الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا مبرّر للقول بأن هذا النّص الإلهي منسوخ؛ إذ سائر دلالاته باقية، فقد قررت الآية الإثم، وقررت المنفعة، وبيّنت أن الإثم أكبر من المنفعة، وأن المرابح المالية تحصل من تجارة الخمر، ولكنها أرزاق سحت بلا شك.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النّساء: 4/ 25].
قرأ الكوفيين إلا حفصا: (فإذا أحصنّ) بفتح الألف والصاد، وقرأ الباقون: فَإِذا أُحْصِنَّ (1) بضم الهمزة، وكسر الصاد.
قال القرطبي: أحصنّ بالفتح أسلمن، وبالضم: تزوجن (2).
ولكن لا يعرف في اللغة هذا التفريق لوجه ضم أو فتح، فأهل اللغة على أن الإحصان في الأصل المنع (3)، وقد ورد في التنزيل بعدة معان، فجاء بمعنى المنع من الأذى: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [الأنبياء: 21/ 80]، وجاء بمعنى العفاف كما في قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [الأنبياء: 21/ 91]، وجاء بمعنى الزواج قال تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النّساء: 4/ 23]، وجاء بمعنى الحرية كما في قوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النّساء: 4/ 23].
تدور معاني الإحصان كلها حول مسألة المنع والحجز، فالإسلام حجز عن الكفر، والزواج حجز عن الفتنة، والعفاف حجز عن الفواحش، والحرية حجز عن الاستذلال.
وإنما مدار هذه المعاني على سياق ورود الكلمة في العبارة، واحتفافها بالقرائن، لا على أساس بناء الفعل للمعلوم أو المجهول.
(1) تقريب النّشر لابن الجزري 105. وعبارة طيبة النّشر:
…
...
…
... أحصن ضم اكسر على كهف سما
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143.
(3)
استقراء من معاجم اللغة الآتية: مجاز القرآن لأبي عبيدة ج 1 و 2 مواضع الإحصان، القاموس المحيط للفيروزآبادي مادة حصن، لسان العرب لابن منظور مادة حصن.
قال ابن منظور: «وأصل الإحصان المنع، والمرأة تكون محصنة بالإسلام، والعفاف، والحرية، والتّزويج» (1).
وحيث لم يرد في اللغة العربية قيد يحدّد دلالة اللفظة على أحد مترادفاتها دون سواه من خلال تركيب الكلمة، فإن الواجب يقضي اللجوء إلى القرائن وعبارات علماء التفسير في ذلك، وظاهر قول الله عز وجل يقتضي ألّا حدّ على أمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التّزويج؛ إذ هو الغالب في استعمال الإحصان، والمقام ثمة مقام الحديث عن الفتيات المؤمنات في صدر الآية، فدلّ على أن أُحْصِنَّ يراد منها معنى آخر غير معنى الإسلام، إذ توضح معنى الإسلام بقوله سبحانه: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فتكرر ذلك عبث ولبس، يتنزّه عنه الحكيم سبحانه.
وهو ظاهر ما روي عن ابن عباس قال: «لا تجلد إذا زنت حتى تتزوج» (2).
ولكن ثمة مذهب آخر روي عن ابن مسعود إذ كان يقول: «إذا أسلمت وزنت جلدت وإن لم تتزوج» (3)، ونقله القرطبي عن ابن مسعود والشعبي والزهري وغيرهم (4).
وينبغي الإشارة هنا إلى أنهم لم يرفعوا الحدّ عن الأمة بالتّزوج دون الإسلام وهم يريدون تهوين أمر الزّنا، بل هو إطلاق ليد الإمام ليعاقبهما بما يردعهما، أما الحدّ فهو من خصائص المحصنات.
وقد ورد حديث في الباب لو صح إسناده لقطع كل جدل، وهو ما روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم في قوله:«من أشرك بالله فليس بمحصن» (5) ويمكن إجمال مذاهب الفقهاء في مذهبين اثنين:
(1) لسان العرب لابن منظور 13/ 120 مادة حصن.
(2)
حجة القراءات لأبي زرعة 198.
(3)
حجة القراءات لأبي زرعة 198.
(4)
الجامع للقرطبي 5/ 143.
(5)
روي مرفوعا من طريق إسحاق بن راهويه، وموقوفا عليه، وقد رواه الدارقطني في سننه، ثم قال: لم يرفعه غير إسحاق، ويقال: إنه رجع عن ذلك، والصواب أنه موقوف. نصب الراية للزيلعي 3/ 327.
الأول: مذهب ابن عباس، وهو أن الإحصان في هذه الآية هو التّزوج (1).
الثاني: مذهب ابن مسعود، وهو أن الإحصان في هذه الآية هو الإسلام (2).
وقد أخذت الحنفية والمالكية بقول ابن مسعود، فنصّوا على أن الإحصان لا يتم إلا بالإسلام، لأن الحدّ تطهير، والكافر ليس من أهل التّطهير، ولا تحصّن الذّمية مسلما لقوله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك حين أراد أن يتزوج باليهودية:«دعها فإنها لا تحصنك» (3).
أما رجمه صلى الله عليه وسلم لليهوديين (4) فقد أجابوا عنه أن ذلك بحكم التوراة قبل نزول الحكم في القرآن الكريم (5).
وكذلك فإن الحدود كفارات لأهلها، وليس الكافر أهلا لذلك.
ونصّ عبارة الحنفية: شرائط إحصان الرّجم: الحرية، والتكليف، والإسلام، والوطء بنكاح صحيح بصفة الإحصان (6).
وأخذت الشافعية بقول عبد الله بن عباس، فقالوا: ليس الإسلام من شروط إحصان الرجم، في حدّ الذّمي إذا ترافع إلينا، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«الثّيّب بالثّيّب رميا بالحجارة» (7)، واستدلوا بأن الأديان كلها تحرم الزّنا، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجلين زانيين فرجمهما (8).
(1) حجة القراءات لأبي زرعة 198.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
قال الزيلعي: «روى هذا الحديث ابن أبي شيبة والطبراني في المعجم والدارقطني في السّنن من حديث أبي بكر بن أبي مريم، ونقل عن الدارقطني قوله: أبو بكر بن أبي مريم ضعيف» . نصب الراية للزيلعي 3/ 328.
(4)
حديث رجم اليهوديين بالغ الاستفاضة أخرجه الستة فهو متفق عليه. أخرجه البخاري في كتاب الحدود، وعنون له في باب 37 بقوله: باب أحكام أهل الذّمة، وإحصانهم إذا زنوا، ورفعوا إلى الإمام. انظر فتح الباري 12/ 166.
(5)
ردّ المحتار على الدّر المختار 3/ 163.
(6)
رد المحتار على الدّر المختار 4/ 18، وأورد نظما لطيفا لشرائط الإحصان:
شروط الإحصان أتت ستة
…
فخذها عن النّص مستفهما
بلوغ وعقل وحرية
…
ورابعها كونه مسلما
وعقد صحيح ووطء مباح
…
متى اختل شرط فلن يرجما
(7)
أخرجه أحمد عن عبادة بن الصامت 5/ 317.
(8)
انظر مغني المحتاج 4/ 147.
ويتلخص هنا بأن للأمة عادة أربعة أحوال:
1 -
أمة كافرة غير متزوجة.
2 -
أمة كافرة متزوجة.
3 -
أمة مسلمة غير متزوجة.
4 -
أمة مسلمة متزوجة.
وقد اتّفقوا على حدّ الأمة المسلمة المتزوجة، وقد علمت مذاهبهم في رجم الكافرات، فلم تبق إلا مسألة واحدة وهي الأمة المسلمة لم تتزوج.
ظاهر دلالة الآية أنه لا حدّ عليهن إذا لم يتزوجن، وذلك عند من ذهب أن أُحْصِنَّ معناها تزوجن، وعلى هذا القول سعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، وأبو الدرداء، وابن عباس (1).
ولكن هؤلاء محجوبون بصريح ما ورد في الخبر الصحيح؛ عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن قال: «إذا زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» (2) وفي رواية النّسائي عن ابن عينية: سئل عن الأمة تزني قبل أن تحصن (3).
وحيث ثبت هذا النّص في الصحيح وجب المصير إليه، وسبيل الجمع بين الآية والحديث متيسر، فالآية نص في حدّ الأمة المحصنة، والحديث نص في الأمة الغير محصنة، وفي كل فإن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، وهو كما قال الزهري: المتزوجة محدودة بالقرآن، والمسلمة الغير متزوجة محدودة بالحديث (4).
قال القرطبي: والأمر عندنا أن الأمة إذا زنت وقد أحصنت مجلودة بكتاب الله، وإذا زنت ولم تحصن مجلودة بحديث النّبي صلى الله عليه وسلم، ولا رجم عليها لأن الرجم لا يتنصف (5).
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143.
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الحدود، باب 37، رقم الحديث (6841). وانظر فتح الباري 12/ 166.
(3)
انظر فتح الباري 12/ 166.
(4)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 143.
(5)
المصدر نفسه.