الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم أورد من القراءات إلا ما كان متواترا، إلا ما كان في المسألة الأولى، فقد أوردته استئناسا أردت به التنويه إلى وجود نقل غير متواتر في كثير من الآي، ولكن ليس لهذا النقل وزن في المسائل الشرعية.
تمهيد في علاقة القراءات بالمحكم والمتشابه:
وقبل الخوض في أثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية من المفيد أن نعرض هنا لمسألة المحكم والمتشابه وعلاقته بالقراءات، حيث يتبادر إلى الأذهان أن ما اختلفت فيه القراءات من النّص القرآني إنما هو من المتشابه، وأن الأسلم في تأويله أن يفوض علمه إلى الله سبحانه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا [آل عمران: 3/ 6].
ولا بدّ قبل الخوض في هذه المسألة من تحديد معنى المحكم والمتشابه لدى الأصوليين.
فالمحكم هو الواضح الدلالة، الظاهر الذي لا يحتمل النّسخ. والمتشابه هو الخفي الذي لا يدرك معناه عقلا ولا نقلا، وهذا التعريف هو المختار عند الحنفية كما نقله الآلوسي (1).
واختار الأصوليون أن المحكم هو ما لا يحتمل إلا وجها واحدا من التأويل، أما المتشابه فهو ما احتمل أوجها، وقد رفع هذا القول إلى ابن عباس (2).
وثمة اختيارات أخرى في تعريف المحكم والمتشابه، مؤداها إلى واحد من الرأيين السالفين، ولعل أجمع هذه التعريفات ما فصله السرخسي في أصوله بقوله:
المتشابه: هو ما خفي باللفظ نفسه، وانقطع رجاء معرفة المراد منه لمن اشتبه عليه، فأصبح لا يرجى إدراك معناه أصلا (3).
(1) روح المعاني للآلوسي: 3/ 84.
(2)
مناهل العرفان للزرقاني: 2/ 280.
(3)
أصول السرخسي 1/ 69. وقد كتب الباحث إبراهيم أحمد عباس مهنا في رسالة ماجستير نوقشت في جامعة القرآن الكريم، والعلوم الإسلامية عام 1415 هـ، بعنوان: أثر الحقيقة والمجاز في فهم المحكم
والمتشابه، نقل فيها ستة تعاريف للمتشابه:
ما لم يتّضح معناه، وهو قول الجويني والشيرازي.
وقد وردت الإشارة في التنزيل العزيز إلى المحكم والمتشابه، ففيه ما يشير إلى أن الكتاب العزيز كله محكم:
الر* كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود: 11/ 1 - 2].
وفيه ما يشير إلى أن الكتاب العزيز متشابه:
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزّمر: 39/ 23].
وفيه ما يشير إلى أن الكتاب منه محكم ومنه متشابه:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ، وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 3/ 7].
وليس بين هذه الثلاثة أدنى تعارض، فمعنى إحكامه في الآية الأولى أنه منظم ومتقن، كأنه بناء مشيد أحكم الله سبحانه نظمه وقرآنه وبيانه.
ومعنى تشابهه في الآية الثانية أنه على نسق واحد في الإعجاز والفصاحة والبلاغة والبيان، يشبه بعضه بعضا من جهة أنه في سائره تنزيل من حكيم حميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأما أن بعضه محكم وبعضه متشابه، فمعناه أن من القرآن ما اتّضحت دلالته على مراد الله تعالى منه، ومنه ما خفيت دلالته على هذا المراد الكريم، فالأول هو المحكم، والثاني هو المتشابه.
وجرى العمل لدى الأصوليين على إطلاق الحكم في مقابلة المتشابه تارة، وفي مقابلة المنسوخ تارة أخرى.
فمما جاء في التنزيل العزيز من مقابلة النسخ بالإحكام:
أعمّ من المجمل، والمجمل فرع منه، وهو قول الآمدي.
هو الذي لم يترجح معناه، وهو رأي البيضاوي والسبكي.
ما لا يدرك المراد منه أصلا لا بالفعل ولا بالنقل، وهو رأي الحنفية.
هو الأقسام التي في القرآن والحروف المقطعة، وهو رأي ابن حزم.
انظر الكتاب المذكور ص 73.
فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحج: 22/ 52].
ومما جاء في التنزيل من مقابلة النسخ بالتشابه:
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 3/ 7].
وقد ثبت بالاستقراء أن آيات الأحكام ليس فيها متشابه، بل هي جميعا مما أحكم من الكتاب (1)، وما كان منها غير واضح الدلالة فإنه يكشف إبهامه، ويظهر خفاؤه، ويفصل إجماله بالأدلة الشرعية من الكتاب والسّنة ووسائل الاستدلال بهما.
وهناك طريقتان عند علماء الكلام والتوحيد لمعرفة حكم المتشابه، اشتهرت الأولى عن السّلف، واشتهرت الثانية عن الخلف.
فطريقة السلف: الامتناع عن التأويل، مع الاعتقاد بحقية المراد الإلهي، والتسليم بمراد الشارع منه، ودليلهم قول الله سبحانه: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ [آل عمران: 3/ 7]، وذلك على تحتم الوقف بعد لفظ الجلالة، فتكون معرفة تأويله مقصورة على المولى سبحانه، لا يقدر أن يحيط بها من خلقه أحد، فالحكم الأصولي عندهم هو التوقف عن التأويل، مع اعتقاد أن قول الله حق، وتفويض علم ذلك إلى الله تعالى بدون بحث في تأويله.
وطريقة الخلف: تأويل المتشابه بما يوافق اللغة، ويلائم تنزيه الله سبحانه عما لا يليق به،
(1) أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 343، وإنما يصح هذا الاستقراء وفق تقسيم الحنفية حيث ميّزوا بين ما يمكن دركه وما لا يمكن من النصوص غير الواضحة الدلالة. وقد اطّلعت على رسالة ماجستير نوقشت في جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية عام 1415 هـ بعنوان الحقيقة والمجاز في فهم المحكم والمتشابه للباحث إبراهيم أحمد عباس مهنا، أورد فيها حكما فقهيّا جزم أنه من باب المتشابه، وهو قوله سبحانه: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وعادة الأصوليين من الحنفية أن يدرجوا هذه المسألة في باب المشكل لأنه لفظ مشترك، وإنما يميّز بين المشكل والمتشابه، أن المتشابه لا سبيل إلى تجلية خفائه، أما المشترك فإن خفاءه يرتفع بالقرائن، وقد جزم الباحث بأن من المتشابه ما يمكن معرفة معناه، ص 81، ولم ينقل ذلك عن أحد سبقه، وهو اختيار من لم يأخذ بتصنيف الحنفية.
وهكذا فإن تصنيف الحنفية غير واضح الدلالة من النصوص حلّ هذا الإشكال؛ إذ جعلوا غير واضح الدلالة واحدا من أربعة: الخفي، والمشكل، والمجمل، والمتشابه. انظر كشف الأسرار للبزدوي 1/ 52.
فعلى سبيل المثال: نزول الله سبحانه إلى سماء الدنيا متشابه، لإيهامه التّحول في الذّات العليّة، ووصفه باليد والعين والاستواء متشابه لإيهامه مشابهة الحوادث، وتقرير أنه في السماء متشابه لأنه يتعارض مع كونه بكل شيء محيط، وهكذا
…
ولا يخفى أن منشأ تخالف الطريقتين؛ إنما هو الاضطراب في تحديد الوقف في الآية، فقد اختار السلف الوقف عند لفظ الجلالة كما بيّنّا، واختار الخلف عدم الوقف، واعتبار الواو عاطفة، على أساس أن الله سبحانه علم الراسخين في العلم أمر تأويله، فهم به عارفون (1).
وقد نقل هذا القول عن الصحابي الجليل ابن عباس، كما في الطبري أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم، وأنا أعلم تأويله (2).
ولكن نقل الطبري نفسه عن ابن عباس أيضا أنه قرأ: (وما يعلم تأويله إلّا الله ويقول الرّاسخون في العلم آمنّا به)(3)، فتكون قراءته بذلك بمثابة الجزم بأن علم المتشابه محصور في المولى سبحانه، وعلى العباد التّسليم، والله أعلم.
وقد اختار صاحب كتاب (أصول الفقه الإسلامي) مذهب السلف، والقول بالتسليم والتّفويض لله بمراده، وأشار إلى أنه لا يترتب على هذا الخلاف نتيجة عملية، ولا صلة لهذا البحث بالأحكام الشرعية (4).
ونشير هنا إلى أن التّفويض غنية المؤمن، وفيه سلامة اعتقاده، وتمام أدبه مع الله عز وجل، ولكن إذا عرضت للمرء الشّبهات، أو قصد بيان العقيدة الإسلامية لأهل الشكوك، فإنه لا مندوحة من التأويل الدافع لإيهام التناقض، ويكون المؤول حينئذ يدفع الفتنة لا يبتغيها، فلا يكون مشمولا بقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ [آل عمران: 3/ 7].
(1) كشف الأسرار للبزدوي 1/ 55 وما بعدها. وانظر أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 343.
(2)
تفسير الطبري 6/ 204.
(3)
تفسير الطبري 6/ 202، وروى مثل ذلك عن أبيّ بن كعب، وطاوس بن كيسان.
(4)
أصول الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 2/ 343.
وتجد اختصار هذه المعاني جميعا في عبارة الأصوليين:
(مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم، والله سبحانه أعلم)(1).
وبعد الذي قدمته لك من مذاهبهم في التّشابه والإحكام، فإنه ظهر لك أن أمر اختلاف القراءات في آيات الأحكام ليس من باب التشابه، بل إن القراءات المتواترة في الآية الواحدة سبيل إلى دفع التّشابه المتوهم فيها.
ومن الأمثلة الظاهرة على أن تواتر القراءة يدفع توهم التّشابه ما يلي (2):
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها (3)[البقرة: 2/ 148].
الظاهر فيها استلاب التّكليف من العبد، وقد دفع هذا الظاهر بالقراءة المتواترة:
(ولكلّ وجهة هو مولّاها)(4).
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ (5)[الجن: 72/ 28].
الظاهر فيها تعليل مجريات الأحداث بقصد اطلاع المولى على صنيع أنبيائه، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة:(ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم)(6).
قوله تعالى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (7)[يوسف: 12/ 109].
الظاهر فيها أن الرّسل ظنّوا أن الوحي الإلهي كذبهم، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة:
وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا (8).
(1) عبارة مشهورة في مزايا مذهب السلف ومذهب الخلف، لم أقف على قائلها.
(2)
ملاحظة: الأمثلة هنا من باب الأحكام الاعتقادية، إذ ليس في الأحكام الفقهية متشابه أصلا.
(3)
وهي قراءة سائر القرّاء إلا ابن عامر.
(4)
وهي قراءة ابن عامر.
(5)
وهي قراءة جمهور القرّاء.
(6)
وهي قراءة رويس.
(7)
وهي قراءة الكوفيين وأبي جعفر.
(8)
وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر ويعقوب.
قوله تعالى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ (1)[الأنبياء: 21/ 87].
الظاهر فيها أن ذا النّون عليه السلام ظنّ أنه أعجز الله بهربه، فدفع هذا التّوهم بالقراءة المتواترة: فظن أن لن يقدر عليه (2)، أي من قبل قومه.
وتجد لذلك أمثلة كثيرة حين تخوض في الباب الآتي المخصص لأثر القراءات المتواترة في الأحكام الشرعية.
ولكن يرد هنا سؤال: هل يتعيّن هنا أن نأخذ بالقراءة المتواترة المجلية للتّوهم، ونطرح القراءة المتواترة الأولي التي ينشأ منها التّشابه؟
والجواب: إن هذا لا مساغ له البتة، وقد بسطنا القول في صدر هذه الرسالة في وجوب اعتقاد المتواتر كله تنزيلا إلهيّا، ولكن تقبل القراءة التي جلا فيها المعنى على أنها آية محكمة، وتقبل القراءة التي خفي فيها المعنى على أنها من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى.
هذا وإن علماء التفسير لم يسلّموا لآية بعينها بأنها من المتشابه، بل جرت أقلامهم في تفسير سائر التنزيل، وحملوه على وجوه يدفع فيها التناقض، بوسائل مختلفة من الخبر واللغة والرأي، وهو ما تجده في ثنايا هذه الدراسة.
(1) وهي قراءة سائر القرّاء إلا يعقوب.
(2)
وهي قراءة يعقوب.