الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عندئذ رأى الصحابة أنه من الضروري أن يوفّروا نسخا من القرآن في البلاد المختلفة ليقرأ الناس استنادا إليها. وأمر الخليفة عثمان بن عفان بتشكيل لجنة رباعية من خيار حفّاظ الصحابة وكتّابهم، وهم: زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
وهكذا فقد تمّ نسخ خمسة مصاحف موثقة، وزّعت في المدن الرئيسة الخمس وهي: مكة والمدينة ودمشق، والبصرة والكوفة، وربما كانت المصاحف سبعة (1) وزعت في الأمصار الخمسة واليمن والبحرين، كما ذكرت ذلك بعض الروايات. وبذلك اكتملت الوثيقة الثانية للقرآن الكريم مكتوبة متوفرة في الأمصار.
خط المصاحف:
كتبت تلك المصاحف جميعا بالخط الكوفي القديم، وظلّت الكتابة بالخطّ الكوفي مفضّلة لدى الناس حتى تحوّلوا عنها إلى خط النّسخ في القرن الرابع الهجري لكونه أكثر وضوحا وأبعد عن الالتباس.
ولا يزال الخط النّسخي إلى اليوم هو المستعمل في كافّة المصاحف.
مصاحف الصحابة الخاصة:
وقد يشكّل هنا ما اشتهر من أن بعض مصاحف الصحابة الخاصة فيها زيادات ليست في المصاحف التي بين أيدينا، ويزول ذلك الإشكال حين تعلم أن هذه المصاحف إنما
كتبها أولئك الأصحاب لأنفسهم، وكانوا يزيدون فيها ما هو من باب التفسير والإيضاح، كما زاد مثلا عبد الله بن مسعود في مصحفه:(وهو أبوهم) بعد قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ [الأحزاب: 33/ 6]، فزيادته تلك هي زيادة إيضاح وتفسير، ولم يجد في ذلك حرجا لأنه إنما كتب المصحف لنفسه، وهو يعلم أن هذه الإشارات والملاحظات ليست من نصّ القرآن.
(1) الخلاف في عدد المصاحف العثمانية مشهور، وهي تدور بين أربع أو خمس أو سبع أو ثمان نسخ من المصاحف، وليس هذا محل الخلاف. انظر الإتقان للسيوطي- البرهان للزركشي.
ثم لما جمع عثمان الناس على المصحف الإمام أدرك الأصحاب ضرورة إتلاف مصاحفهم لما فيها من زيادات تفسيرية قد تصبح في أيدي من لا يميزون فيزيدون في كتاب الله ما ليس فيه. وهكذا فقد استغنى الأصحاب بالمصحف الإمام بعد أن اجتمعت كلمتهم على تجريد كتاب الله مما ليس فيه.
ويشير علماء القرآن إلى أن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود امتنع أولا من تسليم مصحفه؛ لما كان قد دوّن فيه من ملاحظات هامّة، إلا أنه عاد فيما بعد فالتزم رأي جماعة المسلمين.
قال الحاكم في المستدرك: جمع القرآن ثلاث مرات:
(إحداها): بحضرة النّبي صلى الله عليه وسلم ثم أخرج بسند على شرط الشيخين عن زيد بن ثابت قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرّقاع .. الحديث. وقال البيهقي: يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النّبي صلى الله عليه وسلم.
(الثانية): بحضرة أبي بكر. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إليّ أبو بكر بعد مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرآن، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر، قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل ولا نتّهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه. فو الله لو كلّفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هو والله خير، فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فتتبّعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التّوبة مع أبي خزيمة الأنصاري (1)، لم أجدها مع غيره لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ
(1) تعددت الأقوال هنا في تحرير اسم واجد الصحيفة، والأصح أنه خزيمة بن ثابت، كما سيأتي في الجمع الثالث، ولم يشر ابن حجر في الإصابة إلى وجود صحابي باسم أبي خزيمة الأنصاري، ولكنه حقّق المسألة في الفتح 9/ 15 فقال: وقع في رواية عبد الرحمن بن مهدي عن إبراهيم بن سعد (مع خزيمة بن ثابت). أخرجه أحمد والتّرمذي. ووقع في رواية شعيب عن الزهري كما تقدّم في سورة التّوبة (مع خزيمة الأنصاري) وقد أخرجه الطبراني في (مسند الشّاميين) من
- حتى خاتمة براءة- فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر (1).
(الثالثة): ترتيب السّور في زمن عثمان: روى البخاري عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرّهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق، قال زيد: ففقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الأحزاب: 33/ 23]، فألحقناها في سورتها في المصحف (2).
طريق أبي اليمان عن شعيب فقال فيه (خزيمة بن ثابت الأنصاري) وقد أخرجه ابن أبي داود من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب، وقول من قال عن إبراهيم بن سعد (مع أبي خزيمة) أصح، وقد تقدم البحث فيه في تفسير سورة التوبة، وأن الذي وجد معه آخر سورة التوبة غير الذي وجد معه الآية التي في الأحزاب، فالأول اختلف الرواة فيه عن الزهري، فمن قائل:(مع خزيمة)، ومن قائل:(مع أبي خزيمة)، ومن شاكّ فيه يقول:(خزيمة أو أبي خزيمة)، والأرجح أن الذي وجد معه آخر سورة التوبة أبو خزيمة بالكنية، والذي وجد معه الآية من الأحزاب خزيمة، وأما خزيمة فهو ابن ثابت ذو الشهادتين كما تقدّم صريحا في سورة الأحزاب.
وقد أنكر القاضي أبو بكر بن الطيب هذا الحديث بالكلّية، فجزم بأنه مضطرب، بل قال: يشبه أن يكون موضوعا! .. مع أنه من رواية البخاري ومسلم.
وقد تصدّى القاضي أبو بكر بن العربي للرّد على ذلك في كتابه النفيس: أحكام القرآن، الجزء الثاني، ص 1037.
(1)
أوردنا هذه الرواية قبل قليل، وكررناها هنا لما فيها من فائدة تتعلق بمصير النسخة بعد أبي بكر.
(2)
نقلا عن السيوطي في الإتقان 1/ 57.
وتجدر الإشارة هنا أن البخاري في الصحيح أخبر أن قصة خزيمة وردت مرتين: في جمع أبي بكر وفي جمع عثمان، مع أن المعقول هنا أنها في عهد أبي بكر، والله أعلم.
وهكذا فإنه يتبدى لك من رواية الحاكم أن جمع القرآن الكريم كان ثلاث مرات، وقد حظيت كل واحدة من الثلاث بإجماع الأمة واتّفاقها؛ بحيث لا تجد لها مخالفا، وتواتر هذا بالضبط على الوثائق برواية العدول الثّقات، البالغين من الوفرة حدّا يقطع الارتياب، ويجعلك تأمن تواطؤهم على الكذب.
وبعد هذا العرض لمراحل الرسم القرآني حتى عهد عثمان بن عفّان، فإن الذي يعنينا من ذلك هو شكل الرسم الذي رسمت به المصاحف، وعلاقته بالقراءات المتواترة.
من المعلوم أن الجمع الذي قام به أبو بكر رضي الله عنه كان يتضمن الكتبة الأولى التي كتبت بحضرة النّبي صلى الله عليه وسلم والأصحاب وفق معارفهم السابقة. (ولم يؤخذ على كتاب القرآن، وخطاط المصاحف رسم بعينه دون غيره، أوجبه عليهم وترك ما عداه؛ إذ وجوب ذلك لا يدرك إلا بالسمع والتّوقيف)(1).
وهكذا فإن من المفترض أن هذا الرسم لم يكن يؤدي غالبا إلا قراءة واحدة، وهي القراءة التي تلقّاها الصحابي عن النّبي صلى الله عليه وسلم في أحد المجالس.
فمثلا في سورة آل عمران: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران: 3/ 136]. فقد قرئت هذه الآية بواو (2) في وسارعوا، وقرئت بغير واو (3)،
روايتها في عهد أبي بكر، انظر فتح الباري 8/ 344، كتاب تفسير سورة التّوبة.
روايتها في عهد عثمان، انظر فتح الباري 8/ 344، كتاب التفسير سورة الأحزاب.
ولكن حقق ابن حجر في الفتح هذه المسألة بقوله: الصحيح عن الزهري أن قصة زيد بن ثابت مع أبي بكر وعمر عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت، وقصة حذيفة مع عثمان عن أنس بن مالك، وقصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وقد رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن الزهري، فأدرج قصة آية سورة الأحزاب في رواية عبيد بن السباق، وأغرب عمارة بن غزية فرواه عن الزهري فقال: عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه، وساق القصص الثلاث بطولها: قصة زيد مع أبي بكر وعمر، ثم قصة حذيفة مع عثمان أيضا، ثم قصة فقد زيد بن ثابت الآية من سورة الأحزاب أخرجه الطبري، وبين الخطيب في (المدرج) أن ذلك وهم منه وأنه أدرج بعض الأسانيد على بعض.
(1)
إعجاز القرآن للباقلاني 42.
(2)
وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو، والكوفيين الأربعة، ويعقوب.
(3)
وهي قراءة نافع، وابن عامر، وأبي جعفر.