الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثمرة الخلاف:
أنه من قرأ بالنصب جعلها متعلقة بقوله: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ، أي لكي يحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، وهو محلّ اتّفاق بين المسلمين؛ لأن أهل الكتاب كانوا مأمورين أن يحكموا بما في الإنجيل.
أما القراءة بالجزم على أساس أن اللام لام الأمر، فهي أيضا إلزام لهم بالحكم بما في الإنجيل الحق من وجوب اتّباع النّبي صلى الله عليه وسلم كما يجدونه في كتبهم. فالخلاف بين القراءتين شكلي، والاتفاق منعقد على المعنى (1).
وبمثل ذلك نقل القرطبي عن النحاس قوله: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان؛ لأن الله عز وجل لم ينزل كتابا إلا ليعمل بما فيه، وأمر بالعمل بما فيه فصحتا جميعا (2).
وليس في أيّ من القراءتين دليل للنصارى اليوم فيما يزعمونه من أن القرآن أمرهم بالاحتكام إلى الإنجيل، إذ إن الإنجيل الذي أمروا بالاحتكام إليه في نصّ القرآن؛ هو ذلك الإنجيل الذي يتضمن وحدانية الله، وبشرية السيد المسيح والبشارة بالمصطفى صلى الله عليه وسلم؛ قال الله عز وجل:
وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التّوبة: 9/ 31].
وقال تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ [المائدة: 5/ 75].
(1) دأب كثير من النّصارى إلى توجيه هذه الآيات وأمثالها إلى ما يوافق هواهم، واتّخذوها مصادرة على القرآن الكريم، على أساس أن الكتاب الكريم يأمرهم بالعودة إلى إنجيلهم والاحتكام إليه. ولكن هذا السلوك الخاطئ غاية ما يؤدي إليه أنهم يثبتون لأنفسهم مقام من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، وهو مقام مذموم بكل حال.
ولا يخفى أن دعوة القرآن لهم إلى الحكم بما أنزل الله في الإنجيل قائمة باقية، ولكن المقصود بها هو ذلك الإنجيل الحق الذي أنزله الله على عيسى بن مريم، وهذا التعريف للإنجيل لا يقول به اليوم أحد من النصارى، إذ إنهم لا يعتقدون بوجوده أصلا، بل يقولون بإلهامات أنزلها الله عز وجل على أصحاب عيسى الأربعة، وهو خلاف ما تقرر لدى المسلمين من نزول الإنجيل على السيد المسيح نفسه.
وأشهر من قال ذلك وانتصر له من النصارى الأب يوسف درة الحداد في سلسلة (دراسات قرآنية) منشورات المكتبة البولسية- بيروت.
(2)
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/ 209.
وقال: وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [الصّف: 61/ 6].
فليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه! بل إن نصارى هذا الزمان يخالفوننا فيما نلجئهم إليه من أمر نزول الكتاب على السيد المسيح كما أخبر الله عز وجل: وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 5/ 46]. فهم لا يعتقدون ذلك أصلا، ويرون أن الكتاب المقدس عندهم هو محض إلهامات تلقاها الرّسل والحواريون، فدوّنوها ولم تكن وحيا تلقاه السيد المسيح عن ربّه! وهكذا فإن العقل والنقل متفقان أنه ليس في دار السعادة منزل للذين يكذبون رسل الله، ويعرضون عن هداهم.
قال ابن تيمية: (فمن كان أبوه من أهل الكتاب قبل النّسخ والتّبديل، ثم إنه لما بعث الله عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم كفر بهما وبما جاءا به من عند الله، واتّبع الكتاب المبدّل المنسوخ كان كفره من أغلظ الكفر، ولم يكن كفره أخفّ من كفر من دخل بنفسه في هذا الدين المبدّل، ولا له بمجرد نسبه حرمة عند الله، ولا عند رسوله، ولا ينفعه دين آبائه إذا كان هو مخالفا لهم، فإن آباءه كانوا إذ ذاك مسلمين، فإن دين الله هو الإسلام في كل وقت، فكل من آمن بكتب الله ورسله في كل زمان فهو مسلم، ومن كفر بشيء من كتب الله ورسله فليس مسلما في أي زمان كان)(1).
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، كتاب قتال أهل البغي 35/ 228.