الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث حكمة القراءات
إذا استقرّ لديك اليقين على أن هذه القراءات المتواترة جميعا قد قرأ بها النّبي صلى الله عليه وسلم وأقرأها؛ لم يكن لك أن تتوقف في إيمانك على العلة التي أدت إلى ذلك التّعدد، ولا أن تسأل عن الضرورة التي ألجأت إليه، فهو وحي أمين، وهي إرادة الله عز وجل، وهو لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 21/ 23].
ولكن التسليم بربانيّة مصدر هذه القراءات في سائر وجوهها لا يتناقض مع البحث عن حكمها وأسرارها ودلالاتها، وهي التي يمكن أن يتلمسها المرء لدى دراسته لوجوه هذه القراءات ومعانيها.
والنتيجة التي ينتهي إليها كل باحث، من خلال قراءة واقع اللغة العربية قبل الإسلام، هي أن اللغة العربية كانت في حالة مخاض عسير، ولم يكن بالإمكان تصوّر ما تنجلي عنه تلك الحالة الصعبة، فقد ترسّخت العقدة القبلية لدى كثير من العرب، وحلّت محلّ الإحساس القومي، وتوزع كثير من العرب في ولاءاتهم بين الفرس والرّوم والحبشة، وظهرت فيهم تيارات محلية ضمن قوقعة الذات؛ تدعو إلى إحلال اللهجات المحلية محل اللغة العربية الشاملة، وظهرت حينئذ لهجات عربية ضالّة لا يمكن أن تلتقي على أصول واحدة إلّا مع استثناءات كثيرة تفوق الحصر وتخرج عن المنهج المطّرد.
ومما وصل إلينا من أشكال التقارب بين اللهجات العربية على سبيل المثال: كشكشة تميم، وسكسكة بكر، وشنشنة تغلب، وغمغمة قضاعة، وطمطمانية حمير، ورتة العراق، وهي كما نرى لهجات منسوبة إلى قبائل بعينها.
وثمة انحرافات لغوية أخرى لم تنسب إلى قبائل بعينها، ولكنها كانت شائعة فاشية، كالفأفأة، واللثغة، والغنّة، واللّكنة، والعقلة، والحبسة، والتّرخيم، والتّمتمة، واللفف، والارتضاخ، والرّطانة.
ويطول بنا البحث لو أردنا أن نسرد أشكال الانحرافات التي انتهت إليها لهجات القبائل المتوزعة في أطراف الجزيرة العربية، ولعل من أهمها ما كشفت عنه الحفريات في جنوب الجزيرة العربية، حيث ثبت أن بعض عرب اليمن كانوا ينطقون ويكتبون لغة عربية، ولكن من دون الحروف الصوتية الثلاث: الألف، والواو، والياء
…
!!
ولقد نقل ابن عبد ربه وجوه هذه الانحرافات في موسوعته الكبيرة المسماة: العقد الفريد، وفيما يلي أنقل لك كلامه بنصه كما أورده في باب خاص، عقده تحت عنوان: آفات النّطق: «قال أبو العباس محمد بن يزيد النّحوي: التمتمة في المنطق: التّردد في التاء، والعقلة: التواء اللسان عند إرادة الكلام، والحبسة: تعذر الكلام عند إرادته، واللفف: إدخال حرف في حرف، والرّتة كالرّتج: تمنع أول الكلام، فإذا جاء منه شيء اتصل به، والغمغمة: أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحروف.
فأما الرّتّة: فإنها تكون غريزية. قال الراجز:
يا أيّها المخلّط الأرتّ
وأمة الغمغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره، لأنها صوت من لا يفهم تقطيع حروفه.
واستأنف فقال: والطمطمة: أن يعدل بحرف إلى حرف، والغنّة: أن يشرب الحرف صوت الخيشوم، والخنّة: أشدّ منها، والتّرخيم: حذف الكلام، والفأفأة: التّردد في الفاء.
وأما كشكشة تميم: فإن بني عمرو بن تميم إذا ذكرت كاف المؤنث فوقفت عليها أبدلت منها شينا لقرب الشين من الكاف في المخرج.
وأما سكسكة بكر: فقوم منهم يبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميّون في الشين.
وأما طمطمانية حمير ففيها يقول عنترة:
تأوي له قلص النعام كما أوت
…
حزم يمانية لأعجم طمطم» (1)
بل أخذت الانحرافات اللغوية أشكالا أبعد من ذلك حتى شاع لديهم تسميتها باللغات: لغة
(1) العقد الفريد لابن عبد ربه 2/ 475.
هذيل، ولغة قيس، ولغة كندة، وإن كنا نرى أن تسميتها باللغات ليس منهجا مستقيما؛ إذ لم تخرج في عمومها عن مفردات العرب، ومناهج نطقهم.
وذلك كله قبل الإسلام حيث كانت اللغة في مهدها في جزيرة العرب، وبوسعك أن تتصور مستقبل لغة فيها هذه الفوارق منذ أكثر من ألف وأربع مائة عام
…
! خصوصا إذا خرجت هذه اللغة عن إطارها التقليدي ضمن الجزيرة العربية لتمتد من خراسان وأذربيجان إلى الهلال الخصيب فالأندلس مرورا بالشمال الأفريقي كله، لا شك أنها ستصبح حينئذ ركاما هائلا من اللغات واللهجات التي لا يضبطها ضابط ولا يجمعا قانون. ومرارا كانت تأتي وفود العرب إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فتحدثه بلهجاتها ولغاتها فيخاطبها النّبي صلى الله عليه وسلم بما تعوّدته من لهجاتها، فيكون ذلك مثار دهشة الأصحاب وعجبهم.
من ذلك ما أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أن وفدا من حمير جاءوا إلى النّبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:
يا رسول الله أمن امبر امصيام في امسفر؟
فقال صلى الله عليه وسلم: «ليس من امبر امصيام في امسفر» .
وتعجب الأصحاب مما سمعوا، حتى تبين لهم أن الوفد حي من العرب يبدلون اللام ميما، والميم لاما. وكان سؤالهم: أمن البر الصيام في السفر؟ فجاء جواب النّبي صلى الله عليه وسلم: «ليس من البر الصيام في السفر» (1).
ولولا القرآن الكريم، ودقة الضبط في روايته، وتلقيه ضمن حدود القراءات، لأصبحت العربية أثرا بعد عين، ولصار جمع العرب على لغة واحدة أشبه بجمع شعوب القارة الأفريقية اليوم على لغة واحدة.
ولا ينبغي أن نتصور جراء ذلك أن العرب كانوا عطلا عن البلاغة والبيان، فذلك ما لم نقله ولم نقصد إليه، فقد أوتي العرب الفصاحة والبلاغة، وتبوأ خطباؤهم وشعراؤهم منزلة رفيعة في الترتيب الطبقي للقبيلة، وسارت بقصائد شعرائهم الركبان، وعلّقت روائعهم على جدران الكعبة، ولا تزال إلى اليوم تلهم النّقاد والأدباء ما رقّ ودقّ، وعزّ وشقّ من لطيف العبارة،
(1) مسند أحمد بن حنبل 5/ 424.
وعجيب البيان. ولكنهم على ذلك لم يكونوا يمتلكون كتابا أمّا يرجعون إليه في تمييز الصحيح من الدّخيل، ويقعّدون على أساسه قواعد نطقهم.
كذلك فإنهم لم يعدموا لسانا مفهما، يتحاورون فيه، ويتبادلون على أساسه حوائجهم ومعارفهم وخبراتهم، ولكن إرهاصات الشقاق اللغوي كانت قد تهيأت تماما، ومضت في سبيلها المتناكس، وشجع على ذلك نمو العصبية القبلية، والاتصال بالعجم، وغياب أي شكل جدّي من أشكال الوحدة العربية المطلوبة.
وبوسعك أن تتصور أي مستقبل كان ينتظر اللغة العربية في ضوء هذه المعطيات، لولا الثورة اللغوية التي أعقبت نزول القرآن الكريم، وانتشار قرّائه وحفّاظه في الأمصار، يجمعون الناس على منهج واحد، وبهم تبوأت اللغة العربية مكانها، وتأصّل الصحيح محل ما يجب هدمه من رطانة وانحراف، ولغات ضالة لا تنتمي إلى أصول الكلام العربي. وأمّا اللهجات العربية المحترمة، فقد تكفلت بحفظها القراءات القرآنية، التي أذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدى الاستقراء فإنك تجد أنها تحتوي على كثير من اللهجات العربية، ولكنها محكومة بضابط من القواعد يمكن ردّها إليها، والاحتكام على أساسها.
لقد كانت اختيارات النّبي صلى الله عليه وسلم في أمر القراءة المأذون بها، تتم فيما يمكن تسميته بمطبخ اللغة العربية على أساس الإجماع العربي، حيث تمّ تمييز الاصيل من الدّخيل من كلام العرب، وأمكن حينئذ أن تبدأ جهود علماء اللغة في تأصيل القواعد وتحريرها، الأمر الذي نتجت عنه علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وما لحق بها من معارف تفصيلية جعلت لغة العرب من أضبط اللغات قواعدا، وأكثرها تعليلا، وأوضحها معالجة.
وعلى ضوء ذلك تمّ ترتيب البيت الداخلي للسان العرب، وتوفرت الوثيقة المعتمدة لضبط اللسان العربي- وهي القرآن الكريم- وفق ما رتّله النّبي صلى الله عليه وسلم من وجوه القراءات، وتلقّاه عنه أصحابه الكرام.
وهكذا فقد أصبحت الجزيرة العربية تعتمد لسانا عربيا واحدا، مهما اختلفت فيه من شيء ردته إلى الكتاب الإمام، بعد ذلك التفت العرب إلى أراضيهم المسلوخة عنهم في بلاد الشام والعراق والشمال الإفريقي، وقد تزاحمت فيها رطانات الأمم الغالبة، حتى لم يبق للعربية أثر يذكر في لغة
الحياة، فكانت بلاد الشام تتكلم لغات محلية إقليمية وأجنبية، فيها الآرامي، والسّرياني، والرّومي، وكان أهل العراق يتكلمون لسانا فارسيّا، وكان لبنان فينيقيّا، وكانت مصر ضائعة في لهجاتها الفرعونية القبطية والرومية، وكان الشمال الإفريقي يتكلم لسانا بربريا. على الرغم من الأصول العربية المؤكدة التي تنتمي إليها هذه الشعوب، ولم يكن ثمة شيء يكفل أن تعود تلك الشعوب إلى لسانها العربي بعد أن تركته قرونا كثيرة، لولا أن تمت نعمة الله على هذه الأمة بنزول القرآن الكريم، ولولا توفر الإرادة الكافية لدى الرعيل الأول في العهدين الراشدي والأموي لجمع القرآن العظيم- وثائق ومشافهات- ليصبح من ذلك الحين عماد اللسان العربي في النحو والنطق (1).
كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [فصّلت: 41/ 3].
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ [الرّعد: 13/ 37].
(1) انظر كتاب: التجويد وأثره في النطق العربي الصحيح للمؤلف، ص 15، وهو دراسة منهجية مقررة على المذيعين العرب، أعدت بطلب من مركز التدريب الإذاعي بدمشق التابع لجامعة الدول العربية.