المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[السابع والعشرون الإسراف والتبذير] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٣

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي غَوَائِل الْبُخْل وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حُبُّ الْمَالِ لِلْحَرَامِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي ذَمِّ الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْعَجَلَةُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ وَالتَّضَجُّرُ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْجُرْأَةُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ]

- ‌[الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ التَّمَرُّدُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الصَّلَفُ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْجَرْبَزَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ وَالْحَمَاقَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْخُمُودُ]

- ‌[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقِسْم الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَهُوَ سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّانِي مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّالِثُ الْخَطَأُ]

- ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ]

- ‌[السَّادِسُ الْغِيبَةُ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ النَّمِيمَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ]

- ‌[التَّاسِعُ اللَّعْنُ]

- ‌[الْعَاشِرُ السَّبُّ]

- ‌[الْحَادِي عَشَرَ الْفُحْشُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالتَّعْيِيرُ]

- ‌[الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ حُكْمُ الْمِرَاء]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ]

- ‌[السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ]

- ‌[التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنُ]

- ‌[الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى]

- ‌[الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ]

- ‌[التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ]

- ‌[الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّلَاثُونَ افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ]

- ‌[الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالَ الْخُطْبَةِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ]

- ‌[الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ]

الفصل: ‌[السابع والعشرون الإسراف والتبذير]

[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ]

{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ) . مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (الْبُخْلُ وَالتَّقْتِيرُ) زِيَادَةُ الْإِمْسَاكِ (وَهُوَ مَلَكَةُ إمْسَاكِ الْمَالِ حَيْثُ يَجِبُ بَذْلُهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ) كَالزَّكَاةِ وَالْفِطْرَةِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَالنُّذُورِ وَالْعُشْرِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ وَالنَّفَقَاتِ اللَّازِمَةِ (أَوْ) بِحُكْمِ (الْمُرُوءَةِ) بِالْهَمْزَةِ، وَهِيَ التَّخَلُّقُ بِخُلُقِ أَمْثَالِهِ، الْمُرَادُ هُنَا نَحْوُ الصَّدَقَةِ النَّافِلَةِ، وَهَدِيَّةِ الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ (وَهُوَ) حُكْمُ الْمُرُوءَةِ (تَرْكُ الْمُضَايَقَةِ) عَلَى نَفْسِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ عَائِلَتِهِ، وَأَقَارِبِهِ وَجِيرَانِهِ (وَ) تَرْكُ (الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْمُحَقَّرَاتِ) الْأُمُورِ الْقَلِيلَةِ وَالْيَسِيرَةِ إنْ لِحِرْصٍ، وَإِلَّا فَلَا (وَذَلِكَ) التَّرْكُ الْمَذْكُورُ (يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ) كَحَالِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَالسَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ وَحَالِ مُصَادَفَةِ الْأَسْخِيَاءِ وَالْمُمْسِكِينَ (مِنْ الْأَقَارِبِ) بَيَانٌ لِلْأَشْخَاصِ فَكَمْ مِنْ رِجَالٍ تُكْثِرُ الْعَطَاءَ لَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ وَكَمْ مِنْ رِجَالٍ عَلَى الْعَكْسِ (وَالْأَجَانِبِ) كَمَا عَرَفْت فَقَدْ يَتْرُكُ الْمُضَايَقَةَ لِلْأَقَارِبِ دُونَ الْأَجَانِبِ، وَقَدْ يَعْكِسُ (وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ) كَالْبُخْلِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ دُونَ بَعْضٍ وَالْبُخْلِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ كَرَمَضَانَ (وَأَشَدُّ الْبُخْلِ الْإِمْسَاكُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ لَا يَسْمَحَ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَلْبَسَ) لَا لِغَرَضٍ دِينِيٍّ كَرِيَاضَاتِ الصُّوفِيَّةِ وَالتَّوَاضُعِ، وَقَهْرِ النَّفْسِ وَدَفْعِ الْمُيُولَاتِ النَّفْسَانِيَّةِ الْهَوَائِيَّةِ (أَوْ يَتَدَاوَى) إذَا مَرِضَ (وَقِيلَ يُسَمَّى) هَذَا الْبُخْلُ (شُحًّا) هُوَ الْبُخْلُ مَعَ الْحِرْصِ، وَالْبُخْلُ بِأَنْوَاعِهِ مَذْمُومٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180]-.

[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ]

(السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ، وَهُوَ مَلَكَةُ بَذْلِ الْمَالِ

ص: 2

حَيْثُ يَجِبُ إمْسَاكُهُ بِحُكْمِ الشَّرْعِ أَوْ) بِحُكْمِ (الْمُرُوءَةِ، وَهِيَ) أَيْ الْمُرُوءَةُ (رَغْبَةٌ صَادِقَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ) لِلْغَيْرِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ (بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ وَالْفُتُوَّةُ) فِي اللُّغَةِ السَّخَاءُ وَالْكَرَمُ، وَفِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ إيثَارُ الْخَلْقِ بِنَفْسِك بَعْدَ أَنْ تُؤْثِرَهُمْ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِأَنْ تَبْذُلَ نَفْسَك لِكُلِّ خَسِيسٍ وَنَفِيسٍ فِيمَا يُرِيدُ وَتُمَكِّنَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيك، وَقِيلَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ أَبَدًا فِي أَمْرِ غَيْرِهِ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَزَالُ اللَّهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ» ، وَقِيلَ هِيَ الصَّفْحُ عَنْ عَثَرَاتِ الْإِخْوَانِ وَسَتْرُ عُيُوبِهِمْ، وَقِيلَ أَنْ لَا تَرَى لِنَفْسِك فَضْلًا عَلَى غَيْرِك، وَقِيلَ إظْهَارُ النِّعْمَةِ وَكِتْمَانُ الْمَحَبَّةِ (أَخَصُّ مِنْهَا، وَهِيَ) أَيْ الْفُتُوَّةُ (كَفُّ الْأَذَى وَبَذْلُ النَّدَى) أَيْ الْإِحْسَانُ (وَالصَّفْحُ عَنْ الْعَثَرَاتِ) أَيْ الْإِعْرَاضُ عَنْ الزَّلَّاتِ (وَسَتْرُ الْعَوْرَاتِ) أَيْ الْقَبَائِحِ، (وَهُمَا) أَيْ الْبُخْلُ وَالْإِسْرَافُ (فِي مُخَالَفَةِ الشَّرْعِ حَرَامَانِ) كَالْبُخْلِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ فِيمَا يَحْرُمُ كَمَنْعِ الزَّكَاةِ، وَإِعْطَاءِ الْمَالِ بِالْخَمْرِ وَالْغِنَاءِ (وَفِي مُخَالَفَةِ الْمُرُوءَةِ مَكْرُوهَانِ تَنْزِيهًا. وَضِدُّهُمَا)

أَيْ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ (، وَهُوَ الْوَسَطُ بَيْنَ ذَيْنِك الطَّرَفَيْنِ التَّفْرِيطِ وَالْإِفْرَاطِ) أَيْ الْإِكْثَارُ ضِدُّ التَّفْرِيطِ (مَعَ الْمَيْلِ إلَى الْبَذْلِ السَّخَاءُ) خَبَرٌ لِقَوْلِهِ وَضِدُّهُمَا (وَالْجُودُ) عَطْفُ تَفْسِيرٍ لِلسَّخَاءِ (فَهُوَ مَلَكَةُ بَذْلِ الْمَالِ زَائِدًا عَلَى الْوَاجِبِ) الشَّرْعِيِّ أَوْ الْمُرُوءَةُ (لِنَيْلِ الثَّوَابِ أَوْ) تَحْصِيلِ (فَضِيلَةِ الْجُودِ وَتَطْهِيرِ النَّفْسِ عَنْ رَذَالَةِ الْبُخْلِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ) مِنْ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ (مَعَ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِسْرَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] أَيْ لَا تَجْعَلْ يَدَك مَرْبُوطَةً إلَى عُنُقِك مِنْ كَثْرَةِ الْبُخْلِ مَخَافَةَ أَنْ تَغْلَطَ وَتُعْطِيَ {وَلا تَبْسُطْهَا} [الإسراء: 29] أَيْ الْيَدَ {كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] فِي الْإِعْطَاءِ فَتَمْثِيلَانِ لِمَنْعِ الشَّحِيحِ، وَإِسْرَافِ الْمُبَذِّرِ نَهَى عَنْهُمَا آمِرًا بِالِاقْتِصَادِ بَيْنَهُمَا الَّذِي هُوَ الْكَرَمُ {فَتَقْعُدَ مَلُومًا} [الإسراء: 29] فَتَصِيرُ مَلُومًا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِنْدَ النَّاسِ بِالْإِسْرَافِ وَسُوءِ التَّدْبِيرِ {مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] نَادِمًا أَوْ مُنْقَطِعًا بِك قِيلَ نَزَلَتْ حِينَ «جَاءَ صَبِيٌّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ إنَّ أُمِّي تَسْأَلُك دِرْعًا، وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ إلَّا قَمِيصُهُ فَقَالَ لِلصَّبِيِّ عُدْ، وَقْتًا آخَرَ فَذَهَبَ إلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ قُلْ لَهُ إنَّ أُمِّي تَسْأَلُك الدِّرْعَ الَّذِي عَلَيْك فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَارِهِ فَنَزَعَ قَمِيصَهُ فَأَعْطَاهُ، وَقَعَدَ عُرْيَانًا فَأَذَّنَ بِلَالٌ وَانْتَظَرُوا لِلصَّلَاةِ فَلَمْ يَخْرُجْ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ} [الإسراء: 29] الْآيَةَ {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا} [الفرقان: 67] » لَمْ يُجَاوِزُوا حَدَّ الْكَرَمِ {وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] ، وَلَمْ يُضَيِّقُوا تَضْيِيقَ الشَّحِيحِ، وَقِيلَ الْإِسْرَافُ هُوَ الْإِنْفَاقُ فِي الْمَحَارِمِ وَالتَّقْتِيرُ مَنْعُ الْوَاجِبِ

ص: 3

وَقِيلَ الْإِسْرَافُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي النَّفَقَةِ.

وَإِنْ قُلْت: وَالتَّقْتِيرُ التَّضْيِيقُ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْإِسْرَافِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وَسَطًا، وَعَدْلًا (وَأَعْلَى السَّخَاءِ الْإِيثَارُ، وَهُوَ بَذْلُ الْمَالِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ)، وَإِيصَالُ ذَلِكَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] أَيْ يُقَدِّمُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ قِيلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ حَتَّى إنَّ مَنْ كَانَ عِنْدَهُ امْرَأَتَانِ نَزَلَ عَنْ وَاحِدَةٍ وَزَوَّجَهَا مِنْ أَحَدِهِمْ {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَقْرٌ وَحَاجَةٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِيثَارَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِيمَا هُوَ غَيْرُ الْقُرُبَاتِ فَإِنَّ الْإِيثَارَ فِيهَا مَكْرُوهٌ كَمَا هُوَ فِي غَيْرِهَا مَحْبُوبٌ فَلَا إيثَارَ بِمَاءِ الطَّهَارَةِ وَبِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَبِالصَّفِّ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ تَرْكٌ لِلْإِجْلَالِ اللَّازِمِ لِلْعَابِدِ.

فَلَوْ وَهَبَ مَاءَ الْوُضُوءِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ آثَرَ الْمُضْطَرُّ إلَى طَعَامِهِ غَيْرَهُ يَجُوزُ، وَإِنْ خَافَ فَوَاتَ مُهْجَتِهِ، وَإِيثَارُ الطَّالِبِ غَيْرَهُ بِنَوْبَتِهِ لِلْقُرْآنِ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ إيثَارٌ بِالْقُرَبِ، وَفِي هِبَةِ مُنْيَةِ الْمُفْتِي فَقِيرٌ مُحْتَاجٌ مَعَهُ دَرَاهِمُ فَأَرَادَ أَنْ يُؤْثِرَ الْفُقَرَاءَ عَلَى نَفْسِهِ إنْ عَلِمَ أَنَّهُ يَصْبِرُ عَلَى الشِّدَّةِ فَالْإِيثَارُ أَفْضَلُ، وَإِلَّا فَالْإِنْفَاقُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلُ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ:«قَالَ عليه الصلاة والسلام أَيُّمَا امْرِئٍ اشْتَهَى شَهْوَةً» أَيْ مُشْتَهًى مِنْ مُشْتَهَيَاتِ النَّفْسِ «فَرَدَّ شَهْوَتَهُ» ، وَلَمْ يَقْضِهَا «وَآثَرَ» قَدَّمَ غَيْرَهُ «عَلَى نَفْسِهِ» مَعَ احْتِيَاجِهِ «غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُهُ» أَيْ جَمِيعُ ذُنُوبِهِ فَإِنَّ الْإِضَافَةَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَهْدٌ، وَلَمْ يُوجَدْ دَلِيلُ الْجِنْسِ فَلِلِاسْتِغْرَاقِ لَكِنَّ الْمُرَادَ فِي مِثْلِهِ هُوَ الصَّغَائِرُ فَإِنَّ الْكَبَائِرَ لَا تُغْفَرُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ التَّوْبَةِ الْقَضَاءُ وَاسْتِرْضَاءُ الْخُصُومِ وَالْكَفَّارَاتُ فَمَا قِيلَ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ صَغِيرَةٌ فَيَغْفِرْ الْكَبَائِرَ فَيَرُدُّهُ قَوْله تَعَالَى - {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31]- الْآيَةَ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -)، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «مَا شَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ» لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى شِبَعِهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ لِعَدَمِ شِبَعِهِ أَصْلًا قَالَ فِي الشِّرْعَةِ: أَوَّلُ بِدْعَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ الشِّبَعُ، وَفِي شَرْحِهِ الْمُسَمَّى بِجَامِعِ الشُّرُوحِ وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ بَلْ، وَلَا لَيْلَتَيْنِ مُتَوَالِيَتَيْنِ بَلْ أَصْلًا لِمَا قَالَتْ عَائِشَةُ «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» .

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّنْيَا، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ» ، وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ فَاطِمَةَ رضي الله عنها جَاءَتْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «مَا هَذِهِ الْكِسْرَةُ يَا فَاطِمَةُ قَالَتْ قُرْصٌ خَبَزْته، وَلَمْ تَطِبْ نَفْسِي حَتَّى أَتَيْتُك بِهَذِهِ الْكِسْرَةِ فَقَالَ أَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ طَعَامٍ دَخَلَ فَمَ أَبِيك مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ» (وَلَوْ شِئْنَا لَشَبِعْنَا) يَعْنِي لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَجْزِنَا، وَعَدَمِ اقْتِدَارِنَا عَلَى قُوتِنَا بَلْ مِنْ إيثَارِنَا الْغَيْرَ عَلَى أَنْفُسِنَا. الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنْ مَقُولِ عَائِشَةَ يَعْنِي لَمْ يَكُنْ عَدَمُ شِبَعِ رَسُولِ اللَّهِ، وَعَدَمُ شِبَعِنَا لِعَدَمِ وِجْدَانِنَا؛ لِأَنَّهُ عليه الصلاة والسلام عُرِضَتْ عَلَيْهِ بَطْحَاءُ مَكَّةَ مِنْ ذَهَبٍ فَأَبَى وَخُيِّرَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا مَلِكًا أَوْ نَبِيًّا عَبْدًا فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا عَبْدًا مِنْ كَمَالِ زُهْدِهِ (وَلَكِنَّهُ كَانَ يُؤْثِرُ عَلَى نَفْسِهِ) غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ؛ وَلِأَنَّ الشِّبَعَ مَجْلَبَةٌ لِلْآثَامِ مَنْقَصَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عليه الصلاة والسلام:«مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ فَإِنَّ مَنْ امْتَلَأَ بَطْنُهُ انْتَكَسَتْ بَصِيرَتُهُ وَتَشَوَّشَتْ فِكْرَتُهُ» ، وَلَا يَسْتَوْلِي عَلَى مَعَادِنِ إدْرَاكِهِ مِنْ الْأَبْخِرَةِ الْمُتَصَاعِدَةِ مِنْ مَعِدَتِهِ إلَى دِمَاغِهِ فَلَا يَتَأَتَّى لَهُ نَظَرٌ صَحِيحٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «لَا تَشْبَعُوا فَتُطْفِئُوا أَنْوَارَ الْمَعْرِفَةِ فِي قُلُوبِكُمْ» كَذَا فِي أَكْمَلِ الْمَشَارِقِ عَنْ الْقَاضِي (قُطْن) الدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «طَعَامُ الْجَوَّادِ دَوَاءٌ»

ص: 4

هُوَ مَنْ بَذَلَ الْأَكْثَرَ، وَأَبْقَى الْأَقَلَّ وَالسَّخِيُّ مَنْ أَعْطَى بَعْضَ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْبَعْضَ، وَقِيلَ السَّخِيُّ مَنْ يَأْكُلُ وَيُؤَكِّلُ، وَالْجَوَّادُ لَا يَأْكُلُ وَيُؤَكِّلُ وَالسَّخِيُّ لَا يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّوْقِيفِ «وَطَعَامُ الْبَخِيلِ دَاءٌ» .

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ طَعَامُ السَّخِيِّ دَوَاءٌ وَطَعَامُ الشَّحِيحِ دَاءٌ لِكَوْنِهِ يُطْعِمُ الضَّيْفَ مَعَ ثِقَلٍ وَتَضَجُّرٍ، وَعَدَمِ طِيبِ نَفْسٍ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْخَوَاصُّ: إنَّهُ يُظْلِمُ الْقَلْبَ فَتَنْبَغِي الْإِجَابَةُ إلَى طَعَامِ السَّخِيِّ دُونَ الْبَخِيلِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ بَخِيلًا مُوسِرًا دَعَاهُ بَعْضُ جِيرَانِهِ فَقَدَّمَ لَهُ طُبَاهَجَةَ بَيْضٍ فَأَكْثَرَ مِنْهَا فَانْتَفَخَ بَطْنُهُ وَصَارَ يَتَأَذَّى فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ تَقَيَّأْ فَقَالَ أَتَقَيَّأُ طُبَاهَجَةً أَمُوتُ وَلَا أَتَقَيَّأُهَا فَعَلَى مَنْ اُبْتُلِيَ بِدَاءِ الْبُخْلِ أَنْ يُعَالِجَهُ حَتَّى يَزُولَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي مُخْتَصَرِ حَدَائِقِ الْحَقَائِقِ كَانَ أَبُو مَرْثَدٍ مِنْ الْكِرَامِ فَمَدَحَهُ شَاعِرٌ فَقَالَ لَهُ لَيْسَ عِنْدِي مَا أَدْفَعُ إلَيْك، وَلَكِنْ اذْهَبْ مَعِي إلَى الْقَاضِي وَادَّعِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ حَتَّى أُقِرَّ لَك ثُمَّ احْبِسْنِي فَإِنَّ أَهْلِي لَا يَتْرُكُونَنِي مَحْبُوسًا وَيُعْطُونَك الْمَالَ فَفَعَلَ بِهِ ذَلِكَ فَمَا أَمْسَى حَتَّى أَعْطَوْهُ الْمَالَ كُلَّهُ، وَقِيلَ لَمَّا قَدِمَ الشَّافِعِيُّ مِنْ صَنْعَاءَ إلَى مَكَّةَ وَكَانَ مَعَهُ عَشَرَةُ آلَافِ دِينَارٍ قِيلَ لَهُ اشْتَرِ بِهَا ضَيْعَةً فَضَرَبَ خَيْمَةً خَارِجَ مَكَّةَ وَصَبَّ الْكُلَّ تَحْتَهَا وَكَانَ يُعْطِي مَنْ دَخَلَ إلَيْهِ قَبْضَةً حَتَّى فَرَغَ الْكُلُّ قَبْلَ الظُّهْرِ ثُمَّ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْفَيْضِ عَنْ الْمِيزَانِ أَنَّهُ حَدِيثٌ كَذِبٌ، وَعَنْ السُّيُوطِيّ فِي دُرَرِهِ أَنَّ فِيهِ ضُعَفَاءَ وَمَجَاهِيلَ.

(شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا جُبِلَ وَلِيُّ اللَّهِ» أَيْ لَمْ يُجْعَلْ مَجْبُولًا وَالْوَلِيُّ الْمُسْلِمُ الْمُوَاظِبُ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ (إلَّا عَلَى السَّخَاءِ وَحُسْنِ الْخُلُقِ) إذْ هُمَا أُسُّ الْكَمَالِ قِيلَ عَلَيْهِ إنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَضْعُهُ فِي نَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ مَنْ تَوَهَّمَ الْكَذِبَ مِنْ بَعْضِ الرُّوَاةِ غَايَتُهُ كَوْنُهُ ضَعِيفًا فِي عُرْفِهِمْ لَا فِي نَفْسِهِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحِيحًا فِي نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَدَّ الْمُتَأَخِّرُونَ بِكَلَامِهِ وَخَرَّجُوا أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِيهِ الْوَضْعُ فِي كُتُبِهِمْ كَالسُّيُوطِيِّ فِي الْجَامِعِينَ كَذَا قِيلَ عَنْ التَّوْفِيقِ وَالتَّحْقِيقِ لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ مُقْتَضَاهُ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ اصْطَلَحَ عَلَى الْوَضْعِ بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ مِنْ الرُّوَاةِ مُطْلَقًا أَوْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَيَانٍ بَلْ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ كِبَارِ الْمُحَدِّثِينَ وَسُوءُ الظَّنِّ بِمِثْلِهِ يَرْفَعُ الْأَمْنَ عَنْ كُلِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ تَوَهُّمَ الْكَذِبِ حَاصِلٌ فِي كُلِّ حَدِيثٍ صَحِيحٍ إلَّا الْمُتَوَاتِرَ فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِالْوَضْعِ وَكَيْفَ يَكُونُ غَايَتُهُ ضَعِيفًا، وَقَوْلُهُ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ صَحِيحًا إلَخْ مَنْظُورٌ أَيْضًا إذْ بِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ الصِّحَّةِ لَا يَصْلُحُ لِلِاحْتِجَاجِ، وَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَطْلُوبُ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مَوْضُوعَاتِهِ: فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ بِحَسَبِ مَا يَظْهَرُ لِلْمُحَدِّثِينَ مِنْ حَيْثُ نَظَرُهُمْ إلَى الْإِسْنَادِ، وَإِلَّا فَلَا مَطْمَعَ لِلْقَطْعِ فِي مَقَامِ الْإِسْنَادِ لِتَجْوِيزِ الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ضَعِيفًا أَوْ مَوْضُوعًا، وَالْمَوْضُوعُ صَحِيحًا مَرْفُوعًا غَيْرُ الْمُتَوَاتِرِ. انْتَهَى (قُطْن) .

الدَّارَقُطْنِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّخَاءُ» هُوَ بَذْلُ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَأَنْ يُوصَلَ إلَى مُسْتَحِقِّهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ، وَعَنْ الرَّاغِبِ: السَّخَاءُ هَيْئَةٌ فِي الْإِنْسَانِ دَاعِيَةٌ إلَى بَذْلِ الْمَقِيتَاتِ حَصَلَ مَعَهُ الْبَدَلُ أَوْ لَا وَمُقَابِلُهُ الشُّحُّ وَالْجُودُ بَذْلُ الْمَقِيتَاتِ بِلَا بَدَلٍ وَيُقَابِلُهُ الْبُخْلُ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مَحَلَّ الْآخَرِ. وَفِي الْإِحْيَاءِ الْإِمْسَاكُ مَحَلَّ الْبَذْلِ بُخْلٌ وَالْبَذْلُ مَحَلَّ الْإِمْسَاكِ تَبْذِيرٌ وَالْوَسَطُ هُوَ الْجُودُ وَالسَّخَاءُ، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ فِعْلِ الْجَوَارِحِ بِدُونِ طِيبِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ تَسَخٍّ لَا سَخَاءٌ، وَعَنْ بَعْضٍ: السَّخَاءُ أَتَمُّ، وَأَكْمَلُ مِنْ الْجُودِ وَضِدُّ الْبُخْلِ وَضِدُّ السَّخَاءِ الشُّحُّ، وَالْجُودُ وَالشُّحُّ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا الِاكْتِسَابُ عَادَةً بِخِلَافِ ذَيْنِك فَإِنَّهُمَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْغَرِيزَةِ فَكُلُّ سَخِيٍّ جَوَادٌ، وَلَا عَكْسَ، وَالْجُودُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الرِّيَاءُ وَيُمْكِنُ تَطَبُّعُهُ بِخِلَافِ السَّخَاءِ.

«شَجَرَةٌ» أَيْ كَشَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ «فِي الْجَنَّةِ»

ص: 5

وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُ تَعَالَى قَادِرٌ أَنْ يُجَسِّدَ الْمَعَانِيَ وَيَجْعَلَ لَهَا صُورَةً كَثِيفَةً كَمَا فِي مِيزَانِ الْأَعْمَالِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّ «الْجَنَّةَ قِيعَانٌ، وَأَنَّ غِرَاسَهَا قَوْلُك سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ (فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَالشُّحُّ» قَدْ عَرَّفْته آنِفًا «شَجَرَةٌ فِي النَّارِ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَاتٌ فِي الدُّنْيَا» هُنَا، وَفِي الْأَوَّلِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَمَنْ كَانَ شَحِيحًا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ ذَلِكَ الْغُصْنُ حَتَّى يُدْخِلَهُ النَّارَ» ، وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ

كَمَا فِي الْفَيْضِ قَالَ أَنَسٌ «أَوَّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ اخْتَارَ لَكُمْ الْإِسْلَامَ بِالسَّخَاءِ وَحُسْنَ الْخُلُقِ أَلَا إنَّ السَّخَاءَ شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ سَخِيًّا لَا يَزَالُ مُتَعَلِّقًا بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا حَتَّى يُورِدَهُ الْجَنَّةَ أَلَا إنَّ اللُّؤْمَ شَجَرَةٌ فِي النَّارِ، وَأَغْصَانُهَا فِي الدُّنْيَا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَئِيمًا لَا يَزَالُ مُتَعَلِّقًا بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا حَتَّى يُورِدَهُ النَّارَ» ثُمَّ قَالَ فِيهِ ضُعَفَاءُ وَمَجَاهِيلُ يَعْنِي السَّخَاءُ يَدُلُّ عَلَى كَرَمِ النَّفْسِ، وَعَلَى تَصْدِيقِ الْخَلَفِ عَلَى مَنْ ضَمِنَ الرِّزْقَ فَمَنْ أَخَذَ بِهَذَا الْأَصْلِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الْجَاذِبَةِ إلَى دِيَارِ الْأَبْرَارِ، وَالْبُخْلُ يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْإِيمَانِ، وَعَدَمُ الْوُثُوقِ بِضَمَانِهِ تَعَالَى جَاذِبٌ إلَى الْخُسْرَانِ قَائِدٌ إلَى دَارِ الْهَوَانِ. وَقِيلَ أَقْبَحُ مَا فِي الْبَخِيلِ أَنَّهُ يَعِيشُ عَيْشَ الْفُقَرَاءِ وَيُحَاسَبُ مُحَاسَبَةَ الْأَغْنِيَاءِ وَالْبُخْلُ جِلْبَابُ الْمَسْكَنَةِ، وَالْبَخِيلُ لَيْسَ لَهُ خَلِيلٌ.

(تَنْبِيهٌ) سَخَاءُ الْعَوَامّ بِبَذْلِ الْمَوْجُودِ وَسَخَاءُ الْخَوَاصِّ بِكُلِّ مَوْجُودٍ وَمَفْقُودٍ غِنًى بِالْوَاحِدِ الْمَعْبُودِ كَذَا فِي الْفَيْضِ قِيلَ هَذَا الْحَدِيثُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي الْمَوْضُوعَاتِ أَيْضًا بِمُجَرَّدِ تَوَهُّمِ كَذِبِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْوَضْعُ يَقِينًا، وَقَدْ نَقَلَهُ الثِّقَاتُ فِي كُتُبِهِمْ، وَالْإِعْمَالُ أَوْلَى مِنْ الْإِهْمَالِ. انْتَهَى. أَقُولُ هَذَا الْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ الدَّارَقُطْنِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَدِيٍّ وَالْبَيْهَقِيِّ، وَعَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ أَبِي نُعَيْمٍ، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ الْخَطِيبِ، وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى تَخْرِيجِ ابْنِ عَسَاكِرَ، وَعَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَلَى رِوَايَةِ الدَّيْلَمِيِّ ثُمَّ تَكَلَّمَ الْمُنَاوِيُّ فِي كُلِّ تِلْكَ الطُّرُقِ بَعْضُهَا بِالْوَضْعِ وَبَعْضُهَا بِالضَّعْفِ إلَّا طَرِيقَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ» مِنْ رَحْمَتِهِ «قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ» قُرْبَ مَوَدَّةٍ «قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ» لِسَبْقِهِ فِيمَا يُدْنِيهِ مِنْهَا وَسُلُوكِهِ طَرِيقَهَا قُرْبَ مَسَافَةٍ لِجَوَازِهِ عَلَيْهِ تَعَالَى بِرَفْعِ الْحِجَابِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيُبْعِدُهُ عَنْهَا كَثْرَةُ الْحُجُبِ، وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَحْجُوبَتَانِ عَنْ الْخَلْقِ بِمَا حُفَّتَا بِهِ مِنْ الْمَكَارِهِ وَالشَّهَوَاتِ «بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ وَالْبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنْ» رَحْمَةِ «اللَّهِ بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ» الْبُخْلُ ثَمَرَةُ الرَّغْبَةِ فِي الدُّنْيَا «وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنْ عَابِدٍ بَخِيلٍ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَخُولِفَ لِيُفِيدَ أَنَّ الْجَاهِلَ غَيْرَ الْعَابِدِ السَّخِيَّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْعَالِمِ الْعَابِدِ الْبَخِيلِ ثُمَّ قَالَ عَنْ ابْنِ عَرَبِيٍّ فِي قَوْلِهِ وَجَاهِلٌ سَخِيٌّ إلَخْ مُشْكِلٌ يُبَاعِدُ الْحَدِيثَ عَنْ الصِّحَّةِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْجَاهِلَ قِسْمَانِ جَاهِلٌ بِمَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ فِي عَمَلِهِ وَاعْتِقَادِهِ وَجَاهِلٌ بِمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْعِلْمِ فَأَمَّا الْمُخْتَصُّ بِهِ فَعَابِدٌ بَخِيلٌ خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْهُ فَجَاهِلٌ سَخِيٌّ خَيْرٌ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْجَهْلَ وَالْعِلْمَ يَعُودَانِ إلَى الِاعْتِقَادِ وَالسَّخَاءَ وَالْبُخْلَ لِلْعَمَلِ، وَعُقُوبَةُ ذَنْبِ الِاعْتِقَادِ أَشَدُّ مِنْ ذَنْبِ الْعَمَلِ. انْتَهَى.

وَقِيلَ الْجَاهِلُ هُنَا ضِدُّ الْعَابِدِ بِقَرِينَةِ الْمُقَابَلَةِ فَمَنْ يُؤَدِّي الْفَرَائِضَ فَقَطْ فَسَخِيٌّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ

ص: 6

تَعَالَى مِمَّنْ يُكْثِرُ النَّوَافِلَ الَّذِي هُوَ بَخِيلٌ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مِنْ صَدَدِ الْمَقَامِ ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ إنَّهُ غَرِيبٌ، وَعَنْ الذَّهَبِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ ضَعِيفٌ لَكِنَّ هَذَا لَا يُوجِبُ الْحُكْمَ بِوَضْعِهِ كَمَا ظَنَّ ابْنُ الْجَوْزِيِّ، وَأَنْتَ قَدْ سَمِعْت أَنَّ الْحَدِيثَ، وَإِنْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَكِنْ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْفَضَائِلِ وَيُذْكَرُ لِتَأْيِيدِ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْبَخِيلُ عَدُوُّ اللَّهِ، وَلَوْ كَانَ رَاهِبًا وَكَذَا الْبَخِيلُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَلَوْ كَانَ عَابِدًا وَالسَّخِيُّ لَا يَدْخُلُ النَّارَ، وَلَوْ كَانَ فَاسِقًا فَفِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيِّ الْقَارِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ (شَيْخٌ) أَبُو الشَّيْخِ (عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «السَّخَاءُ خُلُقُ» بِضَمَّتَيْنِ وَبِضَمٍّ فَسُكُونٍ «اللَّهِ» تَعَالَى «الْأَعْظَمُ» بِالرَّفْعِ أَوْ بِالْجَرِّ أَيْ هُوَ وَصْفُهُ الْأَعْظَمُ أَوْ مِنْ صِفَاتِهِ الْأَعْظَمِ فَمَنْ تَخَلَّقَ بِهِ تَخَلَّقَ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى قَالَ تَخَلَّقُوا بِأَخْلَاقِ اللَّهِ (صف) الْأَصْفَهَانِيُّ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «أَلَا إنَّ كُلَّ جَوَّادٍ فِي الْجَنَّةِ» أَيْ كُلَّ مَنْ كَثُرَ جُودُهُ كَأَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ حَالًا لِعَدَمِ تَخَلُّفِهِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ «حَتْمٌ عَلَى اللَّهِ» يَعْنِي عَدَمَ تَخَلُّفِهِ كَالْوَاجِبِ أَوْ وَاجِبٍ عَادِيٍّ لَهُ تَعَالَى فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ شَيْءٌ يَجِبُ تَنْزِيهُهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا عُرِفَ فِي مَحَلِّهِ، (وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ) بِالشَّفَاعَةِ؛ وَلِهَذِهِ الْفَضَائِلِ كَانَ مُعْظَمُ خُلُقِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ السَّخَاءَ.

وَفِي الرِّسَالَةِ الْقُشَيْرِيَّةِ سَأَلَ رَجُلٌ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - شَيْئًا فَأَعْطَاهُ خَمْسِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ ائْتِ بِحَمَّالٍ يَحْمِلُ الْمَالَ، وَأَعْطَى طَيْلَسَانَهُ، وَقَالَ كِرَاءُ الْحَمَّالِ مِنْ قِبَلِي وَسَأَلَتْهُ امْرَأَةٌ سُكْرُجَةَ عَسَلٍ فَأَمَرَ لَهَا بِزِقٍّ مِنْ عَسَلٍ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ إنَّهَا سَأَلَتْ عَلَى قَدْرِ حَاجَتِهَا وَنَحْنُ نُعْطِي عَلَى قَدْرِ هِمَّتِنَا، وَقِيلَ لَمَّا قَرُبَتْ وَفَاةُ الشَّافِعِيِّ قَالَ مُرُوا فُلَانًا يُغَسِّلُنِي وَكَانَ هُوَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ فَدَعَا بِتَذْكِرَتِهِ فَوَجَدَ عَلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَاهَا، وَقَالَ هَذَا غُسْلِي إيَّاهُ، وَقِيلَ بَكَى عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - يَوْمًا فَقِيلَ لَهُ مَا يُبْكِيك فَقَالَ لَمْ يَأْتِنِي ضَيْفٌ مُنْذُ سَبْعَةِ أَيَّامٍ أَخَافُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَهَانَنِي.

وَعَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - زَكَاةُ الدَّارِ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا بَيْتًا لِلضِّيَافَةِ، وَقِيلَ عَطِشَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ يَوْمًا فِي طَرِيقِهِ فَاسْتَسْقَى مِنْ مَنْزِلِ امْرَأَةٍ فَأَخْرَجَتْ لَهُ كُوزًا فَشَرِبَ عَبْدُ اللَّهِ الْمَاءَ، وَقَالَ لِغُلَامِهِ احْمِلْ إلَيْهَا عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَتَسْخَرُ بِي فَقَالَ احْمِلْ إلَيْهَا عِشْرِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَقَالَ احْمِلْ إلَيْهَا ثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ يَا غُلَامُ فَرَدَّتْ الْبَابَ، وَقَالَتْ أُفٌّ لَك فَحَمَلَ إلَيْهَا ثَلَاثِينَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ الْجَوَّادُ الْأَوَّلُ إجَابَةُ الْخَاطِرِ الْأَوَّلِ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ الْبُوشَنْجِيُّ فِي الْخَلَاءِ فَدَعَا تِلْمِيذًا لَهُ، وَقَالَ انْزِعْ عَنِّي هَذَا الْقَمِيصَ وَادْفَعْهُ إلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُ هَلَّا صَبَرْت فَقَالَ لَمْ أُومِنْ عَلَى نَفْسِي أَنْ يَتَغَيَّرَ عَلَيَّ لِمَا وَقَعَ لِي مِنْ الْخُلْفِ مَعَهُ بِذَلِكَ الْقَمِيصِ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً} [البقرة: 274] الْآيَةَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِأَرْبَعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ عَشَرَةٍ بِاللَّيْلِ، وَعَشَرَةٍ بِالنَّهَارِ، وَعَشَرَةٍ بِالسِّرِّ، وَعَشَرَةٍ بِالْعَلَانِيَةِ، وَقِيلَ فِي عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَا يَمْلِكُ إلَّا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ فَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ لَيْلًا وَدِرْهَمٍ نَهَارًا وَدِرْهَمٍ سِرًّا وَدِرْهَمٍ عَلَانِيَةً. انْتَهَى.

«أَلَا وَإِنَّ كُلَّ بَخِيلٍ فِي النَّارِ حَتْمٌ عَلَى اللَّهِ، وَأَنَا بِهِ كَفِيلٌ» الْكَفَالَةُ إنَّمَا تُتَصَوَّرُ فِي وُصُولِ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ نَفْعٌ، وَأَمَّا الضَّرَرُ الْمَحْضُ فَلَيْسَ فِيهِ كَفَالَةٌ لَعَلَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي عَدَمِ تَخَلُّفِهِ عَنْ النَّارِ فَكَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ مَطْلُوبٌ لَهُ «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْجَوَّادُ وَمَنْ الْبَخِيلُ» وَجْهُ السُّؤَالِ عَنْ مَاهِيَّتِهِمَا مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ كَوْنُهُمَا مَعْلُومَيْنِ لَهُمْ لَعَلَّ أَنَّ ذَلِكَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ فَيَجُوزُ أَنْ لَا يَعْرِفُوا مَفْهُومَهُمَا الشَّرْعِيَّ، وَإِنْ عَرَفُوا مَعْنَاهُمَا اللُّغَوِيَّ أَوْ لِتَقَوِّي مَا فِي خَاطِرِهِمْ أَوْ لِاخْتِيَارِ مَا فِي خَاطِرِهِمْ هَلْ هُوَ مُطَابِقٌ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ لِتَعْلِيمِ غَيْرِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ فِيمَنْ

ص: 7

أَبْعَدَهُمْ، أَوْ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ لَيْسَ كَمَعْرِفَتِهِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ؛ أَوْ لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ غَيْرَ مَعْنَاهَا الْمَعْلُومِ لَهُمْ كَمَا يُشْعِرُهُ الْجَوَابُ «قَالَ الْجَوَّادُ مَنْ جَادَ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى» كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْأُضْحِيَّةِ بَلْ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ «فِي مَالِهِ، وَالْبَخِيلُ مَنْ مَنَعَ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَخِلَ عَلَى رَبِّهِ، وَلَيْسَ الْجَوَّادُ مَنْ أَخَذَ حَرَامًا» كَالْغَصْبِ «، وَأَنْفَقَ إسْرَافًا» قِيلَ عَلَى رِوَايَةِ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ فَإِنَّ اللَّهَ آخِذٌ بِيَدِهِ كُلَّمَا عَثَرَ» أَقُولُ كَذَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ، وَفِيهِ بَيَانُ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى لِلسَّخِيِّ وَمَعُونَتِهِ لَهُ فِي مُهِمَّاتِهِ.

وَقَدْ جَاءَ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَلَمَّا سَخَا بِالْأَشْيَاءِ اعْتِمَادًا وَتَوَكُّلًا عَلَى رَبِّهِ شَمِلَهُ بِعَيْنِ عِنَايَتِهِ وَكُلَّمَا، وَقَعَ فِي مَهْلَكَةٍ أَنْقَذَهُ مِنْهَا وَمَعْنَى أَخِذٌ بِيَدِهِ خَلَّصَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ خُذْ بِيَدِي خَلِّصْنِي مِمَّا وَقَعْت فِيهِ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «تَجَاوَزُوا عَنْ ذَنْبِ السَّخِيِّ» أَيْ تَسَاهَلُوا وَخَفِّفُوا فِيهِ «وَزَلَّةِ الْعَالِمِ وَسَطْوَةِ السُّلْطَانِ الْعَادِلِ فِي أَحْكَامِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى آخِذٌ بِيَدِهِمْ كُلَّمَا عَثَرَ عَاثِرٌ مِنْهُمْ» لِمَا أَنَّهُمْ مَشْمُولُونَ بِعِنَايَتِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الْمَوْضُوعَاتِ قِيلَ هُوَ وَهْمٌ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «الرِّزْقُ إلَى بَيْتٍ فِيهِ السَّخَاءُ أَسْرَعُ مِنْ الشَّفْرَةِ إلَى سَنَامِ الْبَعِيرِ» قَالَ فِي شَرْحِهِ مَقْصُودُ الْحَدِيثِ الْحَثُّ عَلَى السَّخَاءِ سِيَّمَا عَلَى الْعِيَالِ الَّذِينَ أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى رِزْقَهُمْ عَلَى يَدِهِ وَالْإِعْلَامُ بِأَنَّ التَّوْسِعَةَ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ لِجَلْبِ الرِّزْقِ {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ: 39] وَمَنْ وَسَّعَ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَمَنْ قَتَّرَ قَتَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَفِي ضِمْنِهِ تَحْذِيرٌ عَظِيمٌ مِنْ الْبُخْلِ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِحِرْمَانِ بَعْضِ الرِّزْقِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ السَّخَاءُ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمِنْ أُصُولِ النَّجَاةِ.

وَعَنْهُ عَبَّرَ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام حَيْثُ قَالَ «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ الْجَنَّةِ أَغْصَانُهَا مُتَدَلِّيَةٌ إلَى الْأَرْضِ فَمَنْ أَخَذَ مِنْهَا غُصْنًا قَادَهُ إلَى الْجَنَّةِ» ، وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خُلُقَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ وَخُلُقَانِ يُبْغِضُهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا اللَّذَانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ فَحُسْنُ الْخُلُقِ وَالسَّخَاءُ، وَأَمَّا اللَّذَانِ يُبْغِضُهُمَا فَسُوءُ الْخُلُقِ وَالْبُخْلُ، وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ» وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ دُرَّةَ وَكَانَتْ تَخْدُمُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَتْ إنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ بَعَثَ إلَيْهَا بِمَالٍ فِي غَزْوَتَيْنِ ثَمَانِينَ أَلْفًا وَمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَسَمَتْهَا فَلَمَّا أَمْسَتْ أَفْطَرَتْ بِخُبْزٍ وَزَيْتٍ فَقَالَتْ لَهُمْ أُمُّ دُرَّةَ مَا اشْتَرَيْت لَنَا بِدِرْهَمٍ لَحْمًا نُفْطِرُ عَلَيْهِ فَقَالَتْ لَوْ كُنْت ذَكَّرْتنِي لَفَعَلْت.

وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ خَرَجَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - حُجَّاجًا فَمَرُّوا بِعَجُوزٍ فَسَأَلُوا الشَّرَابَ فَقَالَتْ نَعَمْ وَالطَّعَامَ قَالَتْ لَا إلَّا هَذِهِ الشَّاةُ فَذَبَحَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا وَارْتَحَلُوا ثُمَّ جَاءَ زَوْجُهَا فَغَضِبَ فَقَالَ وَيْلَكِ تَذْبَحِينَ شَاتِي لِقَوْمٍ لَا تَعْرِفِينَهُمْ ثُمَّ بَعْدَ مُدَّةٍ دَخَلَتْ الْعَجُوزُ الْمَدِينَةَ لِحَاجَةٍ فَمَرَّتْ الْعَجُوزُ فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ فَرَآهَا الْحَسَنُ فَعَرَفَهَا، وَهِيَ لَهُ مُنْكِرَةٌ فَبَعَثَ إلَيْهَا غُلَامُهُ وَدَعَاهَا فَقَالَتْ لَا أَعْرِفُك قَالَ أَنَا ضَيْفُك يَوْمَ كَذَا فَأَمَرَ لَهَا بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ وَبَعَثَ بِهَا مَعَ غُلَامٍ إلَى الْحُسَيْنِ فَقَالَ بِكَمْ وَصَلَك أَخِي قَالَتْ بِأَلْفِ شَاةٍ، وَأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَمَرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ لَهَا ثُمَّ إلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ فَاسْتَخْبَرَ عَطِيَّتَهُمَا فَأَعْطَاهَا مِثْلَ مَجْمُوعِ عَطِيَّتِهِمَا فَرَجَعَتْ إلَى زَوْجِهَا بِأَرْبَعَةِ آلَافِ شَاةٍ، وَأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ.

وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَدَّثَنَا أَبِي أَنَّهُ رَفَعَ رُقْعَةً إلَى الْمَأْمُونِ يَذْكُرُ فِيهَا كَثْرَةَ دَيْنِهِ، وَقِلَّةَ صَبْرِهِ فَكَتَبَ الْمَأْمُونُ عَلَى ظَهْرِ رُقْعَتِهِ إنَّك رَجُلٌ اجْتَمَعَ فِيك خَصْلَتَانِ سَخَاءٌ وَحَيَاءٌ أَمَّا السَّخَاءُ فَهُوَ الَّذِي أَطْلَقَ مَا فِي يَدَيْك، وَأَمَّا الْحَيَاءُ فَهُوَ الَّذِي يَمْنَعُك مِنْ تَبْلِيغِنَا مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَقَدْ أَمَرْت لَك بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَقِيلَ أَنْفَذَ هَارُونُ الرَّشِيدُ إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ إلَى اللَّيْثِ رحمه الله فَبَعَثَ لَهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَغَضِبَ هَارُونُ، وَقَالَ أَعْطَيْته خَمْسَمِائَةٍ وَتُعْطِيهِ أَلْفًا، وَأَنْتَ مِنْ رَعِيَّتِي فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ غَلَّتِي كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ وَاسْتَحْيَيْت أَنْ أُعْطِيَ أَقَلَّ مِنْ غَلَّةِ يَوْمٍ.

وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ قَطُّ مَعَ أَنَّ دَخْلَهُ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفُ دِينَارٍ، وَحُكِيَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى يَتَصَدَّقَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ وَسِتِّينَ مِسْكِينًا، وَقَالَ

ص: 8