المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ   ‌ ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ] (الرَّابِعُ) (الْكَذِبُ) هُوَ مِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٣

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي غَوَائِل الْبُخْل وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حُبُّ الْمَالِ لِلْحَرَامِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي ذَمِّ الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْعَجَلَةُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ وَالتَّضَجُّرُ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْجُرْأَةُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ]

- ‌[الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ التَّمَرُّدُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الصَّلَفُ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْجَرْبَزَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ وَالْحَمَاقَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْخُمُودُ]

- ‌[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقِسْم الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَهُوَ سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّانِي مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّالِثُ الْخَطَأُ]

- ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ]

- ‌[السَّادِسُ الْغِيبَةُ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ النَّمِيمَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ]

- ‌[التَّاسِعُ اللَّعْنُ]

- ‌[الْعَاشِرُ السَّبُّ]

- ‌[الْحَادِي عَشَرَ الْفُحْشُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالتَّعْيِيرُ]

- ‌[الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ حُكْمُ الْمِرَاء]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ]

- ‌[السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ]

- ‌[التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنُ]

- ‌[الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى]

- ‌[الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ]

- ‌[التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ]

- ‌[الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّلَاثُونَ افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ]

- ‌[الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالَ الْخُطْبَةِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ]

- ‌[الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ]

الفصل: فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ   ‌ ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ] (الرَّابِعُ) (الْكَذِبُ) هُوَ مِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ

فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ

[الرَّابِعُ الْكَذِبُ]

(الرَّابِعُ)(الْكَذِبُ) هُوَ مِنْ قَبَائِحِ الذُّنُوبِ وَفَوَاحِشِ الْعُيُوبِ (وَهُوَ) عِنْدَ الْجُمْهُورِ (الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ عَلَيْهِ) فِي الْوَاقِعِ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ عَمْدٍ فَمَعْفُوٌّ بِدَلِيلِ يَمِينِ اللَّغْوِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] وَهِيَ حَلِفُهُ كَاذِبًا يَظُنُّهُ صَادِقًا كَمَا إذَا حَلَفَ أَنَّ فِي هَذَا الْكُوزِ مَاءً بِنَاءً عَلَى رُؤْيَتِهِ وَقَدْ أُرِيقَ وَلَمْ يَعْرِفْ لَكِنَّ قَوْلَهُ فَمَعْفُوٌّ مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْفِقْهِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْفُوٍّ بَلْ هُوَ يُرْجَى عَفْوُهُ.

فَإِنْ قِيلَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْآيَةِ هُوَ الْقَطْعُ قُلْنَا إنَّمَا تَدُلُّ قَطْعًا أَنْ أُرِيدَ قَطْعًا مِنْ اللَّغْوِ مَا ذَكَرَ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْمُرَادُ مِنْ اللَّغْوِ مَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِهِ كَانَ يَقْصِدُ التَّسْبِيحَ فَيَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ الْيَمِينُ كَمَا فِي الدُّرَرِ (وَإِنْ كَانَ عَنْ عَمْدٍ فَحَرَامٌ قَطْعِيٌّ) لِنَحْوِ قَوْله تَعَالَى - {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]- (إلَّا فِي مَوَاضِعَ) قَلِيلَةٍ (عِنْدَ الْبَعْضِ وَسَيَجِيءُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى - {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] مُؤْلِمٌ مِنْ الْأَلَمِ {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] بِسَبَبِ كَ ذِبِهِمْ فَإِنَّ الْوَعِيدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى الْحَرَامِ لَكِنْ إنْ كَانَ هَذَا الْوَعِيدُ لِكَذِبٍ مَخْصُوصٍ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إذْ الْمَطْلُوبُ هُوَ الْمُطْلَقُ وَأَنْتَ خَبِيرٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ عِنْدَنَا بِعُمُومِ الصِّيغَةِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ وَأَنَّ عِلَّةَ الْحُرْمَةِ عَامَّةٌ لِجَمِيعِ صُوَرِ الْكَذِبِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ فِيهِمَا وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَا أَقَلَّ مِنْ الِاحْتِمَالِ وَقَدْ قَالَ فِي التَّلْوِيحِ لَا حُجَّةَ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا سِيَّمَا فِي الْمَطْلُوبِ الْيَقِينِيِّ لَا يُقَالُ إنَّ الدَّلِيلَ الظَّنِّيَّ إذَا كُثْرَ يُفِيدُ الْقَطْعَ كَمَا فُهِمَ مِنْ مَوَاضِعِ كِتَابِ الْمَقَاصِدِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَاسِبٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ لَا عِنْدَنَا وَدَعْوَى اجْتِمَاعِ كُلِّ تِلْكَ الظُّنُونِ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ ذَلِكَ أَجْزَاءً لِمُرَكَّبٍ وِجْدَانِيٍّ حَتَّى يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ كَثْرَةِ الْأَجْزَاءِ بَعِيدٌ فَلَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ قَطْعِيَّةَ حُرْمَتِهِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمِثْلُ تِلْكَ النُّصُوصِ أَسَانِيدُ الْإِجْمَاعِ وَإِنْ حُمِلَ كُلُّ لَفْظٍ عَلَى تَبَادُرِهِ عَلَى وَجْهٍ يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى خِلَافِ وَاجِبٍ {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] أَيْ الْكَذِبَ {حُنَفَاءَ لِلَّهِ} [الحج: 31] أَيْ مَائِلِينَ عَنْ كُلِّ مَا عَدَا التَّوْحِيدَ مِنْ الْأَدْيَانِ فَإِنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ لِلْوُجُوبِ عِنْدَنَا وَقَدْ قُرِّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ وَلَوْ مُتَعَدِّدًا فِي الْأَصَحِّ فَحَرَامٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَافْهَمْ (حَدُّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلَالِ» بِالْبِنَاءِ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ أَيْ يُجْبَلُ وَيُخْلَقُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِصَالِ «كُلِّهَا إلَّا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ» فَالْكَذِبُ وَالْخِيَانَةُ وَإِنْ لَمْ يَرِدْ إيجَابُهُمَا الْكُفْرَ لَكِنَّ إيهَامَهُمَا ذَلِكَ لِزِيَادَةِ التَّخْوِيفِ وَالتَّهْدِيدِ لِقُوَّةِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْحُرْمَةِ أَوْ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاسْتِحْلَالِ لَكِنْ لَا يَكُونُ حِينَئِذٍ مِنْ مُرَادِ الْمَقَامِ (يَعْلَى) أَبُو يَعْلَى (عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَبْلُغُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الْإِيمَانِ» حَقِيقَتَهُ وَكَمَالَهُ «حَتَّى يَدَعَ الْمِزَاحَ» أَيْ الْمَذْمُومَ مِنْهُ أَوْ كَثْرَتَهُ «وَالْكَذِبَ وَيَدَعَ الْمِرَاءَ» بِالْكَسْرِ الْمُجَادَلَةُ

ص: 169

«وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا» لِمَا يُورِثُ مِنْهُ وَيُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ الْبُغْضِ وَالْفِتْنَةِ (حُبٌّ. عَنْ أَبِي بَرْزَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إنَّ «الْكَذِبَ يُسَوِّدُ الْوَجْهَ فِي الدَّارَيْنِ»

لِأَنَّهُ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106]- قَالَ الْبَيْهَقِيُّ الْكَذِبُ مَرَاتِبُ أَعْلَاهُ فِي الْقُبْحِ وَالتَّحْرِيمِ الْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ ثُمَّ رَسُولِهِ ثُمَّ كَذِبُ الْمَرْءِ عَلَى عَيْنِهِ فَلِسَانِهِ فَجَوَارِحِهِ وَكَذِبُهُ عَلَى وَالِدَيْهِ ثُمَّ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ (وَالنَّمِيمَةُ) نَقْلُ الْكَلَامِ عَلَى وَجْهِ الْإِفْسَادِ (عَذَابُ الْقَبْرِ) مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ (ت. عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَذَبَ الْعَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ الْمَلَكُ مِيلًا» ثُلُثُ الْفَرْسَخِ «مِنْ نَتْنِ» رَائِحَتِهِ الْكَرِيهَةِ «مَا جَاءَ بِهِ»

مِنْ الْكَذِبِ الْمُرَادُ مَلَكُ الرَّحْمَةِ وَالْحَفَظَةُ وَفِي رِوَايَةٍ مِنْ نَتْنِ رِيحِهِ.

فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْقَوْلِ رِيحٌ قُلْنَا تَعَلُّقُ الرَّوَائِحِ بِالْأَجْسَامِ وَخَلْقُهَا فِيهَا عَادَةٌ لَا طَبِيعَةٌ فَإِذَا شَاءَ الْبَارِي خَلَقَهَا مَقْرُونَةً بِالْأَعْرَاضِ فَنُسِبَتْ إلَيْهَا وَأُخِذَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُدْرِك مِنْ الْآدَمِيِّ رِيحًا خَبِيثَةً عِنْدَ تَلَفُّظِهِ بِالْمَعْصِيَةِ وَهَلْ هَذِهِ الرِّيحُ حِسِّيَّةٌ أَوْ مَعْنَوِيَّةٌ احْتِمَالَانِ رَجَّحَ بَعْضٌ الْأَوَّلَ وَعَدَمَ إدْرَاكِنَا لِلْحِجَابِ فَيُدْرِكُ الْكَامِلُ وَيُؤَيِّدُهُ خَبَرُ أَحْمَدَ بْنِ جَابِرٍ «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام فَارْتَفَعَتْ رِيحٌ مُنْتِنَةٌ فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا هَذِهِ الرِّيحُ هَذِهِ رِيحُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ الْمُؤْمِنِينَ» وَأَخَذَ مِنْهُ جَمْعُ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْعَابِدِ أَنْ يُطَهِّرَ ظَاهِرَهُ وَبَاطِنَهُ لِئَلَّا يُؤْذِيَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْحَضْرَةِ الْآلِهِيَّةِ مِنْ أَنْبِيَاءَ وَمَلَائِكَةٍ وَأَوْلِيَاءَ بِنَتْنِ الرِّيحِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الذُّنُوبِ سِيَّمَا الْفَمُ إذَا أُنْطِقَ بِمَا لَا يَحِلُّ فَإِنَّهُمْ يَشُمُّونَ رَائِحَةَ الْمُخَلَّفَاتِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَاَللَّهِ لَوْ كَانَ النَّاسُ يَشُمُّونَ رِيحَ الْمَعَاصِي كَمَا أَشُمُّهَا مَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُجَالِسَنِي مِنْ نَتْنِ رِيحِي وَاتَّفَقَ جَمِيعُ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ عَلَى قُبْحِ الْكَذِبِ حَتَّى الْكُفَّارُ كَمَا فِي الْكَشَّافِ.

(تَنْبِيهٌ)

الْعَالَمُ مَشْحُونٌ بِالْمَلَائِكَةِ وَأَذِيَّتُهُمْ وَأَذِيَّةُ مَوَاطِنِهِمْ كَالْمَسَاجِدِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْنَا فَلَيْسَ فِي الْعَالَمِ مَوْضِعُ شِبْر إلَّا وَفِيهِ جَبْهَةُ مَلَكٍ فَالْعَالَمُ كُلُّهُ مَسْجِدٌ لَهُمْ فَأَذِيَّتُهُمْ بِالْمَعَاصِي وَرِيحِ الذُّنُوبِ وَإِكْرَامُهُمْ بِكَفِّ الْأَذَى عَنْهُمْ وَكَفُّ الْأَذَى بِتَرْكِ الْكَذِبِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ وَالْقَبَائِحِ فَالْكَفُّ عَنْ ذَلِكَ إكْرَامٌ لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى الْمُجَاوِرِينَ لِلْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالنُّفُوسِ فِي الْعَالَمِ فِي عَالَمِ الْمَلَكُوتِ وَالْأَجْسَامِ فِي عَالَمِ الْمُلْكِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (ز. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «مَا كَانَ مِنْ خُلُقٍ أَبْغَضَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْكَذِبِ مَا اطَّلَعَ» كُلَّمَا اطَّلَعَ «عَلَى أَحَدٍ مِنْ ذَلِكَ» الْكَذِبِ «بِشَيْءٍ» قَلِيلٍ «فَيَخْرُجُ مِنْ قَلْبِهِ» فَلَوْ اطَّلَعَ مِنْ أَحَدٍ قَلِيلًا مِنْ الْكَذِبِ يَخْرُجُ هُوَ مِنْ قَلْبِهِ أَوْ يُخْرِجُهُ هُوَ مِنْ قَلْبِهِ «حَتَّى يَعْلَمَ» إلَى أَنْ يَعْلَمَ «أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ تَوْبَةً» يَعْنِي: ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ يَسْتَمِرُّ إلَى وَقْتِ التَّوْبَةِ فَعِنْدَ عِلْمِهِ تَوْبَتَهُ يُدْخِلُهُ قَلْبَهُ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفًا رَحِيمًا فَرُتْبَةُ فُحْشِ الْكَذِبِ مَعْلُومَةٌ مِنْ رُتْبَةِ بُغْضِهِ عليه الصلاة والسلام -

ص: 170

(هَقّ. عَنْ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «الْكَذِبُ مُجَانِبُ الْإِيمَانِ»

مُضَادُّ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ فَلَا يَجْتَمِعَانِ فَهُمَا مَانِعَا الْجَمْعِ.

(وَأَشَدُّهُ) أَيْ الْكَذِبِ (الْبُهْتَانُ) هُوَ إسْنَادُ مَا لَمْ يَصْدُرْ وَوَصْفُهُ بِمَكْرُوهٍ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ (حَدٌّ) أَحْمَدُ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَمْسٌ لَيْسَ لَهُنَّ كَفَّارَةٌ» سَاتِرَةٌ إثْمَهَا: «الشِّرْكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبَهْتُ» مِنْ الْبُهْتَانِ «الْمُؤْمِنِ» أَيْ قَوْلُهُ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى حَيَّرَهُ فِي أَمْرِهِ وَأَدْهَشَهُ فَالتَّقْيِيدُ بِالْمُؤْمِنِ إمَّا لِأَنَّ الَّذِي لَيْسَ كَذَلِكَ فِي الشِّدَّةِ لِإِلْحَاقِهِ بِهِ «وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ» حَيْثُ لَمْ يَجُزْ الْفِرَارُ كَالْمُسَاوَاةِ فَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ ثَلَاثَةُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ يَجُوزُ الْفِرَارُ وَلَوْ اثْنَيْنِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ الْفِرَارِ فَالْفِرَارُ حِينَئِذٍ لَيْسَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ «وَيَمِينٌ ضَائِرَةٌ» الَّتِي يَتَعَمَّدُ بِهَا إذْهَابَ مَالِ مُسْلِمٍ كَذِبًا «يَقْتَطِعُ بِهَا مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ» كَمَنْ عَلَيْهِ حَقٌّ لِآخَرَ أَنْكَرَهُ فَقَطَعَهُ بِيَمِينِهِ

(وَأَشَدُّ الْبُهْتَانِ شَهَادَةُ الزُّورِ) وَفِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ «مَنْ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَإِنْ كَانَ مُؤَوِّلًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ شَجَرِ السِّوَاكِ» .

(د. عَنْ خُزَيْنِ بْنِ فَاتِكٍ أَنَّهُ «قَالَ صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ عَدَلَتْ» سَاوَتْ «شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى» أَيْ جُعِلَتْ الشَّهَادَةُ الْكَاذِبَةُ مُمَاثِلَةً لِلْإِشْرَاكِ فِي مُطْلَقِ الْإِثْمِ لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ مُطْلَقَ الْمَعَاصِي مُشْتَرِكٌ بِالِاشْتِرَاكِ بِهَذَا الْمَعْنَى تَفْصِيلُهُ إنْ أُرِيدَ الْمُطْلَقُ فَيُورَدُ بِذَلِكَ وَإِنْ الْمُمَاثَلَةُ فَيَلْزَمُ الْكُفْرُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ فَالْأَنْسَبُ إمَّا الشَّهَادَةُ بِاعْتِقَادِ الْحِلِّ وَإِمَّا الْقُرْبُ مِنْ الْإِشْرَاكِ فَسَائِرُهَا وَإِنْ شَارَكَ أَصْلَ الْعِصْيَانِ لَكِنْ لَيْسَ قَرِيبًا مِنْ الْإِشْرَاكِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ الْإِشْرَاكُ مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ كَالرِّيَاءِ ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ الْكَذِبِ وَاللَّازِمُ مِنْ الْحَدِيثِ الْكَذِبُ الْمَخْصُوصُ لَكِنْ لَا ضَيْرَ فَافْهَمْ «ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» قَالَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ «ثُمَّ قَرَأَ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] »

ص: 171

أَيْ الْكَذِبَ وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِشْهَادِ بِحَسَبِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ وَجْهُ الْمُعَادَلَةِ أَنَّهُ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَ الرِّجْسِ وَالزُّورِ فِي الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهُمَا (خ م. عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّهُ قَالَ كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا» كَرَّرَهُ ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ أَوْ لِلتَّشْوِيقِ إلَى الْجَوَابِ «الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» بِمَا يَتَأَذَّيَانِ بِهِ «وَشَهَادَةُ الزُّورِ أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ وَقَوْلُ الزُّورِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ»

لِئَلَّا يَتْعَبَ وَيَسْتَرِيحَ مِنْ هَذَا التَّكْرِيرِ الْكَثِيرِ، وَالْجُلُوسُ بَعْدَ الِاتِّكَاءِ لِتَأْكِيدِ حُرْمَتِهَا وَشَنَاعَةِ قُبْحِهَا وَعِظَمِ جُرْمِهَا فَإِنْ قِيلَ إنَّ الْعُقُوقَ وَمَا بَعْدَهُ بَعْدَ تَسْلِيمِ كَوْنِهِمَا كَبِيرَتَيْنِ لَا شَكَّ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَالْإِشْرَاكِ فَكَيْفَ جَمَعَهَا فِي كَوْنِهِمَا أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ وَاعْتَنَى بِشَأْنِ الْأَخِيرِ بِالْجُلُوسِ وَالتَّكْرَارِ دُونَ الْأَوَّلِ قُلْنَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ لِلْجَمِيعِ بِحَسَبِ بَعْضِ أَجْزَائِهِ يَعْنِي الْأَوَّلَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ عَلَفْتهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَوْ يُرَادُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ مَا هُوَ الْأَعَمُّ مِنْ الْحَقِيقِيِّ وَالْإِضَافِيِّ فَالْأَخِيرَانِ أَكْبَرَانِ مِمَّا تَحْتَهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَإِنْ كَانَا أَصْغَرَيْنِ مِمَّا فَوْقَهُمَا وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْإِشْرَاكِ مَا لَا يَبْلُغُ كُفْرًا كَالرِّيَاءِ كَمَا مَرَّ وَأَمَّا أَمْرُ الِاعْتِنَاءِ فَلِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ لَا يَعْتَقِدُونَ كَوْنَ الْأَخِيرِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ أَوْ فِيهِمْ مَنْ يُبْتَلَى بِهَذِهِ الْبَلِيَّةِ دُونَ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَيْضًا فِي اقْتِرَانِ الْأَوَاخِرِ بِالْأُوَلِ مَزِيدُ تَهْدِيدٍ وَزِيَادَةُ تَحْذِيرٍ وَتَخْوِيفٍ

(وَ) أَشَدُّ الْبُهْتَانِ أَيْضًا (الِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى رَسُولِهِ) لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى هَدْمِ قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ وَإِفْسَادِ الشَّرِيعَةِ وَالْأَحْكَامِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَنْ أَظْلَمُ} [الأنعام: 21] اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الأنعام: 21] أَيْ لَا أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِشِدَّةِ جُرْأَتِهِ وَقُوَّةِ جَرِيمَتِهِ {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [يونس: 69]-) لَا يَظْفَرُونَ بِمُرَادَاتِهِمْ وَلَا يَنْجُونَ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (خ م. عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ»

فَأَنَّهُ أَعْظَمُ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ بَعْدَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِتَأْدِيَتِهِ إلَى هَدْمِ قَوَاعِدِ الدِّينِ قِيلَ وَلِهَذَا كَرِهَ قَوْمٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم إكْثَارَ الْحَدِيثِ خَوْفًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَخَافَ بَعْضٌ مِنْ التَّابِعِينَ رحمهم الله مِنْ رَفْعِ الْحَدِيثِ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَوْقَفَهُ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَقَالَ الْكَذِبُ عَلَيْهِ أَهْوَنُ مِنْ الْكَذِبِ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ وَلِذَلِكَ أُمِرَ بِقَتْلِ مَنْ كَذَبَ عَلَيْهِ وَإِحْرَاقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]{إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4]«فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» مَسْكَنَهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى الْخَبَرِ أَوْ بِمَعْنَى التَّحْذِيرِ أَوْ التَّهَكُّمِ

ص: 172

أَوْ الدُّعَاءِ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ أَيْ بَوَّأَهُ اللَّهُ ذَلِكَ وَاحْتِمَالُ كَوْنِهِ أَمْرًا حَقِيقَةً وَالْمُرَادُ مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَلْيَأْمُرْ نَفْسَهُ بِالتَّبْوِئَةِ بَعِيدٌ وَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ يُفِيدُ أَنَّ الْكَذِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ بَلْ عَدَّهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْكُفْرِ.

قَالَ الذَّهَبِيُّ وَتَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي تَحْرِيمِ حَلَالٍ أَوْ عَكْسِهِ كُفْرٌ مَحْضٌ وَلَاحَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ رِوَايَةَ الْمَوْضُوعِ لَا تَحِلُّ كَذَا فِي الْفَيْضِ.

وَعَنْ النَّوَوِيِّ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَضْعُهُ وَقِيلَ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِائَتَانِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا يَرْوِيه الْعَشَرَةُ الْمُبَشَّرَةِ غَيْرُ هَذَا وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ كَانَ فِي الْحَدِيثِ تَوَاتُرٌ لَفْظِيٌّ لَكَانَ هَذَا فَقَطْ وَعَنْ مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِي وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ يَتَّقُونَ كَثْرَةَ الْحَدِيثِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَطْلُبَانِ مَنْ رَوَى لَهُمَا حَدِيثًا لَمْ يَسْمَعَاهُ بَيِّنَةً وَيَتَوَعَّدَانِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ بَعْضُ الْمُحْتَاطِينَ خَوْفًا مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يَقُولُ قَرِيبًا مِنْ هَذَا أَوْ نَحْوَ هَذَا أَوْ شِبْهَ هَذَا وَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحْتَاطِينَ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَلَا فَرْقَ فِي الْحُرْمَةِ بَيْنَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ وَالْفَضَائِلِ وَالتَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْمَوَاعِظِ فَإِنَّ كُلَّهُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ كَذَا نُقِلَ عَنْ النَّوَوِيِّ وَأَمَّا الضَّعِيفُ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الِاعْتِقَادِيَّاتِ وَالْأَحْكَامِ وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ تَفْصِيلِهِ قَبْلُ

(فَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى الْإِفْتَاءُ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} [النحل: 116] مَفْعُولُ لَا تَقُولُوا وَهَذَا حَلَالٌ بَدَلٌ مِنْهُ أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِتَصِفُ عَلَى إرَادَةِ الْقَوْلِ أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْكَذِبَ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ فَتَقُولُوا {هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل: 116] بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ " لِمَا تَصِفُ " وَاللَّامُ لِلْعَاقِبَةِ قَالَ الْمَوْلَى الْمُحَشِّي وَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى التَّوَاجُدُ وَهُوَ ادِّعَاءُ الْوِلَايَةِ وَالْكَرَامَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى (د. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مَرْفُوعًا) هُوَ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ صِفَةً «مَنْ أُفْتِيَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إثْمُهُ عَلَى مَنْ أَفْتَاهُ»

إنْ كَانَ الْمُفْتِي مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالثِّقَةِ وَلَمْ يَكُنْ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَالْإِثْم عَلَيْهِمَا أَوْ كَانَ مَعْرُوفًا وَكَانَ خَطَأً فِي الِاجْتِهَادِ فَلَا إثْمَ بَلْ الْأَجْرُ لَازِمٌ وَيُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ قَالَ فِي التتارخانية وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ

ص: 173

بِبَعْضِ الْأَقَاوِيلِ الْمَهْجُورَةِ لِجَرِّ مَنْفَعَةٍ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ بِمَا اخْتَارَهُ الْمَشَايِخُ وَمِنْ شَرَائِطِ الْفَتْوَى أَنْ يَكُونَ الْمُفْتِي حَافِظًا لِلتَّرْتِيبِ وَالْعَدْلِ لَا يَمِيلُ إلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْأُمَرَاءِ وَأَعْوَانِ السُّلْطَانِ وَمِنْ آدَابِهِ أَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِالْحُرْمَةِ يَقْرَأُ الْمَسْأَلَةَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى لِيَتَّضِحَ السُّؤَالُ وَلَا يَرْمِي الْكَاغَدَ ثُمَّ الْفَتْوَى بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ أَبِي يُوسُفَ ثُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ ثُمَّ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «مَنْ أَفْتَى بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»

(وَمِنْ الِافْتِرَاءِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُحَدِّثَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أَنَّهُ مِنْ كَلَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (ت. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما مَرْفُوعًا «اتَّقُوا الْحَدِيثَ عَنِّي»

لَا تُحَدِّثُوا عَنِّي «إلَّا مَا عَلِمْتُمْ» تَتَيَقَّنُونَ صِحَّةَ نِسْبَتِهِ إلَيَّ وَقَالَ الطِّيبِيُّ احْذَرُوا رِوَايَةَ الْحَدِيثِ عَنِّي أَوْ احْذَرُوا مِنْ الْحَدِيثِ عَنِّي لَكِنْ لَا تَحْذَرُوا مِمَّا تَعْلَمُونَهُ وَالْحَدِيثُ عُرْفًا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْمُصْطَفَى قِيلَ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ أَوْ فِعْلِهِمْ أَوْ تَقْرِيرِهِمْ وَقَدْ يُخَصُّ بِمَا يُرْفَعُ إلَى النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام كَمَا فِي التَّلْوِيحِ قِيلَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَرْوِيَ حَدِيثًا وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ صَحِيحٌ أَمْ لَا وَقَالَ وَرُوِيَ أَوْ جَاءَ فِي الْخَبَرِ وَلَمْ يَقُلْ صَرِيحًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَأْثَمْ تَتِمَّةُ الْحَدِيثِ «فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» قَالَ الْقَارِيّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ نَقْلُ الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ الصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ وَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ صَحِيحًا إثْمٌ لِكَوْنِهِ نَقْلًا بِلَا عِلْمٍ وَعَنْهُ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ مِمَّنْ هُوَ بِهَذَا الْوَصْفِ أَنْ يَنْقُلَ حَدِيثًا مِنْ الْكُتُبِ وَلَوْ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مَا لَمْ يَقْرَأْ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.

وَعَنْ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا حَتَّى يَكُونَ مَرْوِيًّا عِنْدَهُ وَلَوْ عَلَى أَقَلِّ وُجُوهِ الرِّوَايَاتِ.

وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرَ فِي الْقَصَصِ

ص: 174

فَأَبَى ثُمَّ اسْتَأْذَنَهُ فَقَالَ إنْ شِئْت وَأَشَارَ بِيَدِهِ يَعْنِي الذَّبْحَ قَالَ الْعِرَاقِيُّ فَانْظُرْ تَوَقُّفَ عُمَرَ عَنْ صَحَابِيٍّ مِثْلِ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ فَاعْتَبِرْ قَصَّاصَ زَمَانِنَا.

وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ الْعَبَادِلَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْقَاصُّ يَنْتَظِرُ الْمَقْتَ» وَتَفْصِيلُهُ فِي مَوْضُوعَاتِ عَلِيٍّ الْقَارِيّ

(وَتَوْبَةُ الْبُهْتَانِ بِثَلَاثٍ عَزْمُهُ عَلَى تَرْكِهِ وَاسْتِحْلَالُهُ إنْ أَمْكَنَ) بِكَوْنِهِ حَيًّا حَاضِرًا وَلَا يُؤَدِّي إلَى فِتْنَةٍ وَإِلَّا فَالدُّعَاءُ وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالتَّضَرُّعُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى رَجَاءَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ تَعَالَى (وَتَكْذِيبُ نَفْسِهِ عِنْدَ السَّامِعِينَ) لِبُهْتَانِهِ

(وَمِنْ الْكَذِبِ الِادِّعَاءُ) مِنْ الدَّعْوَى (إلَى غَيْرِ أَبِيهِ) بِالِانْتِسَابِ كَادِّعَاءِ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ (وَإِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ) أَيْ مُعْتَقِهِ (خ م. عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ» وَالْحَالُ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ «غَيْرُ أَبِيهِ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ»

يَعْنِي أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ دُخُولِهَا أَوَّلًا وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْحُرْمَةِ تَشْدِيدًا فِي الزَّجْرِ عَنْهُ لِأَنَّهُ مُؤَدٍّ إلَى الْفَسَادِ الْكَثِيرِ أَوْ حَرَامٌ قَبْلَ عُقُوبَةِ كَذِبِهِ أَوْ أَبَدًا إنْ اسْتَحَلَّ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ الَّذِي لَمْ تَطْرُقْهُ تَأْوِيلَاتُ الْمُجْتَهِدِينَ كُفْرٌ أَوْ حَرَامٌ عَلَيْهِ جَنَّةٌ مُعَيَّنَةٌ كَجَنَّةِ عَدْنٍ أَوْ وَرَدَ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّخْوِيفِ أَوْ أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ قَدْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ شَرْعَ مَنْ مَضَى أَنَّ أَهْلَ الْكَبَائِرِ يَكْفُرُونَ بِهَا كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَدُّ مَجَّ حُبّ. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ قَالَ صلى الله عليه وسلم «مَنْ ادَّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلَّى» أَيْ: اتَّخَذَ وَلِيًّا «غَيْرَ مُوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ تَعَالَى» أَيْ طَرْدُهُ عَنْ دَرَجَةِ الْإِبْرَارِ وَمَقَامِ الِاخْتِبَارِ لَا عَنْ رَحْمَةِ الْغَفَّارِ «وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»

لِمُعَارَضَتِهِ لِحِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكَأَنَّهُ يَقُولُ خَلَقَنِي اللَّهُ مِنْ مَاءِ فُلَانٍ وَإِنَّمَا خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَهَذَا الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ يُفِيدُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ (خ م. عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَ مِنْ رَجُلٍ ادَّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ» وَاتَّخَذَ أَبًا لَعَلَّ هَذَا عَلَى قَصْدِ حَقِيقَتِهِ وَإِلَّا فَإِنْ أَرَادَ التَّجَوُّزَ لِنَحْوِ الِاسْتِشْفَاقِ فَلَيْسَ مِنْ أَفْرَادِ هَذَا الْمُحَرَّمِ «وَ» الْحَالُ «هُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ غَيْرُ أَبِيهِ إلَّا كَفَرَ» إنْ اسْتَحَلَّ أَوْ كُفْرَانَ نِعْمَةٍ كَذَا قِيلَ لَكِنْ تَعَقَّبَهُ الْمُنَاوِيُّ بِأَنَّهُ كَانَ فِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ إلَّا كَفَرَ بِاَللَّهِ فَتَأَبَّى تَأْوِيلُهُ بِكُفْرَانِ نِعْمَةٍ لَا يَخْفَى أَنَّ دَعْوَى الْآبَاءِ لَيْسَ يَحْسُنُ غَايَتُهُ عَدَمُ الْحُسْنِ وَقُيِّدَ بِالْعِلْمِ لِأَنَّ الْإِثْمَ إنَّمَا هُوَ عَلَى الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ الْمُتَعَمِّدِ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ «وَمَنْ ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ» هَذَا بِعُمُومِهِ يَتَنَاوَلُ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةَ مَالِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا «فَلَيْسَ مِنَّا» لَيْسَ مِنْ مُلْتَزِمِ شَرِيعَتِنَا وَقِيلَ أَهْلِ مِلَّتِنَا لَا يَخْفَى مَا فِيهِ لَعَلَّ الْأَوْلَى مَا قِيلَ أَيْ لَيْسَ عَلَى هَدْيِنَا وَجَمِيلِ طَرِيقَتِنَا وَقِيلَ لَيْسَ مِمَّنْ عَمِلَ بِسُنَّتِنَا وَاسْتَحَقَّ شَفَاعَتَنَا «وَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» لِيَتَّخِذْ مَنْزِلًا مِنْ النَّارِ دُعَاءٌ أَوْ خَبَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ يَعْنِي جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُعْفَى عَنْهُ أَوْ يَتُوبَ «وَمَنْ دَعَا رَجُلًا بِالْكُفْرِ» اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ «أَوْ قَالَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا حَارَ عَلَيْهِ»

أَيْ رَجَعَ عَلَى الْقَائِلِ وَيَكْفُرُ عَلَى قَوْلٍ

ص: 175

وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ بَلْ اللَّازِمُ التَّعْزِيرُ.

قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَكْفُرُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَفِي الرَّوْضَةِ عَنْ التَّتِمَّةِ قَالَ لِمُسْلِمٍ يَا كَافِرُ بِلَا تَأْوِيلٍ كَفَرَ وَإِنْ بِتَأْوِيلٍ كُفْرَانَ نِعْمَةٍ لَا كَذَا فِي الْفَيْضِ وَلَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ يَا كَافِرُ وَلَمْ يَقُلْ الْمُخَاطَبُ شَيْئًا قَالَ الْفَقِيهُ الْأَعْمَشُ يَكْفُرُ وَأَبُو اللَّيْثِ وَبَعْضُ أَئِمَّةِ بَلْخٍ لَا يَكْفُرُ وَالْمُخْتَارُ إنْ أَرَادَ الشَّتْمَ لَا يَكْفُرُ وَإِنْ اعْتَقَدَ كُفْرَهُ يَكْفُرُ كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ قَالَ يَا كَافِرُ فَقَالَ بَلْ أَنْتَ لَا يَكْفُرُ قَالَ يَا يَهُودِيُّ فَقَالَ لَبَّيْكَ يَكْفُرُ كَمَا فِي الْخُلَاصَةِ.

(وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ (مَا فِي قِصَّةِ الرُّؤْيَا خ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلُمٍ لَمْ يَرَهُ» بِضَمَّتَيْنِ: الرُّؤْيَا وَحَلَمَ بِالْفَتْحِ يَحْلُمُ بِالضَّمِّ حُلْمًا رَأَى الرُّؤْيَا وَتَحَلَّمَ إذَا ادَّعَى مَا لَمْ يَرَهُ «كُلِّفَ أَنْ يَعْقِدَ بَيْنَ شَعِيرَتَيْنِ وَلَنْ يَفْعَلَ» أَيْ عُذِّبَ حَتَّى يَفْعَلَ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ فِعْلُهُ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ وَفِي الشَّرْعِيَّةِ وَيَقُصُّ الرُّؤْيَا عَلَى وَجْهِهَا وَلَا يَكْذِبُ فِيهَا شَيْئًا وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ «وَلَنْ يَعْقِدَ بَيْنَهُمَا» بَدَلَ وَلَنْ يَفْعَلَ فَكَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ التَّعْذِيبِ عَلَى الدَّوَامِ وَلَا دَلَالَةَ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الدَّلَالَةَ إنَّمَا تُتَوَهَّمُ عِنْدَ إرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ.

وَالْعَجَبُ مِمَّا قَالَهُ بَعْدَ هَذَا التَّأْوِيلِ حَيْثُ قَالَ وَإِنَّمَا شَدَّدَ الْوَعِيدَ لِأَنَّ الْكَذِبَ فِي النَّوْمِ كَذِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الرُّؤْيَا جُزْءٌ مِنْ النُّبُوَّةِ فَهِيَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَبَ عَلَيْهِ تَعَالَى ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ كُلُّ رُؤْيَا صَادِقَةً وَجُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الرُّؤْيَا إمَّا بِشَارَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِمَّا وَسْوَسَةٌ مِنْ الشَّيْطَانِ فَيَغْتَمُّ بِهَا وَإِمَّا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَعَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ رضي الله عنه الرُّؤْيَا إمَّا مُحْكَمٌ أَوْ مُتَشَابِهٌ أَوْ أَضْغَاثٌ وَالْأَضْغَاثُ مَا رَآهُ مَنْ فِي طَبْعِهِ فَسَادٌ وَمَنْ أَكَلَ أَطْعِمَةً غَلِيظَةً وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ.

وَأَمَّا الْمُحْكَمُ مَا أَرَاهُ مَلَكُ الرُّؤْيَا أَخَذَهُ مِنْ اللَّوْحِ وَهُوَ إمَّا تَيَسُّرٌ أَوْ تَحْذِيرٌ أَوْ إلْهَامٌ وَالتَّبْشِيرُ إمَّا بِشَارَةُ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ أَوْ نَصِيحَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِتَسْجِيلِ حُجَّةٍ لِكَافِرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالتَّحْذِيرُ تَخْوِيفٌ لِمُسْلِمٍ لِقُرْبَانِهِ مَعْصِيَةً أَوْ تَرْكِهِ طَاعَةً وَالْإِلْهَامُ مَا يَدْعُو إلَى طَاعَةٍ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ التَّهَجُّدِ وَالصَّدَقَةِ وَتَوْبَةٍ مِنْ مَعْصِيَةٍ، وَالرُّؤْيَا الْغَيْرُ الصَّادِقَةِ إمَّا رُؤْيَا هِمَّةٍ وَهِيَ الَّتِي يَرَى مَا اهْتَمَّ بِهِ وَتَأَمَّلَهُ فِي يَقِظَةٍ وَإِمَّا رُؤْيَا عِلَّةٍ وَهِيَ رُؤْيَا الْمَرْضَى مِنْ الْأُمُورِ الْمُخَالِفَةِ وَإِمَّا أَضْغَاثٌ مِنْ الشَّيْطَانِ كَمَا عَرَفْت فَإِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَمَا يَكُونُ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ وَهُوَ أَقَلُّ أَقْسَامِ الرُّؤْيَا فَلَعَلَّ الْمُرَادَ إمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى اعْتِقَادِ الرَّائِي أَوْ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِنْسِ أَوْ الْمَقْصُودُ لَيْسَ تَمَامَ الدَّلَالَةِ بَلْ يَكْفِي الْإِشْعَارُ فَافْهَمْ.

وَمِنْ غَرَائِبِ الرُّؤْيَا الصَّادِقَةِ مَا يُحْكَى فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - رَأَى كَأَنَّهُ يُنْبَشُ قَبْرُ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام وَيُجْمَعُ عِظَامُهُ إلَى صَدْرِهِ فَهَالَتْهُ الرُّؤْيَا فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ هَذِهِ رُؤْيَا أَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ أَنَا أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ اكْشِفْ عَنْ ظَهْرِك فَكَشَفَ فَرَأَى خَالًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَ أَنْتَ الَّذِي قَالَ عليه الصلاة والسلام «يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَالٌ يُحْيِي اللَّهُ تَعَالَى دِينِي عَلَى يَدَيْهِ» ثُمَّ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ لَا تَخَفْ إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَأَنْتَ تَصِلُ إلَيْهَا فَكَانَ كَمَا قَالَ لَكِنْ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ كُلُّ حَدِيثٍ فِي مَدْحِ أَبِي حَنِيفَةَ مَوْضُوعٌ نَعَمْ فِي رَدِّ الْمُحْتَارِ تَصْحِيحُ بَعْض طُرُقِ بَعْضٍ

ص: 176

حَدِيثِ مَدْحِهِ

. وَمِنْ لَطَائِفِ الْمَقَامِ مَا فِي الْفَيْضِ عَنْ شَيْخِ الْإِسْلَامِ زَكَرِيَّا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مُرْ أُمَّتِي بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَأَنْ يُعِيدُوا بَعْدَهَا وَيَخْطُبُونَ فَهَلْ يَجِبُ الصَّوْمُ أَوْ يُنْدَبُ أَوْ يَجُوزُ أَوْ يَحْرُمُ فَأَجَابَ لَا يَجِبُ شَيْء مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُنْدَبُ بَلْ يُكْرَهُ أَوْ يَحْرُمُ وَلَكِنْ إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ صِدْقُ الرُّؤْيَا فَلَهُ الْعَمَلُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَغْيِيرُ شَرْعٍ وَيَحْرُمُ عَلَى الرَّائِي أَنْ يَقُولَ أَمَرَكُمْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَذَا بَلْ يَأْتِي بِمَا رَآهُ

وَسُئِلَ أَيْضًا بِأَنَّهُ هَلْ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَسَمَّى إبْلِيسُ بِاسْمِ النَّبِيِّ كَأَنْ يَقُولَ أَنَا النَّبِيُّ وَيَأْمُرَ بِالطَّاعَةِ كَمَا يَمْتَنِعُ التَّشْكِيلُ بِهِ فَأَجَابَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ عَقْلًا وَقَالَ إنَّ رُؤْيَاهُ عليه الصلاة والسلام بِصِفَتِهِ الْمَعْلُومَةِ إدْرَاكٌ لِذَاتِهِ وَبِغَيْرِ صِفَتِهِ إدْرَاكٌ لِمِثَالِهِ فَالْأُولَى لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّغْيِيرِ وَالثَّانِيَةُ تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ النَّوَوِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرَاهُ حَقِيقَةً سَوَاءٌ بِصِفَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ أَوْ لَا فَإِنْ رَآهُ بِصُورَةٍ حَسَنَةٍ فَذَلِكَ حُسْنُ دِينِ الرَّائِي وَإِنْ كَانَ فِي بَعْضِ جَوَارِحِهِ شَيْنٌ أَوْ نَقْصٌ فَذَلِكَ خَلَلٌ فِي دِينِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَلَامِهِ عليه الصلاة والسلام فِي مَنَامِهِ مَا يُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ فَخَلَلٌ فِي سَمْعِ الرَّائِي وَقَدْ سَبَقَ زِيَادَةُ تَفْصِيلِ الْمَقَامِ فِي الْبِدْعِيَّةِ.

«وَمَنْ اسْتَمَعَ إلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ» لَا يُرِيدُونَ اسْتِمَاعَهُ جُمْلَةً وَهُمْ لَهُ حَالٌ أَوْ صِفَةُ قَوْمٍ وَالْوَاوُ لِتَأْكِيدِ لُصُوقِهَا بِالْمَوْصُوفِ كَمَا فِي سَبْعَةٍ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ( «صُبَّ فِي أُذُنَيْهِ الْآنُكُ» بِفَتْحِ الْمَمْدُودَةِ وَضَمِّ النُّونِ الرَّصَاصُ أَوْ الْخَالِصُ مِنْهُ وَلَمْ يَجِئْ مُفْرَدُ هَذَا الْوَزْنِ غَيْرُهُ «يَوْمَ الْقِيَامَةِ» لَمْ يَكُنْ لَفْظُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بَلْ انْتَهَى الْحَدِيثُ بِمَا قَبْلَهُ وَإِنَّهُ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَهُ مَنْ اسْتَمَعَ ابْتِدَاءَ حَدِيثٍ وَكَذَا قَوْلُهُ مِنْ صُوَرِ ابْتِدَاءِ حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ لَكِنَّ الْجَمِيعَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِيهِ وَعِيدٌ شَدِيدٌ وَمَوْضُوعُهُ فِيمَنْ يَسْتَمِعُ لِمَفْسَدَةٍ كَنَمِيمَةٍ وَأَمَّا لِقَصْدِ النَّهْيِ عَنْ الْفَسَادِ أَوْ الِاحْتِرَازِ عَنْ شَرِّهِمْ فَلَا بَلْ يُنْدَبُ أَوْ يَجِبُ بِحَسَبِ الْمَوَاطِنِ وَلِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ انْتَهَى «وَمَنْ صَوَّرَ صُورَةً» ذَاتَ رُوحٍ «عُذِّبَ وَكُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ» يَوْمَ الْقِيَامَةِ «وَ» هُوَ «لَيْسَ بِنَافِخٍ» كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ تَعْذِيبِهِ قَالَ فِي الْفَيْضِ اُسْتُفِيدَ مِنْهُ جَوَازُ التَّكْلِيفِ بِالْمُحَالِ فِي الدُّنْيَا كَمَا جَازَ فِي الْآخِرَةِ وَاسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ أَمْرًا تَكْلِيفِيًّا بَلْ لِلتَّعْذِيبِ وَالتَّعْجِيزِ وَلِإِظْهَارِ قُبْحِ فِعْلِهِ.

وَعَنْ الْقُرْطُبِيِّ هَذَا يُفِيدُ أَنَّ التَّصْوِيرَ كَبِيرَةٌ وَعَنْ بَعْضٍ أَنَّهُ أَغْلَظُ مِنْ الْقَتْلِ لِأَنَّ وَعِيدَهُ يَنْقَطِعُ بِحَمْلِ قَوْله تَعَالَى - {خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14]- عَلَى الْأَمَدِ الطَّوِيلِ وَهُنَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّهُ كَانَ مُغَيَّا بِمَا لَا يُمْكِنُ مِنْ نَفْخِ الرُّوحِ وَلِذَا حَكَمَ الْمُعْتَزِلَةُ بِخُلُودِهِ فِي النَّارِ وَأَهْلُ السُّنَّةِ حَمَلُوهُ عَلَى التَّصْوِيرِ بِنَحْوِ قَصْدِ أَنْ يُعْبَدَ أَوْ إنْ اسْتَحَلَّ وَأَوَّلُوا بِنَحْوِ زِيَادَةِ الرَّوْعِ وَالتَّهْوِيلِ وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى لِلُحُوقِ الْوَعِيدِ لِمَنْ تَشَبَّهَ بِالْخَالِقِ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقٌ حَقِيقَةً وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ عَلَى خَلْقِ الْجَوَاهِرِ لَا الْأَفْعَالِ وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمْ يَقُولُوا بِخَلْقِ الْجَوَاهِرِ لِغَيْرِ اللَّهِ.

وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْوَعِيدَ لَاحِقٌ بِالشَّكْلِ وَالْهَيْئَةِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَوْهَرٍ وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَا كَانَ تَصْوِيرُ غَيْرِ ذِي الرُّوحِ مُمْتَنِعًا وَمُنِعَ بِأَنَّ ذَا رُخِّصَ فِيهِ وَبِأَثَرٍ وَرَدَ فِيهِ نَعَمْ الِاسْتِدْلَال بِذَلِكَ غَيْرُ مَرَضِيٍّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهُوَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ قَطْعِيَّةٌ وَالدَّلِيلُ مِنْ الْآحَادِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ «كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا ذَاتَ حَيَاةٍ فَتُعَذِّبُهُ نَفْسُ الصُّورَةِ فِي جَهَنَّمَ» قَالَ فِي الْمَبَارِقِ وَأَمَّا تَصْوِيرُ مَا لَا رُوحَ لَهُ فَرُخِّصَ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِي وَقِيلَ لَا بَأْسَ بِتَصْوِيرِ ذِي الرُّوحِ إذَا كَانَ مَقْطُوعَ الرَّأْسِ انْتَهَى إذْ عِلَّةُ الْكَرَاهَةِ جَارِيَةٌ هُنَا وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّ بَيْتًا فِيهِ صُورَةُ ذِي رُوحٍ لَا تَدْخُلُهُ الْمَلَائِكَةُ» يَعْنِي مَلَائِكَةَ الْبَرَكَةِ لَا الْحَفَظَةَ.

ص: 177

(وَمِنْهُ خُلْفُ الْوَعْدِ إذَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ الْخُلْفُ وَقَدْ مَرَّ) فِي الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ وَأَمَّا إذَا كَانَ فِي نِيَّتِهِ الْوَفَاءُ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنْجَازِهِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ وَقَدْ قِيلَ وَعْدُ الْكَرِيمِ دَيْنُ الْغَرِيمِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْعِدَةُ دَيْنٌ»

(وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ (تَحْدِيثُ كُلِّ مَا سَمِعَ) قِيلَ أَيْ بِلَا نِسْبَةٍ إلَى قَائِلِهِ لَعَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ رَفْعِ الْإِيجَابِ الْكُلِّيِّ لَا السَّلْبِ الْكُلِّيِّ (م. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَفَى بِالْمَرَأِ إثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ»

يَعْنِي لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَذِبٌ سِوَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ لَكَفَاهُ مِنْ الذُّنُوبِ فَيَجِبُ الِاحْتِيَاطُ عَنْ حَالِ الرَّاوِي أَنَّهُ عَدَلَ أَمْ لَا وَعَنْ الْمَظْهَرِ هَذَا زَجْرٌ عَنْ التَّحْدِيثِ بِمَا لَيْسَ بِمَقْطُوعٍ أَوْ مَظْنُونٍ عِنْدَهُ وَتَحْرِيضٌ عَلَى الِاحْتِيَاطِ بِمَا يُحَدِّثُ قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ يَسْمَعُ عَادَةً الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَإِذَا حَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ لَا مَحَالَةَ يَكْذِبُ وَإِنْ لَمْ يَتَعَمَّدْ لَكِنَّ التَّعَمُّدَ شَرْطُ الْإِثْمِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «كَفَى بِالْمَرْءِ مِنْ الْكَذِبِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» قَالَ شَارِحُهُ وَفِيهِ زَجْرٌ عَنْ الْحَدِيثِ بِشَيْءٍ لَا يَعْلَمُ صِدْقَهُ

ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّف (وَالْجِدُّ) أَيْ الْعَمْدُ (وَالْهَزْلُ فِيهِ) أَيْ الْكَذِبِ وَيَشْمَلُ الْمِزَاحَ (سَوَاءٌ) فِي الْإِثْمِ لَكِنْ فِيهِ نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا ذُكِرَ آنِفًا فَافْهَمْ

(وَيَجُوزُ الْكَذِبُ فِي ثَلَاثٍ وَمَا فِي مَعْنَاهَا) مِمَّا دَعَا إلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي دَرْءِ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبِ مَنْفَعَةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا لَمَّا أَثْبَتَ حُرْمَةَ الْكَذِبِ بِالْآيَةِ وَالْحَدِيثِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ فِيهِ الْكَذِبُ إمَّا صَرِيحًا وَهُوَ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْحَدِيثِ أَوْ دَلَالَةً وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي وَالْحَقُّ إلَخْ (ت. عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ أَنَّهَا قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَحِلُّ الْكَذِبُ إلَّا فِي ثَلَاثٍ رَجُلٍ كَذَبَ امْرَأَتَهُ لِيُرْضِيَهَا» وَيُحْسِنُ الْمُعَاشَرَةَ وَعَنْ النَّوَوِيِّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ وَأَمَّا كَذِبُهُ لِزَوْجَتِهِ وَكَذِبُهَا فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ يَعْنِي لَعَلَّ مُرَادَهُ كَذِبُ كُلٍّ مِنْهُمَا لَا لِلْإِرْضَاءِ «وَرَجُلٌ كَذَبَ فِي الْحَرْبِ» لِأَجْلِ الظَّفَرِ وَالْقَهْرِ «فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ» فِي تَعْلِيلِهِ بِالْخُدْعَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّ إذَا كَانَ لِلْكَذِبِ مَدَارٌ عَلَى الْخُدْعَةِ فِيهِ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ وَجْهِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ بِالثَّانِي أَوْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى مَزِيدِ الْحِيلَةِ حِينَئِذٍ «وَرَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ» الظَّاهِرُ التَّثْنِيَةُ «لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا» أَيْ لِيُبْدِلَ فِرَاقَهُمَا وِفَاقًا وَشِقَاقَهُمَا اتِّفَاقًا فَيَلْزَمُ كَوْنُ الْكَذِبِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِإِيلَافِ قُلُوبِهِمَا وَكَذَا بَيْنَ الضَّرَّاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِأَنْ يُظْهِرَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا أَحَبُّ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ لَا تُطِيعُهُ إلَّا لِوَعْدِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَعِدُهَا فِي الْحَالِ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا (وَزَادَ فِي رِوَايَةِ د. عَنْ أُمِّ كُلْثُومٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «وَالْمَرْأَةُ تُحَدِّثُ زَوْجَهَا»

كَذِبًا لِحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْبَابَ لَا يُفْتَحُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فِيهِ غُرُورٌ كَثِيرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ حَظَّهُ وَغَرَضَهُ فَلْيَعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ أَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ الصِّدْقِ أَوْ لَا وَذَلِكَ غَامِضٌ جِدًّا فَالْحَزْمُ فِي تَرْكِهِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ رُخْصَةً فِي تَرْكِهِ أَصْلًا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ خَطَأُ مَنْ ظَنَّ جَوَازَ وَضْعِ الْأَحَادِيثِ فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَهَذَا خَطَأٌ عَظِيمٌ إذْ هَذَا الْغَرَضُ لَا يُقَاوِمُ مَحْذُورَ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ الَّذِي لَا يُقَاوِمُهُ شَيْءٌ (وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ) بِدَلَالَةِ النَّصِّ أَوْ الْقِيَاسِ

ص: 178

(دَفْعُ ظُلْمِ الظَّالِمِ) كَمَنْ أَخْفَى مُسْلِمًا عَنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ ظُلْمَهُ أَوْ أَخْفَى مَالَهُ وَسُئِلَ عَنْهُ وَجَبَ الْكَذِبُ بِإِخْفَائِهِ وَكَذَا نَظَائِرُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَلَامَ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقَاصِدِ فَكُلُّ مَقْصُودٍ مَحْمُودٌ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ بِغَيْرِ الْكَذِبِ وَإِلَّا جَازَ الْكَذِبُ ثُمَّ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مُبَاحًا فَالْكَذِبُ مُبَاحٌ وَإِنْ وَاجِبًا فَوَاجِبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ رِيَاضِ الصَّالِحِينَ لِلنَّوَوِيِّ وَيُؤَيِّدُهُ قَاعِدَةُ لِلْوَسَائِلِ حُكْمُ الْمَقَاصِدِ لَكِنْ يَشْكُلُ عَلَى الْمَقَامِ بِقَوْلِهِمْ دَرْءُ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ وَقَوْلُهُمْ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْقَوِيُّ الْكُلُّ لِلْوَصْلَةِ إلَى النَّفْعِ الْجُزْئِيِّ وَقَوْلُهُمْ تُرَجَّحُ الْمَفْسَدَةُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الضَّعِيفَةِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا إذْ ضَرَرُ عَدَمِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِهِ مُبَاحًا لَيْسَ بِضَرَرٍ مُعْتَدٍّ بِهِ وَالْكَذِبُ كَبِيرَةٌ فَانْظُرْ (وَإِحْيَاءُ الْحَقِّ) وَأَيْضًا نُقِلَ عَنْ الرِّيَاضِ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ خَبَرُ «لَيْسَ الْكَذَّابُ» أَيْ لَيْسَ يَأْثَمُ فِي الْكَذِبِ «الَّذِي يُصْلِحُ» بِضَمِّ الْيَاءِ «بَيْنَ النَّاسِ» .

قَالَ الْمُنَاوِيُّ يُعَارِضُهُ خَبَرُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام رَأَى الْكَذَّابَ يُعَذَّبُ بِالنَّارِ بِالْكُلَّابِ مِنْ حَدِيدٍ قُلْنَا الْعَذَابُ عَلَى الْكَذَّابِ عَامٌّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَكَذَا كُلُّ حَدِيثٍ يُؤَدِّي إلَى خَيْرٍ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ فَيُنْمِي أَيْ يُبْلِغُ خَيْرًا وَيَقُولُ خَيْرًا أَيْ يُخْبِرُ بِمَا عَمِلَهُ مِنْ الْخَيْرِ وَيَسْكُتُ عَنْ عَمَلِهِ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ بَلْ مَحْمُودٌ بَلْ قَدْ يُنْدَبُ بَلْ قَدْ يَجِبُ ثُمَّ قَالَ وَرُخِّصَ فِي الْيَسِيرِ مِنْ الْفَسَادِ لِمَا يُؤْمَلُ فِيهِ مِنْ الصَّلَاحِ وَكُلُّ مَحْمُودٍ يُمْكِنُ إيصَالُهُ بِالصِّدْقِ وَالْكَذِبِ جَمِيعًا فَالْكَذِبُ فِيهِ حَرَامٌ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْكَذِبِ إنَّمَا هِيَ لِلضَّرُورَةِ فَإِذَنْ لَيْسَ فِيهِ ضَرُورَةٌ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَمَا أُبِيحَ لِلضَّرُورَةِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهَا وَلِهَذَا قِيلَ الْكَذِبُ مُبَاحٌ لِإِحْيَاءِ حَقِّهِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَفِي الْحَدِيثِ «الْكَذِبُ إثْمٌ كُلُّهُ إلَّا مَا نُفِعَ بِهِ مُسْلِمٌ أَوْ دُفِعَ بِهِ عَنْ دِينٍ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ غِشٌّ وَخِيَانَةٌ وَمِنْ ثَمَّةَ كَانَ الْكَذِبُ أَشَدَّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدَّهَا نَفْعًا وَقُبْحُ الْكَذِبِ مَشْهُورٌ وَأَجْمَعُوا عَلَى حُرْمَتِهِ إلَّا لِمَصْلَحَةٍ.

قَالَ الْغَزَالِيُّ هُوَ مِنْ أُمَّهَاتِ الْكَبَائِرِ وَإِذَا عُرِفَ الْإِنْسَانُ بِالْكَذِبِ سَقَطَتْ الثِّقَةُ بِقَوْلِهِ وَازْدَرَتْهُ الْعُيُونُ وَاحْتَقَرَتْهُ النُّفُوسُ قَالَ وَمِنْ الْكَذِبِ الَّذِي لَا إثْمَ فِيهِ مَا اُعْتِيدَ فِي الْمُبَالَغَةِ كَجِئْتُ أَلْفَ مَرَّةٍ وَمِمَّا اُعْتِيدَ فِي الْكَذِبِ أَنْ يَقُولَ لَا أَشْتَهِي الطَّعَامَ عِنْدَ تَكْلِيفِ الْأَكْلِ فَذَا مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَحَرَامٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَقَالَ الرَّاغِبُ الْكَذِبُ عَارٌ لَازِمٌ وَذُلٌّ دَائِمٌ فَلَا يَتَرَخَّصُ فِي أَدْنَى كَذِبٍ بِشَيْءٍ فَمَنْ اسْتَحَلَّهُ عَسُرَ عَلَيْهِ وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ كُلُّ ذَنْبٍ يُرْجَى تَرْكُهُ بِتَوْبَتِهِ إلَّا الْكَذِبَ فَكَمْ رَأَيْنَا شَارِبَ خَمْرٍ أَقْلَعَ وَلِصًّا نَزَعَ وَلَمْ نَرَ كَذَّابًا رَجَعَ وَعُوتِبَ كَذَّابٌ فِي كَذِبِهِ فَقَالَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ بِهِ وَتَطَعَّمْتَ حَلَاوَتَهُ مَا صَبَرْتَ عَنْهُ طَرْفَةَ عَيْنٍ انْتَهَى (كَمَا فِي خِيَارِ الْبُلُوغِ) لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي زَوَّجَهَا غَيْرُ أَبِيهَا وَجَدِّهَا (تَقُولُ) لِزَوْجِهَا (فِي النَّهَارِ بَلَغْتُ الْآنَ وَفَسَخْت النِّكَاحَ مَعَ أَنَّهَا بَلَغَتْ بِاللَّيْلِ) فَأُبِيحَ لِإِحْيَاءِ حَقِّهَا وَفِي الدُّرَرِ وَإِنْ رَأَتْهُ بِاللَّيْلِ تَخْتَارُ بِلِسَانِهَا فَتَقُولُ فَسَخْت نِكَاحِي تُشْهِدُ إذَا أَصْبَحَتْ وَتَقُولُ رَأَيْت الدَّمَ الْآنَ

(قِيلَ وَمِنْهُ) أَيْ الْكَذِبِ الْمُبَاحِ (الْوَعْدُ وَالْوَعِيدُ الْكَاذِبَانِ لِلصَّبِيِّ إذْ لَمْ يَرْغَبْ فِي الْمَكْتَبِ) وَأَعْرَضَ فَيَجُوزُ لِمَصْلَحَةِ تَعَلُّمِهِ قِيلَ فِيهِ نَوْعُ ضَعْفٍ لِإِمْكَانِهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ كَالضَّرْبِ وَلِذَا قَالَ قِيلَ وَأُورِدَ عَلَيْهِ أَنَّ جَوَازَ الضَّرْبِ مَحَلُّ بَيَانٍ خُصُوصًا فِيمَا دُونَ عَشْرِ سِنِينَ وَلَعَلَّ لِهَذَا قَالَ نَوْعُ ضَعْفٍ أَقُولُ الْمُنَاقَشَةُ فِي الْمِثَالِ لَيْسَ بِحَسَنٍ نَعَمْ إنَّ مِثْلَ هَذَا الْإِمْكَانِ يُوجَدُ فِي غَيْرِهِ مِمَّا أُبِيحَ فِيهِ الْكَذِبُ.

(وَ) مِنْهُ (الْإِنْكَارُ لِسِرِّ الْغَيْرِ) لِئَلَّا يُفْشِيَ سِرَّهُ الَّذِي أُودِعَ عِنْدَهُ لِأَنَّ صُدُورَ الْأَحْرَارِ قُبُورُ الْأَسْرَارِ (وَ) مِنْهُ إنْكَارُ (مَعْصِيَةِ نَفْسِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ

ص: 179

الْقَاذُورَاتِ فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللَّهِ» وَذَلِكَ لِأَنَّ إظْهَارَ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ أُخْرَى (وَ) إنْكَارُ (جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِتَطْيِيبِ قَلْبِهِ) أَيْ قَلْبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَفِي الْجَامِعِ «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إلَّا الْمُجَاهِرِينَ» أَيْ بِالْمَعَاصِي كَأَنْ يُحَدِّثَ بَعْضٌ بَعْضًا بِعِصْيَانِهِ وَجَعَلَ مِنْهُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ الْمُبَاحِ «وَإِنَّ مِنْ الْجَهْرِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَيَقُولَ عَمِلْت الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَأَصْبَحَ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ» .

(وَهَذَا) الْأَخِيرُ وَهُوَ الظَّاهِرُ (مِنْ الصُّلْحِ) فَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بَلْ بِنَصِّ الْحَدِيثِ السَّابِقِ وَنُقِلَ عَنْ كِتَابِ الْبَرَكَةِ فِي الْحُرْمَةِ وَمِنْ الْكَذِبِ الْمُبَاحِ إخْفَاءُ مَالِهِ وَمَالِ أَخِيهِ عَنْ الْمَظَالِمِ وَإِنْكَارُهُ مَحَبَّةَ بَعْضِ نِسَائِهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأُخْرَى وَتَزْيِينُ كَلَامِهِ لِأَخِيهِ عِنْدَ اعْتِذَارِهِ إلَيْهِ هَذَا ثُمَّ الْأَسْلَمُ أَنْ لَا يُفْتَحَ هَذَا الْبَابُ إلَّا بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ لِئَلَّا تَتَعَوَّدَ النَّفْسُ بِذَلِكَ وَأَيْضًا فِيهِ غُرُورٌ كَثِيرٌ إذْ قَدْ يَكُونُ الْبَاعِثُ حَظَّهُ وَغَرَضَهُ فَلْيَعْلَمْ هَلْ الْمَقْصُودُ أَهَمُّ فِي الشَّرْعِ مِنْ الصِّدْقِ أَوْ لَا فَيَزِنُ أَحَدَهُمَا بِالْآخِرِ فَأَيُّهُمَا أَشَدُّ فَيُرَجِّحُهُ وَإِنْ تَسَاوَيَا فَيَمِيلُ إلَى جَانِبِ الصِّدْقِ إذْ إبَاحَةُ الْكَذِبِ لِضَرُورَةٍ أَوْ لِمُهِمَّةٍ (وَقِيلَ الْمُبَاحُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ التَّعْرِيضُ) .

قَالَ فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ ثُمَّ السَّلَفُ قَالُوا «إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةً عَنْ الْكَذِبِ» رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَكَذَا عَنْ عُمَرَ هَذَا إذَا دَعَتْهُ حَاجَةٌ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ وَالتَّعْرِيضُ مَعًا وَلَكِنَّ التَّعْرِيضَ أَهْوَنُ كَقَوْلِك اللَّهُ يَعْلَمُ مَا قُلْت مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ وَكَلِمَةُ مَا عِنْدَك لِلْإِبْهَامِ وَيَتَوَهَّمُهُ الْمُسْتَمِعُ حَرْفُ النَّفْيِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ إذَا طَلَبَهُ مَنْ يَكْرَهُهُ قَالَ لِلْجَارِيَةِ قُولِي اُطْلُبْهُ فِي الْمَسْجِد وَكَانَ لَا يَقُول لَيْسَ هُوَ هَاهُنَا كَيْ لَا يَكُونَ كَاذِبًا هَذَا كُلُّهُ فِي مَوْضِعِ الْحَاجَةِ وَإِلَّا فَمَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ تَفْهِيمٌ لِلْكَذِبِ إلَّا أَنَّ الْحَاجَةَ فِي الْمَعَارِيضِ خَفِيفَةٌ كَتَطْيِيبِ قَلْبِ الْغَيْرِ بِالْمِزَاحِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَجُوزٌ» .

وَأَمَّا صَرِيحُ الْكَذِبِ مُطَايَبَةً فَلَيْسَ بِفِسْقٍ وَلَكِنَّهُ يُتْرَكُ

(وَهُوَ) أَيْ التَّعْرِيضُ (الْخَامِسُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ إرَادَةُ غَيْرِ الظَّاهِرِ الْمُتَبَادِرِ مِنْ الْكَلَامِ) كَالتَّوْرِيَةِ (وَلَا بُدَّ مِنْ احْتِمَالِهِ الْمُرَادَ بِحَسَبِ اللُّغَةِ) كَمَا مَرَّ آنِفًا (وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ النِّيَّةِ) كَأَنْ تَقُولَ لَا آكُلُ نَاوِيًا الْخُصُوصَ فَلَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الْعُمُومِ كَذَا فِي الْحَاشِيَةِ لَكِنْ فِيهِ كَلَامٌ يُعْرَفُ فِي الْفِقْهِيَّةِ (وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ) فِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِجَائِزٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ إذْ مَفْهُومُ التَّصْنِيفِ مُعْتَبَرٌ (كَالصُّوَرِ السَّابِقَةِ) مِنْ الْكَذِبِ (عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - إنَّ فِي الْمَعَارِيضِ لَمَنْدُوحَةً) أَيْ سَعَةً وَخَلَاصًا مِنْ الْكَذِبِ (وَيُكْرَهُ بِدُونِهَا) أَيْ بِدُونِ الْحَاجَةِ (وَأَمَّا الْكَذِبُ) الصَّرِيحُ (فَحَرَامٌ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ) مُطْلَقًا عِنْدَ ذَلِكَ الْبَعْضِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ

ص: 180

بِالتَّعْرِيضِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمِنْ أَمْثِلَةِ التَّعْرِيضِ مَا فِي الشِّرْعَةِ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَرْسَلَ بِنْتَه إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ لِيَتَزَوَّجَهَا وَقَالَ لَهَا قُولِي لَهُ هَلْ رَضِيت الْحُلَّةَ وَأَرَادَ بِهِ الزَّوْجَةَ أَخْذًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187]- فَقَالَ عُمَرُ رَضِيتهَا وَرِضَا الْحُلَّةِ كِنَايَةٌ عَنْ رِضَا الزَّوْجَةِ (وَمِنْ التَّعْرِيضِ تَقْيِيدُ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ وَعَسَى وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْمَخْرَجُ مِنْ الْكَذِبِ» أَيْ طَرِيقُ الْخُرُوجِ مِنْ الْكَذِبِ «أَرْبَعٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ اللَّهُ وَلَعَلَّ وَعَسَى» كَذَا فِي التتارخانية) لَا يَخْفَى أَنَّ الْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ عَلَى هَذَا أَنْ يَضُمَّ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ إلَى الْأَخِيرَيْنِ لَعَلَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ التَّعْرِيضِ إذْ التَّعْرِيضُ لَيْسَ بِجَائِزٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ فَافْهَمْ (وَمِنْ التَّعْرِيضِ أَنْ تَقُولَ اشْتَرَيْت هَذَا بِخَمْسَةٍ مَثَلًا وَقَدْ اشْتَرَيْته بِسِتَّةٍ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مَوْجُودٌ فِي الْكَثِيرِ فَلَا يَكُونُ كَذِبًا) بِخِلَافِ الْعَكْسِ لِأَنَّ الْكَثِيرَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقَلِيلِ (وَقَدْ يَكُونُ ذِكْرُ الْعَدَدِ كِنَايَةً عَنْ الْكَثْرَةِ فَلَا يُرَادُ بِهِ خُصُوصُهُ) أَيْ خُصُوصُ الْعَدَدِ بَلْ يُرَادُ الْمُبَالَغَةُ (كَمَا تَقُولُ دَعَوْتُك سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةً أَوْ أَلْفًا فَلَا يَكُونُ كَذِبًا إذَا لَمْ يَبْلُغْ عَدَدَ دَعْوَتِك إلَى أَحَدِ هَذِهِ وَلَكِنْ عُدَّتْ) تِلْكَ الدَّعْوَةُ (بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةً) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ مِرَارًا وَلَكِنْ لَمْ تُعَدَّ بَيْنَ النَّاسِ كَثِيرَةً كَانَ كَذِبًا وَأَمَّا الِاسْتِعَارَةُ فَقَالَ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ هِيَ تُفَارِقُ الْكَذِبَ بِالْبِنَاءِ عَلَى التَّأْوِيلِ وَنَصْبِ الْقَرِينَةِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ

(وَضِدُّ الْكَذِبِ الصِّدْقُ وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ) فِي الْوَاقِعِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِمُطَابِقَةِ الِاعْتِقَادِ أَوْ لِمَنْ قَالَ بِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ وَالِاعْتِقَادِ مَعًا (خ م. عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي» يُوَصِّلُ «إلَى الْبِرِّ» التَّوَسُّعِ فِي الْخَيْرِ وَقِيلَ: اسْمٌ لِجَمِيعِ الْخَيْرِ كُلِّهِ وَقِيلَ: اكْتِسَابُ الْحَسَنَاتِ وَاجْتِنَابُ السَّيِّئَاتِ «وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إلَى الْجَنَّةِ» فَهُوَ سَبَبٌ لِدُخُولِهَا نَحْوُ {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13]«وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ» يُلَازِمُ الصِّدْقَ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا» مُبَالَغَةً فِي الصِّدْقِ أَيْ يَتَكَرَّرُ مِنْهُ الصِّدْقُ وَيُدَاوِمُ عَلَيْهِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ اسْمَ الْمُبَالَغَةِ وَيَشْتَهِرَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْمَلَأِ الْأَعْلَى قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا فَالْمُرَادُ

ص: 181

الْكِتَابَةُ فِي اللَّوْحِ أَوْ فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ وَحَتَّى لِلتَّدْرِيجِ «وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ» وَهُوَ هَتْكُ سِتْرِ الدِّيَانَةِ وَالْمَيْلُ إلَى الْفَسَادِ وَالِانْبِعَاثُ فِي الْمَعَاصِي وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ شَرٍّ «وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ» دَاعٍ لِدُخُولِهَا «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ» يُكْثِرُ الْكَذِبَ «حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا»

مُبَالَغَةً فِي الْكَذِبِ هُوَ كَالصِّدِّيقِ فَيَصْدُقُ وَيَكْذِبُ لِلِاسْتِمْرَارِ فَالْكَذِبُ أَشَدُّ الْأَشْيَاءِ ضَرَرًا وَالصِّدْقُ أَشَدُّهَا نَفْعًا وَلِهَذَا عَلَتْ رُتْبَتُهُ عَلَى رُتْبَةِ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ إيمَانٌ وَزِيَادَةٌ قَالَ اللَّهُ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وَفِيهِ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ حَثٌّ عَلَى تَحَرِّي الصِّدْقِ وَتَحْذِيرٌ مِنْ الْكَذِبِ فَإِنَّهُ إذَا تَسَاهَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْهُ وَعُرِفَ بِهِ.

(تَنْبِيهٌ) : الصِّدْقُ أَحَدُ أَرْكَانِ بَقَاءِ الْعَالَمِ حَتَّى لَوْ تُوُهِّمَ مُرْتَفِعًا لَمَا صَحَّ نِظَامُهُ وَبَقَاؤُهُ وَهُوَ أَصْلُ الْمَحْمُودَاتِ وَرُكْنُ النُّبُوَّاتِ وَنَتِيجَةُ التَّقْوَى وَلَوْلَاهُ لَبَطَلَتْ أَحْكَامُ الشَّرَائِعِ وَالِاتِّصَافُ بِالْكَذِبِ انْسِلَاخٌ مِنْ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُصُوصِيَّةِ الْإِنْسَانِ بِالنُّطْقِ (ت. عَنْ أَبِي الْجَوْزَاءِ أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِلْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - مَا حَفِظْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حَفِظْت مِنْهُ «دَعْ» اُتْرُكْ «مَا يَرِيبُك» مَا يُوقِعُك فِي الرَّيْبِ وَالشَّكِّ وَالتُّهْمَةِ وَأَصْلُهُ قَلَقُ النَّفْسِ وَالْأَمْرُ لِلنَّدْبِ فَالتَّوَقِّي عَنْ الشُّبُهَاتِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْأَصَحِّ كَمَا فِي الْفَيْضِ «إلَى مَا لَا يَرِيبُك»

يَعْنِي إذَا وَجَدْت نَفْسَك مُضْطَرِبَةً فِي أَمْرٍ فَدَعْهُ وَإِذَا وَجَدْتهَا مُطْمَئِنَّةً فَاسْتَمْسِكْ بِهِ لِأَنَّ اضْطِرَابَ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ فِي شَيْءٍ عَلَامَةُ كَوْنِهِ بَاطِلًا وَطُمَأْنِينَتَهُ عَلَامَةُ كَوْنِهِ حَقًّا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ (فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةُ) الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَيْ مَحَلُّ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْب (وَالْكَذِبَ رِيبَةٌ) اضْطِرَابٌ وَشَكٌّ فَإِذَا ارْتَابَتْ نَفْسُك فِي شَيْءٍ فَاتْرُكْهُ وَطُمَأْنِينَتُهُ لِشَيْءٍ مُشْعِرٌ بِحَقِّيَّتِهِ وَهَذَا مَخْصُوصٌ بِذَوِي النُّفُوسِ الْقُدْسِيَّةِ عَنْ دَنَسِ الذُّنُوبِ وَوَسَخِ الْعُيُوبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا فَجَأَ الْقَلْبَ الْكَامِلَ امْتَزَجَ نُورُهُ بِنُورِ الْإِيمَانِ فَاطْمَأَنَّ وَانْطَفَأَ سِرَاجُ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ ظُلْمَةٌ وَالظُّلْمَةُ لَا تُمَازِجُ النُّورَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَنَحْوُهُ فِي الْحَاشِيَةِ وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالْعَقْلِ السَّلِيمِ بَلْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُوَسْوِسِينَ فَاللَّازِمُ الْعَمَلُ بِالشَّرْعِ الْمَتِينِ لَا بِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَرَيْبِهِ انْتَهَى فَالتَّقْرِيبُ لَيْسَ بِحَسَنٍ وَفِي الْجَامِعِ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ أَيْضًا وَقَعَ قَوْلُهُ «فَإِنَّ الصِّدْقَ يُنَجِّي» أَيْ أَنَّ فِيهِ النَّجَاةَ وَإِنْ ظَنَّ فِيهِ الْهَلَكَةَ فَإِنْ ارْتَابَتْ النَّفْسُ فِي شَيْءٍ فَدَعْهُ فَإِنَّ نَفْسَ الْكَامِلِ تَطْمَئِنُّ إلَى مَا فِيهِ نَجَاةٌ مِنْ الصِّدْقِ وَتَرْتَابُ فِي الْكَذِبِ فَالِارْتِيَابُ أَمَارَةُ الْحُرْمَةِ وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَامَةُ الْحَقِّ فَخُذْ بِهِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا «دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك فَإِنَّك لَنْ تَجِدَ فَقْدَ شَيْءٍ تَرَكْته لِلَّهِ تَعَالَى» وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي تَرْكِ مَا يَرِيبُ إلَى مَا لَا يَرِيبُ وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ عُمُومٌ يَقْتَضِي أَنَّ الرِّيبَةَ تَقَعُ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الرِّيبَةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَرَعٌ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأَصْلٌ فِي الْوَرَعِ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ الْيَقِينِ وَرَاحَةٌ مِنْ ظُلْمِ الشُّكُوكِ وَالْأَوْهَامِ الْمَانِعَةِ لِنُورِ الْيَقِينِ.

(تَنْبِيهٌ) : لَوْ تَأَمَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ لَتَيَقَّنَ اسْتِيعَابَهُ كُلَّ مَا قِيلَ فِي تَجَنُّبِ الشُّبُهَاتِ كَذَا فِي الْفَيْضِ (حَدُّ دُنْيَا حب حك. عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اضْمَنُوا لِي مِنْ أَنْفُسِكُمْ سِتًّا»

أَيْ: الْتَزِمُوا بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى فِعْلِ سِتِّ خِصَالٍ «أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ» أَلْتَزِمْ لَكُمْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ مَعَ السَّابِقِينَ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَعْذِيبٍ وَالْمُرَادُ مِنْ الضَّمَانِ هُوَ اللُّغَوِيُّ عَبَّرَ بِهِ لِتَحْقِيقِ حُصُولِهِ الْوَعْدَ إنْ حُوفِظَ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ «اُصْدُقُوا إذَا حَدَّثْتُمْ»

ص: 182