الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بَاب إِذا كَانَ للرجل سِتَّة أعبد فَأعْتقهُمْ عِنْد الْمَوْت وَلَا مَال لَهُ غَيرهم عتق مِنْهُم ثلثهم وَسعوا فِي مَا بَقِي من قيمتهم)
لما رُوِيَ (فِي حَدِيث أبي الْمليح) الْهُذلِيّ / عَن أَبِيه: " أَن رجلا أعتق شِقْصا لَهُ فِي مَمْلُوك فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] : هُوَ حر كُله لَيْسَ لله فِيهِ شريك ". قَالَ الطَّحَاوِيّ: " فَبين رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] الْعلَّة الَّتِي لَهَا عتق (نصيب) صَاحبه. فَدلَّ ذَلِك أَن الْعتاق مَتى وَقع فِي بعض انْتَشَر فِي الْكل. وَقد رَأينَا رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] حكم فِي العَبْد بَين اثْنَيْنِ إِذا أعْتقهُ أَحدهمَا وَلَا مَال لَهُ فَحكم عَلَيْهِ فِيهِ بِالضَّمَانِ بالسعاية على العَبْد فِي نصيب الَّذِي لم يعْتق. فَثَبت بذلك أَن حكم هَؤُلَاءِ العبيد فِي الْمَرَض كَذَلِك. وَإنَّهُ لما اسْتَحَالَ أَن يجب على غَيرهم ضَمَان مَا جَاوز الثُّلُث الَّذِي للْمَيت أَن يُوصي بِهِ ويملكه فِي مَرضه من أحب وَجب عَلَيْهِم السّعَايَة فِي ذَلِك للْوَرَثَة ".
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن عمرَان بن الْحصين: " أَنه أعتق سِتَّة أعبد عِنْد الْمَوْت لَا مَال لَهُ غَيرهم، فأقرع رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] بَينهم فَأعتق اثْنَيْنِ وأرق أَرْبَعَة ".
قيل لَهُ: الْقرعَة فِي هَذَا الحَدِيث مَنْسُوخَة، لِأَن الْقرعَة قد كَانَت فِي بَدْء الْإِسْلَام تسْتَعْمل فِي أَشْيَاء فَيحكم بهَا فِيهَا. مِنْهَا مَا كَانَ عَليّ بن أبي طَالب يحكم بِهِ فِي زمن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] بِالْيمن.
(الطَّحَاوِيّ) : عَن زيد بن أَرقم رضي الله عنه قَالَ: " بَينا أَنا عِنْد
رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] إِذْ أَتَاهُ رجل من الْيمن، وَعلي (يَوْمئِذٍ) بهَا، فَقَالَ: يَا رَسُول الله (أَتَى عليا ثَلَاثَة نفر) يختصمون فِي ولد، وَقد وَقَعُوا على امْرَأَة فِي طهر وَاحِد فأقرع بَينهم، فقرع أحدهم فَدفع إِلَيْهِ الْوَلَد. فَضَحِك رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه. أَو قَالَ أَضْرَاسه ".
فَلَمَّا لم يُنكر على (عَليّ) مَا حكم بِهِ فِي الْقرعَة دلّ ذَلِك أَن الحكم كَانَ يَوْمئِذٍ كَذَلِك ثمَّ نسخ بعد ذَلِك باتفاقنا واتفاق مخالفنا. وَدلّ على نسخه مَا رُوِيَ فِي بَاب الْقَافة من حكم عَليّ فِي مثل هَذَا بِأَنَّهُ جعل الْوَلَد بَين المدعيين جَمِيعًا، يرثهما ويرثانه " فَيحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأَشْيَاء كلهَا قد كَانَت تسْتَحقّ بِالْقُرْعَةِ، ثمَّ نسخ ذَلِك بنسخ الرِّبَا. فَردَّتْ الْأَشْيَاء إِلَى الْمَقَادِير الْمَعْلُومَة الَّتِي فِيهَا التَّعْدِيل الَّذِي لَا زِيَادَة فِيهِ وَلَا نُقْصَان.
وَبعد هَذَا فَلَيْسَ يَخْلُو مَا حكم بِهِ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] من الْعتاق فِي الْمَرَض بِالْقُرْعَةِ، وَجعله إِيَّاه من الثُّلُث من أحد وَجْهَيْن: /
إِمَّا أَن يكون حكما دَلِيلا على سَائِر أَفعَال الْمَرِيض فِي مَرضه من عتقه وهبته وصدقته أَو يكون حكما فِي عتاق الْمَرِيض خَاصَّة.
فَإِن كَانَ خَاصّا فِي الْعتاق دون مَا سواهُ فَيَنْبَغِي أَن لَا يكون مَا جعله رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] من الْعتاق فِي الحَدِيث من الثُّلُث دَلِيلا على الهبات وَالصَّدقَات أَنَّهَا كَذَلِك. فَثَبت قَول من يَقُول إِنَّهَا من جَمِيع المَال، إِذْ كَانَ النّظر يشْهد لَهُ. وَإِن كَانَ هَذَا لَا يدْرك فِيهِ خلاف مَا قَالَ إِلَّا بالتعبد، وَلَا شَيْء فِي هَذَا نقلده إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
وَإِن كَانَ النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قد جعل ذَلِك الْعتاق فِي الثُّلُث دَلِيلا على أَن هبات الْمَرِيض
وصدقاته من الثُّلُث، فَكَذَلِك هُوَ دَلِيل على أَن الْقرعَة قد كَانَت فِي ذَلِك كُله جَائِزَة يحكم بهَا. فَفِي ارتفاعها عندنَا وَعند الْمُخَالف من الهبات وَالصَّدقَات، دَلِيل على ارتفاعها أَيْضا من الْعتاق. فَبَطل بذلك قَول من ذهب إِلَى الْقرعَة.
فَإِن قيل: إِيجَاب الْقرعَة فِي العبيد يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فساهم فَكَانَ من المدحضين} .
قيل لَهُ: رُوِيَ أَن يُونُس عليه السلام ساهم فِي طَرحه فِي الْبَحْر، وَذَلِكَ لَا يجوز فِي قَول أحد من الْفُقَهَاء. كَمَا لَا يجوز فِي قتل من خرجت عَلَيْهِ وَفِي أَخذ مَاله. فَكَانَ ذَلِك خَاصّا بِهِ عليه السلام.
فَإِن قيل: قد كَانَ رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] يقرع بَين نِسَائِهِ إِذا أَرَادَ سفرا وَالْعَمَل على هَذَا إِلَى الْآن.
قيل لَهُ: لما كَانَ للرجل أَن يخرج (ويخلفهن جَمِيعًا، كَانَ لَهُ أَن يخرج) ، ويخلف من شَاءَ مِنْهُنَّ. فَكَانَت الْقرعَة لتطيب نفس من لَا يخرج مِنْهُنَّ، وليعلم أَنه (لم يحاب) الَّتِي خرج بهَا عَلَيْهِنَّ. فَثَبت بِمَا ذكرنَا أَن الْقرعَة لَا تسْتَعْمل إِلَّا فِيمَا يسع تَركهَا، وَفِي مَاله أَن يمضيه بغَيْرهَا. وَمن ذَلِك الخصمان يحْضرَانِ عِنْد الْحَاكِم فيدعي كل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه دَعْوَى، فَيَنْبَغِي للْقَاضِي أَن يقرع بَينهمَا، فَأَيّهمَا قرع بَدَأَ بِالنّظرِ فِي أمره، وَله أَن ينظر فِي أَمر من شَاءَ مِنْهُمَا بِغَيْر قرعَة، فَكَانَ الْأَحْسَن بِهِ أَن يقرع لبعد الظَّن بِهِ. وَفِي هَذَا اسْتِعْمَال الْقرعَة، كَمَا استعملها رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فِي أَمر نِسَائِهِ، وَكَذَلِكَ عمل الْمُسلمين فِي إقسامهم بِالْقُرْعَةِ فِيمَا عدلوه بَين أهلهم بِمَا لَو أمضوه بَينهم بِلَا قرعَة كَانَ ذَلِك مُسْتَقِيمًا. فأقرعوا بَينهم لِيَطمَئِن قُلُوبهم ويرتفع الظَّن عَمَّن
تولى قسمتهم. وَلَو أَقرع بَينهم على طوائف من الْمَتَاع الَّذِي لَهُم قبل أَن يعدل وَيُسَوِّي قِيمَته على أملاكهم كَانَ ذَلِك الْقسم بَاطِلا.
فَثَبت بذلك أَن الْقرعَة إِنَّمَا فعلت بعد أَن تقدمها مَا يجوز الْقسم بِهِ وَأَنَّهَا (إِنَّمَا) أريدت لانْتِفَاء الظَّن لَا بِحكم يجب بهَا. فَكَذَلِك نقُول كل قرعَة تكون مثل هَذَا فَهِيَ حَسَنَة، وكل قرعَة يُرَاد بهَا وجوب حكم وَقطع حُقُوق مُتَقَدّمَة فَهِيَ (مَنْسُوخَة وَهِي) غير مستعملة.