الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما كان مصحف أبي بكر رضي الله عنه واحدا فإنه من المفترض أنه اشتمل على أحد الرّسمين، ولكن من المؤكد أن وثيقة أخرى كتبت بالرسم الآخر، وكانت موجودة في المجموعة التي توفرت لدى الصّديق رضي الله عنه من الوثائق.
وحينما كتب مصحف عثمان بن عفّان رضي الله عنه ونسخ في الأمصار؛ كان من أهم النقاط التي لحظتها المصاحف أنها عالجت مواضع اختلاف الرسم الضروري بين القراءات، فكتبت الأحرف متعددة في مواضع الاختلاف بحسب القراءات المأذون بها من المعصوم صلى الله عليه وسلم.
المبحث الرابع أثر الرسم العثماني في ضبط القراءات
ظهر لنا في الفصل السابق أن المصاحف العثمانية التي وزعها عثمان في الأمصار كانت مشتملة على القراءات المشروعة بمجموعها، فقد تغيب قراءة ما عن رسم أحد المصاحف العثمانية، ولكنها تظهر جزما في نسخة أخرى، وقد يقصر رسم أحد المصاحف عن التعبير بالوجوه المشروعة في القراءة، ولكن يجيء رسم مصحف آخر بالتعبير عما لم يرد في سالفه.
ويجب التّنبيه هنا أن ذلك كله في تسعة وأربعين حرفا لا غير، وقد يشكل عليك ما قدمت من أن الخلاف بين القراءات في الفرش وصل إلى نحو ألفي كلمة، وهذا ليس غائبا عن البال، فالخلاف الفرشي المذكور كله يحتمله رسم واحد إلا المواضع التسعة والأربعين فإنه لا يحتملها رسم واحد، ولا بدّ من تعدّد الرسم في النسخ ليتمّ استيعاب الوجوه المشروعة.
فنجد مثلا أن وجوه القراءة الأربعة تؤخذ من رسم عثماني واحد في مثل الموضع التالي:
(قبل النقط والتّشكيل).
وإليه يَرْجِعُونَ [الأحزاب: 33/ 85]: يرجعون (1) - يرجعون (2) - ترجعون (3) - ترجعون (4).
(1) قرأ بها ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف.
(2)
قرأ بها رويس.
(3)
قرأ بها روح.
(4)
قرأ بها الباقون.
يوم القيامة يَفْصِلُ [الممتحنة: 60/ 3] بينكم: يفصل (1) - يفصّل (2) - يفصل (3) - يفصّل (4).
فإذا هم يَخِصِّمُونَ [يس: 36/ 49]: يخصّمون (5) - يخصّمون (6) - يخصّمون (7) - يخصمون (8).
بينما لا يمكن تحصيل الوجوه الآتية إلا من رسمين اثنين:
؟ جنات تجري من تحتها الأنهار؟ [التّوبة: 9/ 100]: وهي قراءة ابن كثير.
جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ: وهي قراءة الباقين.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً [التّوبة: 9/ 107]: وهي قراءة نافع وأبي عامر وجعفر.
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً: وهي قراءة الباقين.
ويجب الإشارة هنا إلى أن التّخالف الذي وقع بين المصاحف إنما وقع في تسعة وأربعين موضعا فقط، وهي المواضع التي قمت بإحصائها في الفصل الخاص باختلاف مصاحف الأمصار (9)، وأردت من خلال ذلك التأكيد على أن هذا التّخالف لم ينشأ من غفلة النّساخ، أو ذهول عنهم، بل هو تخالف مقصود أراد به عثمان رضي الله عنه استيعاب سائر القراءات المتواترة التي أذن بها النّبي صلى الله عليه وسلم، وتلقّاها جمهور الصحابة عنه بالتّواتر.
ولكن يرد ثمة سؤال آخر: هل ابتليت الأمة بضياع هذه المواضع التسعة والأربعين بين عهد أبي بكر وعثمان حيث كانت الكتبة الأولى لا تؤدي هذه القراءات؟
والجواب عن هذا الإشكال من وجهين:
(1) قرأ بها نافع وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر.
(2)
قرأ بها ابن عامر.
(3)
قرأ بها عاصم ويعقوب.
(4)
قرأ بها الباقون.
(5)
قرأ بها أبو جعفر.
(6)
قرأ بها ورش وابن كثير، وهشام، وقرأ أبو عمرو، باختلاس فتحة الخاء وتشديد الصاد.
(7)
قرأ بها ابن ذكوان، وعاصم، والكسائي، ويعقوب، وخلف.
(8)
قرأ بها حمزة.
(9)
انظر بحث اختلاف مصاحف الأمصار في كتاب (الشامل في القراءات) للمؤلف، إصدار دار الكلم الطيب بدمشق.
الأول: إن كتبة الصّديق، وإن لم نجزم بأنها مشتملة على الوجوه المذكورة، لكن ذلك لم يؤثر على مبدأ إقرار الإقراء بها لسببين:
السبب الأول: إن نسخة الصّديق لم تكن متاحة لكل إنسان، بل كانت وثيقة محفوظة مدخرة لما يأتي من الأيام حين يخشى أن تتفرّق الأمة، وقد جاء ذلك اليوم حين شرع عثمان رضي الله عنه بكتابة مصاحف الأمصار.
والسبب الثاني: إن الوثيقة الثانية المشتملة على الرسم الآخر للمصحف كانت موجودة أيضا لدى مجموعة الصّديق التي انتقلت منه إلى عمر ثم إلى حفصة؛ حيث كان الصّديق رضي الله عنه يجمع الوثائق التي كتبها الأصحاب بحضرة النّبي صلى الله عليه وسلم، وهي بلا ريب تتضمن سائر قراءاته صلى الله عليه وسلم، التي لا تخرج هذه القراءات المتواترة عنها.
ذلك أن الصّديق رضي الله عنه يوم دعا الناس إلى جمع ما بأيديهم من الصحف اجتمع عنده قرآن كثير، فربما اجتمع من سورة الكهف أو يس مثلا مئات النّسخ، ومثلها السّور التي كان الأصحاب يشتغلون بحفظها وقراءتها، كسورة يس، والدخان، والسّجدة، وغيرها من قصار السّور، وربما اجتمع عنده من البقرة، وآل عمران عشرات النّسخ، ولا توجد آية في القرآن إلا اجتمع عند أبي بكر منها نسخ كثيرة، بل قد صرّح الأصحاب أنه لم تعز عليهم إلا آية واحدة؛ لم يجدوا منها إلا نسخة واحدة؛ وهي آخر سورة التّوبة، وقد أتينا على تفصيل ذلك نقلا عن البخاري قبل قليل.
وهكذا فإن الرّوايات تظاهرت على التأكيد بوجود أكثر من وثيقة مكتوبة لكل آية من آي القرآن الكريم؛ بحسب ما كان يتلقّى الأصحاب من النّبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الوثائق بمجموعها مشتملة على القراءات المتواترة؛ التي قرأ بها المعصوم صلى الله عليه وسلم.
الثاني: أن المتّفق عليه لدى الأمة بمجموعها أن القرآن إنما يؤخذ بالتّلقي والمشافهة، وأن الوثيقة المكتوبة ليست مرجعا نهائيّا لرواية القرآن، بل هي محض آلة مساعدة،
وأن العمدة في القراءة والإقراء على النّص المتلقّى بالتّواتر، وهذا كان يشتمل سائر الوجوه المذكورة، وكان يتأيّد بما بين يدي الصحابة من صحف كتبوها بحضرة النّبي صلى الله عليه وسلم فيها أيضا تلك الوجوه.
وهكذا فإن علاقة تناوبية نشآت بين الرسم العثماني، والقراءات المتواترة، فقد خدم كل منهما الآخر، وتآزرا في ضبط الأداء القرآني.
ويمكن أن نستنتج مما قدّمناه في هذا الفصل أن سائر القراءات المشروعة (1) - المتواترة- كانت حاضرة في ذاكرة الحفّاظ التي كانت تتلقّى بأعلى درج التّواتر، وكانت حاضرة في الوثيقة الكتابية في جمع أبي بكر، وصحف الصحابة من حوله، ثم في نسخ عثمان بمجموعها كما وزعها في الأمصار.
(1) عبّرت هنا بلفظ (المشروعة) نظرا لأننا نتحدث عنها قبل عصر تمييز القراءات بالشروط المعتبرة، ومقتضى عبارتي أن المشروعة هي ذاتها التي حظيت فيما بعد بالتواتر.