الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثانية:
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة: 2/ 222].
قرأ حمزة، والكسائي، وشعبة عن عاصم، وخلف العاشر:(حتّى يطّهّرن) بتشديد الطاء، والهاء.
وقرأ الباقون: حَتَّى يَطْهُرْنَ بتخفيف الطاء، وإسكان الراء (1).
وعلى قراءة التشديد فإن المعنى متجه إلى أن اجتناب النساء في المحيض، متصل إلى غاية اغتسالهن بالماء بعد انقطاع الدم، وذلك أن الله أمر عباده بما يقدرون عليه، (وهي على وزن تفعلن فيجب أن يكون لها فعل، وفعلها إنما هو الاغتسال، لأن انقطاع الدم ليس من فعلها)(2).
وقد أجرى هؤلاء تركيب الكلمة على أساس أن أصلها: (حتى يتطهرن) ثم أدغمت التاء في الطاء، وقد رويت هذه القراءة عن عبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب رضي الله عنهما (3).
ويدلّ لهم أن في قراءة التشديد زيادة مبنى، وهي أمارة زيادة المعنى، فلا بدّ من انقطاع، وأما قراءة التّخفيف فإنهم وجّهوا المعنى فيها إلى أن اجتناب النساء في المحيض متصل إلى غاية انقطاع الدم عنهن، وليس إلى الاغتسال. قال الزجاج:«يقال طهرت المرأة وطهرت إذا انقطع الدم عنها» (4).
وقد ذهب الفقهاء مذاهب مختلفة في تحريرهم لدلالة الآية وفق وجوه قراءاتها المتعددة، فذهبت الشافعية والمالكية إلى أن قراءة التخفيف لا تلغي دوام المنع إلى حين الاغتسال، وعبارتهم
(1) تقريب النّشر في القراءات العشر 96. وعبارة ابن الجزري في طيّبة النّشر:
…
...
…
... يطهرن يطّهّرن في رخا صفا
(2)
حجة القراءات لأبي زرعة 134.
(3)
معجم القراءات القرآنية 1/ 171.
(4)
حجة القراءات لأبي زرعة 134.
في ذلك: «إن الله تعالى شرط لحلّ الوطء شرطين: انقطاع الدم والغسل، فالأول: من قوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ أي ينقطع دمهن، والثاني: من قوله عز وجل: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن بالماء فَأْتُوهُنَّ فتصير إباحة وطئها موقوفة على الغسل. وهذا هو رأي الحنابلة أيضا في حرمة الوطء- الجماع (1) -.
أما الحنفية فقد اختاروا أن الحائض تحلّ لزوجها إذا انقطع دمها بعد استيفاء عادتها، أما لو انقطع دون استيفاء عادتها فإنها لا تحلّ، فمن كانت عادتها عشرة أيام لم تحلّ حتى تستوفي العشرة، ولو انقطع دمها لأربع أو لخمس (2)، ولا مزيد عندهم للحيض فوق عشرة أيام لحديث:«أقلّ الحيض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة» (3).
وخلاصة مذهب الحنفية أن المرأة لا تحلّ لزوجها إذا طهرت قبل استيفاء عادتها حتى تغتسل، فإن استوفت عادتها، وأدركها وقت صلاة فإنها تحلّ لزوجها، لثبوت الصلاة دينا في ذمّتها، والصلاة لا تلزم إلا الخالية من الحيض، فكان استواؤهما في الحكم قرينة اشتراكهما في تحرير السّبب.
ومع ذلك فقد نصّ الحنفية على استحباب الغسل في كل حال قبل الوطء خروجا من الخلاف.
وقد انتصر الرازي الجصاص لاختيار الحنفية، وعقد مقارنة بديعة بين وجوه القراءة المتواترة في هذا الباب، وجزم بأن إعمال القراءتين يؤدي إلى ما اختاره الحنفية.
قال الجصاص: «فإن قيل هلّا كانت القراءتان كالآيتين تستعملان معا في حالة واحدة؟
قيل له: لو جعلناهما كالآيتين كان ما ذكرناه أولى، من قبل أنه لو وردت آيتان تقتضي إحداهما انقطاع غاية الدم لإباحة الوطء، والأخرى تقتضي الغسل غاية لها، لكان الواجب استعمالهما، وعلى حالين، على أن تكون كل واحدة منهما مقرّة على حقيقتها فيما اقتضته من حكم الغاية،
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 473.
(2)
ردّ المختار على الدّر المختار 1/ 162.
(3)
رواه الطبراني عن أبي أمامة. انظر كنز العمال رقم (26919) - 9/ 407.
والمشهور في هذا الحديث أنه موقوف على سفيان الثوري، انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 338.
ولا يمكن ذلك إلا باستعمالها في حالين على الوجه الذي بيّنّا، ولو استعملناها كما يقول المخالف لكان فيها إسقاط إحدى الغايتين لأنه يقول: إنها وإن طهرت وانقطع دمها لم يحل له أن يطأها حتى تغتسل» (1).
وهكذا فإن استدلال الحنفية ماض في إعمال القراءتين جميعا، على أساس أن الشطر الأول من الآية: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ أفاد معنى تامّا لا حاجة للمزيد عليه، وهو الجزم بانتفاء التحريم لدى انتهاء الحيض، على ما بيّناه.
ولكن كيف وجه الحنفية الإطناب الوارد في الشطر الثاني من الآية: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ؟
قال الرازي الجصاص: «هو إطلاق من حظر وإباحة، وليس هو على الوجوب، كقوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 62/ 10]، وقوله: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 5/ 2]، وهو إباحة وردت بعد حظر.
وقوله: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس:
يعني في الفرج، وهو الذي أمر بتجنّبه من قبل الطّهر دون الحيض. وقال ابن الحنفية: من قبل النكاح دون الفجور» (2).
فجعل للشطر الآخر فائدة ثانية، ثم عطف بقوله:«قال أبو بكر: هذا كله مراد الله تعالى لأنه مما أمر الله به، فانتظمت الآية جميع ذلك» (3).
وهكذا فإن الحنفية- كما اختار الجصاص- جعلوا سبيل إعمال القراءتين في أن تكون قراءة التخفيف تامة المعنى عند قوله سبحانه: يَطْهُرْنَ فقد أفادت حَتَّى معنى وافيا في جعل ما قبلها مغايرا لحكم ما بعدها، وكان ما بعدها منصرفا إلى الدلالة على المنع من إتيانهن في غير ما أذن به الله.
(1) تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 351.
(2)
تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 350.
(3)
تفسير أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 351.
وأما القراءة بالتّشديد فإنها لا تتأتى في اختياره إلا بإسقاط ما أدّت إليه قراءة التخفيف، إذ لازمها: أن من انقطع دمها- وإن طهرت- لم يحل وطؤها للزوج حتى تغتسل، وهو عكس ما أدّت إليه قراءة التّخفيف.
ولم ينصّ الجصاص (1) على ردّ قراءة التّشديد ولكنه جعلها بمنزلة المؤكدة على تحقق الطّهر وانقطاع دم الحيض يقينا، وهو ما يتمّ عندهم بانقضاء عشرة أيام على دخول الحيضة، أو مرور عدة أيام مع انقطاع الدم لوقت يتّسع للاغتسال، وستر العورة، وأداء الصلاة، ودخول وقت صلاة آخر، إذ إن ذلك يرتب أن الصلاة دين في ذمّتها، فكيف تكون الصلاة دينا في ذمّتها وهي لم تطهر بعد؟
ولكن هذا كما ترى محض استدلال عقلي لا تقوم به حجة مقنعة في إسقاط الأخذ بالقراءة المتواترة، وفي هذا الاستدلال إلزام الخصم بما لا يلزمه، إذ لم يقل مخالفوهم بقولهم هذا في ثبوت الصلاة دينا على من وصفنا حالتها.
وقد ردّ الشافعية والمالكية على مذهب الحنفية في هذا الباب بأجوبة كثيرة متجهين إلى أن المولى سبحانه اشترط لإباحة الوطء شرطين اثنين وهما: الطّهر والتّطهّر، فالطّهر مفهوم من قوله سبحانه: حَتَّى يَطْهُرْنَ، والتّطهّر مفهوم من قوله سبحانه: فَإِذا تَطَهَّرْنَ.
وللقاضي ابن العربي مناقشة مستفيضة في هذه المسألة أطال فيها القول، وردّ فيها اختيار أبي حنيفة، وانتصر لرأي مالك، وعزاه أيضا إلى الزهري، وربيعة بن فروخ، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، وأحمد بن حنبل، وأبي ثور.
وقد اخترت أن أنقل لك هذه المناقشة بطولها لما فيها من بديع الاحتجاج؛ قال القاضي أبو بكر العربي في تأويل قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ: قد اختلفت الناس اختلافا متباينا نطيل النفس فيه قليلا وفيه ثلاثة أقوال:
الأول: إن معنى قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ حتى ينقطع دمهن. قاله أبو حنيفة،
(1) انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 350، وتجدر الإشارة أن الرازي الجصاص في الأصل اختار الأخذ بقراءة التخفيف وفق مذهبه، ولكنه أورد بعد ذلك قراءة التشديد ليدفع بتأويله لها استدلال خصومه.
ولكنه ناقض في موضعين؛ قال: إذا انقطع دمها لأكثر الحيض حينئذ تحلّ. وإن انقطع دمها لأقل الحيض لم تحلّ حتى يمضي وقت صلاة كامل.
الثاني: لا يطؤها حتى تغتسل بالماء غسل الجنابة. قاله الزهري، وربيعة، والليث، ومالك، وإسحاق، وأحمد، وأبو ثور.
الثالث: تتوضأ للصلاة. قاله طاوس، ومجاهد.
فأما أبو حنيفة فينتقض قوله بما ناقض فيه، فإنه تعلق بأن الدم إذا انقطع لأقل الحيض لم يؤمن عودته. قلنا: ولا تؤمن عودته إذا مضى وقت صلاة فبطل ما قلته.
والتّعلق بالآية يدفع من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ- مخففا- وقرئ: (حتّى يطّهّرن) مشددا. والتخفيف وإن كان ظاهرا في استعمال الماء فإن التشديد فيه أظهر، كقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 5/ 6]، فجعل ذلك شرطا في الإباحة وغاية للتحريم.
فإن قيل: المراد بقوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ حتى ينقطع عنهن الدّم: وقد يستعمل التشديد موضع التّخفيف، فيقال: تطهّر بمعنى طهر، كما يقال: قطع وقطّع ويكون هذا أولى لأنه لا يفتقر إلى إضمار، ومذهبكم يفتقر إلى إضمار قولك: بالماء.- أي فإذا تطهرن بالماء-.
قلنا: لا يقال: طهّرت المرأة بمعنى انقطع دمها، ولا يقال: قطّع- مشددا- بمعنى قطع مخففا، وإنما التشديد بمعنى تكثير التخفيف.
جواب آخر، وهو أنه قد ذكر بعده ما يدلّ على المراد فقال: فَإِذا تَطَهَّرْنَ والمراد بالماء، والظاهر أن ما بعد الغاية في الشرط هو المذكور في الغاية قبلها، فيكون قوله تعالى:
حَتَّى يَطْهُرْنَ مخففا. وهو معنى قوله: يَطْهُرْنَ مشددا- بعينه جمع بين اللغتين في الآية كما قال تعالى: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التّوبة: 9/ 101].
وقال الكميت:
وما كانت الأبصار فيها بغيب
…
ولا غيّبا فيها إذ النّاس غيّب
وقيل: إنّ قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ ابتداء كلام لا إعادة لما تقدّم. ولو كان إعادة لاقتصر على الأول فقال: حتى يطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله، خاصّة فلما زاد عليه دلّ على أنّه استئناف حكم آخر.
فالجواب أن هذا خلاف الظاهر. فإنّ المعاد الشّرط هو المذكور في الغاية بدليل ذكره بالفاء، ولو كان غيره لذكره بالواو، وأما الزيادة عليه فلا تخرجه عن أن يكون بعينه، ألا ترى أنه لو قال: لا تعط هذا الثوب زيدا حتى يدخل الدار فإذا دخل الدار فأعطه الثوب ومائة درهم لكان هو بعينه، ولو أراد غيره لقال: لا تعطه حتى يدخل الدار، فإذا دخل، وجلس، فافعل كذا وكذا. هذا طريق النّظم في اللسان.
جواب آخر وذلك أن قولهم: إنّا لا نفتقر في تأويلنا إلى إضمار، وأنتم تفتقرون إلى إضمار.
قلنا: لا يقع بمثل هذا ترجيح، فإن هذا الإضمار من ضرورة الكلام هذا كالمنطوق به» (1).
وهكذا فقد أورد ابن العربي جوابين اثنين لما استدلّت به الحنفية، ثم عطف بجواب ثالث من جهة أن تعدّد القراءة، وتكرر الاشتراط بلاغة مرادة في القول لا يصحّ اجتزاء المعاني من أحدهما دون استكمال ما أدّت إليه العبارة بمجموعها، فقال: «جواب ثالث: وهو التعلّق الثاني من الآية، إنا نقول: نسلم أن قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ معناه: حتى ينقطع دمهنّ، لكنه لما قال بعد ذلك: فَإِذا تَطَهَّرْنَ كان معناه: فإذا اغتسلت بالماء، فوقف الحكم- وهو جواز الوطء- على الشرطين، وصار ذلك كقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [النّساء: 4/ 6]، فعلّق الحكم وهو جواز دفع المال على شرطين:
الأول: بلوغ النكاح، والثاني: إيناس الرّشد، فوقف عليهما ولم يصح ثبوته بأحدهما.
وكذلك في قوله تعالى في المطلّقة ثلاثا: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 2/ 230]، ثم جاءت السّنة باشتراط الوطء، فوقف التّحليل على الأمرين جميعا، وهما انعقاد النكاح، ووقوع الوطء» (2).
(1) تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 1/ 166.
(2)
تفسير أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 1/ 167.