الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع في الحدود
المسألة الأولى:
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ [البقرة: 2/ 219].
قرأ حمزة: والكسائي: (قل فيهما إثم كثير). وقرأ الباقون: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ (1).
وليس يحتاج المتأمّل كثير نظر ليدرك أن القراءتين متوجهتان من جهة المعنى، والرسم، واللغة، والتواتر، ففي الخمر والميسر إثم كثير، وإثم كبير.
وفي السياق: وإثمهما أكبر من نفعهما، وإجماع الكل على أنها بالباء، ثم إن الذنب يوصف إذا كان موبقا بأنه كبيرة، وفي ذلك قول الله عز وجل: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ [الشورى: 42/ 37]، وقوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النّساء: 4/ 31]، وأورد أبو زرعة حجة لجمهور القرّاء، وهي أن الإثم واحد يراد به الآثام، فوحد في اللفظ ومعناه الجمع، والذي يدلّ عليه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فعودل الإثم بالمنافع، فلما عودل بها حسن أن يوصف بالكثير (2).
ولا يخفى أن هذه التعاليل ليست أكثر من وجوه للتفسير، ولا يستلزم انتصار إمام لقراءته تنكّره لقراءة غيره بعد أن ثبت التواتر في كلّ.
والآية تكشف عن حكمة التدرّج في تشريع الأحكام، وسنأتي على تفصيل ذلك قريبا، فمع بداية الدعوة الإسلامية بقي الخمر على إباحته، حيث كان اهتمام الدعوة مركزا على تثبيت دعائم الإيمان في النفوس .. من وحدانية وتصديق بالرسالة، والرسول، واليوم الآخر.
(1) تقريب النّشر في القراءات العشر لابن الجزري 98. وعبارة الشاطبي:
وإثم كبير شاع بالثا مثلثا
…
وغيرها بالباء نقطة أسفلا
(2)
حجة القراءات لأبي زرعة 132.
وبعد ذلك كان للأخلاق الدرجة الثانية من الاهتمام، فنزلت الآيات في فضيلة الصدق والصبر، والأمانة والوفاء، حتى إذا اكتمل مجتمع الإسلام، عقيدة وأخلاقا، وتوضحت القيم، والمثل العليا في السلوك، بدأ تشريع الأحكام، وذلك مع أول العهد المدني.
تمّ ذلك كله والخمرة ما تزال على إباحتها، يتداولها الصحابة في مجالس أسمارهم من غير حرج ولا نكير، إلا شيئا بدءوا يجدونه في قلوبهم من الريبة في أمرها، دفعهم أن يستبينوا أمرها مرة بعد مرة. والحكيم العليم- سبحانه وتعالى أدرى بنفوس خلقه، وطبائع عباده.
ولا شك أن سلامة الاعتقاد، وحسن الأخلاق تقود تلقائيا إلى سلامة الطبائع، فصارت نفوسهم تشعر بالفضائل، وتتجه نحو الكمالات، فأصبحت تعرف الرذائل والنقائص، وتعمل على اجتنابها وتحاشيها، فبدافع ذاتي بدءوا يشعرون بأن الخمر منقصة ورذيلة، فصار الناضجون إيمانا منهم، لا يكتمون شوقهم وتمنيهم لحكم سماوي يحرم الخمر، بعد أن ظهر تحريمها من نداءات الفطرة السليمة، التي كشف الإسلام الركام عنها في نفوسهم، ومن مستلزمات الطباع القويمة التي صقلها الإيمان في أعماقهم.
وهذه الآية حلقة في سلسلة من التنزيل تعاقبت لبيان حرمة الخمر، وإنما استأنى بهم المولى سبحانه لإلفهم، وعادتهم، وكلفهم به، فلو أنه جزم في تحريمه مرة واحدة لشقّ ذلك عليهم، فكان أول ما نزل من ذلك قول الله عز وجل: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النّحل: 16/ 67]، فقال بعض الصحابة: لو كانت الخمرة رزقا حسنا لما أفردها الله عنه بالذكر.
ثم نزل قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: 2/ 219]، فقال بعضهم: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها (1)، وقال بعضهم: بل نعرض عنها.
ثم نزل قول الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: 4/ 43]، فشربها من شربها منهم، وتركها من تركها، وجعلوا يتّقونها عند الصلاة، حتى شربها رجل يقال له أبو القموص، فجعل ينشد شعرا، يذكر فيه قتلى بدر يرثيهم،
(1) جامع البيان للطبري 2/ 212.
وقال في النّبي والأصحاب هجرا، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء فزعا يجرّ بداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا كان بيده ليضربه، فقال الرجل: أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله، والله لا أطعمها أبدا، فأنزل الله سبحانه:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 5/ 90 - 91].
فقال عمر بن الخطاب: انتهينا .. انتهينا (1).
وروي في أسباب النزول قصص مشابهة عن حمزة، وعن علي رضي الله عنه، فالله أعلم أي ذلك كان.
وهكذا فإن الآية كانت بمثابة إيحاء للناس بكراهية الخمر والميسر، وتهيؤ لنفوسهم للابتعاد عنها، بما تكشف لهم من جوانب الشّر في هذين الوباءين.
فالإسلام بما هو خطاب للإنسان، بكل غرائزه وميوله وواقعه؛ كان منسجما مع ذلك كله، يأمر بما يقتضي الحال، وبلغ أن يطاع، حينما أمر بالمستطاع.
فلم يكن تحريم الخمر أمرا سهلا في مجتمع الجاهلية، الذي لم يكن يفرق بين حاجته إلى الماء وحاجته إلى الخمر، وفي بلد كان الخمر فيه ثروة قومية أساسية، ربما أوصل إتلافه إلى كارثة اقتصادية، وفي مجتمع لم يكن يحسن التفريق بين وحي السماء، ووحي سدنة الوثن.
فبدأ تحريم الخمر ببناء قدسية وحي السماء في نفوس الناس، ثم التمهيد لهذا التحريم بحيث أن رءوس الأموال المرصودة له تتحول تدريجا عنه، ثم الكشف عن أضراره وأخطاره في البدن والعقل، حتى صار تحريمه مطلبا اجتماعيا، يسعى إليه العاقلون.
وهذا هو المقصود بهذه الآية التي جاءت قبل آية التحريم القاطع، فالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس، ولا ريب أن المنافع المقصودة هنا هي تلك الأرباح التجارية التي يجنيها عاصر الخمر ومعتصره، وهو من حيث الواقع ربح حقيقي مؤكد، ولكن القرآن لا يترك الأمر على
(1) جامع البيان تفسير الطبري 2/ 212.
عواهنه، بل يقرر فورا أن الإثم الذي يصيبك من جراء ذلك أكبر بكثير من النفع المادي الذي يحصله الإنسان، إن على سبيل الفرد، أو على سبيل الجماعة.
وبمقارنة بسيطة يدرك الإنسان، روعة التشريع الإلهي، وهيمنته على قضاياه، فها هي المجتمعات الأوربية اليوم في محاولاتها لتحريم الخمور، فإنها على الرغم ممّا للعلم وللعقل من تقديس واحترام في مناهج الغرب وتشريعاته، وعلى الرغم ممّا أكده العلم من أضرار الخمر على الجسم، ومن هدر للمال، ومن منافاة للذوق السليم، وعلى الرغم من نداءات وتحذيرات رجال العلم والطب والأدب عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وعلى الرغم من تدخل الدولة أحيانا بقوانينها وتشريعاتها وعقوباتها وسجونها؛ لم يستطيعوا أن يحدّوا من ارتفاع نسبة المدمنين والمدخنين، ناهيك عن تحريمها أو تخفيضها، أو منع الأطباء منها.
ففي أمريكا مثلا وعلى إثر حملات مكثفة للمؤسسات العلمية الأمريكية التي فضحت مضارّ الخمر المحققة، قام الكونغرس الأمريكي بإصدار قانون عام 1919 يحرّم صناعة الخمر سرّا وجهرا، ويمنع بيعها وتصديرها واستيرادها ونقلها وحيازتها، ويفرض العقوبات الشديدة بحق المخالفين، إما بالسجن أو الغرامة أو كليهما، ووضعت الحكومة لتنفيذ قانون التحريم إمكانات عظيمة، فأنفقت على الدعاية لتوعية الناس بكل الوسائل الإعلامية والتعليمية ما يزيد عن (60) مليون دولار، ونشرت من الكتب والنشرات ما يزيد عن عشرة ملايين صحيفة، وأنفقت لتنفيذ القانون (250) مليون جنيه، وكانت النتيجة بعد تطبيق القانون أربعة عشر عاما ما يلي: انتشار آلاف الحانات السرية، وازدياد عدد شاربي الخمر أضعافا، وسجن حوالي نصف مليون شخص لمخالفتهم القانونية، وصدر حكم الإعدام ب (200) شخص من المجرمين بسبب الخمر، وانتشرت الخمور الرديئة التي زادت في الإضرار الصحية فأدت لهلاك (7500) شخص وإصابة (1100) شخص بأمراض صعبة، وذلك في عام واحد، كما ارتفعت نسبة جرائم القتل إلى 300%، وكل هذا دفع الحكومة لإعادة النظر في قانونها، وقرر الكونغرس عام 1933 م إلغاء قرار حظر الإباحة، وذلك بسبب الفشل الذريع، كما قال صوئيل في كتابه (قراءة حول الغول):«إن القرار قد ألغي على أساس واقعي هو أن المنع قد فشل» (1).
(1) استطلاع نشرته مجلة حضارة الإسلام في عدد شوال 1382 هـ.