الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث في النّكاح
المسألة الأولى:
قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ [البقرة: 2/ 229].
قرأ حمزة، وأبو جعفر، ويعقوب:(إلا أن يخافا) بضم الياء، وحجته قوله بعدها:
فَإِنْ خِفْتُمْ فجعل الخوف لغيرهما، ولم يقل:(فإن خافا).
وقرأ الباقون: إِلَّا أَنْ يَخافا (1)، وحجتهم ما جاء في التفسير: إِلَّا أَنْ يَخافا أي: إلا أن يخاف الزوج والمرأة ألا يقيما حدود الله فيما يجب لكل واحد منهما على صاحبه من الحقّ والعشرة (2).
وثمرة الخلاف:
إن قراءة حمزة يحتجّ بها من جعل الخلع إلى السلطان، فقد جعل الله أمر المخالعة مقيّدا بمعرفة السلطان أن الزوجين يمكن أن يتجاوزا حدود الله بنشوز أو شذوذ، تحمل عليه الكراهية، من دون أن يتوصلا إلى اتفاق حول المخالعة، فيطلّق عليهما السلطان استنادا إلى قراءة حمزة.
أما قراءة الجمهور فإنها تجعل الخوف خوفهما، فينقطع بذلك سبيل التّطليق على الزوجين بدون إرادتهما.
(1) انظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 162. وعبارة الشاطبي:
وضم يخافا فاز والكل أدغموا
…
تضارر وضم الراء حق وذو جلا
وعبارة ابن الجزري في ضمّ جعفر، ويعقوب في الدّرة المضية:
…
واضمم أن يخافا حلا أب
…
...
…
...
وانظر كذلك: تقريب النّشر لابن الجزري 96.
(2)
حجة القراءات لأبي زرعة 135.
وهذه عبارة القرطبي في ذلك: «حرّم الله تعالى في هذه الآية ألا يأخذ إلا بعد الخوف ألا يقيما حدود الله، وأكّد التّحريم بالوعيد تعدى الحدّ، والمعنى أن يظن كل واحد منهما بنفسه ألا يقيم حقّ النكاح لصاحبه حسب ما يجب له فيه لكراهة يعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا حرج على الزوج أن يأخذ، والخطاب للزوجين، والضمير في أَنْ يَخافا لهما، وأَلَّا يُقِيما مفعول به، و (خفت) يتعدى إلى مفعول واحد، ثم قيل: هذا الخوف هو بمعنى العلم، أي أن يعلما ألا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظّن، ثم قيل: إِلَّا أَنْ يَخافا استثناء منقطع، أي لكن إن كان منه نشوز فلا جناح عليكم في أخذ الفدية، وقرأ حمزة:(إلّا أن يخافا) بضم الياء على ما لم يسمّ فاعله، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام، واختاره أبو عبيد.
قال: لقوله عز وجل: فَإِنْ خِفْتُمْ قال: فجعل الخوف لغير الزوجين، ولو أراد الزوجين لقال: فإن خافا، وفي هذا حجة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قلت: وهو قول سعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين. وقال شعبة: قلت لقتادة: عمّن أخذ الحسن الخلع إلى السلطان؟ قال: عن زياد، وكان واليا لعمر وعلي. قال النحاس: وهذا معروف عن زياد، ولا معنى لهذا القول لأنّ الرجل إذا خالع امرأته فإنما هو على ما يتراضيان به، ولا يجبره السلطان على ذلك، ولا معنى لقول من قال: هذا إلى السلطان. وقد أنكر اختيار أبي عبيد وردّ، وما علمت من اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف، لأنه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى، أما الإعراب فإن عبد الله بن مسعود قرأ: إِلَّا أَنْ يَخافا تخافوا، فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله قيل: إلّا أن يخافا، وأما اللفظ فإن كان على لفظ يَخافا وجب أن يقال: فإن خيف. وإن كان على لفظ فَإِنْ خِفْتُمْ وجب أن يقال: إلّا أن تخافوا.
وأما المعنى فإنه يبعد أن يقال: لا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموه شيئا، إلا أن يخافا غيركم ولم يقل جلّ وعزّ: فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية، فيكون الخلع إلى السلطان. قال الطحاوي: وقد صحّ عن عمر وعثمان جوازه دون السلطان.
وكما جاز الطلاق والنكاح دون السلطان فكذلك الخلع، وهو قول الجمهور من العلماء (1).
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، ط دار الكاتب العربي القاهرة 3/ 138، 139. وانظر أيضا الدّر المنثور للسيوطي، ط دار المعرفة 1/ 286، وفيه عن عبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا إلا أن يخافا
ومع تقرير النحاس في إعراب القرآن أن هذا الوجه لا يوجبه الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى مع موافقة القرطبي له في ذلك، غير أن ذلك لا يعني عدم وجوبه، فقد أوجبته ثلاثة أشياء:
ثبوت التواتر وموافقة الرسم وموافقة وجه من العربية، وحيث تمّ ذلك كله كما حققه ابن مجاهد في السبعة (1)، والجزري في النشر (2)؛ وجب المصير إليه والتماس تأويله.
ولعل أقرب الوجوه إلى الدلالة على إسناد (يخافا) إلى الغيبة، هو ما عطفت به الآية في قوله سبحانه: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ والخطاب كما ترى للحكام والمتوسطين في هذا الأمر إن لم يكن حاكما، وقد سمّى حسن العشرة حُدُودَ اللَّهِ إعظاما لها أن تهجر أو تهمل.
ويجب التّنويه هنا إلى أن الخلع لا يحتاج إلى قاض في إيقاعه (3)، فإذا اتّفق الزوجان على المخالعة لم يكن للقضاء أن يقبل أو يرفض، ولكن: هل يملك القاضي الخلع على الزوج إن طلبت الزوجة ورفض الزوج؟
هذا ما اختاره الحسن البصري، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، ودليلهم على ذلك قراءة حمزة، وأبي جعفر، ويعقوب، وكذلك حمل الأحاديث الواردة في معنى المخالعة على ذلك إذ ليس في سائرها توضيح لإقرار الزوج بإيقاع المخالعة، بل ورد فيها أمره صلى الله عليه وسلم للزوج بإجراء المخالعة.
عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
يا رسول الله، ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام،
ألا يقيما حدود الله، قال: هذا لهما، فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله، قال: هذا لولاة الأمر، فلا جناح عليها فيما افتدت به، قال: إذا كان النّشوز والظلم من قبل المرأة فقد أحلّ الله له منها الفدية، ولا يجوز خلع إلا عند سلطان، فأما إذا كانت راضية مغتبطة بجناحه مطيعة لأمره، فلا يحلّ له أن يأخذ مما آتاها شيئا. وتخريج قتادة هذا جامع لمعنى القراءتين على فرش قراءة واحدة.
(1)
تقريب النّشر لابن الجزري 96.
(2)
السبعة في القراءات لابن مجاهد 182.
(3)
هذا الذي ذكرناه هو المشهور من فعل الصحابة والسلف، وقد ترجم الإمام البخاري لباب الخلع بقوله: وأجاز عمر الخلع دون السلطان. (انظر الجامع الصحيح للبخاري، كتاب الطلاق 12/ باب الخلع)، لكن نقل ابن حجر في الفتح عن الحسن البصري المشهور الذي قدمناه آنفا من جواز إيقاع الخلع من قبل السلطان. انظر فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9/ 394، حديث رقم (5273).