الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس في الأيمان
المسألة الأولى:
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النّساء: 4/ 1].
قرأ حمزة: (والأرحام) بالخفض. وقرأ الباقون: وَالْأَرْحامَ بالنصب (1).
وتتجه قراءة حمزة إلى العطف على تقدير الخافض أي: تسألون به وبالأرحام، فيما يرى سائر القرّاء لزوم النّصب على تقدير: واتّقوا الله أن تعصوه واتّقوا الأرحام أن
تقطعوها.
وقد ثار خلاف قديم حول قراءة حمزة قبل ثبوت تواترها، فأنكرها جماعة من المفسّرين والنّحاة.
قال الزّجاج: الخفض في (الأرحام) خطأ في العربية، لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين لأن النّبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا تحلفوا بآبائكم» (2)، ثم ناقش الأمر من جهة اللغة، فقال: أما العربية فإجماع النّحويين أنه يقبح أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض، فلا تقول: مررت به وزيد، ومررت بك وزيد، إلا مع إظهار الخافض:
مررت بك وبزيد (3).
وقال المازني: الثاني في العطف شريك الأول، فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكا
(1) سراج القاري لابن القاصح العذري 188. وعبارة الشاطبية:
وكوفيهم تساءلون مخففا
…
وحمزة والأرحام بالخفض جملا
(2)
أخرجه الجماعة عن ابن عمر إلا النّسائي، وتمامه:«ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفا، فليحلف بالله أو ليصمت» وهو صحيح، انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 227.
(3)
حجة القراءات لأبي زرعة 188.
للثاني، وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكا له، فكما لا تقول:(مررت بزيد وبك) فكذلك لا تقول: (مررت بك وزيد)(1).
وقد اشتدّ قوم في إنكار قراءة حمزة، حتى قال المبرد:«لو صلّيت خلف إمام يقرأ: (واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) لأخذت نعلي ومضيت» (2).
ولا يخفى أن هذا الإنكار إنما يسمع قبل ثبوت التواتر، أمّا بعد ثبوته فإن أعظم حجة في العربية إنما هي ورودها في التنزيل وقراءة النّبي صلى الله عليه وسلم لها.
وقد احتجّ من قرأ بالخفض بتواتر الإسناد، وهو أقوى الأدلة بلا مراء، وكذلك احتجّوا بأن عبد الله بن مسعود كان يقرؤها:(واتّقوا الله الذي تساءلون به وبالأرحام)(3) على سبيل التفسير والإيضاح.
كذلك فإن إنكار عطف الظاهر على المضمر ليس في مطلق الأحوال، وإنما ينكر عطف الظاهر على المضمر إذا لم يجر له ذكر، فتقول:(مررت به وزيد)، فذلك غير مستقيم، أما إن تقدم للهاء ذكر فهو حسن، وذلك مثل:(عمرو مررت به وزيد)، فكذلك الهاء في قوله:
تَسائَلُونَ بِهِ تقدم ذكرها، وهو قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ (4).
وأما ورود ذلك في الشعر فهو غير منكر مطلقا كقول الأعشى:
فاليوم أصبحت تهجونا وتشتمنا
…
فاذهب .. فما بك والأيام من عجب (5)
ويجاب أيضا عن دعوى ردّ قراءة حمزة، بأن تحريم الحلف بغير الله ليس محلّ إجماع، بل
(1) حجة القراءات لأبي زرعة 188.
(2)
كذا نقله القرطبي في الجامع 5/ 3.
(3)
معجم القراءات القرآنية 2/ 104. وانظر الإملاء للعكبري 1/ 96، والجامع لأحكام القرآن 5/ 5، والكشاف للزمخشري 1/ 241.
(4)
حجة القراءات لأبي زرعة 188.
(5)
المصدر نفسه، وفي الحاشية قال سعيد الأفغاني، اختلف في قائل البيت بين الأعشى، وليس في ديوانه، وعمرو بن معديكرب، وخفاف بن ندبة.
الإجماع أنه لا ينعقد (1)، وعدم انعقاده شيء، ومنع التّلفظ به شيء آخر، وفرق كبير بين المسألتين.
إلى ذلك فقد روى الشيخان وأحمد عن طلحة بن عبيد الله أن النّبي صلى الله عليه وسلم: أتاه أعرابي فسأله مسائل
…
فلما انصرف قال النّبي صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق» (2).
واستدلوا لذلك بما جاء في القرآن من قسم بالنّبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه:
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 15/ 72].
وكذلك في قوله: وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: 36/ 2].
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً [الصّافّات: 37/ 1 - 3].
وَالذَّارِياتِ ذَرْواً* فَالْحامِلاتِ وِقْراً* فَالْجارِياتِ يُسْراً [الذّاريات: 51/ 1 - 3].
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ* وَطُورِ سِينِينَ* وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التّين: 95/ 1 - 3].
ومثل ذلك في القرآن كثير، ولم يرد مخصص ظاهر في هذا السبيل، وفي حديث أبي العشراء قال صلى الله عليه وسلم:«وأبيك .. لو طعنت في فخذها لأجزأك» (3).
ولكن الفقهاء يرون أن المخصّص هو السّنة، فقد ثبت في الصحيحين أن النّبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب في ركب، وعمر يحلف بأبيه، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:«ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» (4)، وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته.
وأجابوا عن قوله صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق» بأنه ورد قبل النهي عن الحلف بالآباء، وكذلك حديث أبي العشراء (5).
(1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلّته للدكتور الزحيلي 3/ 387.
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الأيمان، الباب الثامن، حديث (9)، وهو في طبعة دار المعرفة 5/ 80. وكذلك أخرجه أحمد في مسنده 1/ 162.
(3)
رواه أحمد بن حنبل 4/ 334، وأورده من رواية حماد بن سلمة ودون لفظ وأبيك، في الصفحة نفسها.
(4)
حديث صحيح أخرجه الجماعة إلا النّسائي عن ابن عمر. انظر نيل الأوطار للشوكاني 8/ 277.
(5)
انظر المغني لابن قدامة 8/ 678.
وهذا النهي يؤدي بالإجماع إلى عدم انعقاد اليمين، ولكن هل يدل على تحريمه؟
لا خلاف إن قصد تعظيم المحلوف به وتقديسه وإحلاله محلّ الله عز وجل، فهو شرك وكفر، وعليه تحمل الأحاديث الشديدة في ذلك (1):«من حلف بغير الله فقد أشرك» (2)، «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (3).
أما إن كان مما يجري به اللسان، ولا يقصد المرء إيقاعه، فغاية القول فيه أن لا ينعقد، وقد كرهه الفقهاء، وقال الشافعي: أخشى أن يكون معصية، ولا يجب عليه كفارة (4).
ونقل الزحيلي الإجماع على عدم انعقاده بقوله: «إذا حلف الإنسان بغير الله تعالى كالإسلام، أو بأنبياء الله تعالى، أو بملائكته
…
، أو بالصحابة، أو بالسماء، أو بالأرض، أو بالشمس، أو بالقمر والنجوم ونحوها؛ مثل: لعمرك، وحياتك، وحقك؛ فلا يكون يمينا بإجماع العلماء وهو مكروه» (5).
واختار الشافعية كذلك المنع من الحلف بغير الله؛ قال السيد البكري: «لا ينعقد اليمين إلا باسم خاص بالله تعالى أو صفاته: والله، والرّحمن، والإله، وربّ العالمين، وخالق الخلق» .
ثم قال: «فإذا قصد تعظيم المحلوف به فقد كفر لخبر: «من حلف بغير الله فقد كفر» (6)، فإن لم يقصد ذلك أثم، وهذا مذهب أكثر العلماء أي تبعا لنصّ الشافعي الصريح فيه (7)، كذا قاله بعض شرّاح المنهاج (8)، والذي في شرح مسلم (9) عن أكثر أصحاب الشافعي الكراهة، وهو المعتمد،
(1) انظر موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي 3/ 388 الحاشية.
(2)
رواه أحمد عن ابن عمر، وهو حسن، انظر سبل السلام 2/ 167، ولم يبلغ الحديث رتبة الصحيح التي تستقل بتشريع الأحكام.
(3)
رواه مسلم برقم 1648 في كتاب الأيمان بصيغة: «لا تحلفوا بالطواغيت ولا بآبائكم» . وفي رواية النّسائي: «لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» . انظر جامع الأصول 12/ 655.
(4)
مغني المحتاج 4/ 320. وانظر كذلك إعانة الطالبين للسيد البكري 4/ 313.
(5)
الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي 3/ 288.
(6)
انظر تخريجه في الصفحة السابقة نقلا عن سبل السلام للصنعاني 2/ 167.
(7)
انظر الحاشية رقم 4 السالفة.
(8)
أي منهاج الطالبين.
(9)
أي شرح الإمام النووي على صحيح مسلم.
وإن كان الدليل ظاهرا في الإثم، قال بعضهم: وهو الذي ينبغي العمل به في غالب الأعصار» (1).
وكذلك فقد ردّ الشافعية على من استدلّ بما في القرآن من القسم بالمخلوقين، قال البكري:
واكتفى الحنفية بأن نصّوا على عدم انعقاد اليمين بغير الله، من دون إشارة إلى التأثيم في ذلك، قال القدوري الحنفي في الكتاب:«ومن حلف بغير الله لم يكن حالفا، كالنّبي والقرآن والكعبة» (3).
وقال ابن قدامة في المغني: ولا تنعقد اليمين بالحلف بمخلوق كالكعبة والأنبياء، وسائر المخلوقات، ولا تجب الكفارة بالحنث (4).
وردّ ابن قدامة على استدلال الأولين بالأيمان في القرآن بقوله: «فأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على إقسامه، وقد قيل: إن في إقسامه إضمار القسم بربّ هذه المخلوقات، فقوله: وَالضُّحى أي وربّ الضّحى.
وأما قول النّبي صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق» فقال ابن عبد البر: هذه اللفظة غير محفوظة من وجه صحيح، فقد رواه مالك وغيره من الحفاظ، فلم يقولوها فيه، وحديث أبي العشراء قد قال أحمد: لو كان يثبت، ولهذا لم يعمل به الفقهاء في إباحة الذبح في الفخذ، ثم لو ثبت فالظاهر أن النّهي بعده لأن عمر قد كان يحلف بها كما قد حلف بها النّبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى عنها، ولم يرد بعد النّبي إباحته (5).
ولكن سائر ما قدمه المعترضون لا ينهض حجة في وجه القراءة المتواترة؛ إذ هي أقوى دليلا
(1) فتح المعين للسيد البكري 4/ 313 حاشية.
(2)
إعانة الطالبين على فتح المعين 4/ 313.
(3)
الكتاب للقدوري الحنفي، وهو مطبوع متنا في رأس: اللباب في شرح الكتاب 4/ 5.
(4)
المغني لابن قدامة 8/ 704.
(5)
المغني لابن قدامة 8/ 678.