الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كتاب النَّفَقَات)
(بَاب تجب النَّفَقَة للمبتوتة وَالسُّكْنَى فِي الْعدة كالمطلقة الرَّجْعِيَّة)
قَالَ الله تَعَالَى: {أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم وَلَا تضاروهن لتضيقوا عَلَيْهِنَّ} فَهَذِهِ الْآيَة تَضَمَّنت / الدّلَالَة على جوب نَفَقَة المبتوتة من ثَلَاثَة أوجه:
أَحدهَا: أَن السُّكْنَى لما كَانَت حَقًا فِي مَال وَقد أوجبهَا الله تَعَالَى بِنَصّ الْكتاب، إِذْ كَانَت الْآيَة قد تناولت المبتوتة والرجعية، اقْتضى ذَلِك وجوب النَّفَقَة لِأَنَّهَا حق فِي مَال.
وَالثَّانِي: (أَن) المضارة تقع فِي النَّفَقَة كهي فِي السُّكْنَى.
وَالثَّالِث: أَن التَّضْيِيق قد يكون فِي النَّفَقَة أَيْضا، فَعَلَيهِ أَن ينْفق عَلَيْهَا وَلَا يضيق عَلَيْهَا (فِيهَا) .
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِن كن أولات حمل} . انتظمت المبتوتة والرجعية. ثمَّ لَا تَخْلُو هَذِه النَّفَقَة إِمَّا أَن يكون وُجُوبهَا لأجل الْحمل، أَو لأجل أَنَّهَا محبوسة فِي بَيته. وَالْأول بَاطِل، لِأَنَّهَا لَو كَانَت مُسْتَحقَّة لأجل الْحمل لوَجَبَ إِذا كَانَ للْحَمْل مَال أَن ينْفق عَلَيْهِ من مَاله، كَمَا أَن نَفَقَة الصَّغِير فِي مَال نَفسه. وَأَيْضًا (كَانَ) يجب فِي الطَّلَاق الرَّجْعِيّ نَفَقَة الْحَامِل إِذا كَانَ لَهُ مَال فِي مَاله، كَمَا أَن نَفَقَته بعد الْولادَة فِي مَاله، وَكَانَ يجب أَن تكون نَفَقَة الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا فِي نصيب الْحمل من الْمِيرَاث. فَلَمَّا اتّفق الْجَمِيع على أَن النَّفَقَة فِي مَال الزَّوْج. بَطل أَن يكون وجوب النَّفَقَة لأجل الْحمل، وَتعين أَن يكون لأجل أَنَّهَا محبوسة فِي بَيته. وَهَذِه الْعلَّة مَوْجُودَة فِي المبتوتة فَوَجَبَ أَن تجب لَهَا النَّفَقَة.
فَإِن قيل: فَمَا فَائِدَة تَخْصِيص الْحَامِل بِالذكر فِي إِيجَاب النَّفَقَة.
قيل لَهُ: قد دخلت فِيهِ الْمُطلقَة الرَّجْعِيَّة، وَلم يمْنَع ذَلِك وجوب النَّفَقَة لغير الْحَامِل، وَكَذَلِكَ فِي المبتوتة وَإِنَّمَا ذكر الْحمل لِأَن مدَّته (قد) تطول وَقد تقصر فَأَرَادَ إعلامنا وجوب النَّفَقَة مَعَ طول الْمدَّة الَّتِي هِيَ فِي الْعَادة أطول من مُدَّة الْحيض.
فَإِن قيل: رُوِيَ عَن فَاطِمَة بنت قيس: " أَن زَوجهَا طَلقهَا الْبَتَّةَ، وَأَن رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] قَالَ: لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى ".
قيل لَهُ: روى أَبُو دَاوُد: عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي قَالَ: " كنت فِي الْمَسْجِد الْجَامِع مَعَ الْأسود، فَقَالَ: أَتَت فَاطِمَة بنت قيس عمر بن الْخطاب، فَقَالَ: مَا كُنَّا
لندع كتاب رَبنَا، وَسنة نَبينَا [صلى الله عليه وسلم] لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي أحفظت أم لَا؟ . وَأخرجه مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ.
قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَمَا احْتج بِهِ عمر رضي الله عنه فِي دفع حَدِيث فَاطِمَة حجَّة صَحِيحَة، وَذَلِكَ أَن الله عز وجل قَالَ:{يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء فطلقوهن لعدتهن} ، ثمَّ قَالَ:{لَا تَدْرِي لَعَلَّ الله يحدث بعد ذَلِك أمرا} .
وَأَجْمعُوا أَن ذَلِك الْأَمر هُوَ الرّجْعَة، ثمَّ (قَالَ) :{أسكنوهن من حَيْثُ سكنتم من وجدكم} ، / و {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن} ، يُرِيد فِي الْعدة. فَكَانَت الْمَرْأَة إِذا طَلقهَا زَوجهَا اثْنَتَيْنِ للسّنة على مَا أَمر الله عز وجل، ثمَّ رَاجعهَا، ثمَّ طَلقهَا أُخْرَى للسّنة حرمت عَلَيْهِ، وَوَجَبَت عَلَيْهَا الْعدة الَّتِي جعل الله عز وجل لَهَا فِيهَا السُّكْنَى، وأمرها أَن لَا تخرج فِيهَا، وَأمر الزَّوْج أَن لَا يُخرجهَا. وَلم يفرق الله بَين هَذِه الْمُطلقَة للسّنة الَّتِي لَا رَجْعَة عَلَيْهَا، وَبَين الْمُطلقَة للسّنة الَّتِي عَلَيْهَا الرّجْعَة. فَلَمَّا جَاءَت فَاطِمَة بنت قيس فروت عَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] أَنه قَالَ لَهَا:" إِنَّمَا السُّكْنَى (لمن لَهُ الرّجْعَة عَلَيْهَا) ". خَالَفت كتاب الله تَعَالَى وخالفت سنة رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم]، وَهِي مَا روى الطَّحَاوِيّ: عَن الشّعبِيّ، عَن فَاطِمَة بنت قيس: " أَن زَوجهَا طَلقهَا ثَلَاثًا، فَأَتَت النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فَقَالَ: لَا نَفَقَة لَك وَلَا سُكْنى، فَأخْبرت بذلك النَّخعِيّ فَقَالَ:(أخبر) عمر بن الْخطاب بذلك فَقَالَ: لسنا بتاركي آيَة من كتاب الله وَقَول رَسُوله
لقَوْل امْرَأَة لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا وهمت. سَمِعت رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] يَقُول: لَهَا النَّفَقَة وَالسُّكْنَى ".
وَإِن كَانَ الحَدِيث صَحِيحا، فَلهُ وَجه صَحِيح يَسْتَقِيم على مَذْهَبنَا فِيمَا (روته) من نفي النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّهَا استطالت بلسانها على أحمائها، فأمروها بالانتقال، فَكَانَت سَبَب النقلَة، (وَقَالَ الله تَعَالَى:{لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة} ، فَلَمَّا كَانَ سَبَب النقلَة) من جِهَتهَا كَانَت نَاشِزَة فَسَقَطت نَفَقَتهَا وسكناها جَمِيعًا. فَكَانَت الْعلَّة الْمُوجبَة لإِسْقَاط (النَّفَقَة هِيَ الْمُوجبَة لإِسْقَاط) السُّكْنَى.
وَهَذَا يدل على صِحَة أصلنَا الَّذِي قدمْنَاهُ فِي أَن اسْتِحْقَاق النَّفَقَة يتَعَلَّق بِاسْتِحْقَاق السُّكْنَى، وَإِن كَانَت السُّكْنَى حق الله تَعَالَى وَالنَّفقَة حَقّهَا، لَكِن لَا فرق بَينهمَا (من الْوَجْه الَّذِي) وَجب (قياسها عَلَيْهَا) . وَذَلِكَ أَن السُّكْنَى فِيهَا مَعْنيانِ: أَحدهمَا: حق الله تَعَالَى: وَهِي كَونهَا فِي بَيت الزَّوْج.
وَالْآخر: (حق لَهَا وَهُوَ مَا يلْزم) فِي المَال من أُجْرَة الْبَيْت إِن لم يكن لَهُ، وَلَو رضيت بِأَن تُعْطِي هِيَ الْأُجْرَة من مَالهَا وتسقطها عَن الزَّوْج جَازَ، فَمن حَيْثُ هِيَ حق فِي المَال اسْتَويَا.