الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول معنى القراءات وغاياتها
المبحث الأول تمهيد في الحفظ الإلهي للنّص القرآني
أنزل الله سبحانه القرآن الكريم رسالة عامة خاتمة، وجعل فيها سعادة الدارين، وحدّد للناس منهج حياتهم في الدنيا والآخرة. ولن تجد في وصف هذا الكتاب العظيم أبلغ من قول الله عز وجل:
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر: 59/ 21].
وأوجز النّبي صلى الله عليه وسلم خصائص هذا الكتاب العظيم بقوله:
كتاب الله، فيه نبأ من قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبّار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضلّه الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصّراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يخلق عن الرّد، ولا تنقضي عجائبه، هو الذي لم تنته الجنّ إذ سمعته عن أن قالوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجنّ: 72/ 1 - 2]، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم» (1).
(1) أخرجه التّرمذي عن علي رضي الله عنه في باب فضل القرآن، برقم (2908)، وقال: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإسناده مجهول، وفي الحديث مقال، أي الحارث الأعور. ولكن الحديث وارد في الفضائل، وله شاهد يقويه من طريق محمد بن إسحاق، انظر الحاشية التالية.
وقد أجمع العلماء على مبدأ عصمة النّص القرآني من الزّيغ والعبث والأهواء، وأيقن الباحثون أن النّص الذي تنزل به جبريل الأمين على النبيّ صلى الله عليه وسلم هو النّص عينه الذي قرأه الناس في القرون الخالية وهو الذي يقرؤه الناس اليوم.
ومع أن كثيرا من الباحثين الغربيين تناولوا بالنقد والتحليل والجرأة سلامة النصوص المقدسة، وجزموا بتحريف كثير منها، غير أنهم لم يطالوا بنقدهم سلامة النّص القرآني إلا ما كان من بعض أصحاب الهوى الذين لم يجدوا من يهتم بأقوالهم وأفكارهم التي تفتقر إلى أدنى درجات التحقيق العلمي.
ولعل أوضح تجربة معاصرة في هذا الاتجاه هي ذلك البحث العلمي الرصين الذي قام به المفكر الفرنسي (موريس بوكاي) تحت عنوان: دراسة الكتب المقدسة في ضوء المعارف الحديثة، والذي انتهى من خلاله- وعلى طريقة البحث الموضوعي المجرد- إلى إثبات التحريف في التوراة والإنجيل، ثم إثبات سلامة النّص القرآني من أي تبديل أو تحريف أو تغيير. وقد لخّص (موريس بوكاي) نتيجة بحثه بقوله:
«إن لتنزيل القرآن تاريخا يختلف تماما عن تاريخ العهد القديم والأناجيل. فتنزيله يمتدّ على مدى عشرين عاما تقريبا، وبمجرد نزول جبريل به على النّبي صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون يحفظونه
(1) رواه الدّارمي في فضائل القرآن: 2/ 67، وأورد رواية أخرى مقاربة لها، وكلاهما من طريق محمد بن كعب القرظي عن الحارث بن عبد الله، أي الأعور. (انظر الحاشية السابقة).
(2)
أورده ابن الأثير في جامع الأصول: 8/ 464، وقال: أخرجه رزين، وروى ابن كثير في فضائل القرآن مثله وقال:
رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتابه فضائل القرآن.
عن ظهر قلب، بل قد سجّل كتابة حتى في حياة محمد صلى الله عليه وسلم. إن التّجمعات الأخيرة للقرآن التي تمت في خلافة عثمان، فيما بين اثني عشر عاما وأربعة وعشرين عاما بعد وفاة النّبي صلى الله عليه وسلم قد أفيدت من الرقابة التي مارسها هؤلاء الذين كانوا يعرفون النّص حفظا. بعد أن تعلّموه في زمن التّنزيل نفسه، وتلوه دائما فيما بعد، ومعروف أن النّص منذ ذلك العصر قد ظلّ محفوظا بشكل دقيق، وهكذا فإن القرآن لا يطرح مشاكل تتعلق بالصحة.
إن القرآن- وقد استأنف التنزيلين اللذين سبقاه- لا يخلو فقط من متناقضات الرواية وهي السمة البارزة في مختلف صياغات الأناجيل، بل يظهر أيضا لكل من يشرع في دراسته بموضوعية، وعلى ضوء العلوم طابعه الخاص، وهو التوافق التام مع المعطيات العلمية الحديثة، بل أكثر من ذلك- ولما أثبتناه- يكشف القارئ فيه مقولات ذات طابع علمي من المستحيل تصور أن إنسانا في عصر محمّد صلى الله عليه وسلم قد استطاع أن يؤلّفها، وعلى هذا، فالمعارف العلمية الحديثة تسمح بفهم بعض الآيات القرآنية التي كانت بلا تفسير صحيح حتى الآن.
إن مقارنة عديد من روايات التوراة مع روايات الموضوعات نفسها في القرآن، تبرز الفروق الأساسية بين دعاوى التوراة غير المقبولة علميّا، وبين مقولات القرآن التي تتوافق مع المعطيات الحديثة (1).
وهذا التسليم بموثوقية النّص القرآني تظاهرت عليه الأدلة من العقل والنّقل والواقع، إلى حدّ لا مزيد عليه، وحسبك من ذلك أن نسخ القرآن العظيم التي تطبع اليوم في العالم، وتتجاوز نسخها آلاف الملايين، لا يختلف بعضها عن بعض في كلمة أو حرف أو نقطة أو شكل.
ولعل المنفذ الوحيد الذي اتّخذه خصوم القرآن منفذا للحديث عن اختلاط مزعوم في النّص القرآني هو مسألة القراءات القرآنية، حيث يتوهم هؤلاء أنها ثغرة في عصمة النصوص، وأن الإقرار بها يستلزم القول بتوهين سلامة النّص القرآني، ووجود فقرات بشرية من صنع القرّاء ضمن التّنزيل القرآني الحكيم. ولعل الإجابة على هذا السؤال عينه هي التي كانت وراء اختياري هذه الدراسة.
(1) دراسة الكتب المقدسة ص 285. وقد أدى اشتغال الدكتور موريس بوكاي ببحوث توثيق الكتب المقدسة إلى إعلان دخوله في الإسلام في نهاية المطاف، وذلك في باريس عام 1403 هـ/ 1983 م.