الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثمرة الخلاف:
أن القرآن قرر أن قضاء التّفث مقصد يسعى إليه الحجاج، وذلك قبل أن ينزل فيه تشريع، ثم أمر بذلك، فأصبح قضاء التّفث نسكا شرعيّا مأمورا به، زيادة على كونه عادة الحجيج من العرب فيما توارثوه عن إبراهيم.
فكأنما القراءة الأولى جاءت تذكيرا بما تعودته العرب، ثم جاءت الثانية بالتكليف به ليكون الأمر أوقع في النفوس، وآنس للاستجابة، وأدنى إلى القبول.
وأما تحرير معنى التّفث المأمور بقضائه فقد تعدّدت فيه الأقوال تعدّدا كثيرا، ولم يسمع فيه شعر عربي (1)، ولكن روي في تفسيره نصّ لو سلّم إسناده لقطع كل خلاف، وهو ما رواه ابن عمر وابن عباس أن التّفث مناسك الحجّ كلها (2)، وقال ابن العربي (3): لو صحّ عنهما لكان حجة لشرف الصحبة والإحاطة باللغة، قال: وهذه اللفظة غريبة لم يجر أهل العربية فيها شعرا، ولا أحاطوا بها خبرا (4)، لكني تتبعت التّفث لغة فرأيت أبا عبيدة معمر بن المثنى قال: إنه قص الأظافر، وأخذ الشارب، وكل ما يحرم على المحرم إلا النكاح. قال: ولم يجئ فيه بشعر يحتجّ به (5).
(1) نقلا عن أحكام القرآن لابن العربي 3/ 1283، ولكن ستجد بعد قليل أن ثمة شعرا فيه لفظ التّفث من كلام أمية بن أبي الصّلت، وهو أهل للاحتجاج.
(2)
انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 49.
(3)
انظر أحكام القرآن للقاضي أبي بكر بن العربي 3/ 1283.
(4)
قال ابن منظور في لسان العرب مادة (تفث): قال الزجاج: لا يعرف أهل اللغة التّفث إلا من التفسير. كذا نقل ابن العربي عن أبي عبيدة، وكذلك نقل القرطبي عن أبي عبيدة، ولدى مطالعة ما دونه أبو عبيدة في كتابه: مجاز القرآن، لم أجد عبارة القرطبي، وإنما تمام ما قاله أبو عبيدة: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وهو الأخذ من الشارب، وقصّ الأظفار، والاستحداد، وحلق العانة. اه بتمامه.
انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة، ط مؤسسة الرسالة 2/ 50.
(5)
وقد وهم القرطبي أيضا في نقله عن القاضي ابن العربي فزعم أنه قال: «وقال أبو عبيدة: لم يجئ فيه شعر يحتج به» .
والحق أن ابن العربي لم يقل ذلك، وأن أبا عبيدة لم يقل ذلك، وغاية الأمر أن ابن العربي قال: ولم يجئ فيه بشعر يحتجّ به. وفرق كبير بين عدم إيراد أبي عبيدة لبيت من الشعر، وبين تصريحه بعدم وجود ذلك. ولست أدري ما الفائدة من إطالة القرطبي في النقل عن ابن العربي، وعدم إعلام القارئ مبتدأ النقل ومنتهاه، إضافة إلى التّصرف ببعض المنقول تصرفا مخلّا كما تجد هنا.
وقال صاحب العين: التّفث هو الرّمي، والحلق، والتّقصير، والذّبح، وقصّ الأظافر، والشارب، والإبط.
وذكر الزجاج والفرّاء نحوه، ولا أراه أخذوه إلا من قول العلماء.
وقال قطرب: تفث الرّجل إذا كثر وسخه. قال أمية بن أبي الصّلت:
حفّوا رءوسهم لم يحلقوا تفثا
…
ولم يسلّو لهم قملا وصئبانا
وما أشار إليه قطرب هو الذي قاله ابن وهب بن مالك، وهو الصحيح في التّفث وهذه صورة إلقاء التّفث لغة، وأما حقيقته الشرعية: فإذا نحر الحاج أو المعتمر هديه، وحلق رأسه، وأزال وسخه، وتنقى، ولبس فقد أزال تفثه، ووفى نذره، والنّذر ما لزم الإنسان، والتزمه (1).
ومن هذه النقول تعلم أن كلمة (التّفث) لفظة عربية حوشية، قليلة التّردد في كلامهم، ولكنها ليست ابتداعا اخترعه التّنزيل.
وخلاصة اختيارهم في أمر التّفث ما رواه ابن وهب عن مالك قال: التّفث: حلق الشعر، ولبس الثياب، وما أتبع ذلك مما يحل به المحرم (2).
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 50.
(2)
أحكام القرآن لابن العربي المالكي 3/ 1282.