الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويجب التّحفّظ هنا، فلا نحكم بإسلامه بمجرد إلقاء السلام، بل نعصم دمه إلى أن يتبين حلّه، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه في الكافر يوجد فيقول: جئت مستأمنا طالبا الأمان:
هذه أمور مشكلة وأرى أن يرد إلى مأمنه ولا يحكم له بحكم الإسلام حتى يتكلم بالكلمة العاصمة التي علّق النّبي صلى الله عليه وسلم الحكم عليها في قوله: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» (1).
المسألة الخامسة:
قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج: 22/ 39].
قرأ نافع، وابن عامر، وحفص: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، على المبني للمجهول. وقرأ الباقون:(أذن للّذين يقاتلون بأنّهم ظلموا)(2). بكسر التاء على معلوم الفاعل.
وقد احتجّ قراء المدينة، والشام، وحفص بما ورد بعده؛ حيث اتفقوا على البناء للمجهول في قوله عز وجل: بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.
قال عاصم: لو كانت (يقاتلون) بكسر التاء فبم أذن لهم؟ فكأنهم ذهبوا إلى أن المشركين قد كانوا بدءوهم بالقتال، فأذن الله لهم حين قوتلوا أن يقاتلوا من قاتلهم.
قال أبو زرعة: وهو وجه حسن لأن المشركين قد كانوا يقتلون أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم، وكان المؤمنون ممسكين عن القتال؛ لأنهم لم يؤمروا به، فأذن الله لهم أن يقاتلوا من قاتلهم (3).
وتوجيه قراءة الباقين على أنها قراءة المضارع في معنى المستقبل، وذلك بمنزلة قوله: أذن للذين سيقاتلون، أو سيؤمرون بالقتال بأنهم ظلموا، فهم يقتلون عدوهم الظالمين لهم بإخراجهم من ديارهم.
قال ابن العربي: والأقوى عندي قراءة كسر التاء، لأن النّبي صلى الله عليه وسلم بعد وقوع العفو والصفح عما فعلوا أذن الله له في القتال عند استقراره في المدينة، فأخرج
البعوث ثم خرج بنفسه، حتى
(1) أحكام القرآن لابن العربي 1/ 482.
(2)
تقريب النشر في القراءات العشر لابن الجزري 145. وعبارة طيبة النّشر:
…
... يقاتلون عف
…
عم افتح التا
…
(3)
حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة 478.
أظهره الله يوم بدر، وذلك قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (1). ويفهم من اختيار ابن العربي هنا أنه، لا يجعل هذه الآية أول ما نزل في أمر القتال. وقد رجح ابن العربي قراءة الكسر، مع أنه يقرأ كأهل بلدة قراءة نافع بفتح التاء، وهذا دليل على حياديته وتجرّده للحقيقة العلمية.
وينشأ عن اختلاف القراءات المتواترة في هذه الآية مسألة من أكثر المسائل التي تكلم فيها الفقهاء وهي: تحرير علّة المقاتلة في الإسلام.
وقد انقسم الفقهاء في هذه المسألة إلى فريقين؛ قال الأولون: إن علّة المقاتلة هي ردّ العدوان، وقال الآخرون: إن علّة المقاتلة هي الكفر، ولو لم يظهر من الكفار اعتداء.
وقد أخذ فقهاء الحنفية والمالكية بالقول الأول، فيما أخذ الشافعية وغالب الحنابلة بالقول الثاني.
وتعريف الجهاد عند عامة الفقهاء يتجه إلى أن علة الجهاد هي نصرة الإسلام، وهو تعليل يقوي مذهب الحنفية والمالكية.
نقل ابن عابدين من متأخري الحنفية تعريف الجهاد بأنه: الدعاء إلى الدين الحق، وقتال من لم يقبله بالمال والنفس (2).
وتعريف الشافعية للجهاد: هو قتال الكفار لنصرة الإسلام (3).
وقد قرر جمهور الفقهاء من مالكية، وحنفية، وبعض الحنابلة (4)؛ أن مناط القتال هو الحرابة والمقاتلة والاعتداء، وليس محض الكفر (5)، فلا يقتل شخص لمخالفته للإسلام أو لكفره، وإنما يقتل لاعتدائه على الإسلام، فغير المقاتل لا يجوز قتاله، وإنما يلتزم معه جانب السّلم، يدلّ
(1) أحكام القرآن لابن العربي المالكي 3/ 1279.
(2)
حاشية ردّ المحتار على الدّر المختار لابن عابدين 4/ 121. وانظر الدّر المختار 3/ 238.
(3)
حاشية الشرقاوي 2/ 391. وانظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 23.
(4)
اختلفت عن أحمد الرواية، واختار ابن قدامة أن علة الجهاد هي الكفر كما سيأتي، وعاد ابن تيمية إلى أن علة الجهاد هي الحرابة، وعزا القول إلى أحمد. وسيأتي تفصيل ذلك.
(5)
واستدلوا بقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
لذلك نصوص الكتاب والسّنة والاعتبار (1). وأظهر الأدلة على ذلك من الكتاب قوله سبحانه:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 2/ 192].
وقد عقد ابن تيمية، وهو من فقهاء الحنابلة، فصلا للرّد على من قال بأن الكفر موجب لشنّ الحرب، فقال في معرض الرّد على الشافعية في احتجاجهم بحديث «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله» (2). قال: (هذا الحديث ذكر للغاية التي يباح قتالهم إليها، بحيث إذا فعلوها حرم قتالهم، والمعنى أني لم أؤمر بقتالهم إلا إلى هذه الغاية، فإن هذا خلاف النّص والإجماع، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل هذا قط، بل كانت سيرته أن من سالمه لم يقاتله)(3).
وقد ثبت بالنّص والإجماع أن أهل الكتاب والمجوس مع أنهم ليسوا أهل كتاب إذا أدّوا الجزية حرم قتالهم (4).
وكذلك فإنه لو كان الكفر علة الجهاد ما أمرنا بالكفّ عن المرأة والشيخ الكبير من المشركين، وهو ما دلت له نصوص كثيرة؛ منها ما رواه أنس بن مالك رضي الله عنه أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:«انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملّة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا، ولا طفلا، ولا امرأة» (5).
واختار الشافعية ومتقدّمي الحنابلة أن المبيح للقتل هو الكفر وليس الحرابة، واستدلوا لذلك بعموم قوله سبحانه: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 9/ 5].
(1) لكن نقل ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد إجماعا غريبا فقال تحت عنوان: الفصل الثاني في معرفة الذين يحاربون:
فأما الذين يحاربون فاتفقوا على أنهم جميع المشركين لقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ إلا ما روي عن مالك أنه قال: لا يجوز ابتداء الحبشة، ولا التّرك بالحرب. انظر بداية المجتهد لابن رشد 1/ 369.
(2)
رواه البخاري في كتاب الإيمان. ورواه مسلم في باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا
…
رقم (22).
(3)
رسالة القتال لابن تيمية 117.
(4)
المصدر نفسه.
(5)
رواه أبو داود في كتاب الجهاد، برقم 82.
قال ابن قدامة: «مسألة: قال: ويقاتل أهل الكتاب والمجوس حتى يسلموا، أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ويقتل من سواهم من الكفار حتى يسلموا» (1).
وقد اتّفق الشافعية والحنابلة في هذه المسألة، فجعلوا أهل الكتاب مستثنين من عموم قوله سبحانه: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التّوبة: 9/ 28].
ونقل ابن قدامة عن أحمد أن الجزية تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، ثم قال: وهو مذهب أبي حنيفة لأنهم يقرون على دينهم بالاسترقاق، فيقرون ببذل الجزية كالمجوس (2).
وهكذا فإن ابن قدامة هنا وافق الشافعية، وأشار إلى أن الإمام أحمد اختار رأيا وسطا بين الشافعية والحنفية، فقال بوجوب قتال عبدة الأوثان من العرب، والكفّ عمن سواهم حتى ظهور الحرابة منهم (3).
ثم قال في الاستدلال لاختياره موافقا الشافعية: «ولنا عموم قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التّوبة: 9/ 5]، وقول النّبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» خصّ منهم أهل الكتاب بقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ، وقوله صلى الله عليه وسلم في المجوس:«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (4)، فمن عداهما (5) يبقى على مقتضى العموم، ولأن الصحابة رضي الله عنهم توقفوا في أخذ الجزية من المجوس، ولم يأخذ عمر منهم الجزية، حتى روى له عبد الرحمن بن عوف أن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:«سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» (6)، وثبت عندهم أن النّبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وهذا يدلّ على أنهم لم يأخذوها من غيرهم؛ ولأن قول
(1) المغني لابن قدامة 8/ 361.
(2)
المغني لابن قدامة 8/ 361.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
رواه ابن أبي شيبة، انظرا الكنز (11490).
(5)
في الأصل: فمن عداها. ولا يخفى أنه تحريف؛ إذ صوابه كما أثبتناه، انظر المغني لابن قدامة 8/ 363، سطر 11.
(6)
مرّ تخريجه قبل قليل.
النّبي صلى الله عليه وسلم: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» ، يدلّ على اختصاص أهل الكتاب بإضافتها إليهم، ولأنهم تغلظ كفرهم لكفرهم بالله وجميع كتبه ورسله (1).
وقد أطلنا في النقل عن ابن قدامة لأنه أورد أدلة القائلين بأن الكفر هو علة المقاتلة، وثمة دليل آخر يورده الشافعية أيضا، وهو ما روي عن النّبي صلى الله عليه وسلم بقوله:«اقتلوا شيوخ المشركين وأبقوا شرخهم» (2).
فهذه بالجملة أدلة القائلين بأن علة المقاتلة هي الكفر وحده، دون اشتراط ظهور الحرابة.
وقد لخص صاحب كتاب (آثار الحرب في الفقه الإسلامي)(3) ردود العلماء على ذلك فقال:
«يجاب عن ذلك بأن قوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 9/ 5]، عام مخصوص بالذّمي والنساء والصبيان، وحديث: «اقتلوا شيوخ المشركين» (4)، ضعيف بالانقطاع، وبالحجاج بن أرطأة (5) فلا يصلح للمعارضة، ولو سلمت صحته فيجب تخصيصه بحسب أصول الشافعي.
ويرد على الشافعي أيضا بأنه لو كان مجرد الكفر مبيحا للقتل لما أنزل النّبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة على حكم سعد بن معاذ فيهم، ولو حكم فيهم بغير القتل لنفذ حكمه.
ومن ناحية النصوص القرآنية فهناك نصوص قطعية لا تقبل التأويل يرد بها على الشافعي مثل قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [البقرة: 2/ 190].
ثم قال: وهذا الموقف الدفاعي هو الذي سار عليه النّبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون من بعده، فلم يقتل النّبي كفار قريش وهوازن، وما استباح الخلفاء يوما دم أحد من غير المسلمين في غير الحرب (6).
(1) المغني لابن قدامة 8/ 361.
(2)
رواه أحمد بن حنبل، وأبر داود، والترمذي عن سمرة بن جندب، انظر مسند أحمد 5/ 9، وهو منقطع فيه الحجاج بن أرطأة، قال عنه ابن حجر في التقريب: صدوق، كثير الخطأ والتدليس. انظر تقريب التهذيب 1/ 153.
(3)
للدكتور وهبة الزحيلي 110.
(4)
مرّ تخريجه قبل قليل.
(5)
الحجاج بن أرطأة قاض من البصرة، توفي عام 147 هـ، ومرّ بك قبل قليل ما قاله في ابن حجر العسقلاني في تقريب التهذيب 1/ 153.
(6)
آثار الحرب في الفقه الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 110.