبه عليه فى أمور.
منها: أخذه الموجب من المتاجر السلطانية، فإن فى المراكب المشار إليها حملا منسوبا لصاحب مصر.
ومنها: لكونه كان فى العام الماضى يشترى ما يرد بجدة من الحبّ والتّمر ويخزنه ويبيعه للناس.
ومنها: لتأخره إرسال ما بقى عليه للخزانة الشريفة السلطانية المؤيدية، مما التزمه لها حين ولى إمرة مكة فى سنة تسع عشرة وثمانمائة، وهى عشرة آلاف مثقال؛ لأنه كان التزم بثلاثين ألف مثقال، سلم عشرين وبقى عليه عشرة.
وفى الكتاب إليه عتب قوى لتأخيره إرسال هذا المبلغ، وكلمات مزعجة للخاطر، منها ما معناه: ولا تظن أن إهمالنا لك، عجز عن حصولك فى قبضتنا الشريفة، وإنما لما أحسنت منك السيرة فى بعض الأمور، قلنا: لعل الله أن يحسن فى الباقى. وقد انزعج خاطره لذلك كثيرا، وحمله ذلك على التنصل من إمرة مكة، فكتب يسأل فى تفويضها لولديه: السيدين بركات وإبراهيم.
وذكر أنهما يقومان للخزانة الشريفة بالعشرة الآلاف المثقال المطلوبة منه عند ولايتهما، وأنهما أولى بالإمرة منه، لقوتهما ولضعف بدنه وحبّه للعبادة، وذكر أنه لم يأخذ موجبا من المتاجر السلطانية، وأنه لم يشتر ما اشتراه من الحب والتمر فى العام الماضى بقصد احتكاره، وإنما اشتراه لحاجته إليه لنفقته ونفقة عسكره.
فلما رأى اضطرار الناس باعه عليهم، فكان فى خزنه لذلك وبيعه نفع للناس، وإلى آخر السنة لم يأته جواب عن كتابه. وتوجه عقيب كتابه فى آخر صفر، لصوب حلى، فبلغها وتلقاه صاحبها محمد بن موسى إلى الحسبة، وبنى فى حلى بأخت محمد بن موسى المذكور، وتوجه بها معه إلى مكة، فبلغها فى خامس رجب، وقد سبقه إليها فى مستهل رجب، شيخنا العلامة المفنن عمدة المقرئين: شمس الدين أبو الخير محمد بن محمد ابن محمد بن على بن يوسف بن الجزرى الدمشقى الشافعى، قاضى القضاة بمملكة شيراز (5)، أدام الله به النفع وعامله باللطف، فإنه توجه من شيراز مريدا للحج فى العام الماضى، فعرض له بنو لأم بقرب عنيزة (6)، فنهبوا ما معه من التحف التى استصحبها هدية لأعيان أهل الحرمين. وتأخر بعنيزة لتحصيل كتبه وترقيع حاله. فلما ظفر بكتبه، توجه قاصدا للمدينة النبوية، فنهبه بعض بنى حسن ثانيا.
وتوصل إلى المدينة النبوية فى صفر من هذه السنة، فأقرأ بها القرآن والعلم، وأسمع الحديث، وتوجه منها فى جمادى الآخرة إلى ينبع، وركب من هناك البحر إلى جدة، وتوصل منها إلى مكة. ففعل بها ما فعله بالمدينة، من إقراء القرآن والعلم والإسماع، وحضر إليه الشريف حسن وبعض أولاده وأعيان غلمانه، وسمعوا على شيخنا المذكور شيئا من الحديث، وقصيدة مدح بها السيد الشريف حسن بن عجلان. أولها [من الطويل]:
سلام كنشر المسك فى السر والعلن
…
يضوع على من وجهه كاسمه الحسن
وصار يقيم وقتا بمكة ووقتا بأماكن من بواديها، ولما حضر الحجاج المصريون إلى مكة، وافاهم وخدم المحمل المصرى على العادة، وراعى مصالح الحجاج بحراستهم، ولما بلغه موت الملك إبراهيم بن الملك المؤيد صاحب مصر، أمر بالصلاة عليه والقراءة لأجله.
(5) شيراز: بلد عظيم مشهورة معروف مذكور، وهو قصبة بلاد فارس. انظر: معجم البلدان (شيراز).
(6)
عنيزة: هى موضع بين البصرة ومكة. انظر: معجم البلدان (عنيزة).
وكان ابتداء القراءة فى يوم الجمعة خامس شعبان، وفيه صلى عليه بعد الجمعة، واستمرت القراءة لأجله إلى صبيحة يوم الأحد الرابع عشر من شعبان. وكان يحضر للقراءة مع الناس مرات كثيرة.
وفى ليلة منتصف شعبان، حضر مع الناس بالمسجد الحرام، وقرأوا ختمة للسلطان الملك المؤيد، ودعى له عقيب ذلك، وكتب بذلك مكتوبان. ولما تكلف لخدمة أمراء الحاج فى موسم هذه السنة، استدان لأجل ذلك من التجار والمتسببين، وبعث عقيب الحج رسولا وهدية ببعض الأشياء المذكورة، إلى صاحب الشرق الملك شاه رخ بن تمر لنك. وأوصى شيخنا العلامة شمس الدين بن الجزرى السابق ذكره، برعايته فى ذلك كثيرا، فأجابه لقصده.
وكان ابنه السيد أحمد بن حسن، قد توجه فى آخر العام الماضى مع قافلة عقيل، فبلغ هرموز وعاد بغير طائل مع قافلة عقيل، قبيل التروية من هذه السنة.
وفى يوم الاثنين ثانى عشر شهر ربيع الأول من سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وصل إلى مكة تشريفان له ولابنه السيد زين الدين بركات، وعهد يتضمن تفويض إمرة مكة إليهما، وتاريخ هذا العهد، مستهل صفر سنة أربع وعشرين وثمانمائة، وهذا العهد مكتوب عن الملك المظفر شهاب الدين أبى السعادات أحمد بن الملك المؤيد، والمنفذ له وللتشريفين، مدبّر دولته المقر الأشرف السيفى نظام الملك ططر؛ لأن الملك المؤيد حصل له فى شوال من العام الماضى ضعف خيف عليه منه، فعهد بالسلطنة لابنه المشار إليه وله دون سنتين.
وجعل الأمير ألطنبغا القرمشى أتابكه. فكان القرمشى مجردا فى جماعة من أعيان الأمراء والعساكر ببلاد الشام لحفظها من قرا يوسف التركمانى، والمجهز لهم الملك المؤيد فى رمضان من سنة ثلاث وعشرين، وجعل حين عهده لابنه جماعة من الأمراء الحاضرين عنده بالقاهرة، ينوبون عن القرمشى إلى حين حضوره. وحصل للسلطان بعد ذلك عافية، فتوجه للبحيرة وعاد منها عليلا. واستمر حتى مات فى بكرة يوم الاثنين، ثامن المحرم من سنة أربع وعشرين وثمانمائة.
واتفق أعيان الدولة على أن يكون المقر الأشرف ططر، مدبرا للأمور لخصاله المشكورة، وفوض ذلك له الخليفة المعتضد داود بن المتوكل العباسى، أخو المستعين بالله أبى الفضل العباس بن المتوكل؛ لأنه أقيم فى الخلافة بعد اعتقال أخيه المستعين
بالإسكندرية فى سنة سبع عشرة وثمانمائة، فأخذ الأمير ططر عليهم وعلى كافة الأعيان من العلماء وقضاة القضاة، البيعة للملك المظفر عقيب موت والده، وأحسن فى تدبير أمور الناس، وجهز للسيد حسن وابنه التشريفين والعهد، وجهز تشريفين لأميرى المدينة النبوية وينبع، وقرئ العهد المشار إليه، وكتاب عن السلطان المظفر، مؤرخ برابع عشر صفر. وذلك بالحطيم فى المسجد الحرام، فى بكرة يوم الأربعاء رابع عشر ربيع الأول، بحضرة السيد بركات وغيره من قضاة مكة والأعيان بها، ولبس تشريفه، وطاف عقيب ذلك سبعا بالكعبة المشرفة، والمؤذن بأعلا قبّة زمزم يدعو له جهرا، على عادة أمراء مكة، وركب من باب الصفا، ودار فى شوارع مكة.
وفى الكتاب المشار إليه، الإعلام بوفاة الملك المؤيد، ومبايعة أهل الحل والعقد من العلماء والعسكر للملك المظفر، وجلوسه على تخت الملك وخدمة العسكر وعمل الموكب بين يديه.
وأمر فيه بمراعاة مصالح الناس بمكة، وتعظيم أمر حكام الشرع، وإعادة ما أخذ من التجار إليهم، وإسقاط ما جدد من المكوسات. وأعفى فيه السيد حسن من تكلف شيء لأمراء الحاج.
وفى العهد المتضمن لتفويض إمرة مكة إليه وإلى ابنه نحو من ذلك، والأمر بمراعاة مصالح الرعية، وغير ذلك من الوصايا النافعة.
وكان السيد حسن فى هذا التاريخ، غائبا عن مكة بناحية اليمن فى جهة الواديين أو قرب ذلك. ولما بلغه موت السلطان الملك المؤيد، وذلك فى النصف الثانى من صفر، رام أن يجعل ابنه السيد إبراهيم حاكما بمكة، مع ابنه السيد بركات، ويكون لكل منهما ثلث الحاصل لأمير مكة، ويصرف كل منهما الثلث فى جماعته على ما يراه، ويبطل الرسوم التى كان قررها للأشراف والقواد فى كل سنة، وجعل الأشراف إلى ابنه السيد إبراهيم، والقواد لابنه السيد بركات، وجعل له الثلث الباقى من الحاصل لأمير مكة، يصرفه فى مصالحه وخاصة نفسه، فلم ينتظم هذا الأمر، لكون القواد لم يوافقوه على إبطال ما كان قرره لهم من الرسوم فى كل سنة، ومضى هو وابنه السيد إبراهيم بعد ذلك إلى صوب اليمن، وجاء الخبر بعد ذلك من مصر بما ذكرناه، والله يصلح الأحوال.
وفى هذه السنة، وصل ابنه إبراهيم، من ناحية اليمن، ومعه الأشراف، فألزموا المؤذن بالدعاء لإبراهيم على زمزم وقت طواف الكعبة الشريفة، ففعل ذلك، ولم يسهل بأخيه
بركات وجماعته، وتنافر الأخوان وجماعتهما، وقصد إبراهيم دخول جدة، وقصد بركات بعد ذلك دخول مكة، فعورض، وصار يخطب بمكة لإبراهيم مع أبيه وأخيه. وذلك عقيب وصوله من اليمن فى نصف هذه السنة، وسأل والده من الدولة بمصر، تقرير ولديه المذكورين فى الإمرة بمكة فلم يجب لقصده، وكتب إليه بما معناه: لا نثق فى أمر مكة إلا بك ولكنك استنب من شئت.
وهذا الكتاب وصل إليه وقت الموسم من سنة أربع وعشرين من الملك الظاهر ططر، بعد أن بويع بالسلطنة بدمشق فى تاسع عشرى شعبان من هذه السنة، وأذعنت له بالطاعة ديار مصر والشام، وبدا منه عدل كثير، وأرسل للشريف حسن يأمره بإسقاط المكس، وأن لا يكلف التجار بمكة قرضا.
وكتب بذلك فى سوارى من المسجد الحرام من ناحية باب بنى شيبة، وفى جهة الصفا. وبعث للشريف حسن بألف أفلورى أو نحوها، كان خدم بها أمير الحاج المصرى فى العام الماضى.
وفى هذه السنة نفر كثير من القواد والأشراف عن طاعة الشريف حسن، وانضموا إلى ابن أخيه السيد رميثة بن محمد بن عجلان، واستولوا على جدة. وانتشروا فى الطرقات. فنجل أكثر الواصلين من اليمن من غير جدة. ووصلوا لمكة متحفّزين. وما زال الشريف حسن يسعى حتى بان عن رميثة أكثر من معه، فدخل فى طاعة عمه، وتوسل إليه بابنه بركات فأكرمه، وذلك فى أوائل سنة خمس وعشرين وثمانمائة. وجاء فى هذا التاريخ من ينبع، صاحبها مقبل الشريف بن مخبار، نجدة للشريف حسن، ومضيا بعسكرهما ومعهما الأشراف آل أبى نمى، خلف القواد العمرة وغيرهم، حتى جاوزوا الواديين فى ناحية اليمن، ثم نفر عن الشريف حسن، ابن أخيه رميثة وغيره من إخوته وبنى عمه، أولاد على بن مبارك وذوى ثقبة، ولا يموا القواد العمرة، وتنافر الشريفان حسن ومقبل فى الباطن، لشدة رغبة مقبل فى مطاوعة الشريف حسن له فى قتال القواد، ولم يجبه لذلك الشريف حسن، لما بلغه من أنه المجرئ لابن أخيه وبنى عمه على مباينته والانضمام على القواد، ووصلا لمكة والود بينهما ظاهر، وأظهر مقبل عزما لينبع، وسئل فى الإقامة بمكة على مال جزيل بذل له، فلم يمل لذلك، وما رحل من وادى مرّ، حتى وصل إليه رميثة وأقاربه وكثير من القواد، واستولوا على جدة.
وتوجه عقيب ذلك الشريف حسن لنخلة، وأقام بها أياما، ثم للشرق. واستفاد فيه
خيلا كثيرة وإبلا وغنما، وأتاه إلى هناك جماعة من القواد العمرة يسألونه فى المسير إلى مكة، وتمكينه من جدة فتوقف، ثم أتى مكة فى آخر شوال من هذه السنة.
وكان وصوله إليها من صوب اليمن مع مقبل فى آخر جمادى الأولى، من هذه السنة، وبعد ذلك بنحو جمعة، كان توجهه لنخلة، ووافاه بمكة وقت وصوله من اليمن كتاب من مصر، من مولانا السلطان الملك الأشرف برسباى صاحب مصر والشام، يخبر فيه بأنه بويع بالسلطنة بمصر، فى ثامن ربيع الآخر من هذه السنة، وهى سنة خمس وعشرين وثمانمائة، وأنه رسم بترك تقبيل الأرض بين يديه تعظيما لله تعالى.
وكان مولانا السلطان المشار إليه، يدبر قبل ذلك دولة الملك الصالح محمد بن الملك الظاهر ططر، وله نحو عشر سنين، وكان قد بويع بالسلطنة قبيل موت أبيه.
وكان موت أبيه فى رابع ذى الحجة، سنة أربع وعشرين وثمانمائة بمصر، بعد وصوله إليها من البلاد الشامية، وكانت مدة سلطنة الصالح أربعة أشهر وأربعة أيام، ومدة سلطنة أبيه ثلاثة أشهر وخمسة أيام، ومدة سلطنة المظفر أحمد بن المؤيد سبعة أشهر واثنان وعشرون يوما، وكان له من العمر نحو سنتين وقت سلطنته وهو حى، وكذا الصالح.
وما زال الشريف حسن يسعى حتى بان عن رميثة أكثر من كان معه، وقصد رميثة ومن معه لصوب جدة، إلى مرّ الظهران، ودخل فى طاعته ممن مع رميثة، ميلب ابن على ابن مبارك وغيره.
واستولى الشريف حسن على جدة، ومضى رميثة ومن معه من الأشراف آل أبى نمى والمولدين من أبناء عبيد جده عجلان إلى ينبع، وأعانوا صاحبها مقبل فى حروب بنى أخيه وبير بن مخبار، فإن عقيل بن وبير، مضى فى أثناء سنة خمس وعشرين لمصر، وولّى بها نصف إمرة ينبع، وبدا من عمه تقصير فى حق صاحب مصر.
فلما وصل الحجاج من مصر لينبع، فى ذى القعدة من هذه السنة، بان مقبل عن ينبع، وبعد رحيل الحجاج من ينبع لمكة بأيام، جمع وحشد لحرب بنى أخيه، وتكررت بينهم الواقعات، ونالوا منه أكثر مما نال منهم، وأعانهم فى بعضها الحجاج المصريون، بعد عودهم من الحج والزيارة للمدينة النبوية.
وكان مقبل فى هذه الوقعة غافلا عنهم فبيّتوه سحرا، وبالجهد إن نجا، ونهبت حلته. وفيها له نقد طائل فيما قيل وإبل كثيرة.
وكان قبل ذلك قد ظفر ببعض بنى أخيه بخديعة دبّرها وقيدهم، فوجدوا بحلقة فأطلقوا، وبعض الحروب بينهم وبين عمهم فى آخر سنة أربع وعشرين، وأكثرها فى سنة خمس وعشرين، وأنجد الشريف حسن أولاد وبير بخيل وسلاح ورجال، وعزم على المسير إلى ينبع لنصرتهم، فأتاه للفور مقبل خاضعا، فأكرمه وأعرض عن توجهه لينبع، وسأله مقبل فى المسير معه لينبع، فلم يفعل، واعتذر له بوصول كتاب صاحب مصر إليه، بأن يسعى فى تحصيل مقبل، وشرط على مقبل أن يبين عنه رميثة ومن معه.
ولما عرف رميثة بذلك، قصد عجلان بن نعير بن منصور بن جماز بن شيحة الحسينى، أمير المدينة النبوية، فى أن يشفع له إلى عمه فى الرضا عنه، ويلتزم طاعة عمه، فأتى عجلان للشريف حسن مستشفعا، فأجابه لقصده، وحضر إليه ابن أخيه رميثة، فأكرمه وأمره بمباينة من كان معه من جماعة عجلان، فرجعوا لينبع.
وذلك فى ربيع الأول من سنة ست وعشرين وثمانمائة، ولم يقو بعد ذلك أحد من الأشراف، ولا من القواد، على معاندة الشريف حسن، وتغير خاطره على ابنه السيد إبراهيم، لكونه أوى إليه الأشراف ذوى راجح بن أبى نمى.
وكان أبوه أمره بإبعادهم فلم يفعل، ومضى بهم وبمن انضم إليهم من بقية آل أبى نمى وغيرهم، إلى صوب اليمن. وانتهوا إلى الواديين وباليمن، وقطع ذكر إبراهيم فى الخطبة بمكة، وفى الدعاء على زمزم بعد المغرب، وأتى إلى صوب مكة بمن معه فى شهر رجب من سنة ست وعشرين وثمانمائة، ونزلوا بوادى مرّ.
وكان أبوه إذ ذاك بالشرق، فقصده فلم ير منه إقبالا. وكان قد أعان أخاه السيد بركات بخيل ونفقة، على أن يسيروا وراء الأشراف، فساروا وراءهم إلى صوب اليمن، ثم وصل الشريف حسن من الشرق إلى مكة، فى رمضان من هذه السنة، وسكنت الفتنة بين الأخوين وجماعتهم، فاطمأنوا، وأتاه كتابان من الملك الأشراف صاحب مصر، الأول: يتضمن كثرة العتب عليه لأخذه فلفل التجار الواصلين إلى جدة من كاليكوط بالهند، مجورين على عدن، وأمره برد ذلك إليهم بخطاب فيه عنف. والثانى: يتضمن كثرة تعظيمه، وفيه ما معناه: أنه بلغنا عنك تحيلك أنا نريد بك الاستبدال، ولا يعقل لمكانتك عندنا، وإن غبت عن عيننا، فأنت فى القلب، وما كنا نولى فى حرم الله تعالى أحدا من الترك. فإن ينبع دون ذلك، ولم نول فيها إلا شريفا، ووصلنا كتابك يتضمن طلبك منا خاتم الأمان ومنديل الرضا، وقد جهزنا لك ذلك، فطب نفسا وقر عينا،
وسألتنا فى استنابة ابنك الشريف بركات فى إمرة مكة، وما نثق فى ذلك إلا بك، وفى ذلك سبب للشحناء بين الأخوة. فإن أردت ذلك، فاستنبه وباشر خدمة المحمل الشريف والأمراء. انتهى.
وفيه سوى ذلك من تعظيمه وغيره، وأتاه هذا الكتاب فى أوائل ذى القعدة من هذا السنة.
وفى أوائل النصف الثانى من ذى القعدة، بان الشريف حسن عن مكة لصوب اليمن، وقدمها فى أثناء العشر الأخير من ذى القعدة، جماعة من الأمراء المقدمين الألوف بمصر، والطبلخانات وغيرهم من الترك، ما لا يعهد مثله فى الكثرة، وراسلوا الشريف حسن فى الوصول إلى مكة، فلم يصل واعتذر بالضعف، ولا يمهم ابنه السيد بركات أياما. ولاقى أمير الراكب الأول، ثم أمير المحمل، وخلع عليه من عنده، ولم يمكنه من خلعة إمرة مكة المجهزة لوالده، وشاع فى الناس أن الأمير قرقماس، أحد الأمراء الواصلين لمكة، يقيم بها مع على بن عنان بن مغامس بن رميثة. وبلغ ذلك السيد حسن فكثر تضرره. ولما أيسوا من وصوله، بعثوا لرميثة فى يوم عرفة، فلم يصل، وحرس الأمراء الحجاج حراسة حسنة فى توجههم لعرفة ورجوعهم إلى منى، وباتوا بها فى ليلة التاسع إلى الفجر أو قربه.
وفى يوم النحر، اجتمع السيد بركات ببعض الأمراء بمكة وخدمهم عن أبيه بخمسة آلاف أفلورى ذهبا أو ستة فيما قيل، وسافروا من مكة ولم يحدثوا بها حدثا، وما تخلف منهم أحد بمكة.
وأقام منهم الأمير قرقماس بينبع بعد سفر الحجاج منها ينتظر ما يؤمر به، وجاءه الخبر بأن رسم بتجهيز العسكر بمكة، وبأمر أهل ينبع والصفراء والمدينة بالمسير مع العسكر لمكة، وكان الشريف مقبل صاحب ينبع توجه مع الأمراء بمصر فأكرمه السلطان. وسهل الأمر فى حصول غرض السلطان بمكة. وكان وصوله لمصر، بعد إطلاق ولده من السجن بمصر، والإنعام عليه بنصف إمرة ينبع شريكا لابن عمه عقيل بن وبير، أحمد الله العاقبة.
وكان مما حدث بعد ذلك، أن فى يوم الجمعة نصف ربيع الآخر سنة سبع وعشرين وثمانمائة، وصل الخبر إلى مكة، بأن الشريف علىّ بن عنان بن مغامس بن رميثة الحسنى، توجه إلى مكة فى عسكر من مصر، وبعد أيام قليلة فارق مكة من كان بها من جماعة الشريف حسن بن عجلان، وتوجهوا إليه بصوب اليمن.
وفى السابع والعشرين من هذا الشهر، وصل الخبر لمكة، بوصول ابن عنان والعسكر إلى ينبع.
وفى ثالث جمادى الأولى، وصل الخبر بمسيرهم من ينبع.
وفى ليلة الخميس سادس جمادى الأولى من السنة المذكورة، دخل إلى مكة كثير من العسكر المصرى وغيرهم، فطافوا بالبيت الحرام، وخرجوا إلى ظاهر مكة ودخلها العسكر والشريف علىّ بن عنان بمن انضم إليه من الأشراف والقواد العمرة والحميضات والمولدين المنسوبين لعجلان وابنه، وهم فى تجمّل عظيم ضحوة يوم الخميس المذكور. وانتهى السيد على والأميران قرقماس وطوخ إلى المسجد الحرام. فطاف السيد علىّ بالكعبة المعظمة سبعا، والمؤذن يدعو له على زمزم، وعليه خلعة الإمرة. وقد لبسها قبل دخوله إلى مكة، وقرئ توقيعه بولايته لإمرة مكة، بظل زمزم بعد فراغه من الطواف. وكان الجمع وافرا.
وفى التوقيع: أنه ولى إمرة مكة عوض الشريف حسن بن عجلان، وهو مؤرخ بنصف شهر ربيع الأول من السنة المذكورة، ونودى للناس بالأمان، ولمن دخل فى طاعته من الأشراف والقواد والمولدين، ومن لم يدخل فى طاعته فلا أمان له بعد شهر، وركب من باب الصفا، ودار البلد بالخلعة ودعى له فى الخطبة، فى يوم الجمعة سابع جمادى الأولى.
وفى ليلة الجمعة المذكورة على زمزم بعد المغرب، وأعيد فيها الدعاء لصاحب اليمن الملك الناصر، وفى الخطبة فى يوم الجمعة المذكور. وكان ذلك قد ترك فى أول ذى الحجة من السنة الماضية.
وفى يوم السبت ثامن جمادى الأولى، توجه السيد على بن عنان والعسكر إلى جدة، لتنجيل مركب وطراد، وصلا إليها من كاليكوط بالهند، مجوّرين على عدن، فنجلا ذلك، ورفقوا بالقادمين كثيرا، وكان العسكر الواصل من مصر، مائة وأربعة عشر فارسا، وخيلهم كذلك، وانضم إليهم من ينبغ الأمير قرقماس بمن معه من الترك وغيرهم وولاه ينبع، وعادوا من جدة إلى مكة فى سابع جمادى الآخرة.
[وفى اليوم الرابع عشر من ذى الحجة سنة سبع وعشرين وثمانمائة، بعد أن تكاملت جميع الركوب فى المحطة بمكة، توجه السيد علىّ بن عنان وصحبته الأمير قرقماس وأحمد الدوادار، والمماليك السلطانية، صوب الشريف حسن بن عجلان؛ لأنه بلغهم أنه نازل
بقرب مكة ينتظر توجه الركب، ويدخل مكة، فساروا جميعا، فأدركوا ولده السيد بركات وجماعة من الفرسان معه، فانهزموا وأنذروا السيد حسنا، فانهزم على الفور هو ومن معه، وأدرك الترك بعض القواد فقتلوه وسافر الحاج.
وسبب نزول السيد حسن لمكة: أن الخواجا أبا بكر التّوزرى مشى فى الباطن مع السيد ميلب، وأرسله إلى السيد حسن يبشّره فى الباطن بالبلاد، وأن الخلعة وصلت مع الحاج له، وأن أمير الحاج ينتظر إلى وقت الرحيل، ويبعث له التشريف فيلبسه ويدخل مكة، فظن الأمر صحيحا، وهو فى الحقيقة خداع، ليحصل فى القبضة، فسلمه الله من هذه الحيلة.
ثم فى جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، خرج الأمير قرقماس من مكة بمن معه فى طلب السيد حسن، حتى بلغوا حلى من أطراف اليمن، فلم يقابلهم، مع قوته وكثرة من معه، بل تركهم وتوجه نحو نجد، تنزها عن الشر وكراهة للفتنة. فعاد الأمير قرقماس ومن معه إلى مكة، فى عشرى جمادى الآخرة.
وفيها عزل السيد على بن عنان عن إمرة مكة، ورسم السلطان الأشرف برسباى، بطلب السيد حسن إلى الأبواب الشريفة، وتقدم له بذلك القاضى نجم الدين بن ظهيرة، من عقبة أيلة، ومعه دوادار أمير المحمل فى هذا العام الأمير تغرى بردى المحمودى، فذهبا إلى السيد حسن، وأخبراه برضى السلطان عنه، وبشراه بالبلاد، إن قابل المحمل ووطئ البساط، وطيبا خاطره، فبعث معهما ولده السيد بركات، فاجتمع بأمير الحاج، وقد دخل بطن مرّ، فى ثامن عشر القعدة، فسر بقدومه. ودخل به معه مكة، أول ذى الحجة، وحلف له بين الحجر الأسود والملتزم، أن أباه لا يناله مكروه من قبله ولا من قبل السلطان، فعاد إلى أبيه وقدم به معه مكة، يوم الأربعاء ثامن ذى الحجة، وخرج للقائه أمير الحاج والأمير قرقماس والأمير الأول وغيرهم من الأعيان، ودخل معهم مكة، فابتدأ بالطواف، وحلف له أمير الحاج ثانيا، والتزم رضى السلطان عليه، وطيّب خاطره وألبسه التشريف السلطانى، وقرره فى إمارة مكة على عادته، ثم خرج بعد الفراغ من الطواف إلى صوب المدرسة المنصورية، وهى عند باب العمرة، فسلم على خوند زوجة السلطان الأشرف. وكانت ضعيفة، وتوفيت بالمدينة الشريفة بعد الفراغ من الحج ورجوعهم، ثم حج الشريف حسن فى محفة أعطاها له أمير الحاج، وحج الناس وهم طيبون، وتوجه السيد حسن إلى القاهرة فى المحفة صحبة أمير الحاج، وصحبته عفيفة شكر، واستخلف ولده السيد بركات على مكة، وتجهز الأمير قرقماس وبعض الترك
وصحبتهم السيد على بن عنان إلى القاهرة، وتخلف الأمير أرنبغا، رأس نوبة الأشرفى، ومعه مائتا مملوك بمكة المشرفة، فهو باشى العسكر والحاكم عليهم.
وفى رابع عشر فى المحرم سنة تسع وعشرين وثمانمائة، وصل السيد حسن بن عجلان إلى القاهرة، بعد أن أمر السلطان أعيان الدولة من أمرائه ومباشريه، بتلقيه وإعزازه وإكرامه، فلما حضر بين يدى السلطان، أنعم عليه بالخلع والإنعامات، وقدم له كل واحد من أركان الدولة التقاديم والضيافات، وأهدوا له الخيول المسومة والسروج المغرقة.
وكان يوم دخوله يوما مشهودا، وفرح به السلطان وأكرمه، وأقبل عليه إقبالا كليا.
فلما كان فى سابع عشرى المحرم، ويقال فى العشرين من جمادى الأولى، سنة تسع وعشرين، قرره السلطان فى إمرة مكة، والتزم بثلاثين ألف دينار، وبعث عبده زين الدين شكرا، إلى مكة لحفظ ساحل جدة ومتحصلها، ولتجهيز العسكر المقيم بها، فوصل شكر إلى مكة، وجهز العسكر وباشتهم الأمير أرنبغا إلى الديار المصرية، ثم رسم السلطان للسيد حسن بالتوجه إلى مكة وجهزه. فبرز ثقله خارج القاهرة، فاعترض له الضعف، فعاد إلى القاهرة، ومكث بها أياما يسيرة، ثم توفى فى ليلة الخميس سابع عشرى جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وثمانمائة، وصلى عليه من الغد، ودفن بالصحراء بحوش زمام السلطان الملك الأشرف برسباى، فأرسل السلطان نجّابة بمراسيم إلى الشريف بركات وأخيه إبراهيم، فى أثناء السنة ابنى الشريف حسن بن عجلان، يتضمن حضورهما إلى الأبواب والتأكيد فى ذلك، وأنهما إن لم يحضرا كلاهما أو أحدهما، يخرج عنهما السلطان البلد إلى غيرهما. فتجهز السيد بركات وأخوه إبراهيم فى أثناء السنة، وخلفا بمكة أخاهما السيد أبا القاسم يحفظها، وبجدة زين الدين شكر، يحفظ متحصلها، فحفظا ذلك حتى عادا حفظا حسنا.
وكان دخولهما إلى القاهرة فى ثالث عشرى رمضان، وحضرا بين يدى السلطان، فأكرمهما وخلع عليهما، وفوضت إمرة مكة للشريف بركات فى سادس عشريه، على أن يقوم بما تأخر على والده، وهو مبلغ خمسة وعشرين ألف دينار، غير خمسة دفعها قبل موته، وعاهد السلطان بين الأخوين بالطاعة وعدم المخالفة بينهما، وخلع عليهما، وتجهزا إلى مكة، فسافرا فى حادى عشرى شوال، فوصلاها فى أول العشر الأوسط من ذى القعدة، وقرئ عهد الشريف بركات بالولاية، ولله الحمد] (7).
(7) ما بين المعقوفتين مكانه بياض فى الأصل قدره ثلاث ورقات وقد كتب مكانه بخط مختلف، وما أوردناه من كتاب إتحاف الورى بأخبار أم القرى لابن فهد.