الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ظاهر الآية أنه تكويني، ولكن لما لم يرد عليه حظر دلّ على أنه من باب ما أقرّه الشارع؛ إذ الدواعي متوافرة لإنكاره لو كان يستوجب الإنكار.
ولم يتعرض الإمامان الجليلان الرازي الجصاص، وابن العربي إلى اختلاف القراءة في هذه الآية، وقد أوردا أحكامها وفق قراءة النصب لا غير (1).
المسألة الثانية:
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 5/ 89].
قرئت على ثلاثة أوجه: عقّدتم، وعقدتم، وعاقدتم.
قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وشعبة:(عقدتم الأيمان). وقرأ ابن ذكوان: (عاقدتم الأيمان). وقرأ الباقون: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ (2).
والقراءات الثلاثة تتجه إلى تقرير عدم المؤاخذة بيمين اللغو، وقصر المؤاخذة على اليمين المعقودة، وهي المعبّر عنها بالصّيغ الثلاث الآنفة. فتكون رواية ابن ذكوان عن ابن عامر على جهة أن اليمين المنعقدة هي التي تكون من اثنين، دلّت ذلك ألف المفاعلة في قراءتهم (عاقدتم الأيمان)، ولا خلاف بين الأئمة في قبول مدلول هذه القراءة،
ولكن يلزم ابن عامر أن يقبل مدلول قراءة الآخرين لثبوت التواتر.
وتكون قراءة أهل الكوفة بالتخفيف دالّة على أن الكفارة تلزم الحانث إذا عقد يمينا بحلف مرة واحدة، وهذا الحكم محل إجماع من الأمة بلا خلاف، إلا قولا روي عن ابن عمر، وتسابق النّقاد إلى إنكار نسبته إليه (3).
(1) انظر أحكام القرآن للرازي الجصاص 1/ 307. أحكام القرآن للقاضي ابن العربي المالكي 2/ 46.
(2)
تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 108، وفيه أن الذي قرأ بألف المفاعلة ابن ذكوان وحده عن ابن عامر، وهو المحفوظ الذي دلّت عليه الطّيبة، ولكن في حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة أن ابن عامر قرأ بذلك، ومنه يفهم أن راويي ابن عامر على ذلك. وعبارة الطيبة:
عقدتم المد منا وخففا
…
من صحبة جزاء تنوين كفا
(3)
انظر فقرة ثمرة الخلاف صفحة 358.
وأما قراءة أهل الكوفة بالتشديد فلا ينبغي أن تتجه إلى تكرار اليمين كما نقله أبو زرعة (1)، فهذا خلاف المجمع عليه من الفقهاء أن اليمين تنعقد بمرة واحدة كما في قراءة عقدتم بالتخفيف، ولا حاجة لترديدها المرة بعد المرة.
فينبغي إذن أن يكون معنى التشديد في هذا المقام هو التوكيد، وهذا التوكيد يكون بجزم القلب كما يعرف من أمارات ذلك، قال الله عز وجل: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها [النّحل: 16/ 91].
ولو سلّمنا بأن التّشديد هنا يفيد تكرار اليمين المرة بعد المرة، فإن ذلك لا يسقط وجوب الكفارة في اليمين المنعقدة إذا لم تكرر؛ إذ إن ذلك دلّت له القراءة المتواترة بالتخفيف التي يلزم قبولها عند سائر الأئمة.
كما يمكن أن يكون التشديد في هذا المقام زيادة مبنى، وهو إشارة إلى زيادة المعنى، على وفق قاعدة الأصوليين: زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى، فمقتضى قراءة التخفيف عقد اليمين الذي هو قصد القلب، وتحقق النّية، وتكون دلالة قراءة التشديد في التوكيد على حصول هذا القصد جزما، وتحققه يقينا.
واختار الرازي الجصاص كذلك إعمال القراءات جميعا فنصّ على أن قراءة التخفيف (عقدتم) محمولة على إقرار اللسان بما عقده القلب، ثم أشار أن الإعمال للظاهر، وهو لفظ اللسان لا قصد القلب، وأما قراءة عَقَّدْتُمُ بالتشديد فقد أشار أنها أفادت حكما جديدا؛ وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وأما قراءة (عاقدتم) فقد أشار إليها ولم يعلق عليها، وفيما يلي عبارة الرازي رحمه الله:
«وقد قرئ قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ على ثلاثة أوجه:
عَقَّدْتُمُ بالتشديد قد رآه جماعة، و (عقدتم) خفيفة، و (عاقدتم). فقوله تعالى:
عَقَّدْتُمُ بالتشديد كان أبو الحسن يقول: لا يحتمل إلّا عقد قول (وعقدتم) بالتخفيف يحتمل عقد القلب، وهو العزيمة والقصد إلى القول، ويحتمل عقد اليمين قولا، ومتى احتمل إحدى القراءتين
(1) انظر حجة القراءات لأبي زرعة 234.
القول، واعتقاد القلب، ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلا وجها واحدا، فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولا، ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان، وهو أن تكون مقصودة، ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير مقصودة، وإنما هو خبر عن ماض، والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا، فإن قائل قائل: إذا كان قوله تعالى: (عقدتم) بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب، ويحتمل عقد اليمين، فهلا حملته على المعنيين إذ ليسا متنافيين، وكذلك قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ بالتشديد محمول على عقد اليمين، فلا ينفي ذلك استعمال اللفظ في القصد إلى اليمين، فيكون عموما في سائر الأيمان، قيل له: لو سلم لك ما ادّعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت، ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت، وذلك أنّه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة، وإن حكم بإيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق بها وجوب الكفارة، فبطل بذلك تأويل من تأوّل اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة، وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل، فإن قال قائل: قوله:
عَقَّدْتُمُ بالتشديد يقتضي التكرار، والمؤاخذة تلزم من غير تكرار فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه التكرار؟ قيل له: قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه، ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا؛ إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف، وتارة بعظم المنزلة، وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره، وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة، وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره، وأراد به التكرار لا يلزمه إلّا كفارة واحدة. فإن قيل: قوله: (بما عقدتم) بالتخفيف يفيد أيضا إيجاب الكفارة باليمين الواحدة. قيل له: القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على وصفنا، ولكل واحدة منهما فائدة محددة» (1).
وكذلك فإن العلامة ابن العربي المالكي أورد القراءات الثلاث محتجّا بها جميعا، وأشار إلى ضعف قراءة التخفيف على عادته في توهين ما انفرد بروايته الكوفيّون، ثم اتّخذ من التأويل سبيلا لإعمال سائر المروي في ذلك وعبارته: قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فيه ثلاث قراءات: عقّدتم
(1) أحكام القرآن- الجصاص 2/ 455.
بتشديد القاف، وعقدتم بتخفيف القاف، وعاقدتم بالألف، فأما التخفيف فهو أضعفها رواية وأقواها معنى، لأنه فعلتم من العقد وهو المطلوب، وإذا قرئ عاقدتم فهو فاعلتم، وذلك يكون من اثنين، وقد يكون الثاني من حلف لأجله في كلام وقع معه، وقد يعود ذلك إلى المحلوف عليه فإنه ربط به اليمين، وقد يكون فاعل بمعنى فعل كقولك: طارق النمل، وعاقب اللص في أحد الوجهين في اللص خاصته.
وإذا قرئ عقّدتم بتشديد القاف فقد اختلف العلماء في تأويله على أربعة أقوال:
الأول: قال مجاهد: تعمّدتم.
الثاني: قال الحسن: معناه ما تعمّدت به المأثم فعليك فيه الكفارة.
الثالث: قال ابن عمر: التشديد يقتضي التكرار، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر اليمين.
الرابع: قال مجاهد: التشديد للتأكيد، وهو قوله: والله الذي لا إله إلا هو.
قال ابن العربي: أما قول مجاهد: ما تعمدتم فهو صحيح، يعني ما قصدتم إليه احترازا من اللّغو. وأما قول الحسن: ما تعمّدتم فيه المأثم فيعني به مخالفة اليمين (الحنث)، فحينئذ تكون الكفارة، وهذان القولان حسنان يفتقران إلى تحقيق. وهو بيان وجه التشديد، فإن ابن عمر حمله على التكرار. وهو قول لم يصح عنه عندي لضعفه. فقد قال النّبي صلى الله عليه وسلم: وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلّا أتيت الذي هو خير وكفّرت عن يميني (1).
فذكر وجوب الكفارة في اليمين التي لم تتكرر.
وأما قول مجاهد: إن التشديد في التأكيد محمول على تكرار الصفات؛ فإن قولنا: (والله) يقتضي جميع أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، فإذا ذكر شيئا من ذلك؛ فقد تضمنه قوله (والله).
فإن قيل: فما فائدة التغليظ بالألفاظ؟ قلنا: لا تغليظ عندنا بالألفاظ، وقد تقدم بيانه، وإن غلظنا فليس على معنى أنّ ما ليس بمغلظ ليس بيمين، ولكن على معنى الإرهاب على الحالف.
فإنه كلما ذكر بلسانه الله تعالى حدث له غلبة حال من الخوف. وربما اقتضت له رعدة، وقد
(1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، ورواه مسلم رقم 1649 في الأيمان باب من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها، ورواه كذلك أبو داود، والنّسائي.