الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثمرة الخلاف:
وتظهر ثمرة الخلاف في أن الله عز وجل أسقط عن المسلم الذي لم يهاجر حقّ النّصرة وحقّ الميراث، فمن جزم أن الكسر يدلّ على الميراث وجبه أن يقبل الفتح أيضا دليلا على النّصرة لثبوت التواتر، وهكذا فلا سبيل إلى القول بأن الآية في نفي التوارث فقط بدليل قراءة الكسر، بل لا بدّ من نفي النّصرة أيضا بدليل قراءة الفتح المتواترة.
وأما من جعلهما لغتين في النصرة كأبي حاتم الأصم، وابن بري، ومن قبلهم سيبويه الذي قال: الولاية بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم؛ مثل الإمارة والنّقابة (1)، فإن مذهبهم هذا يجعل الخلاف هنا بلا ثمرة لأنهما لغتان في معنى واحد.
وأظهر تطبيقات ثمرة الخلاف هنا إلزام الكسائي بقبول دلالة الآية على نفي التوارث لأنه كان يجزم بالنّصب على معنى النّصرة، فحيث ثبت التواتر في قراءة الكسر وجب إلزامه بها أيضا.
قال الفرّاء: ما لكم من ولايتهم من شيء، أي ما لكم من مواريثهم من شيء، فكسر الواو هنا أعجب إليّ من فتحها؛ لأنها إنما تفتح أكثر ذلك إذا أريد بها النّصرة، وقال: كان الكسائي يفتحها، ويذهب بها إلى النّصرة، وقال الأزهري: ولا أظنه علم التفسير أي الروايات (2).
المسألة الحادية عشرة:
قوله تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ [محمد: 47/ 35].
قرأ حمزة، وشعبة، وخلف:(فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم) بكسر السين. وقرأ الباقون:
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ بفتح السين (3).
(1) لسان العرب لابن منظور 15/ 407، مادة ولي.
(2)
المصدر نفسه.
(3)
تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 174. وعبارة طيبة النّشر:
…
...
…
...
…
وفتح السلم حرم رشفا
عكس القتال
…
...
…
...
…
...
فقد أخبر ابن الجزري أن القراء قرءوا في البقرة بالفتح، وعكسوا في سورة القتال، أي سورة محمد صلى الله عليه وسلم.
وأهل التأويل متفقون في هذا الموطن على أنهما لغتان لمعنى واحد، وهو الاستخذاء، والاستسلام، والانقياد (1)، وإن اختلفوا في غيره من المواطن (2).
فقد مرّ بك في تأويلهم لقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً (3) أن تعدد القراءات هنا يلزم منه تعدد المعاني، فهي في البقرة دعوة إلى الدخول في الإسلام، وإلى الدخول في المصالحة (4)، فكل قراءة أدت معنى منهما.
وهكذا فإن اتفاقهم في هذا الموطن على توحيد معنى السلم بالكسر والفتح؛ يجعل تعدّد القراءات هنا بغير ثمرة ظاهرة من جهة تحرير الحكم الشرعي.
ولكنني أوردت هذه الآية لأنبّه إلى أمرين اثنين:
الأول: نقل أبو زرعة في حجة القراءات أن (السّلم) بالكسر الإسلام (5)، وأشار إلى تواتر هذه القراءة! وهذا النقل من أبي زرعة عجيب؛ إذ يكون مؤدّى الآية حينئذ النّهي عن الدعوة إلى الإسلام، وهو قول غريب لا يمكن أن يصدر عن أحد من أهل العلم. وقد تلمست معرفة سبب ذلك النقل ومصدره، فلم أجد في ذلك إشارة لسابق أو تبريرا للاحق، وتلمست له تأويلا يجعل الواو هنا حالية لا عاطفة على معنى:(فلا تهنوا وأنتم تدعون إلى السلم) ولكن ذلك لا يستقيم مع الجزم في (وتدعوا) الذي هو قراءة سائر العلماء والقراء! وبعد بحث استغرق وقتا طويلا فإني أقول في هذا المقام: تبارك الذي لم يكتب العصمة إلا لكتابه، وجلّ من لا يسهو ولا ينسى، وهذا أبو زرعة على جلالة علمه وعظيم تحصيله وقع في خطأ يتنزّه عنه صغار الطلبة (6)، فيجب التنبيه على ذلك، والكامل الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
(1) لسان العرب لابن منظور 12/ 293، مادة سلم. وانظر الكشاف للزمخشري 3/ 539.
(2)
انظر 321 من هذا البحث؛ حيث حررنا اختلافهم في تحديد معنى السّلم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً.
(3)
المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
(4)
وهو اختيار قتادة من التابعين كما قدمناه.
(5)
حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 670.
(6)
أغلب الظّن أن ذلك خطأ من الناسخ؛ إذ كتب الإسلام بدلا من الاستسلام. ولكن ذهل عنه المحقق أيضا.
الثاني: هل يلزم من هذه الآية النهي عن السلم مطلقا بحيث تحرم المهادنة بين المسلمين والمشركين في كل حال، فتكون هذه الآية ناسخة لآية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم كافّة؟
أم هل تكون آية البقرة الداعية إلى الدخول في السلم ناسخة لهذه الآية في دلالتها على تحريم الدعوة إلى السلم؟
الجواب على ذلك وبالله التوفيق أن النسخ هنا غير متوجه؛ إذ لم تكتمل آلته وشروطه، فمن شرط النسخ معرفة المتقدم، وعدم إمكان الجمع بين النّصّين.
وهاهنا فإن معرفة المتقدم والمتأخر من النّصّين غير متحققة بيقين، أما الجمع بين النّصّين فهو ممكن غير متعذّر، وقد تكفّل أستاذنا الزحيلي في التفسير المنير ببيانه حيث قال: لا تجوز الدعوة إلى السّلم والمصالحة أو المهادنة تذلّلا، وإظهارا للضعف ما دام المسلمون أقوياء، وإن حدثت الغلبة من الأعداء في الظاهر في بعض الأحوال، فإن الله ناصر المؤمنين، ولن ينقصهم شيئا من أعمالهم.
فإذا عجز المسلمون لضعفهم عن مقاومة الأعداء جازت مهادنة الكفار عند الضرورة.
وكذلك إذا رأى الإمام مصلحة في المهادنة؛ فله أن يفعل ذلك، كما فعل النّبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية مع المشركين مدة عشر سنين.
أما إن طلب المشركون الصّلح بحسن نيّة من غير خداع فلا بأس بإجابتهم، لقوله تعالى:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وعلى هذا يكون كل من الآيتين- فَلا تَهِنُوا، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ- محكمة وغير منسوخ إحداهما بالأخرى كما قال بعضهم، فهما نزلتا في وقتين مختلفي الحال، فالأولى في حال قوة المسلمين، والثانية حال طلب الأعداء للصلح (1).
وشبيه بهذا الرأي ما حرره الشوكاني في فتح القدير بقوله: «فلا يخفاك أنه لا مقتضى للقول بالنّسخ، فإن الله سبحانه نهى المسلمين في هذه الآية عن أن يدعوا إلى السّلم ابتداء، ولم ينه عن قبول السّلم إذا جنح إليه المشركون، فالآيتان محكمتان، ولم يتواردا على محل واحد حتى يحتاج إلى دعوى النّسخ أو التّخصيص» (2).
(1) التفسير المنير للدكتور الزحيلي 26/ 135.
(2)
فتح القدير للشوكاني 5/ 41.