الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس في الجهاد
المسألة الأولى:
قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ [البقرة: 2/ 191].
قرأ الكوفيون إلا عاصما (1): (ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقتلوكم فيه، فإن قتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين)، فحذفوا سائر ألفات المفاعلة في الآية. وقرأ الجمهور بإثبات ألفات المفاعلة الثلاث كما قدمنا (2).
وتوجيه قراءة الجمهور أن الخطاب في بيان المقاتلة وليس في بيان القتل، ويدلّ لهم قوله سبحانه: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [البقرة: 2/ 190]، وكذلك قوله سبحانه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة: 2/ 193].
وكذلك فإن قالوا: إن القتال إنما يؤمر به الأحياء؛ فأما المقتولون فإنهم لا يقتلون فيؤمروا به، فلو قرئ بدون ألف المفاعلة كان ظاهره أمرا للمقتول بقتل قاتليه، وهو محال إذا حمل على ظاهره، فلا يستقيم معناه إلا بالتقدير، وإذا جاز التقدير وعدمه؛ فعدم التقدير أولى (3).
وأما قراءة الكسائي، وحمزة، وخلف فإنها متجهة إلى أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله
(1) أي حمزة، والكسائي، وخلف.
(2)
تقريب النشر لابن الجزري 96، وانظر سراج القاري لابن القاصح 161. وعبارة طيبة النشر:
لا تقتلوهم ومعا بعد (شفا)
…
فاقصر
…
...
…
وعبارة الشاطبية:
ولا تقتلوهم بعد يقتلوكم
…
فإن قتلوكم قصرها شاع وانجلا
(3)
حجة القراءات لأبي زرعة 127.
أبلغ من وصفهم بالقتال، وفي ذلك زيادة مدح وثناء، فكأن المعنى قوله:(ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوا بعضكم، فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم)(1).
لكن قال الطبري في التفسير: «وأولى هاتين القراءتين بالصواب قراءة من قرأ:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حال إذا قاتلهم المشركون بالاستسلام لهم» (2).
وقد أوردنا هذا القول للطبري لنلفت الانتباه إلى ما قد يتبادر إلى الذهن من أن شيخ المفسرين كان يرى صحة قراءة وبطلان قراءة من المتواتر، وهو ما توهمه عبارته هذه، وأشباهها كثير في جامع البيان، وعند القرطبي أيضا، وهي محمولة على عدم ثبوت التواتر عنده، أما إذا ثبت لديه التواتر فلا يتصور من شيخ المفسرين أن يجزم ببطلان قراءة متواتره، وعلى ذلك يجب حمل سائر ما روي من كلام أئمة التفسير في ردّ قراءة متواترة.
ويمكن التوفيق بين القراءتين على قول من قال: يقتلوكم أي يبدءوكم بالقتل، وأجود الأقوال أن قراءة الجمهور جاءت بعد عزيمة سابقة، وهي المنع من مقاتلة المشركين في الحرم حتى يصيبوا واحدا منا، ثم جاءت الرخصة بمشروعية قتال المشركين في الحرم بمجرد مقاتلتهم إيّانا ولو لم يصيبوا منا أحدا.
وقد أورد القاضي ابن العربي توفيقا لطيفا بين القراءتين على هيئة حكاية وقعت له في بيت المقدس أنقلها لك عنه بنصها: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد حضرت في بيت المقدس طهّره الله بمدرسة أبي عتبة الحنفي والقاضي الريحاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة، فبينما نحن كذلك إذ دخل علينا رجل بهي المنظر على ظهره أطمار،
فسلم سلام العلماء، وتصدّر في صدر المجلس بمدارع الرّعاء فقال له الريحاني: من السيد؟ فقال له: رجل سلبه الشّطّار أمس، وكان مقصدي هذا الحرم المقدّس، وأنا رجل من أهل صاغان من طلبة العلم. فقال القاضي مبادرا: سلوه، على العادة في إكرام العلماء بمبادرة سؤالهم، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم، هل يقتل أو لا؟ فأفتى بأنه لا يقتل، فسئل عن الدليل، فقال: قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة: 2/ 191]،
(1) روي هذا المعنى في التفسير عن قتادة. انظر تفسير الطبري 2/ 193.
(2)
تفسير الطبري، ط دار المعارف 2/ 193.