الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(كتاب الْهِبَة)
(بَاب يكره للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته وَإِن رَجَعَ جَازَ إِلَّا فِي هبة ذِي الرَّحِم الْمحرم أَو الزَّوْجَيْنِ)
أما الْكَرَاهَة فَلَمَّا صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قَالَ: " الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
وَأما الْجَوَاز فَلَمَّا روى الطَّحَاوِيّ: عَن الْأسود، عَن عمر رضي الله عنه أَنه قَالَ: " من وهب (هبة) لذِي رحم جَازَت، وَمن وهب (هبة) لغير ذِي رحم فَهُوَ
أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا ". وَزَاد من طَرِيق آخر: " أَو يستهلكها (مستهلك) أَو يمت أَحدهمَا ".
وَعنهُ: (عَن ابْن أَبْزَى) عَن عَليّ رضي الله عنه قَالَ: " الْوَاهِب أَحَق بهبته مَا لم يثب مِنْهَا ".
وَعنهُ: عَن أبي الدَّرْدَاء أَنه قَالَ: " الْوَاهِب ثَلَاثَة: رجل وهب من غير أَن يستوهب فَهُوَ بسبيل الصَّدَقَة لَيْسَ (لَهُ) أَن يرجع فِي صدقته، وَرجل استوهب فوهب فَلهُ الثَّوَاب، فَإِن قبل على موهبته ثَوابًا فَلَيْسَ لَهُ إِلَّا ذَلِك، وَله أَن يرجع فِي هِبته مَا لم يثب، وَرجل وهب وَاشْترط الثَّوَاب فَهُوَ دين على (صَاحبه) فِي حَيَاته وَبعد مَوته ".
فَهَذَا أَبُو الدَّرْدَاء قد جعل مَا كَانَ من الهبات مخرجه مخرج الصَّدقَات (فِي حكم الصَّدقَات) ، وَمنع الْوَاهِب من الرُّجُوع فِي (ذَلِك كَمَا يمْنَع الْمُتَصَدّق من الرُّجُوع فِي) صدقته وَجعل مَا كَانَ مِنْهَا بِغَيْر هَذَا الْوَجْه مِمَّا لم يشْتَرط / فِيهِ ثَوابًا مِمَّا يرجع فِيهِ مَا لم يثب الْوَاهِب (عَلَيْهِ) . وَجعل مَا اشْترط فِيهِ فِيهِ الْعِوَض فِي حكم البيع. فَهَذَا حكم الهبات عندنَا.
وَعنهُ: عَن حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد: " أَن امْرَأَة وهبت لزَوجهَا هبة، ثمَّ رجعت فِيهَا، فاختصما إِلَى شُرَيْح فَقَالَ للزَّوْج: شَاهِدَاك أَنَّهَا هبت لَك من غير كره وَلَا هوان، وَإِلَّا فيمينها لقد وهبت لَك عَن كره وهوان ".
فَهَذَا شُرَيْح قد سَأَلَ الزَّوْج الْبَيِّنَة أَنَّهَا وهبت لَهُ لَا عَن كره بعد ارتجاعها فِي الْهِبَة. فَدلَّ ذَلِك (على) أَن الْبَيِّنَة لَو ثبتَتْ عِنْده على ذَلِك لرد الْهِبَة إِلَيْهِ وَلم يجوز لَهَا الرُّجُوع فِيهَا، وَكَانَ من رَأْيه أَن للْوَاهِب الرُّجُوع فِي الْهِبَة إِلَّا من ذِي الرَّحِم الْمحرم، فقد جعل الْمَرْأَة فِي هَذَا كذي الرَّحِم الْمحرم.
وَعنهُ: عَن مَنْصُور قَالَ: قَالَ إِبْرَاهِيم: " إِذا وهبت الْمَرْأَة لزَوجهَا أَو الزَّوْج لامْرَأَته فالهبة جَائِزَة، وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا أَن يرجع فِي هِبته ".
فَإِن قيل: فقد شبه رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] الْعَائِد فِي الْهِبَة بالعائد فِي الْقَيْء، وَالْعود فِي الْقَيْء حرَام.
قيل لَهُ: يجوز أَن يكون أَرَادَ بالعائد (فِي قيئه) الْكَلْب كَمَا ذكره فِي الحَدِيث الَّذِي روينَاهُ فِي أول الْبَاب، وعود الْكَلْب فِي قيئه لَا يُوصف بِحل وَلَا حُرْمَة وَلكنه مستقذر، فَلَا يثبت بذلك منع الْوَاهِب من الرُّجُوع فِي الْهِبَة، وَلَكِن أَرَادَ تَنْزِيه أمته عَن أَمْثَال الْكلاب لَا أَنه أبطل أَن يكون لَهُم الرُّجُوع فِي هباتهم.
(يُؤَيّد هَذَا مَا) روى مَالك: عَن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه أَنه قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب رضي الله عنه وَهُوَ يَقُول: " حملت على فرس عَتيق فِي
سَبِيل الله، وَكَانَ الرجل الَّذِي هُوَ عِنْده قد أضاعه، فَأَرَدْت أَن أشتريه مِنْهُ، وظننت أَنه بَائِعه برخص، فَسَأَلت عَن ذَلِك رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] فَقَالَ: لَا تشتره وَإِن أعطاكه بدرهم وَاحِد، فَإِن الْعَائِد فِي صدقته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه ".
فَلم يكن ذَلِك لحُرْمَة ابتياع الصَّدَقَة وَلَكِن لِأَن ترك ذَلِك أفضل.
فَإِن قيل: فقد رُوِيَ أَن النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] قَالَ: " لَا يحل للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد فِيمَا وهب لوَلَده "(وَأَنْتُم تَقولُونَ يحل للْوَاهِب أَن يرجع فِي هِبته إِلَّا الْوَالِد فِيمَا وهب لوَلَده) . فقد قُلْتُمْ بضد / مَا قَالَه رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] .
قيل لَهُ: مَا أقبح سؤالك وأشنع أقوالك، فَلَو كَانَ عنْدك معرفَة بِأَحَادِيث رَسُول الله [صلى الله عليه وسلم] لما قلت ذَلِك فَإِن هَذَا اللَّفْظ قد ورد فِي السّنة وَلم يرد بِهِ التَّحْرِيم كَقَوْلِه [صلى الله عليه وسلم] :" لَا تحل الصَّدَقَة (لَغَنِيّ وَلَا) لذِي مرّة سوي " وَلم يكن مَعْنَاهُ أَنَّهَا تحرم عَلَيْهِ كَمَا تحرم على الْأَغْنِيَاء. فَإِن الزمانة لَا تشْتَرط مَعَ الْفقر، وَلكنهَا لَا تحل لَهُ من حَيْثُ تحل لغيره من ذَوي الْحَاجة والزمانة. وَهَذَا الحَدِيث وصف النَّبِي [صلى الله عليه وسلم] فِيهِ ذَلِك الرُّجُوع بِأَنَّهُ لَا يحل تَغْلِيظًا للكراهة، كَيْلا يكون أحد من أمته لَهُ (مثل السوء، يَعْنِي لَا يحل لَهُ كَمَا تحل لَهُ) الْأَشْيَاء الَّتِي قد أحلهَا الله لِعِبَادِهِ، وَلم يَجْعَل لمن فعلهَا مثلا كَمثل السوء، ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك مَا وهب الْوَالِد لوَلَده، فَذَلِك عندنَا وَالله أعلم على