الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَالَ الطَّحَاوِيّ رحمه الله: " فَعلمنَا أَن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] إِنَّمَا نهى الْحَاضِر أَن يَبِيع للبادي لِأَن الْحَاضِر يعلم أسعار الْأَسْوَاق، فيستقصي على الْحَاضِرين فَلَا يكون لَهُم فِي ذَلِك ربح، وَإِذا باعهم الْأَعرَابِي على (غرَّة وَجَهل) بأسعار الْأَسْوَاق ربح عَلَيْهِ الْحَاضِرُونَ، فَأمر رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] أَن يخلى بَين الْحَاضِرين و (بَين) الْأَعْرَاب فِي الْبيُوع، وَمنع الْحَاضِرين أَن يدخلُوا عَلَيْهِم. وَإِذا كَانَ مَا وَصفنَا كَذَلِك، وَثبتت إِبَاحَة التلقي الَّذِي لَا ضَرَر فِيهِ بِمَا وَصفنَا من الْآثَار، صَار شِرَاء المتلقي مِنْهُم شِرَاء حَاضر من باد، فَهُوَ دَاخل فِي قَول النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] : " دعوا النَّاس يرْزق الله بَعضهم من بعض "، وَبَطل أَن يكون فِي ذَلِك خِيَار للْبَائِع، لِأَنَّهُ لَو كَانَ فِيهِ خِيَار للْبَائِع (لما) كَانَ للْمُشْتَرِي (فِي ذَلِك) فَائِدَة، وَلَا نهى رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] أَن يتَوَلَّى البيع للبادي مِنْهُ، لِأَنَّهُ يكون / بِالْخِيَارِ فِي فسخ ذَلِك البيع، أَو يرد لَهُ ثمنه إِلَى الْأَثْمَان الَّتِي فِي (بياعات أهل الْحَضَر بَعضهم من بعض، فَفِي منع النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] الْحَاضِرين من ذَلِك إِبَاحَة الْحَاضِرين) التمَاس غرَّة البادين فِي البيع مِنْهُم وَالشِّرَاء ".
(بَاب البيع مَعَ الشَّرْط)
الطَّحَاوِيّ: " عَن زَيْنَب امْرَأَة عبد الله بن مَسْعُود أَنَّهَا باعت عبد الله جَارِيَة
فاشترطت خدمتها، فَذكر ذَلِك لعمر فَقَالَ: لَا تقربنها (ولأحد) فِيهَا مثنوية ". فقد أبطل ذَلِك عمر بن الْخطاب، وَتَابعه عَلَيْهِ عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنهم ".
فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن جَابر بن عبد الله: " أَنه بَاعَ من النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] بَعِيرًا وَاشْترط ظَهره إِلَى أَهله ". هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح.
فِي هَذَا دَلِيل على أَن البيع إِذا كَانَ فِيهِ شَرط كَانَ البيع صَحِيحا وَالشّرط صَحِيحا.
قيل لَهُ: هَذَا حَدِيث قد اخْتلفت أَلْفَاظه اخْتِلَافا كثيرا، وَفِيه مَعْنيانِ يدلان أَنه لَا حجَّة فِيهِ:
أَحدهمَا: أَن مساومة النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] لجَابِر إِنَّمَا كَانَت على الْبَعِير، وَلم يشْتَرط لجَابِر فِي ذَلِك ركوبا. فَإِن فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا عَن عَامر عَن جَابر أَنه قَالَ:" فَبِعْته واستثنيت حملانه إِلَى أَهلِي "، فَوجه هَذَا الحَدِيث أَن البيع إِنَّمَا كَانَ على مَا كَانَت عَلَيْهِ المساومة من النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] ، ثمَّ كَانَ الِاسْتِثْنَاء الْمَذْكُور بعد ذَلِك، وَكَانَ مَفْصُولًا من (البيع) لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ بعده، وَلَيْسَ فِي ذَلِك حجَّة تدلنا على حكم البيع كَيفَ يكون لَو كَانَ الِاسْتِثْنَاء مَشْرُوطًا فِي عقدته.
وَالَّذِي يدل على أَن الِاسْتِثْنَاء لم يكن مَشْرُوطًا فِي عقد البيع مَا روى البُخَارِيّ: فِي حَدِيث جَابر أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قَالَ: " أتبيع جملك؟ قلت: نعم، فَاشْتَرَاهُ مني بأوقية، ثمَّ قدم رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] قبلي، وقدمت بِالْغَدَاةِ، فَجِئْنَا إِلَى الْمَسْجِد فَوَجَدته على بَاب الْمَسْجِد، قَالَ: الْآن قدمت؟ قلت: نعم، قَالَ: فدع جملك فَادْخُلْ فصل رَكْعَتَيْنِ، فَدخلت فَصليت، فَأمر بِلَالًا أَن يزن أُوقِيَّة فوزن لي بِلَال فأرجح فِي الْمِيزَان، فَانْطَلَقت حَتَّى وليت، فَقَالَ: ادعوا لي جَابِرا، فَقلت: الْآن يرد عَليّ الْجمل، وَلم يكن شَيْء أبْغض إِلَيّ مِنْهُ، قَالَ: خُذ جملك وَلَك ثمنه ". فَلَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث ذكر الحملان بِحَال، لَا قبل البيع / وَلَا فِي عقدَة البيع وَلَا بعده. وَفِي رِوَايَة عَنهُ:" قَالَ: بعنيه، قلت: (بل) هُوَ لَك يَا رَسُول الله. قَالَ: (بل) بعنيه بأَرْبعَة دَنَانِير وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة ". فَقَوله " وَلَك ظَهره " جملَة تَامَّة لَا تعلق لَهَا بِمَا قبلهَا، وَهِي - وَالله أعلم - جَوَاب لجَابِر رضي الله عنه، (فَكَأَن جَابِرا رضي الله عنه لما قَالَ لَهُ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] :" بعنيه، فَقَالَ: بِعْتُك ولي ظَهره إِلَى الْمَدِينَة، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : وَلَك ظَهره إِلَى الْمَدِينَة ". وَكَأن جَابِرا رضي الله عنه لما تلفظ للنَّبِي [صلى الله عليه وسلم] بِالْبيعِ ثمَّ رأى نَفسه محتاجة إِلَى ركُوبه طلب من النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] أَن يعيره الْبَعِير ليركبه إِلَى الْمَدِينَة فأعاره النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] .
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ: " فَبِعْته على أَن لي فقار ظَهره حَتَّى أبلغ الْمَدِينَة ".
فَفِي هَذَا الحَدِيث دَلِيل على أَن الِاشْتِرَاط (كَانَ) فِي عقدَة البيع.
قيل لَهُ: هَب أَن هَذَا يدل على أَن الِاشْتِرَاط كَانَ فِي عقدَة البيع، وَلَكِن لم يكن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] اشْتَرَاهُ حَقِيقَة، وَإِنَّمَا ساومه مساومة فَظن جَابر أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قد اشْتَرَاهُ مِنْهُ شِرَاء (باتا) يدل على ذَلِك أَن جَابِرا قَالَ:" فَلَمَّا قدمنَا أَتَيْته بالجمل وَنقد لي ثمنه، ثمَّ انصرفت فَأرْسل على أثري، فَقَالَ: مَا كنت لآخذ جملك (فَخذ جملك) فَهُوَ مَالك ". وَفِي هَذَا دَلِيل ظَاهر أَنه عليه السلام لم يكن قصد شِرَاءَهُ، وَإِنَّمَا قصد بذلك (إِيصَال) الْبر إِلَى جَابر بِهَذَا الطَّرِيق. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنى الآخر.
وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا أَنه رُوِيَ أَيْضا فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث أَنه قَالَ: " فَلَمَّا قدمت الْمَدِينَة أتيت النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] بالبعير، فَقلت: هَذَا بعيرك، فَقَالَ: لَعَلَّك ترى أَنِّي إِنَّمَا حبستك لأذهب ببعيرك يَا بِلَال أعْطه أُوقِيَّة وَخذ بعيرك فهما لَك ".
فَدلَّ ذَلِك (على) أَن ذَلِك القَوْل (الأول) لم يكن على التبايع، (فَثَبت أَن الِاشْتِرَاط الْمَذْكُور (إِن) كَانَ فِي أَصله بعد ثُبُوت هَذِه الْعلَّة لم يكن فِي هَذَا الحَدِيث حجَّة، لِأَن الْمَشْرُوط فِيهِ ذَلِك الشَّرْط لم يكن بيعا، لِأَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] لم يكن ملك الْبَعِير على جَابر، فَكَانَ اشْتِرَاط جَابر الرّكُوب اشتراطا فِيمَا هُوَ لَهُ ملك.
ثمَّ حَدِيث جَابر فِيهِ اخْتِلَاف كثير فِي تَقْدِير الثّمن الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] ، فَفِي رِوَايَة ابْن جريج عَن عَطاء وَغَيره / عَن جَابر " أَرْبَعَة دَنَانِير ". وَقَالَ دَاوُد بن قيس عَن عبيد الله بن مقسم، عَن جَابر " باربع أواقي ". وَعنهُ: " أَن
النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] اشْتَرَاهُ بأوقية ". وَقَالَ أَبُو نَضرة عَن جَابر: " اشْتَرَاهُ) بِعشْرين دِينَارا. وَهَذَا الِاخْتِلَاف لَو كَانَ فِي الشَّهَادَة لمنع قبُولهَا. فَكَذَا فِي الرِّوَايَة، إِذْ لَا يُمكن الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات إِلَّا بِأَن يكون مَا جرى (بَين) جَابر و (بَين) النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] لم يكن على (جِهَة) البيع، وَإِنَّمَا أَرَادَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] أَن يبره بِهَذَا الطَّرِيق. وَيجوز أَن يكون حصل لَهُ من النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] الْأَكْثَر مِمَّا ذكرته الروَاة. " فَإِن قيل: روى التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة رضي الله عنها أَنَّهَا أَرَادَت أَن تشتري بَرِيرَة، فَاشْتَرَطُوا الْوَلَاء، فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] :" اشتريها فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعْطى الثّمن، أَو لمن (أولى) النِّعْمَة ". وَفِي هَذَا دَلِيل على جَوَاز البيع وَبطلَان الشَّرْط.
قيل لَهُ: هَذَا الحَدِيث قد رُوِيَ على خلاف ذَلِك:
البُخَارِيّ: عَن عُرْوَة: " أَن عَائِشَة رضي الله عنها أخْبرته أَن بَرِيرَة جَاءَت تستعينها فِي كتَابَتهَا، وَلم تكن قَضَت من كتَابَتهَا شَيْئا، قَالَت عَائِشَة: ارجعي إِلَى أهلك، فَإِن أَحبُّوا أَن أَقْْضِي (عَنْك) كتابتك وَيكون ولاؤك لي فعلت فَذكرت بَرِيرَة ذَلِك لأَهْلهَا فَأَبَوا، وَقَالُوا: إِن شَاءَت أَن تحتسب عَلَيْك (فلتفعل) وَيكون ولاؤك لنا، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله [صلى الله عليه وسلم]، فَقَالَ لَهَا رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : ابتاعي فأعتقي
- وَفِي لفظ الطَّحَاوِيّ فَقَالَ: لَا يمنعك مِنْهَا ذَلِك، ابتاعي وأعتقي - فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، ثمَّ قَامَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فَقَالَ: مَا بَال أنَاس يشترطون شُرُوطًا لَيست فِي كتاب الله، (من اشْترط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الله)(فَلَيْسَ لَهُ) وَإِن شَرط مائَة مرّة، شَرط الله أَحَق وأوثق ".
فَمَا كَانَ من أهل بَرِيرَة فِي هَذَا الحَدِيث لم يكن شرطا فِي بيع، لَكِن (فِي) أَدَاء عَائِشَة إِلَيْهِم عَن بَرِيرَة، وهم توَلّوا عقد تِلْكَ الْكِتَابَة لَهُ وَلم يتَقَدَّم ذَلِك الْأَدَاء من عَائِشَة ملك، فَذكرت ذَلِك لرَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فَقَالَ: لَا يمنعك ذَلِك مِنْهَا. أَي لَا تَرْجِعِي لهَذَا الْمَعْنى عَمَّا كنت نَوَيْت فِي (عتاقهم) من الثَّوَاب، اشتريها فأعتقيها فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، وَكَانَ ذَلِك هَهُنَا الشِّرَاء ابْتِدَاء من رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] /، لَيْسَ مَا كَانَ (قبل ذَلِك) بَين عَائِشَة وَبَين أهل بَرِيرَة فِي شَيْء، ثمَّ قَامَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فَخَطب مَا تقدم ذكرنَا لَهُ إنكارا (مِنْهُ) على عَائِشَة فِي طلبَهَا وَلَاء من تولى غَيرهَا كتَابَتهَا بِحَق ملك عَلَيْهَا ثمَّ نهاها وَعلمهَا بقوله:" إِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق "، أَي أَن الْمكَاتب إِذا عتق بِالْكِتَابَةِ فمكاتبه هُوَ الَّذِي أعْتقهُ وَوَلَاؤُهُ لَهُ. فَهَذَا حَدِيث فِيهِ ضد مَا فِي غَيره وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على اشْتِرَاط الْوَلَاء فِي البيع كَيفَ هُوَ.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ مَكَان قَوْله: " ابتاعي وأعتقي "" خذيها فأعتقيها (واشترطي) ".
قيل لَهُ: هَذَا اللَّفْظ رَوَاهُ هِشَام عَن عُرْوَة، وَمَا رَوَاهُ ابْن شهَاب عَن عُرْوَة