الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضمير:
1-
المقصود بالضمير لدى اللغويين والنحاة
2-
صور استعمال الضمير في اللغة هي:
أ- الضمير المستتر جوازًا أو وجوبًا
ب- الضمير البارز، متصلا ومنفصلا
3-
العبارة المشهورة "لايُعدل عن الاتصال إلى الانفصال" وما يتفرع عليها
4-
نون الوقاية قبل ياء المتكلم مع الأفعال والحروف والأسماء
الضمير:
جاء في القاموس "الضُّمْر" الهُزَال ويقال منه: "ضَمَر ضُمورا" بمعنى: هزل وضعف و"الضمير" السر وداخل الخاطر ا. هـ.
فهذه المادة إذن تستعمل في الهزال والضعف أو الخفاء والستر، ومن العبارات الدارجة بيننا الآن "ضمر الجسم" بمعنى ذبُل وهزل، وأيضًا "خلِّ ضميرك نظيف" و "خلِّ عندك ضمير سليم" والمقصود من ذلك النية الطيبة الصالحة التي هي منشأ الأخلاق الكريمة.
ويبدو أن النحاة -كما رأى ابن هشام- قد راعوا الجانب اللغوي في إطلاق هذا اللفظ على بعض كلمات اللغة؛ لأن بعض الضمائر قليل الحروف مثل التاء في "صاحبت" وبعضها الآخر مستتر لا يبين، كقولنا: "لا تأسفْ
فاليُسْرُ يعقُبُ العُسْر" ففي الفعلين "تأسف، يعقب" ضمير مستتر. وعلى كل، فالضمير يقصد به نحويًّا "ما دل على متكلم أو مخاطب أو غائب، مثل: أنا، أنت، هو". ا. هـ.
صور للضمير في اللغة:
يأتي الضمير في الكلام العربي على الصور الآتية:
أولا: الضمير المستتر:
العاقلُ يبتعدُ عن الشبهات والأحمقُ يحومُ حولها.
فابتعدْ عن الشبهاتِ تأمن التقوُّلات.
الضمير المستتر -كما يدل اسمه عليه- ما ليس له صورة في اللفظ، وإنما يتخيل ذهنيًّا وجوده مختبئًا خلف الفعل وكذلك الأسماء التي تشبه الفعل، ففي المثالين السابقين استتر مع الفعلين "يبتعد، يحوم" ضمير تقديره "هو" ومع الفعلين "ابتعدْ، تأمنْ" ضميره تقديره "أنت" وكلاهما غير موجود ولكنه متخيل.
وفوق ذلك، وإغراقا في التخيل!! اعتبر الضمير المستتر نوعين: مستتر جوازا ومستتر وجوبا بالفهم التالي:
1-
المستتر جوازا
هو ما يمكن أن يقوم مقامه في جملته الاسم الظاهر بمعنى أنه يمكن أن ينطق في موضعه اسم ظاهر بغير صعوبة في هذا النطق، كما يبقى المعنى العام للجملة سليما بصورة عامة.
ففي المثال "العدلُ يحقِّقُ الأمْنَ" الضمير مستتر جوازا، إذ يمكن القول
في هذا المثال "العدل يحقِّقُ فرضُه الأمْن" ومثل ذلك "العاقلُ يبتعد عن الشبهات" الضمير مستتر جوازا، إذ يمكن القول "العاقل يبتعدُ سلوكُه عن الشبهات".
ب- المستتر وجوبا
وهو -على عكس السابق- لا يمكن أن يحل محله في جملته الاسم الظاهر بمعنى أنه يصعب نطقا وضع اسم ظاهر في موضعه، ففي قولنا "خُذْ الرفيقَ قبل الطَّريق" وقولنا:"ابتعد عن الشبهات" ضمير مستتر وجوبا مع الفعلين "خذْ، ابتعدْ" إذ لا يمكن وضع اسم ظاهر موضعه، ولك أن تحاول ذلك فإنك لن تستطيع!! وأهم المواضع التي يستتر فيها الضمير وجوبا هي:
1-
فعل الأمر للواحد المخاطب:
تقول لزميلك: "افهمْ محاضراتك ودوِّنْها وراجعها بعدَ ذلك" ومن ذلك قول القرآن: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} 1 فالفاعل مع أفعال الأمر "افهمْ، دوِّنْ، راجعْ، خذْ، أأمرْ، أعرضْ" مستتر وجوبا تقديره "أنت".
2-
الفعل المضارع المبدوء بحرف المضارعة الهمزة:
كقولك: "أفهم محاضراتي وأدونها وأراجعها بعد ذلك" وكما جاء في القرآن من قول الرسول لقومه: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} 2 فالفاعل مع الأفعال "أفهمُ، أدونُ، أراجعُ، أبلغُ، أنصحُ، أعلمُ" مستتر وجوبا تقديره "أنا".
1 الآية 199 من سورة الأعراف.
2 من الآية 62 من سورة الأعراف.
3-
الفعل المضارع المبدوء بحرف المضارعة النون:
ومن ذلك ما نردده في دعائنا "نستغفرُ الله العظيمَ ونتوب إليه" وما جاء في القرآن: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} 1 فالفاعل مع الأفعال "نستغفر، نتوب، نخفي، نعلن" مستتر وجوبا تقديره "نحن".
4-
الفعل المضارع الذي أوله التاء لخطاب الواحد المذكر:
كقولك لزميلك: "عليك أن تُؤدِّيَ واجبك وتتركَ الباقي على الله" ومن ذلك ما جاء في القرآن لخطاب الرسول {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} 3 فالفاعل للأفعال "تؤدي، تترك، تهدي" ضمير مستتر وجوبا تقديره "أنت".
5-
صيغة التعجب "ما أفعله":
كقولنا: "ما أجملَ الفضيلةَ وما أسْوَأ الرذيلة" ومن ذلك قول الشاعر:
ما أحسنَ الدِّينَ والدنيا إذا اجتمعا
…
وأقبحَ الكُفْرَ والإفلاسَ بالرَّجلِ2
ففاعل أفعال التعجب "أجمل، أسوأ، أحسن، أقبح" ضمير مستتر وجوبا تقديره "هو" يعود إلى "ما: التعجبية".
6-
فاعل "خلا، عدا، حاشا" إذ تأتي أفعالا في الاستثناء:
مثل "سيفنى كل شيء في الحياة ما خلا وجهَ الله" وسيأتي الحديث عنها.
1 من الآية 28 من سورة إبراهيم.
2 من الآية 56 من سورة القصص.
3 في البيت دليل: على أن فاعل فعل التعجب -على رأي البصريين- مستتر وجوبا، وذلك في البيت مع الفعلين "أحسن، أقبح".
ثانيًا: الضمير البارز:
أنت مسئولٌ عن سيرتِك بين الناس بسلوكك.
فإذا صاحبتَ الأشرَار استحققت الذَّمَّ وسوءَ الظن.
الضمير البارز -كما يدل اسمه عليه- ما له صورة في اللفظ، بمعنى أن يكون له حروف منطوقة فعلا لا متخيلة، ومن ذلك في المثالين السابقين كلمة "أنت" وأيضا ضمير المخاطب "الكاف" في "سيرتك، سلوكك" وضمير المخاطب "التاء" في "صاحبت، استحققت".
والضمير البارز -بحسب صورته اللفظية- نوعان: بارز متصل وبارز منفصل على التوضيح التالي:
أ- البارز المتصل
فالمتصل -كما يدل اسمه عليه- ما لا يستقل بنفسه نطقًا، وإنما لا بد أن يتصل بغيره فعلا أم اسما أم حرفا، تقول:"مَنَحَنَا وطنُنا الحريةَ والحياةَ ومن واجبنا أن نُكَافِئَه بهما عند الحاجة" فالضمائر في هذه العبارة متصلة إذ يلاحظ أن الضمير "نا" اتصل أولا بالفعل "منح" ثم بالاسمين "وطن واجب" وضمير الغائب "الهاء" اتصل بالفعل "نكافئ" وضمير الغائب "هما" اتصل بحرف الجر الباء، فلنلاحظ الشواهد الآتية للضمائر المتصلة:
- قول القرآن: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} 1.
- قول الرسول: "إذا كانُوا ثلاثةً، فلا يتناجى اثنان دونَ الثَّالث
1 من الآية 193 من سورة آل عمران.
حتى يَختلِطُوا بالناسِ أجْلَ أن يُحزنَه" 1.
- قول المجنون:
فحبّي لها حبٌّ تمكنَ في الحَشَا
…
فما إن أرَى حُبًّا يكونُ له مِثْلُ2
هذا، وينبغي التنبه إلى الملاحظتين الآتيتين عن المتصل:
الأولى: ذكر "ابن مالك" دليلا على عدم استقلال هذا الضمير بأنه لا يبتدأ به ولا يقع بعد الحرف "إلَّا" فإن هذين الموضعين -المبتدأ وما بعد إلا- لا يشغلهما إلا الاسم المستقل بنفسه، ولك أن تجرب الإتيان بأي ضمير متصل -من ضمائر الأمثلة السابقة- في هذين الموضعين، وإنك لن تستطيع!!
الثانية: أن هذا الضمير يجيء في محل رفع ونصب وجر، كما اتضح من الأمثلة السابقة، وكقولك:"وصلْنَا لهدفِنَا ولم تُقَابِلْنَا صعوباتٌ معوّقة".
ب- البارز المنفصل:
المنفصل -كما يدل اسمه عليه أيضًا- ما يمكن أن يستقل بنفسه نطقًا ولا يحتاج إلى كلمة أخرى يتصل بها، كما نقول:"نحن مُقدّرون للحرية، فهي إحساسٌ نبيلٌ وتضحية" فكل من الضميرين "نحن، هي" يندرج تحت اسم "المنفصل" إذ يستقل نطقا ولا يعتمد على غيره.
1 صحيح البخاري، الجزء الثامن، كتاب الاستئذان.
2 الحشا: يقول القاموس: ما في البطن، والمراد أنه امتلأت به نفسه، ما إن أرى:"إن" هنا حرف زائد؛ لأنه يمكن إزالته من الكلام دون أن يختل المعنى.
وفي البيت: من الضمائر المتصلة ياء المتكلم في "حبي" وضمير الغائب في "له".
وبناء على ذلك يفهم ما يوصف به هذا الضمير من أنه يمكن الابتداء به ويقع بعد الحرف "إلَّا" كقولنا: "ما هو إلَّا إلهٌ واحد ولا نعبد إلا إيّاه" فإن هذين الموضعين -كما سبق- من مواضع الاسم المستقل بنفسه نطقا والضمير البارز المنفصل يأتي فيهما، وهذا دليل على استقلاله.
هذا، والضمائر المنفصلة محصورة الألفاظ في مجموعتين:
المجموعة الأولى: ضمائر الرفع
وهي اثنتا عشرة لفظة: "أنا، نحن، أنتَ، أنتِ، أنتما، أنتم، أنتن، هو، هي، هما، هم، هنّ".
المجموعة الثانية: ضمائر النصب
وهي أيضا اثنتا عشرة: "إيَّاي، إيَّانا، إيّاكَ، إيّاكِ، إيَّاكما، إيَّاكم، إيّاكنّ، إيّاه، إياها، إيّاهما، إيّاهم، إيّاهنّ".
فالمجموعة الأولى لا تجيء إلا في مواضع الرفع: "مبتدأ، فاعل" إلخ، أما الثانية فإنها لا تأتي إلا منصوبة
"مفعول به، مستثنى" إلخ.
فلنتأمل النصوص الآتية:
- قول القرآن: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.
- قول على: "إيَّاكم والْمُثْلَةَ ولو بالكلبِ العَقُور".
- ما أورده الجاحظ عن بعض الأعراب:
إذا أنتَ لم تدفع بحلمِك جاهلًا
…
سفيهًا ولم تقْرِنْ به من يُجَاهِلُهْ
لَبِسْتَ له ثوبَ المذلّةِ صاغِرًا
…
فأصبح قد أوْدَى بحقِّك باطله2
1 الآية 4 من سورة الفاتحة.
2 لم تقرن به: يقال: قرن الشيء: جمعه به، ومعنى العبارة لم تستعمله معه، يجاهله: بمعنى يجهله.
معنى البيتين: إذا لم تستعمل الحلم مع الجاهل السفيه الذي لا يفرق بين العلم والجهل، غلبك وضاع حقك معه، لأن التكليف الاجتماعي مختلف بينك وبينه. يدل البيت على أن الضمير المنفصل "أنت" من ضمائر الرفع، إذ هو فاعل بفعل محذوف يفسره الفعل المذكور.
بين الاتصال والانفصال:
تأمّل العبارتين الآتيتين:
أسأتَ إليّ فسامحتُك عن فَهْم ومقدرة. "صحيحة لُغَوِيًّا".
أساءَ أنتَ إلى أنَا فسامَحَ أنَا إياك عن فهم ومقدرة. "خطأ لُغَوِيًّا".
من البيِّن أننا في اللغة العربية نستعمل العبارة الأولى، ولا نستعمل العبارة الثانية، ولو نطق أحد أمامنا العبارة الثانية، لأثار في أنفسنا الشك في عربيته وربما أثار ابتسام السخرية منه!! والفرق بين العبارتين أن الأولى استعملت الضمائر فيها متصلة، والثانية استعملت فيها منفصلة، إذ إن اللغة الفصحى تستعمل الضمائر المتصلة وتترك نظائرها المنفصلة ميلا إلى الإيجاز وتوفير الجهد كما هو واضح -بأدنى تأمل- في العبارتين السابقتين.
وعلى ذلك نفهم العبارة النحوية المشهورة "كل موضع أمكن أن يؤتى فيه بالضمير المتصل لا يجوز العدول عنه إلى المنفصل" ا. هـ.
لكن
…
وردت في اللغة استعمالات لا تتفق مع القاعدة العامة السابقة أو بعبارة أوضح: يصح فيها الانفصال مع إمكان الاتصال، أو بعبارة مباشرة يصح فيها الاتصال والانفصال جميعًا، وتنحصر هذه الاستعمالات في الموضعين الآتيين للضمير:
1-
خبر كان وأخواتها
الذّلَّةُ كَانَهَا اليهودُ - الذّلَّةُ كان اليهودُ إيّاها.
القسوةُ صَارَهَا الإسرائيليون - القسوةُ صار الإسرائيليون إيَّاها.
إذا كان الضمير خبرا "لكان أو إحدى أخواتها" وصح فيه الاتصال والانفصال، فإن لك أن تستعمله بهما جميعا، وقد ورد كلا الاستعمالين في نصوص صحيحة، ومن ذلك:
- قول الرسول لعمر بن الخطاب وقد هم بقتل ابن صياد: "إنْ يكُنْهُ فلنْ تُسلّط عليه، وإلا يكنْه فلا خيرَ لك في قتْلِه"1.
- قول الشاعر:
ليت هذا اليومَ شهرٌ
…
لا نرى فيه عريبا
ليس إيَّايَ وإيَّاك
…
ولا نخشى رقيبا2
- ومن شعر عمر بن أبي ربيعة:
لئن كان إيَّاه لقد حَالَ بَعْدَنا
…
عن العَهْدِ والإنسانُ قد يتغيَّرُ3
1 رواه البخاري في كتاب الجنائز، انظر "فتح المبدي ج2 ص34، 35".
2 العريب: يقال: ما بها عريب ومعرب، بمعنى: ما بها أحد.
فأمنية الشاعر: أن يطول يومهما وتنقطع عنهما العيون، فيخلو كل منها بالآخر.
الشاهد في البيت الثاني "ليس إياي وإياك" حيث وقع الضمير خبرًا للفعل "ليس" وجاء منفصلا.
3 حال: تغير، عن العهد: عما نعهده من مرحه وجماله وشبابه.
والبيت تصوير لحديث إحدى صديقاته عنه، تقول: لقد تغير عما كنا نعهده.
فيه من المرح والفتوة إلى الكآبة والضعف.
الشاهد في البيت: قوله: "كان إياه" حيث جاء خبر "كان" ضميرًا منفصلا.
2-
المفعول الثاني:
الصديقُ المخلصُ ظننتُكَهُ - الصديقُ المخلصُ ظننتُكَ إيَّاه.
فإذا الإنسانُ الغادرُ علمتُكَهُ - فإذا الإنسان الغادرُ علمتكَ إيَّاه.
إذا جاء الضمير في موضع المفعول الثاني، وكان المفعول الأول ضميرا أقوى منه "المتكلم أقوى من المخاطب والمخاطب أقوى من الغائب" فإن الذي وقع مفعولا ثانيًا يصح فيه الاتصال والانفصال، ويتحقق هذا مع كل الأفعال التي تنصب مفعولين على الإطلاق.
وقد ورد كل من الاتصال والانفصال في نصوص صحيحة فصيحة، ومن ذلك:
- قول القرآن: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} 1.
- ما ينسب للرسول في حديث الرقيق: "إن الله ملكَكُم إيَّاهم، ولو شاء لَمَلَّكَهُم إيَّاكم"2.
1 من الآية 53 من سورة الأنفال.
2 ساق "الأشموني" هذه العبارة دون أن يذكر أنها حديث، وكذلك "ابن هشام" في "أوضح المسالك" وقد بحثت عنه قدر جهدي، فلم أعثر عليه في كتب الحديث.
- قول الشاعر:
بُلِّغْتُ صُنْعَ امرئ بَرٍّ إِخَالُكَهُ
…
إذ لم تزلْ لاكْتِسَابِ الحمْدِ مبْتَدِرَا1
- قول الآخر:
أخي حسبتُكَ إيَّاه وقد مُلِئَتْ
…
أرجاءُ صدرِكَ بالأضْغَانِ والإِحَنِ2
أما الذي خاض فيه النحاة في الموضع الثاني من تفصيل وترجيح للوجهين -الاتصال والانفصال- وما ترتب على ذلك من الخلاف وتعدد الآراء فإنه جهد شاق!! ولا حاجة بنا إليه.
1 البر، بفتح الباء: الصادق، مبتدرا، بمعنى مبادر: وهو من يسرع إلى الشيء.
المعنى: لقد بلغني عمل لإنسان صادق، وأظنك صاحبه، إذ المعهود فيك أنك سباق إلى الأعمال الحميدة.
الشاهد: في "إخالكه" حيث اجتمع ضميران مع الفعل "إخال" وهو ينصب مفعولين والأول هنا أعرف من الثاني، فيصح في الثاني الاتصال والانفصال، وقد جاء المفعول الثاني متصلا وهو ضمير الغيبة.
2 أرجاء: نواحي، الأضغان: الأحقاد، الإحن، الأحقاد أيضًا.
المعنى: لقد كنت أظنك أخا مخلصا، فإذا بك عن العكس من ذلك عدو حقود.
الشاهد في "حسبتك إياه" فإن الفعل حسب ينصب مفعولين، وهما معه ضميران الأول ضمير المخاطب، والثاني ضمير الغائب، فيصح في الثاني الاتصال والانفصال.
نون الوقاية قبل ياء المتكلم:
لاحظ الأمثلة الآتية:
أفادنِي التَّجريبُ في الحياة أكثر من النظر.
فإنَّنِي أفدتُ من الخطأ الفعليِّ أكثر من الوعظ الكلاميّ.
فكان الخطأ مني، وكانت معرفةُ الصواب منِّي أيضًا.
في الأمثلة السابقة نجد قبل ياء المتكلم في "أفادني، إنني، مني" نونًا فصلت بين ياء المتكلم بعدها والكلمة التي قبلها -سواء أكانت فعلا أم حرفًا- وهذه النون تسمى "نون الوقاية".
جاء في ابن عقيل: وسميت بذلك: لأنها تقي الفعل من الكسر. ا. هـ.
ومعنى ذلك أن ياء المتكلم يناسبها كسر ما قبلها، كما تقول "بلدي، أهلي" وآخر الفعل -كما عرفنا قبلا- لا يكسر، فحين يتصل بياء المتكلم يؤتى بهذه النون لتتحمل هي الكسرة بدلا من الفعل، أو بعبارة ابن عقيل "لتقي الفعل من الكسر" فكان ذلك سبب التسمية، ثم حملت هذا الاسم معها مع الحروف حين تتصل بها.
هذا وتجيء نون الوقاية قبل ياء المتكلم -كما ذكرنا- مع الأفعال والحروف والأسماء على التفصيل الآتي:
أولا: نون الوقاية مع الأفعال:
وهي لازمة قطعًا مع كل الأفعال -الماضي والمضارع والأمر- قبل ياء المتكلم، تقول:"بلغتني رسالتُك ويُسعدنِي أن ألقاك فشرّفْني بزيارتك".
ثانيًا: نون الوقاية مع الحروف:
وتأتي مع حروف محدودة عددها ثمانية، وهي الحروف الستة الناسخة التي تنصب المبتدأ أو ترفع الخبر "إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكن، ليت، لعل" وحرفان من حروف الجر هما "من، على" على التفصيل الآتي:
1-
مع الحروف الأربعة "إنَّ، أنَّ، كأنَّ، لكنَّ" إذا اتصلت بها ياء المتكلم، لك أن تأتي معها بنون الوقاية ولك تركها، وكلا الاستعمالين صحيح لغويا، تقول:"إنَّنِي صاحبُ هدفٍ واضح في حياتي، قد تَعُوقُنِي عنه الصعابُ لكنَّنِي مصمِّمٌ على الوصول إليه" ولك أن تقول: "إنِّي صاحبُ هدف واضح في حياتي، قد تعوقني عنه الصعاب لكنِّي مصمِّمٌ على الوصول إليه".
2-
مع الحرف "ليت" إذا اتصلت به ياء المتكلم، الفصيح في اللغة أن تذكر نون الوقاية، جاء في القرآن:{يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} ، ويقل حذف النون معها جدًّا.
3-
مع الحرف "لعل" إذا اتصلت به ياء المتكلم، الفصيح في اللغة ألا تذكر نون الوقاية، تقول:"سأبذل قُصَارَى جُهْدِي لعلِّي بذلك أحققُ أمل أسرتي ووطني"، ويقل مجيء النون معها جدًّا، فهي عكس "ليت".
4-
مع الحرفين "من، عن" إذا اتصلت بهما ياء المتكلم، الفصيح أن تجيء معهما بنون الوقاية، فمن كلام الرسول في خطبة الوداع قوله:"اسمعُوا عنِّي، فلعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا" وتقول لزميلك: "اسمع منِّي هذا الحديث، وبلغ عنِّي هذا الخبر" ويقل جدا حذف النون معهما.
ثالثًا: نون الوقاية مع الأسماء:
وتأتي مع كلمة واحدة شائعة الاستعمال ومألوفة وهي "لَدُنْ" بمعنى: عند وناحية، كما تأتي أيضًا مع كلمتين لا يكاد أحد يستعملهما بالنون "قط، قد" بمعنى "حسب ويكفي" ولن نتعرض هنا للكلمتين الأخيرتين إذ لا يستعمل "قطْنِي، قدْنِي"، أما كلمة "لَدُنْ" إذا اتصلت بياء المتكلم فالفصيح أن تتوسط نون الوقاية، فتقول:"لَدُنِّي" ويقل حذف النون فنقول: "لَدُنِي" وقرئت الآية: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} 1 بتشديد النون على اللغة الفصحى، وبتخفيفها على غير الفصحى.
1 من الآية 76 من سورة الكهف.