الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعن سعيد بن جبير قال: كنا في حجرة ابن عباس، ومعنا عطاء بن أبي رباح، ونفر من الموالي، وعبيد بن عمير، ونفر من العرب، فتذاكرنا اللماس، فقلت أنا، وعطاء، والموالي:
اللماس: اللمس باليد. وقال عبيد بن عمير، والعرب: هو الجماع، فدخلت على ابن عباس فأخبرته، فقال: غلبت الموالي، وأصابت العرب، ثم قال: إن اللمس، والمسّ، والمباشرة إلى الجماع ما هو- أي هي الجماع- ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (1).
وليس في اللغة تفريق بين اللمس والملامسة إلا من جهة ألف المفاعلة فيها، فاللمس ما ظهر من اللامس، والملامسة ما اشترك فيها اثنان، وقال ابن منظور في اللسان: «قال ابن الأعرابي:
لمسته لمسا، ولامسته ملامسة، ويفرق بينهما فيقال: اللمس قد يكون معرفة الشيء بالشيء، والملامسة أكثر ما جاءت من اثنين» (2).
وقال: اللمس: كناية عن الجماع، لمسها يلمسها ولامسها، وكذلك الملامسة، وفي التنزيل العزيز: أو لمستم النساء، وقرئ: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ (3). وهكذا فإن النّحاة لا يميّزون بين اللّمس والملامسة من جهة أصل الدلالة، وبذلك يكون الجدل في دلالة هذه الآية ليس ناشئا عن خلاف القراءة، وإنما عن تعدد التأويل، واعتبار الحقيقة والمجاز في اللفظ، واحتفاظه بالقرائن.
وثمرة الخلاف:
في القراءة لا تعود بنتيجة على التأويل، لأن الذين اعتبروا اللمس باليد ناقضا تأولوا عليه القراءتين، وكذلك من اعتبر الجماع هو الناقض المقصود، فإنه تأوّل عليه القراءتين. فلا مطمع إذن في توجيه القراءة لمذهب دون مذهب، والفقهاء يوردون في الاحتجاج في هذا المقام قرائن الأحوال.
فقد اختار الشافعية أن (لمستم) ظاهرة في مجرد اللمس من غير جماع، وأما قراءة لامَسْتُمُ فقد جعلوها مبالغة في اللمس، ولم يصرفوها إلى معنى آخر، وقالوا: لما أورد الجماع
(1) الدّر المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 167.
(2)
لسان العرب لابن منظور 6/ 409.
(3)
المصدر نفسه.
بقوله: لا جُنُباً [النّساء: 4/ 43]، كان تكرار ذلك غير فصيح (1)، واستدلّوا كذلك بما قدمناه من مذهب ابن مسعود (2).
واختار الحنفية أن اللّمس والملامسة حقيقة في الجماع، ولكن الله يكني (3)، وقد استدلوا لذلك بما قدمناه من مذاهب الصحابة كابن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما (4).
وقد توسّط المالكية فجعلوا نقض الوضوء بلمس المتوضئ البالغ لشخص يلتذ به عادة، فجعلوا الضابط لنقض الوضوء حصول اللذة، ونصّوا على أن القبلة تنقض الوضوء مطلقا بين البالغين لأنها مظنّة الشهوة، وهو شبيه برأي الحنابلة في المشهور (5).
وهو ما دلّت له عبارة ابن العربي المالكي: «راعى مالك في اللمس القصد، وجعله الشافعي ناقضا للطهارة بصورته كسائر النواقض» ، ثم أورد دليلا على ما اختاره في قوله:«إن الله تعالى أنزل اللمس المفضي إلى خروج المذي منزلة التقاء الختانين المفضي إلى خروج المني، فأما اللمس المطلق فلا معنى له، وذلك مقرر في مسائل الخلاف» (6).
قال ابن جرير الطّبري: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: أراد الله بقوله:
أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبّل بعض نسائه ثم صلّى، ثم روى عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبّل، ثم يصلّي.
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ، قال عروة: قلت من هي إلا أنت، فضحكت (7).
ويمكن الجمع بين القراءتين أن الله عز وجل أمر بالوضوء من غشيان النساء، وذلك على سبيل الحتم، ثم أمر به من مسهنّ على سبيل النّدب، وإنما صرف المعنى هاهنا من الحتم إلى النّدب
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/ 224.
(2)
انظر ص 257 من هذا الكتاب.
(3)
الدّر المنثور للسيوطي 2/ 166.
(4)
انظر ص 257 من هذا الكتاب.
(5)
موسوعة الفقه الإسلامي وأدلّته، د. وهبة الزحيلي 1/ 276.
(6)
أحكام القرآن لابن العربي المالكي 1/ 445.
(7)
جامع البيان في تفسير القرآن للإمام ابن جرير الطبري 5/ 105.