الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني الأحكام الفقهية
المبحث الأول العبادات
المسألة الأولى:
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 5/ 6].
قال أبو زرعة: قرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص: وَأَرْجُلَكُمْ بالفتح، وحجتهم أنها معطوفة على الوجوه والأيدي؛ فأوجبوا الغسل عليهما.
عن أبي عبد الرحمن- عبد الله بن عمر- قال: «كنت أقرأ، والحسن والحسين قريبا من علي رضي الله عنه، وعنده ناس قد شغلوه، فقرأنا: وَأَرْجُلَكُمْ فقال رجل: (وأرجلكم) بالكسر، فسمع ذلك علي رضي الله عنه، فقال: «ليس كما قلت» ، ثم تلا: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، هذا المقدم والمؤخر في الكلام» (1). قلت: وفي القرآن الكريم من هذا التقديم والتأخير كثير، قال الله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ [المائدة: 5/ 5]، ثم قال: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وعطف ب الْمُحْصَناتُ على الطَّيِّباتُ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً [طه: 20/ 129]، ثم قال: وَأَجَلٌ مُسَمًّى فعطف (الأجل) على (الكلمة) وبينهما كلام، فكذلك ذلك في قوله: وَأَرْجُلَكُمْ عطف بها على الوجوه والأيدي على ما أخبرتك به من التقديم والتأخير.
(1) أورده السيوطي في الدّر المنثور، ط دار المعرفة 2/ 262، وفيه زيادة: وكان علي يقضي بين الناس، وعزاه إلى أبي عبد الرحمن السّلمي.
وأخرى هي صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فغسل رجليه، وأنه رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه فقال:«بهذا أمرت» ، وقال صلى الله عليه وسلم:«ويل للأعقاب، وبطون الأقدام من النار» ، وعن ابن مسعود قال:«خلّلوا الأصابع بالماء لا تلحقها النّار» (1).
وقال عبد الملك: قلت لعطاء: «هل علمت أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على القدمين» ؟ فقال: «والله ما أعلمه» . والأخبار كثيرة في هذا المعنى، قال الزّجاج: الدليل على أن الغسل هو الواجب في الرجل، وأن المسح لا يجوز تحديد قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما جاءت في تحديد اليد إِلَى الْمَرافِقِ، ولم يجئ في شيء من المسح تحديد، قال: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ بغير تحديد في القرآن، قال: ويجوز أن يقرأ (وأرجلكم) على معنى (واغسلوا) لأن قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ دلّ على ذلك كما وصفنا، وينسق بالغسل على المسح كما قال الشاعر:
يا ليت بعلك قد غدا
…
متقلّدا سيفا ورمحا
والمعنى: متقلّدا سيفا، وحاملا رمحا.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر:(وأرجلكم) خفضا، عطفا على الرءوس، وحجتهم في ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال:«الوضوء غسلتان ومسحتان» . وقال الشعبي:
نزل جبرائيل بالمسح، ألا ترى أنه أهمل ما كان مسحا، ومسح ما كان غسلا في التّيمم.
والصواب من القول ما عليه فقهاء الأمصار؛ أن الغسل هو الواجب في الرجلين، ويجوز أن يكون قوله:(وأرجلكم) بالخفض حملت على العامل الأقرب للجوار، وهي في المعنى الأول؛ كما يقال:(هذا جحر ضبّ خرب) فيحمل على الأقرب، وهو في المعنى الأول.
قال الفرّاء: وقد يعطف بالاسم على الاسم ومعناه يختلف كما قال عز وجل: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ* بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ [الواقعة: 56/ 17 - 18]. ثم قال:
وَحُورٌ عِينٌ وهن لا يطاف بهن على أزواجهن (2)
(1) أخرجه سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين. انظر الدّر المنثور 2/ 263.
(2)
حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، ط مؤسسة الرسالة 222. وانظر سراج القاري لابن القاصح العذري، ط البابي الحلبي 198. وعبارة الشاطبي:
…
...
…
... وأرجلكم بالنصب عم رضا علا
وقال ابن الأنباري: لما تأخرت الأرجل بعد الرءوس نسقت عليها للقرب والجوار (1).
وقد أخذت عامة الشيعة بأن الآية نصّ في أن الواجب المسح لا الغسل، وحجتهم في ذلك قراءة الكسر، وهي كما علمت متواترة، وتوجيهها إلى المسح معقول.
ولكن ماذا صنع القوم بقراءة النّصب وهي أيضا متواترة، وهي قراءة عاصم برواية حفص، وعامة الشيعة يلتزمونها اليوم؟
وجّه الشّيعة استدلالهم إلى أن قراءة النّصب أيضا تفيد المسح لا الغسل، وأن فعل: مسح، قد يتعدى بالباء وقد يتعدى بدون باء، فكأن تقدير العبارة: وامسحوا رءوسكم وأرجلكم، فلحقت الباء بالرءوس للإشارة إلى تبعيض المسح، وبقيت الأرجل على النّصب وهو الأصل، وهذه عبارة المفسّر الشيعي الطباطبائي: «وقرئ: وأرجلكم بالنّصب، وأنت إذا تلقّيت الكلام مخلّى الذهن غير مشوب الفهم لم يلبث أن تقضي أن أَرْجُلَكُمْ منصوب على موضع رُؤُسَكُمْ وهو النصب- أي: بنزع الخافض- وفهمت من الكلام وجوب غسل الوجه واليدين، ومسح الرأس والرجلين، ولم يخطر ببالك أن ترد أَرْجُلَكُمْ إلى وُجُوهَكُمْ في أول الآية مع انقطاع الحكم في قوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ بحكم آخر، وهو قوله: وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فإن الطبع السليم يأبى حمل الكلام البليغ على ذلك، وكيف يرضى طبع متكلم بليغ أن يقول مثلا: قبلت وجه زيد ورأسه، ومسحت بكتفه ويده، بنصب يد عطفا على وجه زيد، مع انقطاع الكلام الأول، وصلاحية قوله:(يده) لأن يعطف على محل المجرور المتّصل به، وهو أمر جائز دائر، كثير
الورود في كلامهم» (2).
ثم عطف الطباطبائي بالرّد على استدلال أهل السّنة والجماعة في قولهم: إن قراءة الجرّ وردت على سبيل العطف في اللفظ دون المعنى، وذلك كما ورد في شعر العرب علفتها تبنا، وماء باردا، فقال: «وفيه أن مرجعه إلى تقدير فعل يعمل عملا يوافق إعراب حال العطف، كما يدل عليه ما استشهد به من الشعر، وهذا المقدر في الآية إما فَاغْسِلُوا وهو يتعدى بنفسه لا بحرف الجرّ، وإما غيره وهو خلاف ظاهر لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، وأيضا ما استشهد به من الشعر إما من قبيل المجاز العقلي، وإما بتضمين علفت معنى أعطيت، وأشبعت، ونحوهما.
(1) انظر تفسير آيات الأحكام للصابوني، ط مؤسسة الغزالي 1/ 536.
(2)
تفسير الميزان 5/ 224.
وأيضا الشعر المستشهد به يفسد معناه لو لم يعالج بتقدير ونحوه، فهناك حاجة إلى العلاج قطعية، وأما الآية فلا حاجة فيها إلى ذلك من جهة اللفظ» (1).
وهكذا فقد أورد الطباطبائي حجج الشيعة الإمامية في توجيه الآية إلى معنى المسح دون معنى الغسل، وقد أطلنا في النقل عنهم في هذا الباب لأن المسألة من المسائل التي أطال القوم في بيانها، والاستدلال لها.
وهكذا فإن عامة الإمامية قد أخذت بهذه القراءة، وجعلت الواجب مسح الرجلين لا غسلهما، واستدلوا لذلك بما أخرج أبو داود من حديث أوس بن أوس الثقفي أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم بالطائف، فتوضأ، ومسح على نعليه وقدميه (2)، وبما روي عن علي، وابن عباس، وأنس، لكن قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.
قال الشوكاني (3): وأما الموجبون للمسح، وهم الإمامية، فلم يأتوا مع مخالفتهم الكتاب والسّنة المتواترة قولا وفعلا بحجة نيّرة، وجعلوا قراءة النصب عطفا على محلّ قوله: بِرُؤُسِكُمْ والسبب في ذكر الغسل والمسح في الأرجل بحسب قراءتي النصب والجر- كما ذكر الزمخشري (4) - هو توقّي الإسراف؛ لأن الأرجل مظنة لذلك.
ويلاحظ أن الإمامية في إيران اليوم يقرءون بقراءة عاصم من رواية حفص، وهي في مصاحفهم بالنصب وَأَرْجُلَكُمْ وهذا يقوي ما نقله بعض الفقهاء من ثبوت رجوعهم عن ذلك (5).
وأما الجواب على ما أورده الجعفرية فهو في ثلاث شعب:
الأول: أما قولهم بأن الفصل بين المتعاطفين ضعف في البلاغة، فإنه يرد عليه بما ورد من نظائر كثيرة لذلك التعاطف في الكتاب العزيز، كقوله سبحانه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى [طه: 20/ 132]،
(1) المصدر نفسه.
(2)
سنن أبي داود، كتاب الطهارة، باب (62)، مسند أحمد بن حنبل 1/ 120 و 148 و 9/ 10 و 252.
(3)
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التنزيل للشوكاني، ط دار المعرفة 2/ 18.
(4)
الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري، ط انتشارات آفتاب تهران 1/ 571.
(5)
انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي، ط دار الفكر 1/ 224.
فقد كمل الكلام بقوله: لكان لزاما، ثم عطف بقوله: وأجل مسمى، وذلك نكتة بديعة أراد به تهويل أمر الكلمة الإلهية فعجّل بجوابها، ثم عطف ببيان السبب الثاني وهو الأجل المسمّى.
ومثل ذلك قوله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5/ 5]، وليس ثمة عاقل يجيز عطف المحصنات هنا على أقرب مذكور؛ إذ ليست الآية في إباحة أكلهن، بل الآية في إباحة زواجهن، وحمل الْمُحْصَناتُ على الاستئناف ضعيف، لأنه لا بدّ فيه من تقدير الخبر، وإذا جاز التقدير وعدمه، فعدم التقدير أولى اتّفاقا.
والجواب: أن هذا الحمل لم يتمّ من دون نصّ من السّنة الصحيحة، وقد قدمنا طرفا من الأدلة من جهة السّنة المطهرة لوجوب الغسل في الرجلين (2). وأيضا يشهد لذلك المعقول، فإن الرجلين هما مجتمع الأوساخ والأقذار، وفيهما يرشح ويستقر الأذى والجراثيم، فكان غسلهما وتنظيفهما بالماء هو المطلوب، إلا إذا كانا معصومين بالخف، فيمكن حينئذ المسح على الأخفاف كما بيّنته السّنة المطهرة.
الثالث: أما قولهم بأن العطف مع التّجاور مفيد للعطف اللفظي والمعنوي لا محالة، فهو أيضا إلزام بغير ما ملزم، ويرد عليه ما قدمنا من كلام العرب: هذا حجر ضبّ خرب (3)
، وكذلك ما ورد في التنزيل العزيز من مثل قوله سبحانه:
(1) الميزان للطباطبائي 5/ 224.
(2)
انظر ما قدمناه 245 و 246.
(3)
أورده بعض النحاة احتجاجا على الاستدلال بهذه العبارة، وفي ذلك قال سعيد الأفغاني: هذه جملة أولع بها قدماء النّحاة ومن بعدهم، ولا حجة فيها من وجهين: الأول: أن قائلها- إن وجد- مجهول. والثاني: أن الوقوف على الكلمة الأخيرة بالسكون، إذ العربي لا يقف على متحرك، فمن أين علموا أن قائلها جر:(خرب).