الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة عشرة:
قوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير: 81/ 24].
قرأها ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس:(وما هو على الغيب بظنين)(1)، من الظّن والتّهمة.
وقرأ الباقون: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (2) من البخل.
ففي قراءة ابن كثير وأصحابه نفى الله سبحانه عن نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم تهمة الوهن والظّن، فيما يبلغه للعباد من أمر الغيب والوحي. وظنين، صيغة (فعيل)، من ظنّ، جاءت اسم فاعل، خلافا للقياس في نظائرها: منّ، وحنّ، وأنّ؛ حيث اسم فاعلها حنّان، ومنّان، وأنّان.
وفي قراءة الباقين نفى الله سبحانه عن نبيّه الكريم صلى الله عليه وسلم تهمة كتم شيء من الوحي، فأخبر أن ما هو على الغيب بضنين، من البخل، ويدلّ له قول السيدة عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة: أين أنت من ثلاث من حدثك بهن فقد كذب
…
ومن حدثك أنه كتم شيئا من الوحي فقد كذب (3).
وذلك كله من أصول العقيدة يدلّ له العقل، ويدلّ له النقل في مواطن كثيرة، وتزيده هذه الآية توكيدا على توكيد.
وثمرة الخلاف:
أنه يلزم المكلّف اعتقاد سلامة النّبي صلى الله عليه وسلم من أمرين اثنين: من الضّن بالغيب، ومن الظّن بالغيب، فهو لم يكتم شيئا مما أوحي إليه، وكذلك لم يتلقّ ما تلقّى ظانّا، ولا واهما، وإنما تلقّاه بيقين، وأدّاه بيقين. ولم يكن لك أن تدرك المعنيين جميعا لولا ما تواتر من القراءة الصحيحة.
(1) سراج القاري لابن القاصح 382. وعبارة الشاطبي:
وظا بضنين حق راو وخف في فأشار بقوله: (حق) إلى أبي عمرو وابن كثير، وأشار بالراء إلى الكسائي، أنهم قرءوها بالظاء.
وقد أخبر ابن الجزري أن رويس قرأها بالظاء أيضا في تقريب النشر 186، وأورد كذلك وجها منفردا نقله ابن مهران عن روح أيضا أنه قرأها بالظاء.
(2)
المصادر نفسها.
(3)
رواه البخاري في كتاب التفسير، سورة النجم، آية 1.
وهذه المعاني التي دلّت لها الآية من أصول العقيدة يدلّ لها النقل، ويدلّ لها العقل في مواطن كثيرة، وتزيده هذه الآية توكيدا على توكيد.
وفي التّنزيل: قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 18/ 107].
وقد أدّى النّبي صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه فلم يضنّ بشيء، وكان في بعض ما أدّاه عتب عليه شديد، ولو كان له أن يبدله من تلقاء نفسه لكتم ذلك، وقد قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ [الأحزاب: 33/ 37].
وكذلك قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى* أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى * وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى* أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى* وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى * وَهُوَ يَخْشى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عبس: 80/ 1 - 10].
وكذلك قوله تعالى: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 8/ 67 - 68].
وكذلك قوله سبحانه: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقّة: 69/ 44 - 47].
فهذه الآيات ونظائرها تضمّنت عتبا شديدا على النّبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان له أن يضنّ بشيء من الوحي لضنّ بهذا. وأما باب الظّن فقد رزقه الله سبحانه من اليقين ما لم يؤته أحد، وبحسبك أنه بشّر سراقة بن مالك بن جعشم بسواري كسرى وتاجه وهو طريد خائف، يخاف أن يتخطّفه الناس، وبشّر المسلمين بكنوز كسرى وقيصر يوم الخندق، وإن المشركين ليطوقون المدينة كما يطوق السوار المعصم، والمنافقون بداخل المدينة يغلون بالنّفاق ويقولون: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً [الأحزاب: 23/ 12]، واليهود يغدرون من الخلف ويكيدون للإسلام والمسلمين.