الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خُمُودٌ وَالْوَسَطَ عِفَّةٌ فَالْخُمُودُ مَلَكَةٌ يَقُصُّ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ اسْتِيفَاءِ مَا يَنْبَغِي مِنْ الْمُشْتَهَيَاتِ كَالْعِنِّينِ يُقَالُ خَمَدَتْ النَّارُ إذَا سَكَنَ لَهَبُهَا (فَإِنْ كَانَ مُتَأَهِّلًا) يَحْتَاجُ إلَى الْجِمَاعِ (أَوْ بِهِ مَرَضٌ فِي الْمَعِدَةِ فَعِلَاجُهُ بِالطِّبِّ) وَنَحْوِهِ مِنْ الْأُمُورِ الْمُجَرَّبَةِ فَافْهَمْ (وَإِلَّا) إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَهِّلًا أَوْ لَمْ يَكُنْ بِهِ مَرَضٌ (فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْعِلَاجِ فَقَدْ كَفَى) الْخُمُودُ (مَئُونَتَهُمَا) أَيْ الطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ لِضَعْفِ دَاعِيَتِهِمَا (وَنَجَا مِنْ غَوَائِلِهِمَا) أَيْ التَّأَهُّلِ وَالْمَرَضِ أَوْ مَفَاسِدِهِمَا وَالْمُؤْمِنُ الْقَلِيلُ الْمُؤْنَةِ خَيْرٌ مِنْ الْمُؤْمِنِ الْكَثِيرِ الْمُؤْنَةِ (وَأَمَّا تَفَاسِيرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ سَبَقَتْ) فِي تَفْسِيرِ الْخُلُقِ وَبَيَانِ مَنْشَئِهِ
[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]
(السِّتُّونَ) آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ (الْإِصْرَارُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي) الظَّاهِرُ غَيْرُ مَا ذُكِرَ هَاهُنَا أَوْ شَامِلٌ لَهَا إذْ صُدُورُ شَيْءٍ مُغَايِرٌ لِإِصْرَارِهِ (وَهُوَ) أَيْ الْإِصْرَارُ (دَوَامُ قَصْدِ الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَلَوْ صَدَرَتْ مِنْهُ أَحْيَانَا أَوْ مَرَّةً) وَقَدْ عَرَفْت مِمَّا سَبَقَ أَنَّ الْقَصْدَ سِيَّمَا هُنَا لَا يَشْمَلُ الْهِمَّةَ وَاللَّمَّةَ وَالْخَطِرَةَ بَلْ الْمُرَادُ مَا يَشْمَلُ النِّيَّةَ وَالْإِرَادَةَ وَالْعَزِيمَةَ فَإِنَّ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْقَسَمِ الْأَخِيرِ لَا الْأَوَّلِ قِيلَ هُنَا وَأَمَّا إذَا لَمْ تَصْدُرْ أَصْلًا فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالشَّيْخِ أَكْمَلِ الدِّينِ لَا يَكُونُ إصْرَارًا بِخِلَافِ الْغَزَالِيِّ كَمَا مَرَّ فَتَأَمَّلْ (وَلَوْ تَخَلَّلَ النَّدَامَةَ) بَيْنَهُمَا (وَالرُّجُوعَ) عَنْهَا (فَلَيْسَ بِإِصْرَارٍ وَلَوْ صَدَرَتْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ سَبْعِينَ مَرَّةً هَكَذَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم) فِي الْحَدِيثِ الَّذِي خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ عَلَى رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «مَا أَصَرَّ مَنْ اسْتَغْفَرَ وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فَإِنَّ رَحْمَتَهُ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَلَا غَايَةَ فَذُنُوبُ الْعَالَمِ كُلُّهَا مُتَلَاشِيَةٌ عِنْدَ حِلْمِهِ وَعَفْوِهِ إذْ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ إلَى الْغَايَةِ ثُمَّ اسْتَقَالَ مِنْهَا بِالِاسْتِغْفَارِ غُفِرَتْ لَهُ لِأَنَّهُ طَلَبَ الْإِقَالَةَ مِنْ كَرِيمٍ وَالْكَرِيمُ مَحَلُّ الْإِقَالَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ مُقَارَنَةِ عَدَمِ الْإِصْرَارِ الَّذِي هُوَ تَوْبَةٌ نَصُوحٌ وَأَمَّا مَعَ الْإِصْرَارِ فَمُجَرَّدُ ادِّعَاءٍ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ فَإِنْ قُلْت كَيْفَ نَفَعَ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ وَفِي خَبَرٍ «الْمُسْتَغْفِرُ مِنْ ذَنْبٍ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَهْزِئِ» وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْ قَوْلِي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَالِاسْتِغْفَارُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ قُلْت هُوَ مَا يَكُونُ بِاللِّسَانِ بِدُونِ تَوَاطُؤِ الْقَلْبِ كَمَا يُقَالُ بِحُكْمِ الْعَادَةِ وَلَا جَدْوَى لَهُ فَإِنْ أَضَافَ لَهُ تَضَرُّعَ الْقَلْبِ وَابْتِهَالَهُ فَحَسَنَةٌ فِي نَفْسِهَا دَافِعَةٌ لِلسَّيِّئَةِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ هَذَا الْخَبَرُ وَلِلتَّوْبَةِ دَرَجَاتٌ أَوَائِلُهَا لَا تَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهِ إلَى أَخِرِهَا وَلِذَاكَ قَالَ سَهْلٌ لَا بُدَّ لِلْعَبْدِ فِي كُلِّ حَالٍّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى مَوْلَاهُ فَأَحْسَنُ أَحْوَالِهِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنْ عَصَى قَالَ يَا رَبِّ اُسْتُرْ عَلَيَّ فَإِنْ فَرَغَ مِنْ الْمَعْصِيَةِ قَالَ يَا رَبِّ تُبْ عَلَيَّ فَإِذَا تَابَ قَالَ يَا رَبِّ اعْصِمْنِي فَإِذَا عَمِلَ قَالَ تَقَبَّلْ مِنِّي.
وَسُئِلَ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ الَّذِي يُكَفِّرُ الذُّنُوبَ فَقَالَ أَوَّلُ الِاسْتِغْفَارِ الْإِجَابَةُ ثُمَّ الْإِنَابَةُ التَّوْبَةُ فَالِاسْتِجَابَةُ أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ وَالْإِنَابَةُ أَعْمَالُ الْقَلْبِ وَالتَّوْبَةُ إقْبَالُهُ عَلَى مَوْلَاهُ بِأَنْ يَتْرُكَ الْخَلْقَ وَيَسْتَغْفِرَ مِنْ تَقْصِيرِهِ وَمِنْ الْجَهْلِ بِالنِّعْمَةِ وَتَرْكِ الشُّكْرِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُغْفَرُ لَهُ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الثَّبَاتِ ثُمَّ الْبَيَانِ ثُمَّ الْقُرْبِ ثُمَّ الْمَعْرِفَةِ ثُمَّ الْمُنَاجَاةِ ثُمَّ الْمُصَافَاةِ ثُمَّ الْمُوَالَاةِ ثُمَّ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ الْخُلَّةُ وَلَا يَسْتَقِيمُ هَذَا فِي قَلْبِ عَبْدٍ حَتَّى يَكُونَ الْعِلْمُ غِذَاءً وَالذِّكْرُ قِوَامَهُ وَالرِّضَا زَادَهُ وَالتَّوَكُّلُ صَاحِبَهُ ثُمَّ اللَّهُ تَعَالَى يَرْفَعُهُ إلَيْهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى الْعَرْشِ فَيَكُونُ مَقَامُهُ مَقَامَ حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلتَّكْفِيرِ دَرَجَاتٍ فَبَعْضُهَا مَحْوٌ لِلذَّنْبِ بِالْكُلِّيَّةِ وَبَعْضُهَا مُخَفِّفٌ بِتَفَاوُتِ دَرَجَاتِ التَّوْبَةِ فَالِاسْتِغْفَارُ بِالْقَلْبِ وَالتَّدَارُكُ بِالْحَسَنَاتِ وَإِنْ خَلَا عَنْ حَلِّ عُقْدَةِ الْإِصْرَارِ مِنْ أَوَائِلِ دَرَجَاتِ الِاسْتِغْفَارِ وَلَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَظُنَّ أَنَّ وُجُودَهَا كَعَدَمِهَا.
قَالَ أَقُولُ الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ فَقَطْ حَسَنَةٌ أَيْضًا إذْ حَرَكَةُ اللِّسَانِ بِهِ عَنْ غَفْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ حَرَكَتِهِ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِغِيبَةٍ أَوْ فُضُولٍ بَلْ خَيْرٌ مِنْ السُّكُوتِ قِيلَ لِأَبِي عُثْمَانَ الْمَغْرِبِيِّ لِسَانِي يُحَرَّكُ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ وَقَلْبِي غَافِلٌ فَقَالَ اُشْكُرْ اللَّهَ الَّذِي اسْتَعْمَلَ جَارِحَةً مِنْ جَوَارِحِك وَعَوِّدْهُ الذِّكْرَ لَا الْفُضُولَ انْتَهَى كَلَامُ الْمُنَاوِيِّ.
قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ فِي مُقَدَّمَةِ حِزْبِهِ الْأَعْظَمِ فَعَلَيْك حِفْظُ مَبَانِيهِ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَعَانِيهِ فَقِيلَ ظَاهِرُهُ لَا ثَوَابَ
لِمَنْ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهُ أَوْ يَعْرِفُهَا وَلَكِنْ لَا يَتَأَمَّلُهَا وَأُيِّدَ بِقَوْلِ الْإِمَامِ الْغَيْطِيِّ وَرُدَّ بِأَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ كَمَالِ الثَّوَابِ لَا أَصْلِهِ وَأَشْكَلَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ ابْنِ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيِّ ثَوَابُ الْقُرْآنِ حَاصِلٌ بِمُجَرَّدِ التِّلَاوَةِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ بِالْكُلِّيَّةِ لِلتَّعَبُّدِ بِلَفْظِهِ وَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَلَا ثَوَابَ إلَّا بِفَهْمِ مَعْنَاهَا وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا وَرُدَّ أَيْضًا بِمَنْعِ الْفَرْقِ بَلْ الْقِيَاسُ عَدَمُ فَرْقِهِمَا نَعَمْ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْفَهْمِ وَعَدَمِهِ وَاقِعٌ وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَصْلِ الثَّوَابِ وَبَقِيَ أَنَّهُ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ أَنَّهُ قَالَ زَلَّةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ التَّوْبَةِ أَقْبَحُ مِنْ سَبْعِينَ قَبْلَهَا فَتَأَمَّلْ حَتَّى يَحْصُلَ التَّوْفِيقُ.
(وَضَرَرُهُ) أَيْ ضَرَرُ الْإِصْرَارِ (غَنِيٌّ عَنْ الْبَيَانِ وَيَكْفِيك) فِي الضَّرَرِ (جَعْلُهُ) أَيْ الْإِصْرَارِ (الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةً لِوُرُودِ أَنْ «لَا صَغِيرَةَ مَعَ الْإِصْرَارِ» لِأَنَّهُ يَجْعَلُهَا كَبِيرَةً بِالْمُوَاظَبَةِ فَعَفْوُ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتْبَعُهَا مِثْلُهَا أَرْجَى مِنْ صَغِيرَةٍ يُوَاظِبُ عَلَيْهَا «وَلَا كَبِيرَةَ مَعَ الِاسْتِغْفَارِ» وَالْحَدِيثُ فِي الْجَامِعِ عَلَى رَمْزِ الدَّيْلَمِيِّ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَفِي شَرْحِهِ وَفِيهِ أَبُو شَيْبَةَ قَالَ الْبُخَارِيُّ لَا يُتَابَعُ حَدِيثُهُ وَرَوَاهُ ابْنُ شَاهِينِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَكَذَا الطَّبَرَانِيُّ فِي مُسْنَدِ الشَّامِيِّينَ انْتَهَى لَكِنْ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ.
اعْلَمْ أَنَّ الصَّغِيرَةَ كَبِيرَةٌ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الْإِصْرَارُ وَمِنْهَا اسْتِصْغَارُ الذَّنْبِ كَمَا أَنَّ اسْتِعْظَامَهُ يَجْعَلُهُ صَغِيرَةً وَمِنْهَا الْفَرَحُ وَالتَّمَدُّحُ كَمَا يُقَالُ أَمَا رَأَيْتَنِي كَيْفَ هَتَكْت عِرْضَ فُلَانٍ وَذَكَرْت سَيِّئَاتِهِ حَتَّى أَخْجَلْته وَكَيْفَ رَوَّجْت عَلَيْهِ الزَّائِفَ وَخَدَعْته وَمِنْهَا أَنْ يَتَهَاوَنَ بِسِتْرِ اللَّهِ وَإِمْهَالِهِ إيَّاهُ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ إنَّمَا أَمْهَلَهُ لِيَزْدَادَ إثْمًا فَيَظُنَّ أَنَّهُ تَمْكِينٌ وَعِنَايَةٌ مِنْهُ تَعَالَى وَهُوَ اسْتِدْرَاجٌ وَمَقْتٌ وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ ذَنْبَهُ عِنْدَ غَيْرِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ عَالِمًا يُقْتَدَى بِهِ فَإِذَا عُلِمَ مِنْهُ كَبُرَ ذَنْبُهُ كَلُبْسِهِ الْحَرِيرَ وَدُخُولِهِ عَلَى الظَّلَمَةِ مَعَ تَرْكِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَإِطْلَاقِهِ فِي الْأَعْرَاضِ وَتَعَدِّيهِ بِاللِّسَانِ فِي الْمُنَاظَرَةِ وَقَصْدِهِ الِاسْتِخْفَافَ وَاشْتِغَالِهِ مِنْ الْعُلُومِ بِمَا لَا يَقْصِدُ مِنْهُ إلَّا الْجَاهَ كَعِلْمِ الْجَدَلِ اعْلَمْ أَنَّ لَك عَلَيْنَا أَنْ نُفَصِّلَ الْمَعْصِيَتَيْنِ بَعْضَ تَفْصِيلٍ وَقَدْ سَبَقَ فِي الِاعْتِقَادِ ذِكْرُ الْكَبِيرَةِ وَبَعْضِ تَفَاصِيلِهَا فَلْنَذْكُرْ بَقِيَّتَهَا عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى الزَّيْنِيَّةِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَإِنْ قَلَّ وَلَمْ يُسْكِرْ وَالنَّبِيذِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ لَا حِلَّهُ إلَّا إذَا رَامَ مُنَادَمَةً عَلَيْهِ وَحُضُورًا مَعَ الْفَسَقَةِ وَلِلْمُقَلِّدِ حُكْمُ مُقَلَّدِهِ وَالْغَصْبُ بِمِقْدَارِ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَتَرْكُ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ عَنْ وَقْتِهِ وَالْحَجُّ إذَا فَاتَ وَالسِّحْرُ تَعْلِيمًا أَوْ تَعَلُّمًا أَوْ عَمَلًا وَإِحْرَاقُ حَيَوَانٍ عَبَثًا وَأَكْلُ مَيْتَةٍ بِلَا اضْطِرَارٍ وَالنَّمِيمَةُ وَالْغِيبَةُ لِمَنْ لَا يَتَظَاهَرُ بِفِسْقِهِ وَالْقِمَارُ وَالسَّرَفُ وَالسَّعْيُ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فِي الْمَالِ وَالدِّينِ وَعُدُولُ الْحَاكِمِ عَنْ الْحَقِّ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ وَإِدْمَانُ الصَّغِيرِ وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعَاصِي وَالْحَثُّ عَلَيْهَا وَالتَّغَنِّي لِلنَّاسِ وَتَغَنِّي الْمَرْأَةِ مُطْلَقًا وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَمَّامِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَالْبُخْلُ عَنْ أَدَاءِ وَاجِبٍ وَتَفْضِيلُ عَلِيٍّ عَلَى الشَّيْخَيْنِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَقَتْلُ نَفْسِهِ أَوْ إتْلَافُ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَاتِلِ غَيْرِهِ وَعَدَمُ اسْتِنْزَاهِ الْبَوْلِ وَالْمَنُّ وَالْأَذَى فِي الصَّدَقَةِ وَالتَّكْذِيبُ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدْرِ وَالْغَدْرُ بِأَمِيرِهِ وَتَصْدِيقُ كَاهِنٍ أَوْ مُنَجِّمٍ وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالذَّبْحُ لِمَخْلُوقٍ وَإِسْبَالُ الْإِزَارِ خُيَلَاءَ وَالدُّعَاءُ إلَى ضَلَالَةٍ وَسَنُّ سُنَّةٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى أَخِيهِ بِحَدِيدَةٍ وَالْجِدَالُ وَالْمِرَاءُ وَخَصْيُ الْعَبْدِ وَقَطْعُ شَيْءٍ مِنْ أَعْضَائِهِ وَتَعْذِيبُهُ وَكُفْرَانُ نِعْمَةِ الْمُحْسِنِ وَمَنْعُ فَضْلِ الْمَاءِ وَالْإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ وَالتَّجَسُّسُ وَاللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَالطَّابِ وَالْمِنْقَلَةِ وَكُلِّ لَهْوٍ مُجْمَعٍ عَلَى تَحْرِيمِهِ.
وَعَدَّ الْعَلَائِيُّ أَكْلَ الْحَشِيشِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِ لِلْمُسْلِمِ يَا كَافِرُ وَعَدَمُ الْعَدْلِ بَيْنَ النِّسَاءِ فِي الْقَسْمِ وَنَاكِحُ الْكَفِّ وَوَاطِئُ الْحَائِضِ وَالسُّرُورُ بِالْغَلَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِتْيَانُ الْبَهِيمَةِ وَعَدَمُ عَمَلِ الْعَالِمِ بِعِلْمِهِ وَعَيْبُ الطَّعَامِ وَالرَّقْصُ بِالرَّبَابِ وَمَحَبَّةُ الدُّنْيَا وَالنَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَإِلَى دَاخِلِ بَيْتِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَقَالُوا النَّظَرُ إلَى مُحَرَّمٍ وَالتَّقْبِيلُ وَاسْتِمْنَاءٌ بِقَصْدِ الشَّهْوَةِ لَا لِتَسْكِينِهَا وَاللَّمْسُ وَالْخَلْوَةُ بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَاللَّعْنُ وَلَوْ لِبَهِيمَةٍ وَكِذْبٌ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا إضْرَارَ وَهَجْوُ مُسْلِمٍ وَلَوْ تَعْرِيضًا وَصِدْقًا وَالْإِشْرَافُ عَلَى بُيُوتِ النَّاسِ
وَهَجْرُ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَا عُذْرٍ وَكَثْرَةُ الْمُخَاصَمَةِ بِلَا عِلْمٍ وَضَحِكُ مُصَلٍّ اخْتِيَارًا وَالنَّوْحُ وَنَحْوُهُ اخْتِيَارًا وَلُبْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ حَرِيرٍ وَتَبَخْتُرُ الْمَاشِي وَجُلُوسٌ مَعَ فَاسِقٍ لَا يُنَاسِبُهُ وَالصَّلَاةُ فِي وَقْتِ كَرَاهَةٍ وَالصَّوْمُ فِي يَوْمٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ وَإِدْخَالُ الْمَسْجِدِ نَجَاسَةً أَوْ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا يَغْلِبُ تَنَجُّسُهُ وَتَلْطِيخُهُ ثَوْبَهُ أَوْ بَدَنَهُ بِنَجَاسَةٍ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِدْبَارُهَا بِبَوْلٍ وَغَائِطٍ وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ بِحَمَّامٍ بِغَيْرِ مَرْأَى النَّاسِ أَوْ خَلْوَةٍ عَبَثًا وَوِصَالُ صَائِمٍ وَوَطْءُ مُظَاهِرٍ قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَمُسَافَرَةُ امْرَأَةٍ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَالنَّجْشُ وَالِاحْتِكَارُ وَالْبَيْعُ وَالسَّوْمُ وَالْخِطْبَةُ عَلَى بَيْعِ أَوْ سَوْمِ أَوْ خِطْبَةِ غَيْرِهِ وَبَيْعُ الْحَاضِرِ وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالتَّصْرِيَةُ وَالْبَيْعُ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ وَالتَّفْرِيقُ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ مُحَرَّمٌ مِنْهُ وَكِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ وَاقْتِنَاءُ كَلْبٍ لِغَيْرِ صَيْدٍ أَوْ مَاشِيَةٍ وَإِمْسَاكُ خَمْرٍ لَا لِتَخْلِيلِهَا وَاللَّعِبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَبَيْعُ خَمْرٍ وَشِرَاؤُهَا وَسَرِقَةُ اللُّقْمَةِ وَاشْتِرَاطُ الْأَجْرِ عَلَى الْحَدِيثِ وَالْبَوْلُ قَائِمًا وَفِي الْمُغْتَسَلِ وَالْمَوَارِدِ وَالسَّدْلُ فِي الصَّلَاةِ وَالْآذَانُ جُنُبًا وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ وَالِاخْتِصَارُ فِي الصَّلَاةِ وَالْعَبَثُ فِيهَا وَاسْتِقْبَالُ الْمُصَلِّي بِوَجْهِهِ وَالِالْتِفَاتُ فِيهَا وَالتَّكَلُّمُ فِي الْمَسْجِدِ بِكَلَامِ الدُّنْيَا وَفِعْلُ مَا لَيْسَ عِبَادَةً فِيهِ وَمُبَاشَرَةُ الصَّائِمِ وَتَقْبِيلُهُ إذَا لَمْ يَأْمَنْ وَدَفْعُ الزَّكَاةِ مِنْ أَرْدَإِ الْمَالِ وَالنَّخْعُ فِي الذَّبْحِ وَأَكْلُ السَّمَكِ الطَّافِي وَالْمُنْتِنِ وَالْمِيتَةِ مِنْ غَيْرِهِ
وَمِنْ اللُّحُومِ الْمَثَانَةِ وَالْغُدَّةِ وَالْخُصْيَتَيْنِ وَالذَّكَرِ وَالتَّسْعِيرُ لِلْحَاكِمِ عِنْدَ عَدَمِ تَعَدِّي السُّوقَةِ وَإِنْكَاحُ الْمُكَلَّفَةِ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا عِنْدَ عَدَمِ الْعَضْلِ وَنِكَاحُ الشِّغَارِ وَتَطْلِيقُ الزَّوْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَبَائِنًا عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَتَطْلِيقُهَا فِي الْحَيْضِ إلَّا فِي الْخُلْعِ وَفِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ وَالرَّجْعَةُ بِالْفِعْلِ وَالْمُضَارَرَةُ فِيهَا وَفِي الْإِنْفَاقِ وَالْإِيلَاءُ وَالتَّفْضِيلُ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ إلَّا لِعِلْمٍ أَوْ صَلَاحٍ وَتَرْكُ الْقَاضِي التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَجْلِسًا وَإِقْبَالًا لَا بِالْقَلْبِ وَقَبُولُ جَائِزَةِ السُّلْطَانِ وَمَنْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَى مَالِهِ وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِهِ وَإِجَابَةُ دَعَوَاتِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ وَالْأَكْلُ مِنْ طَعَامِ أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ وَدُخُولُهَا وَالصَّلَاةُ وَالْمَشْيُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالْمُثْلَةُ بِحَيَوَانٍ وَقَتْلُ حَرْبِيٍّ وَمُرْتَدٍّ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ وَتَأْخِيرُ السَّجْدَةِ التِّلَاوِيَّةِ وَتَرْكُهَا مُطْلَقًا وَتَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ لِلصَّلَاةِ وَحَمْلُ الْجِنَازَةِ بَيْنَ عَمُودَيْ السَّرِيرِ وَدَفْنُ اثْنَيْنِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ بِلَا ضَرُورَةٍ وَالصَّلَاةُ عَلَى مَيِّتٍ فِي مَسْجِدٍ وَالسُّجُودُ عَلَى صُورَةٍ وَصَلَاتُهُ وَهِيَ بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ بِحِذَائِهِ أَوْ أَمَامَهُ وَشَدُّ الْأَسْنَانِ بِالذَّهَبِ وَاسْتِعْمَالُ آنِيَةِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَتَقْبِيلُ فَمِ الرَّجُلِ وَمُعَانَقَتُهُ وَجَعْلُ الرَّايَةِ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ وَابْتِدَاءُ الْكَافِرِ بِالسَّلَامِ إلَّا لِحَاجَةٍ عِنْدَهُ وَبَيْعُ السِّلَاحِ مِنْ أَهْلِ الْفِتْنَةِ وَاسْتِخْدَامُ الْخَصِيِّ وَتَمَلُّكُهُ وَكَسْبُهُ وَإِلْبَاسُ صَبِيٍّ مَا لَا يَجُوزُ لُبْسُهُ لِلْبَالِغِ وَتَغَنِّي الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ
وَوَطْءُ الزَّوْجَةِ أَوْ الْأَمَةِ بِحَضْرَةِ مَنْ يَعْقِلُ وَلَوْ نَائِمًا وَالْخُرُوجُ لِقُدُومِ أَمِيرٍ لَا يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ أَوْ يَسْتَحِقُّهُ وَيُضَيِّقُ عَلَى الْمَارَّةِ وَانْتِظَارُ الْإِقَامَةِ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ سَمَاعِ الْأَذَانِ وَالْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ لِغَيْرِ صَوْمٍ وَضَيْفٍ وَالْأَكْلُ لِغَيْرِ جُوعٍ وَتَقْبِيلُ يَدِ غَيْرِ عَالِمٍ وَصَالِحٍ وَأَبٍ وَالسَّلَامُ بِالْيَدِ وَقِيَامُ الْقَارِئِ لِغَيْرِ أَبِيهِ وَمُعَلِّمِهِ وَوَطْءُ الْحَائِضِ وَالْأَمَةِ قَبْلَ اسْتِبْرَائِهَا وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ أَنَّ مِنْهَا سُوءَ الظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَالْحَسَدَ وَالْكِبْرَ وَالْعُجْبَ وَسَمَاعَ اللَّهْوِ وَجُلُوسَ الْجُنُبِ فِي الْمَسْجِدِ بِلَا عُذْرٍ وَالسُّكُوتَ عِنْدَ سَمَاعِ غِيبَةِ مُسْلِمٍ وَالْبُكَاءَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ وَلَطْمَ الْخُدُودِ وَإِمَامَتَهُ بِقَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ وَتَخَطِّيَ رِقَابِ النَّاسِ فِي الْمَسْجِدِ وَإِلْقَاءَ نَجَاسَةٍ عَلَى سَطْحِهِ أَوْ عَلَى الطَّرِيقِ وَنَوْمَهُ مَعَ وَلَدِهِ وَعُمْرُهُ سَبْعُ سِنِينَ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا انْتَهَى.
وَمِنْهَا الْخَوْضُ بِالْبَاطِلِ كَذِكْرِ تَنَعُّمِ الْمُلُوكِ وَالْأَغْنِيَاءِ وَالتَّكَلُّمُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مَا يَعْنِيهِ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمَدْحِ.
وَمِنْهَا الْمُتَقَعِّرُ فِي الْكَلَامِ بِالتَّشَدُّقِ وَتَكَلُّفِ السَّجْعِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّصَنُّعِ فِيهِ، وَالْفُحْشُ وَالسَّبُّ وَبَذَاءَةُ اللِّسَانِ وَالْإِفْرَاطُ فِي الْمِزَاحِ وَإِفْشَاءُ السِّرِّ وَالتَّهَاوُنُ بِحَقِّ الْمَعَارِفِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَخُلْفُ
الْوَعْدِ وَالْغَضَبُ لِغَيْرِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الدِّينِ وَضَعْفُ الْحَمِيَّةِ كَالتَّهَاوُنِ بِتَرْكِ الْمُتَعَرِّضِ لِحَرَمِهِ وَعِرْضِهِ وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ عَنْ أَوَّلِ سِنِي الْإِمْكَانِ وَلَكِنْ فِي الْفَتَاوَى سُقُوطُ الْعَدَالَةِ بِهِ، وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ اسْتِخْفَافًا وَشَغْلُ الطَّرِيقِ بِوُقُوفٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ وَالتَّعَصُّبُ وَالْمُدَاهَنَةُ وَقَوْلُ الْمُسْلِمِ لِذِمِّيٍّ يَا كَافِرُ وَالدُّعَاءُ بِمَقْعَدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِك وَبِحَقِّ فُلَانٍ (وَأَمَّا حَدُّهُمَا) فَإِذَا عُلِمَ حَدُّ الْكَبِيرَةِ عُلِمَ حَدُّ الصَّغِيرَةِ وَكَثُرَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ وَزُيِّفَتْ كُلُّهَا لَكِنْ هِيَ عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ مَا تُوُعِّدَ عَلَيْهِ بِخُصُوصِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَأُورِدَ بِأَنَّ نَحْوَ النَّوْحِ لِلْمُصِيبَةِ صَغِيرَةٌ مَعَ وُرُودِ وَعِيدٍ وَفِي الْعَيْنِيِّ وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ الْحَلْوَانِيِّ هِيَ مَا كَانَ شَنِيعًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَفِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِعْلُ الْقَلْبِ الْمَذْمُومُ كَالْحَسَدِ الْمُتَعَمَّدِ عِنْدَنَا عَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ بِمُجَرَّدِهِ وَصَغِيرَةٌ إنْ صَمَّمَ وَعَزَمَ وَكَبِيرَةٌ إذَا فَعَلَ وَأَصَرَّ لَعَلَّ الْحَقَّ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَرِدْ حَدُّهَا وَلَا عَدُّهَا فَلَا مَطْمَعَ فِي مَعْرِفَتِهَا وَرُبَّمَا قَصَدَ الشَّرْعُ إبْهَامَهُ كَإِبْهَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثُمَّ إنَّ الصَّغَائِرَ إنَّمَا تَكُونُ وَاحِدَةً صَغِيرَةً إذَا كَانَ مُسْتَعْظِمًا لِفِعْلِهَا خَائِفًا مِنْ عِقَابِهَا وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا مُتَهَاوِنًا بِهَا فَكَبِيرَةٌ كَمَا فِي الْإِحْيَاءِ وَاسْتِخْفَافُ الصَّغِيرَةِ كُفْرٌ إذَا ثَبَتَ بِقَطْعِيٍّ وَإِصْرَارُ الصَّغِيرَةِ غَلَبَةٌ لِلْمَعَاصِي عَلَى الطَّاعَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَقِيلَ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى صَغِيرَةٍ مِنْ نَوْعٍ أَوْ أَنْوَاعٍ وَالْمَكْرُوهُ التَّحْرِيمِيُّ مِنْ الصَّغَائِرِ إلَى هُنَا مِنْ الزَّيْنِيَّةِ وَفِيهِ زِيَادَةُ تَفْصِيلٍ
(وَضِدُّهُ) أَيْ الْإِصْرَارِ (الْإِبَانَةُ وَالتَّوْبَةُ وَهِيَ الرُّجُوعُ عَنْ قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ وَالْعَزْمُ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا تَعْظِيمًا لِلَّهِ تَعَالَى وَخَوْفًا مِنْ عِقَابِهِ) لَا لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَالضَّرَرِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَالِهِ اعْلَمْ أَنَّهُ تَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ بَعْضٍ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى أُخْرَى وَتَصِحُّ وَلَوْ بَعْدَ نَقْضِهَا مِرَارًا وَالْكَبِيرَةُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَهَا مُكَفِّرَاتٌ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالْحَجِّ وَالِاسْتِغْفَارِ وَاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكُفْرِ قَطْعِيٌّ اتِّفَاقًا وَمِنْ الْمَعَاصِي أَيْضًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ظَنِّيٌّ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْحَجَّ الْمَبْرُورَ لَا يُكَفِّرُ الْكَبِيرَةَ وَمُرَادُ مَنْ قَالَ بِالتَّكْفِيرِ لَيْسَ سُقُوطَ قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَالْمَظَالِمِ وَالدُّيُونِ بَلْ يُكَفِّرُ إثْمَ تَأْخِيرٍ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حِينَ فَرَاغِ الْحَجِّ فَقَدْ ارْتَكَبَ الْآنَ كَبِيرَةً وَهَذَا مِمَّا يَجِبُ حِفْظُهُ كَذَا فِي الزَّيْنِيَّةِ أَيْضًا وَعَنْ شَرْحِ الْمِنْهَاجِ لِابْنِ حَجَرٍ الْمَكِّيِّ أَنَّ حَدِيثَ تَكْفِيرِ الْحَجِّ التَّبِعَاتِ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْحُفَّاظِ بَلْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ إلَى شِدَّةِ ضَعْفِهِ فَمَا فِي الْمُبَارِقِ الْمَغْفُورُ هُوَ الصَّغَائِرُ إنْ وُجِدَتْ وَإِلَّا رَجَوْنَا أَنْ يَغْفِرَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِعُمُومِ وقَوْله تَعَالَى - {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]- وَإِنْ لَمْ يُصَادِفْهُمَا كُتِبَ بِهِ الْحَسَنَاتُ فَيَكَادُ أَنْ يَكُونَ رَأْيًا فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ لِعَدَمِ مَنْ سَبَقَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ بَلْ الِاتِّفَاقُ عَلَى عَدَمِ مَكْفَرِيَّةِ الْكَبَائِرِ بِشَيْءٍ مِنْ الْحَسَنَاتِ وَكَذَا أَيْضًا فِي الْمَبَارِقِ فِي حَدِيثِ «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» .
قَالَ شَارِحُهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تُغْفَرُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي الْخُلُوِّ عَمَّا سِوَاهَا لَكِنْ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ أَنْ يَغْفِرَ مَظَالِمَ الْحُجَّاجِ وَجَدَّ فِيهِ حَتَّى يَسْتَجِيبَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ فَضَحِكَ مُسْتَبْشِرًا» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِي التَّشْبِيهِ فِي الْخُلُوِّ عَنْ كُلِّ الذُّنُوبِ انْتَهَى، وَكَذَا أَيْضًا مَا فِيهِ فِي حَدِيثِ «أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْإِسْلَامَ يَهْدِمُ» إلَى قَوْلِهِ وَأَنَّ «الْحَجَّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» رُوِيَ «عَنْهُ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَغْفِرَ ذُنُوبَ جَمِيعِ الْحُجَّاجِ وَقَالَ فِي دُعَائِهِ حَتَّى الدِّمَاءَ وَالْمَظَالِمَ وَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ» .
وَكَذَا قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ وَفِي الْخَبَرِ أَنَّهُ يُكَفِّرُ حَتَّى الدِّمَاءَ وَالْمَظَالِمَ وَأَخَذَ بِهِ جَمْعٌ عَلَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُنَاوِيِّ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَهُوَ يَشْمَلُ الْكَبَائِرَ وَالتَّبِعَاتِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ وَعِيَاضٌ لَكِنْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَهُوَ مَحْمُولٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَظَالِمِ عَلَى مَنْ تَابَ وَعَجَزَ عَنْ وَفَائِهَا وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ مَخْصُوصٌ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا الْعِبَادِ وَلَا يَسْقُطُ الْحَقُّ نَفْسُهُ بَلْ مَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ تَأْخِيرِهَا لَا نَفْسُهَا فَلَوْ أَخَّرَهَا بَعْدَهُ تَجَدَّدَ إثْمٌ آخَرُ انْتَهَى كَمَا سَمِعْت آنِفًا لَعَلَّ لَيْسَ مَعْنَى النَّصِّ
إذْهَابَ مُطْلَقِ الْحَسَنَةِ مُطْلَقَ السَّيِّئَةِ بَلْ لِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةٌ صَالِحَةٌ لِإِذْهَابِهَا كَقَضَاءِ الصَّلَاةِ مَثَلًا حَسَنَةٌ مُذْهِبَةٌ لِسَيِّئَةِ فَوْتِ الصَّلَاةِ وَكَذَا أَدَاءُ الدُّيُونِ وَهَكَذَا وَبِالْجُمْلَةِ يَعْمَلُ مَكَانَ السَّيِّئَةِ حَسَنَةٌ لَكِنْ مِنْ جِنْسِهَا وَقَضَائِهَا وَكَذَا فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَالْإِعْتَاقُ حَسَنَةٌ مَكَانَ الْقَتْلِ أَوْ حِنْثِ الْيَمِينِ وَالثَّنَاءُ وَالِاسْتِحْلَالُ حَسَنَةٌ فِي الْغِيبَةِ (وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ) قَالَ فِي الزَّيْنِيَّةِ التَّوْبَةُ مِنْ الذَّنْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى الْفَوْرِ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً فَتَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْ تَأْخِيرِ التَّوْبَةِ قَالَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبُ التَّوْبَةُ وَالنَّدَمُ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّفْكِيرِ بِحَسَنَةٍ تُضَادُّهَا فَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ نَفْسُهُ عَلَى الْعَزْمِ عَلَى التَّرْكِ فَقَدْ فَاتَهُ أَحَدُ الْوَاجِبَيْنِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفُوتَهُ الْوَاجِبُ الْآخَرُ وَهُوَ مَحْوُهَا بِالْحَسَنَةِ لِيَكُونَ مِمَّنْ خَلَطَ عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا وَتِلْكَ الْحَسَنَاتُ إمَّا بِالْقَلْبِ كَالتَّضَرُّعِ وَطَلَبِ الْعَفْوِ وَالتَّذَلُّلِ وَإِمَّا بِاللِّسَانِ كَالِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَإِمَّا بِالْجَوَارِحِ كَالطَّاعَاتِ وَالصَّدَقَاتِ.
وَفِي الْآثَارِ ثَمَانِيَةٌ يُرْجَى بِهَا الْعَفْوُ أَرْبَعَةٌ لِلْقَلْبِ التَّوْبَةُ وَالْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ وَحُبُّ الْإِقْلَاعِ عَنْهُ وَخَوْفُ الْعِقَابِ عَلَيْهِ وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْجَوَارِحِ وَهِيَ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِيبَ الذَّنْبِ رَكْعَتَيْنِ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى بَعْدَهُمَا سَبْعِينَ مَرَّةً وَيَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ ثُمَّ يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ثُمَّ يَصُومَ يَوْمًا كَمَا فِي الْمِفْتَاحِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ} [النور: 31] إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ لِلْفَوْرِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْفَوْرِ وَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ الْكَرْخِيِّ كَالشَّافِعِيِّ {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] الْآيَةَ) أَيْ التَّوْبَةَ الْبَالِغَةَ فِي النُّصْحِ وَقِيلَ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إلَى مَا تَابَ عَنْهُ أَبَدًا وَنُقِلَ عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ فِي التَّوْبَةِ النَّصُوحِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ قَوْلًا وَأَحْسَنُهَا مَا رَوَى أَبُو اللَّيْثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ أَنَّهَا النَّدَمُ بِالْقَلْبِ وَالِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ وَالْإِضْمَارُ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهِ أَبَدًا وَسُئِلَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَقَالَ تَجْمَعُهَا سِتَّةُ أَشْيَاءَ عَلَى الْمَاضِي مِنْ الذُّنُوبِ النَّدَامَةُ وَلِلْفَرَائِضِ الْإِعَادَةُ وَرَدُّ الْمَظَالِمِ وَاسْتِحْلَالُ الْخُصُومِ وَأَنْ تَعْزِمَ عَلَى أَنْ لَا تَعُودَ وَأَنْ تُذِيبَ نَفْسَك فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رَبَّيْتهَا فِي الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ تُذِيقَهَا مَرَارَةَ الطَّاعَةِ كَمَا أَذَقْتهَا حَلَاوَةَ الْمَعَاصِي {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة: 222] أَيْ كَثِيرِي التَّوْبَةِ كَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم «خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَتَنٍ تَوَّابٍ» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ مُمْتَحَنٍ يَمْتَحِنُهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالذَّنْبِ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يَعُودُ ثُمَّ يَتُوبُ. قَالَ بَعْضٌ رُبَّ ذَنْبٍ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْفَعَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الطَّاعَاتِ مِنْ وَجَلِهِ وَإِنَابَتِهِ فَيَكُونُ تَوَّابًا يَعْنِي كُلَّمَا تَكَرَّرَ الذَّنْبُ تَكَرَّرَتْ التَّوْبَةُ ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْمَعَاصِيَ إمَّا كُفْرٌ وَنِفَاقٌ وَارْتِدَادٌ فَتَوْبَتُهُ نِدَامٌ كَامِلٌ وَإِسْلَامٌ خَالِصٌ فَهَلْ يُثَابُ عَلَى حَسَنَاتِهِ حَالَ الْكُفْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ أَوْ لَا؟ قِيلَ نَعَمْ لَكِنْ بِلَا تَضْعِيفٍ بِعَشَرَةِ حَسَنَاتٍ وَقِيلَ لَا وَإِمَّا بِدْعَةٌ فِي الِاعْتِقَادِ فَتَوْبَتُهُ أَيْضًا نَدَمٌ كَامِلٌ وَاعْتِقَادُ حَقٍّ وَإِمَّا مَعَاصٍ فَرْعِيَّةٌ فَإِنْ بِتَرْكِ الْفَرَائِضِ كَالصَّلَاةِ فَفِيهِ مَعْصِيَتَانِ مَعْصِيَةُ التَّأَخُّرِ فَتَوْبَتُهُ نَدَمٌ كَامِلٌ وَمَعْصِيَةُ التَّرْكِ فَتَوْبَتُهُ قَضَاءٌ فَوْرًا فَتَأْخِيرُ الْقَضَاءِ أَيْضًا مَعْصِيَةٌ أُخْرَى فَيَتُوبُ لَهُ أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ وَقْتُهُ كَمَرَضِ مَوْتِهِ فَيُوصِي بِالْفِدْيَةِ.
وَأَمَّا الصَّلَاةُ الَّتِي أُدِّيَتْ بِالْكَرَاهِيَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ كَتَرْكِ تَعْدِيلِ الْأَرْكَانِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الْقَوْمَةِ وَالْجِلْسَةِ فَقَضَاؤُهَا لَيْسَ بِفَرْضٍ لَكِنْ وَاجِبٌ عَلَى مَا نَقَلَ الْمُصَنِّفُ فِي الْجَلَاءِ عَنْ الْهِدَايَةِ وَالْوَاقِعُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ مُعَدَّلِ الصَّلَاةِ لَهُ اللَّازِمُ هُوَ الْإِعَادَةُ فَلْيُتَأَمَّلْ وَكَذَا الصَّلَاةُ الَّتِي أَفْسَدَهَا وَلَوْ نَفْلًا ثُمَّ الزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالنُّذُورُ وَالضَّحَايَا فَتُقْضَى لَكِنْ بِلَا حِيلَةٍ إذْ الصَّحِيحُ أَنَّهَا مَكْرُوهَةٌ فَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ ثُمَّ الصَّوْمُ إنْ قَضَاءً فَقَطْ أَوْ مَعَ الْكَفَّارَةِ فَكَذَا ثُمَّ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْأَدَاءُ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَيُوصِي بِهِ وَإِنْ حَجَّ لِاحْتِمَالِ صُدُورِ الْكُفْرِ عَلَى مَا اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ لَكِنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ وَإِنْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْقُدْرَةِ فَعَلَيْهِ الْكَسْبُ أَوْ السُّؤَالُ لِلْحَجِّ وَإِنْ صَدَرَ عَنْهُ الْكُفْرُ اعْتِقَادًا أَوْ عَمَلًا أَوْ قَوْلًا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْحَجِّ دُونَ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَلَا تَجِبُ بَعْدَ الْكُفْرِ وَإِنْ بَطَلَ ثَوَابُهَا وَإِنْ كَانَتْ الْمَعَاصِي بِفِعْلِ الْمُنْهَيَاتِ فَإِنْ مِمَّا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا تَعَلُّقِ حَقِّ عَبْدٍ كَالْقُعُودِ فِي الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ جَنَابَةً وَكَلَامِ الدُّنْيَا وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ لِغَيْرِ الْمُعْتَكِفِ وَالْمُسَافِرِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ بِلَا وُضُوءٍ وَكَضَرْبِ الْمَلَاهِي وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا طَوْعًا فَيَتُوبُ تَوْبَةً نَصُوحًا بِلَا لُزُومِ أَنْ يَفْضَحَ نَفْسَهُ وَيَهْتِكَ وَيَلْتَمِسَ مِنْ الْوَالِي الِاسْتِيفَاءَ بَلْ يَسْتُرُ وَيُقِيمُ حُدُودَهُ تَعَالَى عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُجَاهَدَاتِ وَالضَّرَعَاتِ فِي الْخَلَوَاتِ سِيَّمَا الْأَسْحَارُ وَلَوْ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَى الْوَالِي لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَكَانَ أَفْضَلَ كَمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -.
وَإِنْ مِمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِتَعَلُّقِ حَقِّ الْحَيَوَانِ كَالْوَطْءِ وَالْقَتْلِ وَالضَّرْبِ بِلَا عُذْرٍ وَكَضَرْبِ وَجْهِهِ وَلَوْ بِعُذْرٍ وَالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ فَوْقَ الطَّاقَةِ وَعَدَمِ إعْطَاءِ الْعَلَفِ وَالْمَاءِ فَمُشْكِلٌ جِدًّا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالتَّضَرُّعُ وَالْبُكَاءُ وَإِنْ بِمَظْلِمَةِ الْعِبَادِ فَخَمْسَةٌ مَالِيٌّ وَنَفْسِيٌّ وَعِرْضِيٌّ وَمَحْرَمِيٌّ وَدِينِيٌّ فَالْمَالِيٌّ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَالْغَبْنِ وَتَرْوِيجِ زَيْفٍ وَإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْيَدِ أَوْ بِشَهَادَةِ الزُّورِ أَوْ بِالْغَمْزِ إلَى الظَّالِمِ أَوْ بِالْحُكْمِ جَوْرًا أَوْ بِالرِّشْوَةِ وَغَيْرِهَا فَيَتُوبُ ثُمَّ يَسْتَحِلُّ وَلَوْ حَبَّةً أَوْ ذَرَّةً وَإِنْ صَدَرَ حَالَ الصِّبَا إذْ الْغَرَامَاتُ الْمَالِيَّةُ لَازِمَةٌ عَلَى الصَّبِيِّ فَإِنْ لَمْ يَسْتَرْضِهِ فِي الدُّنْيَا فَسَيُعْطِهِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنْ مَاتَ الْمَالِكُ فَلْيُعْطِهِ إلَى وَارِثِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْمَالِكُ فَلْيُعْطِهِ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ وَدِيعَةٍ عِنْدَهُ تَعَالَى وَيُوصِلْهَا إلَى صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَوْ يَصْرِفُهُ إلَى الْمَصَالِحِ نَحْوُ الْقَنَاطِرِ وَلَوْ صَرَفَ إلَى فُقَرَاءِ الْوَالِدَيْنِ أَوْ الْمَوْلُودِينَ لَكَانَ مَعْذُورًا كَمَا قِيلَ وَإِنْ عَجَزَ فَبِمَشِيئَةِ اللَّه تَعَالَى إنْ شَاءَ يُعْطِي مِنْ حَسَنَاتِهِ أَوْ يَحْمِلُ سَيِّئَاتِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ يُرْضِيهِ عَنْهُ وَأَمَّا حَقُّ الْكَافِرِ إنْ لَمْ يُسْتَرْضَ فَمُشْكِلٌ جِدًّا قِيلَ يَجُوزُ إرْضَاؤُهُ تَعَالَى بِتَخْفِيفِ عَذَابِهِ وَأَمَّا النَّفْسِيُّ فَإِنْ مِمَّا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي النَّفْسِ أَوْ فِي الْإِفْرَاطِ فَيَتُوبُ أَوَّلًا وَيُسَلِّمُ نَفْسَهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ثَانِيًا إنْ شَاءَ عَفَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ حَقَّهُ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى مَالٍ وَإِنْ مِمَّا يُوجِبُ الدِّيَةَ فَيَتُوبُ وَيُعْطِي أَيْضًا أَوْ يَسْتَحِلُّ وَأَمَّا الْعَرْضِيُّ كَالْغِيبَةِ وَالْبُهْتَانِ وَالِاسْتِهْزَاءِ وَالشَّتْمِ فَالتَّوْبَةُ وَالِاسْتِحْلَالُ وَشُرِطَ فِي الْبُهْتَانِ تَكْذِيبُ نَفْسِهِ عِنْدَ مَنْ بَهَتَهُ عِنْدَهُمْ وَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِحْلَالُ بِالْوَارِثِ فِي هَذَا النَّوْعِ.
وَأَمَّا الْمَحْرَمِيُّ كَالْخِيَانَةِ لِأَهْلِ الْغَيْرِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَتُوبُ وَيَسْتَحِلُّ وَإِنْ خَافَ تَهَيُّجَ فِتْنَةٍ فَيَضْرَعُ وَيَبْكِي وَيَدْعُو لِصَاحِبِ الْحَقِّ وَيَتَصَدَّقُ لَهُ وَأَمَّا الدِّينِيُّ كَالتَّكْفِيرِ وَالتَّفْسِيقِ فَيَتُوبُ وَيَسْتَرْضِي وَيُكَذِّبُ نَفْسَهُ كَمَا مَرَّ وَاعْلَمْ أَنَّ فِيمَا ذُكِرَ كُلُّهُ إنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحُقُوقِ يَقِينًا فَيَعْمَلُ بِغَلَبَةِ ظَنِّهِ مِنْ أَوَانِ الْبُلُوغِ أَوْ أَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ إلَى أَوَانِ التَّوْبَةِ ثُمَّ الِاسْتِحْلَالُ الْمُبْهَمُ لَا يَكْفِي عِنْدَ الْغَزَالِيِّ وَيَكْفِي عَلَى الْأَصَحِّ عَلَى مَا فِي الْفَتَاوَى وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ حَلِّلْنِي مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَك عَلَيَّ فَأَبْرَأَهُ فَإِنْ عَلِمَهُ صَاحِبُ الْحَقِّ بَرِئَ مُطْلَقًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِلَّا فَبَرِئَ قَضَاءً إجْمَاعًا.
وَأَمَّا دِيَانَةً فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْرَأُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَبْرَأُ وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى وَلِهَذَا قِيلَ الِاسْتِحْلَالُ الْمُبْهَمُ مِنْ خَوَاصِّ هَذِهِ الْأَمَةِ قَالَ رَجُلٌ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَدْيُونُ أَبْرِئْنِي مِمَّا عَلَيَّ فَقَالَ أَبْرَأْتُك قَالَ النَّضْرُ لَا يَبْرَأُ إلَّا مِقْدَارَ مَا يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ لَهُ عَلَيْهِ وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يَبْرَأُ مِنْ الْكُلِّ وَعَنْ أَبِي اللَّيْثِ مَا قَالَهُ النَّضْرُ حُكْمُ الْآخِرَةِ وَمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ حُكْمُ الْقَضَاءِ قَالَ أَبْرَأْت جَمِيعَ غُرَمَائِي أَوْ كُلَّ غَرِيمٍ لِي فَهُوَ حِلٌّ أَوْ لَيْسَ لِي بِالدَّيْنِ شَيْءٌ لَا يَبْرَأُ وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يَبْرَأُ وَتَمَامُ ذَلِكَ قُبَيْلَ الثُّلُثَيْنِ مِنْ كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ لِلتَّتَارْخَانِيَّةِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ هُوَ الْإِبْرَاءُ لَا سِيَّمَا الْمُعْسِرَةُ.
وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ لَهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ» (هق. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ» فِي مُجَرَّدِ الْخُلُوِّ عَنْ الْإِثْمِ لَا فِي الْمَرْتَبَةِ وَلَكِنْ فِي الزَّيْنِيَّةِ عَنْ جَابِرٍ التَّائِبُ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهِيدِ
(وَالْمُسْتَغْفِرُ مِنْ الذَّنْبِ وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهِ) بِعَدَمِ النَّدَمِ (كَالْمُسْتَهْزِئِ بِرَبِّهِ) لِأَنَّهُ كَذَبَ فَمُحْتَاجٌ إلَى تَوْبَةٍ أُخْرَى.
قَالَ ذُو النُّونِ الِاسْتِغْفَارُ مِنْ غَيْرِ إقْلَاعٍ تَوْبَةٌ الْكَذَّابِينَ فَمَنْ قَالَ بِلِسَانِهِ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَقَلْبُهُ مُصِرٌّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسْتِغْفَارُهُ يَحْتَاجُ إلَى اسْتِغْفَارٍ آخَرَ - لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك سَرِيعًا قَالَ يَا هَذَا إنَّ سُرْعَةَ اللِّسَانِ بِالِاسْتِغْفَارِ تَوْبَةُ الْكَذَّابِينَ فَلْيُتَأَمَّلْ (حب عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ) وَصْفُهُ (أَنَّهُ قَالَ قُلْت لِأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» قَالَ) أَيْ أَنَسٌ (نَعَمْ) قِيلَ مِنْ قَبِيلِ «الْحَجُّ عَرَفَةَ» أَيْ مُعْظَمُ أَرْكَانِهَا النَّدَمُ وَقِيلَ يَكْفِي النَّدَمُ الْمُجَرَّدُ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ (حك. عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -)
وَعَنْ أَبَوَيْهَا
(عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنْ عَبْدٍ نَدَامَةً عَلَى ذَنْبٍ إلَّا غَفَرَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَغْفِرَهُ مِنْهُ» بِاللِّسَانِ أَوْ مُطْلَقًا كَمَا مَرَّ آنِفًا (مج عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُ قَالَ «لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى يَبْلُغَ السَّمَاءَ» مِنْ الْكَثْرَةِ وَالْعَظَمَةِ «ثُمَّ تُبْتُمْ لَتَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ» لَعَلَّ هَذَا مُخْتَصٌّ بِمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ اللَّهِ وَغَيْرِ الْكُفْرِ لِمَا فِي الزَّيْنِيَّةِ عَنْ سَلْمَانَ وَأَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - ذَنْبٌ لَا يُغْفَرُ وَذَنْبٌ لَا يُتْرَكُ وَذَنْبٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ فَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ فَمَظَالِمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاَللَّهِ عز وجل وَأَمَّا الذَّنْبُ الَّذِي يُغْفَرُ فَذَنْبُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْت لَك عَلَى مَا كَانَ مِنْك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُك عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْت لَك وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَنَّك لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُك بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً» وَعَنْ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ فِي الْأَرْضِ أَمَانَانِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَرَفَعَ أَحَدَهُمَا فَدُونَكُمْ الْآخَرُ فَتَمَسَّكُوا بِهِ» أَمَّا الْمَرْفُوعُ فَرَسُولُ اللَّهِ عليه الصلاة والسلام وَالْبَاقِي مِنْهُمَا فَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33]
(وَأَمَّا كَيْفِيَّةٌ خُرُوجِ التَّائِبِ عَنْ تَبِعَاتِ الذُّنُوبِ وَالْمَظَالِمِ فَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي جِلَاءِ الْقُلُوبِ) أَقُولُ قَدْ لَخَّصْنَا مَا فِيهِ مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ آنِفًا (وَلْنَذْكُرْ جُمْلَةَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ الْمَزْبُورَةِ وَالرَّذَائِلَ الرَّدِيئَةَ الْمَذْكُورَةَ لِيَسْهُلَ حِفْظُهَا لِلطَّالِبِ كُفْرٌ بِدْعَةٌ رِيَاءٌ كِبْرٌ عُجْبٌ حَسَدٌ بُخْلٌ إسْرَافٌ جَهْلٌ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ سَخَطُ الْقَضَاءِ جَزَعٌ أَمْنٌ يَأْسٌ حُبُّ الظَّلَمَةِ بُغْضُ الصَّالِحِينَ تَعْلِيقُ قَلْبٍ بِأَسْبَابٍ حُبُّ جَاهٍ خَوْفُ ذَمٍّ حُبُّ مَدْحٍ اتِّبَاعُ هَوًى تَقْلِيدٌ طُولُ أَمَلٍ طَمَعٌ تَذَلُّلٌ حِقْدٌ شَمَاتَةٌ عَدَاوَةٌ وَجُبْنٌ تَهَوُّرٌ غَدْرٌ خِيَانَةٌ، خُلْفُ وَعْدٍ، سُوءُ ظَنٍّ طِيَرَةٌ حُبُّ مَالٍ حُبُّ دُنْيَا حِرْصٌ سَفَهٌ بَطَالَةٌ عَجَلَةٌ تَسْوِيفُ عَمَلٍ فَظَاظَةٌ وَقَاحَةٌ حُزْنٌ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا خَوْفٌ فِيهِ، غِشٌّ فِتْنَةٌ مُدَاهَنَةٌ أُنْسٌ بِمَخْلُوقٍ خِفَّةٌ عِنَادٌ تَمَرُّدٌ صَلَفٌ نِفَاقٌ جَرْبَزَةٌ غَبَاوَةٌ شَرَهٌ خُمُودٌ إصْرَارٌ
وَمِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ ضِمْنًا وَتَبَعًا الِاسْتِقَامَةُ وَهِيَ الْوَفَاءُ بِالْعُهُودِ كُلِّهَا) أَيْ عُهُودِ اللَّهِ وَعُهُودِ النَّاسِ (وَمُلَازَمَةُ الْعَدْلِ وَالتَّوَسُّطُ فِي كُلِّ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وَهُوَ أَصْعَبُ الْأُمُورِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَنَّ أَبَا عَلِيٍّ السُّلَمِيُّ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَنَامِ فَقَالَ رُوِيَ عَنْك شَيَّبَتْنِي هُودٌ فَمَا الَّذِي شَيَّبَك مِنْهَا أَقَصَصُ الْأَنْبِيَاءِ وَهَلَاكُ الْأُمَمِ فَقَالَ لَا وَلَكِنْ قَوْلُهُ {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] .
وَعَنْ الْمَطَالِعِ عَنْ الْحُكَمَاءِ هِيَ خَمْسَةٌ اسْتِقَامَةُ اللِّسَانِ عَلَى الذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ وَاسْتِقَامَةُ النَّفْسِ عَلَى الطَّاعَةِ مَعَ الْحَيَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الْقَلْبِ عَلَى الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَاسْتِقَامَةُ الرُّوحِ عَلَى الصِّدْقِ وَالصَّفَاءِ وَاسْتِقَامَةُ السِّرِّ عَلَى التَّعْظِيمِ وَالْوَفَاءِ وَقَدْ عَرَفْت تَمَامَهَا فِيمَا مَرَّ (وَ) مِنْهَا (الْأَدَبُ وَهُوَ حِفْظُ الْحَدِّ بَيْنَ الْغُلُوِّ) مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ الْوَسَطِ (وَالْجَفَاءِ) بِتَفْرِيطِ حَدٍّ (بِمَعْرِفَةِ ضَرَرِ التَّعَدِّي) قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي حَدِيثٍ «أَدَّبَنِي رَبِّي» أَيْ عَلَّمَنِي رِيَاضَةَ النَّفْسِ وَمَحَاسِنَ الْأَخْلَاقِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَالْأَدَبُ مَا يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَسَنَةِ وَالْعُلُومِ الْمُكْتَسَبَةِ «فَأَحْسَنَ تَأْدِيبِي» بِأَفْضَالِهِ عَلَيَّ بِالْعُلُومِ الْوَهْبِيَّةِ مِمَّا لَمْ يُعْطَ لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ قَالَ بَعْضُهُمْ أَدَّبَهُ بِآدَابِ الْعُبُودِيَّةِ وَهَذَّبَهُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الرَّبَّانِيَّةِ قَالُوا الْآدَابُ صُورَةُ الْعَقْلِ فَصَوِّرْ عَقْلَك كَيْفَ شِئْت وَالْفَضْلُ بِالْعَقْلِ وَالْأَدَبِ لَا بِالْأَصْلِ وَالنَّسَبِ لِأَنَّ مَنْ أَسَاءَ أَدَبَهُ أَضَاعَ نَسَبَهُ وَمَنْ ضَلَّ عَقْلُهُ ضَلَّ أَصْلُهُ وَحُسْنُ الْأَدَبِ يَسْتُرُ قَبِيحَ النَّسَبِ وَفِي الْعَوَارِفِ بِالْأَدَبِ يُفْهَمُ الْعِلْمُ وَبِالْعِلْمِ يَصْلُحُ الْعَمَلُ وَبِالْعَمَلِ تَنَالُ رِضَا رَبِّك وَلَمَّا وَرَدَ.
أَبُو حَفْصٍ النَّيْسَابُورِيُّ الْعِرَاقِيُّ جَاءَهُ الْجُنَيْدُ فَرَأَى أَصْحَابَهُ وُقُوفًا عَلَى رَأْسِهِ يَأْتَمِرُونَ بِأَمْرِهِ. قَالَ أَدَّبْتَ أَصْحَابَكَ أَدَبَ الْمُلُوكِ قَالَ لَا وَلَكِنْ حُسْنُ الْأَدَبِ فِي الظَّاهِرِ عُنْوَانُ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الْبَاطِنِ وَقَالَ الْعَارِفُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مَدَدْت رِجْلِي تُجَاهَ الْكَعْبَةِ فَجَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ الْعَارِفَاتِ فَقَالَتْ إنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تُجَالِسْ إلَّا بِأَدَبٍ وَإِلَّا مُحِيَ اسْمُك مِنْ دِيوَانِ الْقُرْبِ وَقَالَ السَّقَطِيُّ مَدَدْت رِجْلِي لَيْلَةً فِي الْمِحْرَابِ فَنُودِيت مَا هَكَذَا تُجَالِسُ الْمُلُوكَ فَقُلْت وَعِزَّتِك لَا مَدَدْتُهَا أَبَدًا فَلَمْ يَمُدَّهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا وَقِيلَ الْأَدَبُ اسْتِعْمَالُ مَا يُحْمَدُ قَوْلًا وَفِعْلًا وَقِيلَ الْأَخْذُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَقِيلَ الْوُقُوفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا أَدِّبُوا أَوْلَادَكُمْ عَلَى ثَلَاثِ خِصَالٍ حُبُّ نَبِيِّكُمْ بِنَحْوِ أَنَّهُ بُعِثَ بِمَكَّةَ إلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ وَأَنَّهُ وَاجِبُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَحُبُّ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ وَابْنَيْهِمَا أَوْ مُؤْمِنِي بَنِي هَاشِمٍ، وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فَإِنَّ حَمَلَةَ الْقُرْآنِ أَيْ حَفَظَتَهُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ الْمُدَاوِمِينَ لِتِلَاوَتِهِ الْعَامِلِينَ بِأَحْكَامِهِ يَكُونُونَ فِي ظِلِّ اللَّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ مَعَ أَنْبِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ الْأَدَبُ الْوَقْفُ مَعَ الْمُسْتَحْسَنَاتِ بِمَعْنَى أَنْ تُعَامِلَ اللَّهَ بِالْأَدَبِ سِرًّا وَعَلَنًا إنْ كُنْت أَدِيبًا وَإِنْ كُنْت أَعْجَمِيًّا وَعَنْ الْجَرِيرِيِّ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا مَدَدْت رِجْلِي وَقْتَ جُلُوسِي فِي الْخَلْوَةِ فَإِنَّ الْأَدَبَ مَعَ اللَّهِ أَوْلَى وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ إذَا تَرَكَ الْعَارِفُ أَدَبَهُ مَعَ مَعْرِفَتِهِ فَقَدْ هَلَكَ مَعَ الْهَالِكِينَ وَعَنْ أَبِي عَلِيٍّ مَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبِسَاطِ رُدَّ إلَى الْبَابِ وَمَنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ عَلَى الْبَابِ رُدَّ إلَى سِيَاسَةِ الدَّوَابِّ وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ مَنْ تَأَدَّبَ بِأَدَبِ اللَّهِ تَعَالَى صَارَ مِنْ أَهْلِ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ نَحْنُ إلَى قَلِيلٍ مِنْ الْأَدَبِ أَحْوَجُ مِنَّا إلَى كَثِيرٍ مِنْ الْعِلْمِ قِيلَ مَدَّ ابْنُ عَطَاءٍ يَوْمًا رِجْلَهُ بَيْنَ أَصْحَابِهِ وَقَالَ تَرْكُ الْأَدَبِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَحَبَّةِ أَدَبٌ وَعَنْ الْجُنَيْدِ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ سَقَطَتْ شُرُوطُ الْأَدَبِ وَعَنْ أَبِي عُثْمَانَ إذَا صَحَّتْ الْمَحَبَّةُ تَأَكَّدَتْ عَلَى الْمُحِبِّ مُلَازَمَةُ الْأَدَبِ وَعَنْ الثَّوْرِيِّ مَنْ لَمْ يَتَأَدَّبْ لِلْوَقْتِ فَوَقْتُهُ مَقْتٌ وَعَنْ أَبِي نَصْرٍ الْأَدَبُ ثَلَاثَةٌ أَدَبُ أَهْلِ الدُّنْيَا فِي نَحْوِ الْفَصَاحَةِ وَحِفْظِ الْعُلُومِ وَأَسْمَارِ الْمُلُوكِ وَأَشْعَارِ الْعَرَبِ وَأَدَبُ أَهْلِ الدِّينِ فِي نَحْوِ رِيَاضَةِ النُّفُوسِ وَتَأَدُّبِ الْجَوَارِحِ وَحِفْظِ الْحُدُودِ وَتَرْكُ الشَّهَوَاتِ وَأَدَبُ أَهْلِ الْخُصُوصِ فِي نَحْوِ طَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَمُرَاعَاةِ الْأَسْرَارِ وَالْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَحِفْظِ الْوَقْتِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى الْخَوَاطِرِ وَحُسْنِ الْأَدَبِ فِي مَوَاقِفِ الطَّلَبِ وَأَوْقَاتِ الْحُضُورِ وَمَقَامَاتِ الْقُرْبِ انْتَهَى كَلَامُ الْقُشَيْرِيَّةِ
(وَ) مِنْهَا (الْفِرَاسَةُ وَهِيَ خَاطِرٌ يَنْشَأُ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ يَهْجُمُ عَلَى الْقَلْبِ فَيَنْفِي مَا يُضَادُّهُ قَشّ) الْقُشَيْرِيُّ (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ الْفِرَاسَةُ الِاطِّلَاعُ عَلَى مَا فِي الضَّمَائِرِ وَقِيلَ مُكَاشَفَةُ الْيَقِينِ وَمُعَايَنَةُ الْغَيْبِ وَقِيلَ سَوَاطِعُ أَنْوَارٍ تَلْمَعُ فِي الْقَلْبِ تُدْرَكُ بِهَا الْمَعَانِي وَقَالَ الرَّاغِبُ الِاسْتِدْلَال بِهَيْئَاتِ الْإِنْسَانِ وَأَشْكَالِهِ وَأَلْوَانِهِ وَأَقْوَالِهِ عَلَى أَخْلَاقِهِ وَفَضَائِلِهِ وَرَذَائِلِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى - {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75]- {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273]- وَذَلِكَ ضَرْبَانِ مَا يَحْصُلُ عَنْ خَاطِرٍ لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَهُوَ مِنْ الْإِلْهَامِ وَمَا يَحْصُلُ بِإِلْهَامٍ حَالَ الْيَقَظَةِ أَوْ الْمَنَامِ وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ «فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل» أَيْ يُبْصِرُ بِعَيْنِ قَلْبِهِ الْمُشْرِقِ بِنُورِهِ تَعَالَى وَبِاسْتِنَارَةِ الْقَلْبِ تَصِحُّ الْفِرَاسَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَكَفَّ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِالْمُرَاقَبَةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ اطِّلَاعُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى بَعْضِ الْغُيُوبِ جَائِزٌ انْتَهَى وَمِنْ ثَمَّةَ شَرَطُوا لِحُصُولِ النُّورِ الْغَضَّ عَنْ نَظَرِ الْمَحَارِمِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أَطْلَقَ نَظَرَهُ تَنَفَّسَتْ نَفْسُهُ الصُّعَدَاءَ فِي مِرْآةِ قَلْبِهِ فَطَمَسَتْ نُورَهَا - {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]- قَالَ عَلِيٌّ لِأَهْلِ الْكُوفَةِ يَتَرَدَّدُ بِكُمْ أَهْلُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ فَيَسْتَغِيثُونَ بِكُمْ فَلَا يُغَاثُونَ فَكَانَ مِنْهُمْ فِي شَأْنِ الْحُسَيْنِ مَا كَانَ ثُمَّ قِيلَ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مُصْعَبُ بْنُ سَلَّامٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ ابْنِ حِبَّانَ كَثِيرُ الْغَلَطِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ الْكُلُّ مِنْ الْفَيْضِ وَقَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ كَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الْمُنَاوِيُّ مَرِيضًا فَعَادَهُ الْبُوشَنْجِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْحَدَّادُ وَاشْتَرَيَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ تُفَّاحًا نَسِيئَةً وَحَمَلَاهُ فَلَمَّا قَعَدَا قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ مَا هَذِهِ الظُّلْمَةُ فَخَرَجَا فَقَالَا أَيُّ شَيْءٍ فَعَلْنَا فَتَفَكَّرَا فَقَالَا لَعَلَّنَا لَمْ نُؤَدِّ ثَمَنَ التُّفَّاحِ فَأَعْطَيَا الثَّمَنَ وَعَادَا إلَيْهِ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِمَا قَالَ أَيُمْكِنُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الظُّلْمَةِ بِهَذِهِ السُّرْعَةِ أَخْبِرَانِي عَنْ شَأْنِكُمَا فَذَكَرَا لَهُ الْقِصَّةَ فَقَالَ نَعَمْ كَانَ يَعْتَمِدُ كُلٌّ فِي إعْطَاءِ الثَّمَنِ عَلَى صَاحِبِهِ وَالرَّجُلُ يَسْتَحْيِ مِنْكُمَا فِي التَّقَاضِي فَكَانَ تَبَعَةً وَأَنَا السَّبَبُ وَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ مِنْكُمَا وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ هَذَا يَدْخُلُ السُّوقَ كُلَّ يَوْمٍ يُنَادِي فَإِذَا وَقَعَ بِيَدِهِ مَا فِيهِ كِفَايَتُهُ مِنْ دَانِقٍ إلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ خَرَجَ وَعَادَ إلَى رَأْسِ وَقْتِهِ وَمُرَاعَاةِ قَلْبِهِ وَكَانَ شَاهْ الْكَرْمَانِيّ حَادَّ الْفِرَاسَةِ لَا تُخْطِئُ فِرَاسَتُهُ وَيَقُولُ مَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ الْمَحَارِمِ وَأَمْسَكَ نَفْسَهُ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَعَمَّرَ بَاطِنَهُ بِدَوَامِ الْمُرَاقَبَةِ وَظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ وَتَعَوَّدَ أَكْلَ الْحَلَالِ لَمْ تُخْطِئْ فِرَاسَتُهُ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ عَاصِمٍ إذَا جَالَسْتُمْ أَهْلَ الصِّدْقِ فَجَالِسُوا بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُمْ جَوَاسِيسُ الْقُلُوبِ يَدْخُلُونَ فِي قُلُوبِكُمْ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَأَنْتُمْ لَا تُحِسُّونَ وَقَالَ أَبُو حَفْصٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدَّعِيَ الْفِرَاسَةَ وَلَكِنْ يَتَّقِيَ الْفِرَاسَةَ مِنْ الْغَيْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ» وَلَمْ يَقُلْ تَفَرَّسُوا وَكَيْفَ يَصِحُّ دَعْوَى الْفِرَاسَةِ لِمَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ اتِّقَاءِ الْفِرَاسَةِ.
وَعَنْ الزُّبَيْرِيِّ قَالَ كُنْت فِي مَسْجِدٍ بِبَغْدَادَ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ الْفُقَرَاءِ فَلَمْ يُفْتَحْ عَلَيَّ بِشَيْءٍ أَيَّامًا فَأَتَيْت الْخَوَاصَّ لِأَسْأَلَهُ شَيْئًا فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيَّ قَالَ الْحَاجَةُ الَّتِي جِئْت لِأَجْلِهَا يَعْلَمُهَا اللَّهُ أَمْ لَا فَقُلْت بَلَى فَقَالَ اُسْكُتْ وَلَا تُبْدِهَا لِمَخْلُوقٍ فَرَجَعْت فَلَمْ أَلْبَثْ إلَّا قَلِيلًا حَتَّى فُتِحَ عَلَيْنَا بِمَا فَوْقَ الْكِفَايَةِ الْكُلُّ مِنْ الْقُشَيْرِيَّةِ (وَ) مِنْهَا (التَّفَكُّرُ فِي نَفْسِهِ هَلْ هِيَ مُتَّصِفَةٌ بِمَعْصِيَةٍ فَيَتُوبُ عَنْهَا أَوْ مُتَعَرِّضَةٌ لَهَا فَيَحْتَرِزُ أَوْ لَا) اتِّصَافٌ بِهَا (فَيَشْكُرُ اللَّهَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَفِي الطَّاعَاتِ) هَلْ تَرَكَ أَوْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهَا أَمْ لَا (لِيَتَدَارَكَ مَا فَاتَ مِنْهَا) وَمَا اخْتَلَّ (وَيَحْتَرِزَ عَنْ تَرْكِهَا وَيَشْكُرَ عَلَى تَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا حَصَلَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الطَّاعَاتِ وَبِالْجُمْلَةِ التَّفَكُّرُ إمَّا فِي الْمَعَاصِي فَيُحَاسِبُهَا صَبِيحَةَ كُلِّ يَوْمٍ مَثَلًا الْأَعْضَاءُ السَّبْعَةُ بَلْ جَمِيعُ بَدَنِهِ فَإِنْ مُلَابِسًا بِمَعْصِيَةِ فِي الْحَالِ يَتْرُكُهَا أَوْ فِي الْأَمْسِ فَيَتْرُكُ وَيَنْدَمُ وَإِنْ فِي نِيَّتِهِ التَّعَرُّضُ فِي نَهَارِهِ فَيَسْتَعِدُّ بِالِاحْتِرَازِ وَالتَّبَاعُدِ فَيُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ عُضْوٍ عَلَى الِانْفِرَادِ وَإِمَّا فِي الطَّاعَاتِ فَيَنْظُرُ أَوَّلًا فِي الْفَرَائِضِ كَيْفَ أَكْمَلَهَا أَوْ جَبَرَ
نُقْصَانَهَا بِالنَّوَافِلِ ثُمَّ يُفَتِّشُ كُلَّ عُضْوٍ فِي صَرْفِهِ فِيمَا يُحِبُّهُ اللَّهُ.
وَأَمَّا فِي الصِّفَاتِ الْمُهْلِكَةِ الَّتِي مَحِلُّهَا الْقَلْبُ مِنْ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ وَالْبُخْلِ وَالْكِبْرِ وَنَحْوِهَا فَيَتَأَمَّلْ مَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ فَيَمْتَحِنُ قَلْبَهُ وَيَسْتَشْهِدُ بِالْعَلَامَاتِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى ادِّعَاءِ النَّفْسِ التَّنَزُّهَ عَنْهَا ثُمَّ يُبَاشِرُ عِلَاجَهُ بِمَا مَرَّ وَأَمَّا فِي الْمُنْجِيَاتِ مِنْ نَحْوِ التَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالصَّبْرِ وَالشُّكْرِ وَلْيَتَفَكَّرْ كُلَّ يَوْمٍ فِي قَلْبِهِ وَمَا الَّذِي يَفُوزُ بِهِ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الْمُقَرِّبَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا افْتَقَرَ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا فَلْيَعْلَمْ أَنَّهَا أَحْوَالٌ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا عُلُومٌ وَأَنَّ الْعُلُومَ لَا يُثْمِرُهَا إلَّا الْأَفْكَارُ وَأَنْفَعُ الْأُمُورِ فِي هَذَا تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ بِالتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَيُرَدِّدُ الْآيَةَ الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَى التَّفَكُّرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَيَتَوَقَّفُ فِي التَّأَمُّلِ وَلَوْ لَيْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ كَلِمَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَسْرَارًا لَا تُحْصَى وَكَذَلِكَ الْأَحَادِيثُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مِنْ كَلِمَاتِهِ بَحْرٌ مِنْ بِحَارِ الْحِكْمَةِ وَلَوْ تَأَمَّلَهُ الْعَالِمُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَنْقَطِعْ فِيهِ نَظَرُهُ طُولَ عُمْرِهِ فَهَذَا هُوَ طَرِيقُ التَّفَكُّرِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ مُسْتَغْرِقَ الْوَقْتِ فِي هَذِهِ الْأَفْكَارِ حَتَّى يَصِلَ إلَى الْمَقَامَاتِ الشَّرِيفَةِ فَهَذَا التَّفَكُّرُ مَعَ كَوْنِهِ أَفْضَلَ مِنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ لَيْسَ غَايَةَ الْمَطْلَبِ بَلْ مَحْجُوبٌ عَنْ مَطْلَبِ الصِّدِّيقِينَ مِنْ التَّفَكُّرِ فِي جَلَالِ اللَّهِ وَجَمَالِهِ وَاسْتِغْرَاقِهِ فِيهِ بِحَيْثُ يَفْنَى عَنْ نَفْسِهِ وَالْفَنَاءُ فِي الْوَاحِدِ الْحَقِّ غَايَةُ الْمَقَاصِدِ وَعِمَارَةُ الْبَاطِنِ وَبِالْجُمْلَةِ تَعْمِيرُ الظَّاهِرِ بِالْعِبَادَاتِ لَا يُثْمِرُ إلَّا الْجَنَّةَ دُونَ الْمُجَالَسَةِ وَتَعْمِيرُ الْبَاطِنِ بِالْمُنْجِيَاتِ يُثْمِرُ الِاسْتِعْدَادَ لِلِّقَاءِ كَذَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ.
(وَ) التَّفَكُّرُ (فِي خَلْقِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ فِي الْأَنْفُسِ) أَيْ فِي الذَّوَاتِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي الْعَالَمِ مَوْجُودٌ مِثَالُهُ فِي الْإِنْسَانِ كَمَا قِيلَ
وَتَحْسِبُ أَنَّك جِرْمٌ صَغِيرٌ
…
وَفِيك انْطَوَى الْعَالَمُ الْأَكْبَرُ
وَلِذَا يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ إنَّهُ الْعَالَمُ الْأَصْغَرُ وَقِيلَ وَلْنَضْرِبْ لَك مِثَالًا مِنْ أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ لِتَقِيسَ سَائِرَهَا عَلَيْك وَهِيَ أَنَّ نَفْسَك مَخْلُوقَةٌ مِنْ نُطْفَةٍ قَذِرَةٍ أَخْرَجَهَا تَعَالَى مِنْ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ وَلِإِخْرَاجِهَا مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ إلَى رَحِمِ الْمَرْأَةِ أَلْقَى الْأُلْفَةَ وَالْمَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَقَادَهُمَا بِسِلْسِلَةِ الشَّهْوَةِ إلَى الِاجْتِمَاعِ ثُمَّ الْخَلْقُ مِنْ النُّطْفَةِ عَلَقَةً بَيْضَاءَ مُشْرِقَةً ثُمَّ جَعَلَهَا مُضْغَةً ثُمَّ مَعَ تَشَابُهِ أَجْزَائِهَا قَسَّمَهَا إلَى الْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ وَالْآثَارِ وَاللَّحْمِ ثُمَّ قَدَّرَ مِنْهَا الرَّأْسَ وَشَقَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْأَنْفَ وَالْفَمَ ثُمَّ مَدَّ الْيَدَ وَالرِّجْلَ وَقَسَّمَ رُءُوسَهُمَا بِالْأَنَامِلِ وَوَضَعَ فِيهَا الْأَظْفَارَ ثُمَّ الْبَاطِنَةَ مِنْ الْقَلْبِ وَالْمَعِدَةَ وَالطِّحَالَ وَالرِّئَةَ وَالْمَثَانَةَ وَالرَّحِمَ وَالْأَمْعَاءَ كُلٌّ عَلَى شَكْلٍ مَخْصُوصٍ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ بِحَيْثُ لَوْ ذَهَبْنَا إلَى تَفْصِيلِهَا لَعَيِيَتْ الْقُوَى وَتَحَيَّرَتْ النُّهَى مَثَلًا كَيْفِيَّةُ إبْصَارِ الْعَيْنِ وَالسَّمْعِ وَالذَّوْقِ لَدَهَشْت مِنْ عَجَائِبِهَا الْعُقُولُ فَانْظُرْ إلَى الْحَدَقَةِ وَهِيَ مِقْدَارُ عَدَسَةٍ كَيْفَ تُحِيطُ بِنِصْفِ السَّمَاءِ دَفْعَةً مَعَ عِظَمِهَا وَانْظُرْ إلَى السَّمْعِ كَيْفَ يُدْرِكُ الْأَصْوَاتَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَثَلًا مَجْمُوعُ عِظَامِ الْبَدَنِ مِائَتَانِ وَثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ عَظْمًا سِوَى صِغَارِهَا وَلَوْ تَكَلَّمْنَا فِي كُلٍّ مِنْهَا لَمْ نَقْضِ مِنْ حِكْمَةِ كُلٍّ مِنْهَا عُشْرَ أَعْشَارِهَا فَضْلًا عَنْ سَائِرِهَا عَلَى نَظَرِ أَهْلِ الْبَصَائِرِ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا عَلَى جَلَالَةِ خَلْقِهَا فَسُبْحَانَهُ مَا أَعْظَمَ شَأْنَهُ وَأَظْهَرَ بُرْهَانَهُ فَهَذِهِ عَجَائِبُ بَدَنِك الَّتِي لَا يُمْكِنُ اسْتِقْصَاؤُهَا وَأَنْتَ غَافِلٌ عَنْهَا مَشْغُولٌ بِبَطْنِك وَفَرْجِك لَا تَعْرِفُ مِنْ نَفْسِك إلَّا أَنْ تَجُوعَ فَتَأْكُلَ وَتَشْبَعَ فَتَنَامَ وَتَشْتَهِيَ فَتُجَامِعَ وَتَغْضَبَ فَتُقَاتِلَ وَيُشَارِكُك فِي ذَلِكَ الْبَهَائِمُ
وَإِنَّمَا خَاصِّيَّةُ الْإِنْسَانِ بِمَعْرِفَتِهِ تَعَالَى بِالنَّظَرِ فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَجَائِبِ الْآفَاقِ وَالْأَنْفُسِ إذَا بِهَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَيُحْشَرُ فِي زُمْرَةِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ (وَالْآفَاقِ) أَيْ فِي سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا لَا يَعْرِفُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَ {الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} [يس: 36]- وَفِي الْجَامِعِ «تَفَكَّرُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ» وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ فِيهِ «تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ» كَالتَّفَكُّرِ فِي دَوَرَانِ الْفُلْكِ وَارْتِفَاعِ هَذَا السَّقْفِ
الْمَرْفُوعِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وَمَجَارِي هَذِهِ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَفِي النَّصَائِحِ امْلَأْ عَيْنَيْك مِنْ زِينَةِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَأَجْلِهِمَا فِي جُمْلَةِ هَذِهِ الْعَجَائِبِ مُتَفَكِّرًا فِي قُدْرَةِ مُقَدِّرِهَا وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى» .
قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْضًا كَالسَّمَوَاتِ بِكَوَاكِبِهَا وَحَرَكَتِهَا وَدَوَرَانِهَا فِي طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَالْأَرْضِ بِمَا فِيهَا مِنْ جِبَالِهَا وَمَعَادِنِهَا وَأَنْهَارِهَا وَبِحَارِهَا وَحَيَوَانَاتِهَا وَنَبَاتِهَا وَمَا بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْجَوُّ بِغُيُومِهِ وَأَمْطَارِهِ وَرَعْدِهِ وَبَرْقِهِ وَصَوَاعِقِهِ فَلَا تَتَحَرَّكُ ذَرَّةٌ مِنْهُ إلَّا وَلِلَّهِ تَعَالَى أُلُوفٌ مِنْ الْحِكْمَةِ فِيهَا شَاهِدَةٌ لَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ دَالَّةٌ عَلَى عَظَمَتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ ثُمَّ قَالَ قَالُوا كَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا تَعَبَّدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً أَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ فَفَعَلَهُ رَجُلٌ فَلَمْ تُظِلَّهُ فَشَكَا لِأُمِّهِ فَقَالَتْ لَعَلَّك أَذْنَبْت قَالَ لَا فَقَالَتْ هَلْ نَظَرْت إلَى السَّمَاءِ فَرَدَدْت طَرْفَك غَيْرَ مُتَفَكِّرٍ فِيهَا قَالَ نَعَمْ قَالَتْ مِنْ هُنَا أَذْنَبْت فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُهْمِلَ التَّفَكُّرَ وَمِنْ الْجَوَائِزِ أَنْ تَرُوحَ غَدًا مَعَ الْجَنَائِزِ فَالْعَاقِلُ يَتَفَكَّرُ فِي نَهَارٍ يَحُولُ وَلَيْلٍ يَزُولُ وَشَمْسٍ تَجْرِي وَقَمَرٍ يَسْرِي وَسَحَابٍ مُكْفَهِرٍّ وَبَحْرٍ مُسْتَطِرٍ وَخَلْقٍ تَمُورُ وَوَالِدٍ يَتْلَفُ وَوَلَدٍ يَخْلُفُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا بَاطِلًا وَإِنَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَشْوَابًا وَأَحْقَابًا وَحَشْرًا وَنَشْرًا وَثَوَابًا وَعِقَابًا وَالتَّفَكُّرُ أَرْبَعَةٌ فِكْرٌ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَفِكْرٌ فِي خَلْقِهِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الْمَحَبَّةِ وَفِكْرٌ فِي وَعْدِ اللَّهِ بِالثَّوَابِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الرَّغْبَةِ وَفِكْرٌ فِي وَعِيدِهِ بِالْعَذَابِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الرَّهْبَةِ وَفِكْرٌ فِي جَفَاءِ النَّفْسِ مَعَ إحْسَانِ اللَّهِ وَعَلَامَتُهُ تَوَلُّدُ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى (حَتَّى يَزِيدَ وَيَعْظُمَ) أَيْ بِسَبَبِ ذَلِكَ التَّفَكُّرِ (مَعْرِفَةُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ فَيَحْصُلُ فِيهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّوْقُ إلَيْهِ وَالْأُنْسُ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191] اسْتِدْلَالًا وَاعْتِبَارًا وَهُوَ أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ.
كَمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ» {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا} [آل عمران: 191] أَيْ يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ ذَلِكَ وَفِي الْجَامِعِ فِكْرُ سَاعَةٍ أَيْ صَرْفُ الذِّهْنِ لَحْظَةً مِنْ الْعَبْدِ فِي تَدَبُّرِ تَقْصِيرِهِ وَتَفْرِيطِهِ فِي حُقُوقِ الْحَقِّ وَوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ وَحُضُورِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُحَاسَبَتِهِ وَخَوْفِ خُسْرَانِهِ وَجَوَازِهِ عَلَى الصِّرَاطِ وَشِدَّتِهِ وَحِدَّتِهِ وَنَحْوِهَا خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً بِلَا تَفَكُّرٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِأَنَّ تَفَكُّرَهُ بِنَحْوِ مَا ذُكِرَ يُقَوِّي خَوْفَهُ وَيَجْمَعُ هِمَّتَهُ وَصَارَتْ الْآخِرَةُ نُصْبَ عَيْنِهِ فَتَقَعُ الْعِبَادَةُ بِفَرَاغِ قَلْبٍ وَنَشَاطٍ وَجِدٍّ وَمَنْ قَلَّ تَفَكُّرُهُ
قَسَا قَلْبُهُ وَتَفَرَّقَ شَمْلُهُ وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الْغَفْلَةُ فَهُوَ وَإِنْ تَعَبَّدَ فَقَلْبُهُ هَائِجٌ بِاشْتِغَالِ الدُّنْيَا مُتَّكِلٌ عَلَى عَقْلِهِ غَيْرُ مُعْتَمِدٍ عَلَى رَبِّهِ لَا يَتَأَثَّرُ بِقَوَارِعِ التَّخْوِيفِ وَلَا يَنْزَجِرُ بِزَوَاجِرِ التَّذْكِيرِ.
قَالَ الْغَزَالِيُّ لَا عِبَادَةَ إلَّا بِتَفَكُّرٍ كَمَا فِي الْفَيْضِ {سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191] وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفَكُّرَ قَائِدُ الْإِنْسَانِ إلَى الْخَيْرِ وَدَلِيلُهُ إذَا كَانَ صَحِيحًا مَقْصُودًا بِهِ الْفِرَارُ مِنْ الْخَلْقِ إلَى الْخَالِقِ (وَ) مِنْهَا (الصِّدْقُ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119](وَهُوَ فِي سَبْعٍ فِي الْقَوْلِ ضِدِّ الْكَذِبِ) الَّذِي هُوَ عَدَمُ مُطَابَقَةِ حُكْمِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ (وَفِي النِّيَّةِ الْإِخْلَاصُ) الَّذِي هُوَ تَجْرِيدُ قَصْدِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى (وَفِي الْوَعْدِ وَفِي الْعَزْمِ) عَلَى وَفَاءِ الْعَهْدِ (قُوَّتُهُمَا) أَيْ الْوَعْدِ وَالْعَزْمِ عَلَيْهِ (وَخُلُوُّهُمَا مِنْ الضَّعْفِ وَالتَّرَدُّدِ فِيهِ وَفِي الْوَفَاءِ تَحْقِيقُهُ وَإِنْجَازُهُ عَلَى وَفْقِ الْوَعْدِ) وَوَفْقِ (الْعَزْمِ) مِنْ غَيْرِ خُلْفٍ وَنَقْضٍ (وَفِي الْعَمَلِ مُوَافَقَتُهُ لِلْبَاطِنِ) بِلَا رِيَاءٍ (وَعَدَمَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَمْرٍ لَمْ يَتَّصِفْ بِهِ وَفِي نَحْوِ الْخَوْفِ) كَالْفَزَعِ وَالْهَيْبَةِ (قُوَّتُهُ وَكَثْرَتُهُ) وَالصِّدِّيقُ بِكَسْرِ أَوَّلَيْهِ وَتَشْدِيدِ الثَّانِي.
(مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ جَمِيعًا) وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَالْأَوَّلُ أَعْنِي الْقَوْلَ يَدْخُلُ فِيهِ وَفَاءُ الْعَهْدِ وَتَرْكُ التَّعْرِيضِ لِأَنَّهُ تَفْهِيمُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ صَلَحَ لِغَيْرِهِ نَعَمْ يَجُوزُ التَّعْرِيضُ فِي بَابِ تَأْدِيبِ الصَّبِيَّانِ وَالنِّسْوَانِ وَالْحَذَرِ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْحَرْبِ وَيَلْزَمُ مُرَاعَاةُ مَا فِي لَفْظِهِ فَلَوْ قَالَ عِنْدَ مُنَاجَاةِ رَبِّهِ {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] الْآيَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُتَوَجِّهًا إلَيْهِ تَعَالَى وَكَذَا لَوْ قَالَ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْرِكَ أَحَدًا فِي عِبَادَتِهِ وَلَوْ نَحْوَ الرِّيَاءِ وَالثَّانِي هُوَ أَيْ الْإِخْلَاصُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْلِصًا وَالثَّالِثُ كَأَنْ تَقُولُ إنْ رَزَقَنِي اللَّهُ مَالًا تَصَدَّقْت بِجَمِيعِهِ أَوْ شَطْرِهِ أَوْ إنْ أَعْطَانِي وِلَايَةً عَدَلْت فَصِدْقُهَا عَدَمُ التَّرَدُّدِ عِنْدَ هَذَا الْقَوْلِ بَلْ يَجْزِمُ فَإِنْ بِمَيْلٍ وَضَعْفٍ فَلَا يَصْدُقُ عَزْمُهُ وَالرَّابِعُ أَيْ الْوَفَاءُ فَالنَّفْسُ قَدْ تَسْخُو فِي الْعَزْمِ وَالْوَعْدِ لِعَدَمِ مُؤْنَتِهِ وَعِنْدَ الْإِنْجَازِ تُخْلِفُهُ فَلَا تَصْدُقُ وَالْخَامِسُ أَيْ الْعَمَلُ بِأَنْ لَا تَدُلَّ أَعْمَالُهُ عَلَى مَا فِي بَاطِنِهِ كَمَا ذَكَرَهُ وَالسَّادِسُ أَيْ الْخَوْفُ وَكَذَا الرَّجَاءُ وَالتَّعْظِيمُ وَالزُّهْدُ وَالرِّضَا وَالْحُبُّ وَالتَّوَكُّلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ وَهُوَ أَعْلَى دَرَجَاتِ الصِّدْقِ وَأَعَزُّهَا فَإِذَا غَلَبَ الشَّيْءُ وَتَمَّ يُسَمَّى صَاحِبُهُ صَادِقًا فِيهِ كَمَنْ يَخَافُ مِنْ النَّارِ صِدْقُهُ اصْفِرَارُ لَوْنِهِ وَتَغَيُّرُ عَيْشِهِ وَتَبْدِيلُ أُنْسِهِ وَحْشَةً وَرَاحَتِهِ تَعَبًا فَالصَّادِقُ فِي جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ عَزِيزٌ جِدًّا ثُمَّ دَرَجَاتُ الصِّدْقِ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَبْدِ صِدْقٌ فِي بَعْضِ أُمُورٍ دُونَ أُخَرَ فَإِنْ صَادِقًا فِي الْجَمِيعِ فَيُسَمَّى صِدِّيقًا وَهُوَ نَادِرٌ جِدًّا.
(وَ) مِنْهَا (الْمُرَابَطَةُ) الَّتِي هِيَ مُلَازَمَةُ الْخَيْرِ وَالْعُكُوفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ (وَهِيَ رَبْطُ النَّفْسِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَمْسٍ الْمُشَارَطَةِ عَلَى النَّفْسِ أَوَّلًا بِتَرْكِ الْمَعَاصِي وَتَرْتِيبِ الْوَظَائِفِ وَالْأَوْرَادِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) وَقَدْ يُوقِعُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ لِعِرْفَانِهِ أَنَّ الْوَقْتَ سَيْفٌ قَاطِعٌ لَوْ لَمْ تَقْطَعْهُ بِالطَّاعَاتِ سَيَقْطَعُك بِالْفَوَاتِ (ثُمَّ الْمُرَاقَبَةُ بِمُرَاعَاةِ الْقَلْبِ لِلرَّقِيبِ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى لِكَوْنِهِ نَاظِرًا عَلَى عِبَادِهِ (بِاسْتِدَامَةِ الْعِلْمِ بِاطِّلَاعِ الرَّبِّ وَالنَّظَرِ إلَيْهِ) إلَى الْقَلْبِ (فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ هَلْ يَفِي بِالْمَشْرُوطِ عَلَى وَجْهِهِ) اللَّائِقِ (أَمْ يَزِيغُ) يَمِيلُ إلَى الْبَاطِلِ (عَنْهُ) بِعَدَمِ الْإِتْيَانِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ اعْلَمْ أَنَّ مُرَاقَبَةَ الصِّدِّيقِينَ هِيَ مُرَاقَبَةُ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِأَنْ يَسْتَغْرِقَ قَلْبُهُ فِي مُلَاحَظَةِ ذِي الْجَلَالِ وَيَصِيرَ مُنْكَسِرًا تَحْتَ الْهَيْبَةِ فَلَا يَبْقَى مَعَهُ مُتَّسَعٌ لِلْغَيْرِ أَصْلًا وَتَبْقَى جَوَارِحُهُ مُتَعَطِّلَةً عَنْ التَّلَفُّتِ إلَى الْمُبَاحَاتِ فَضْلًا عَنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى مُدَبِّرٍ فِي حِفْظِهَا عَلَى سُنَنِ السَّدَادِ وَمِثْلُهُ يَغْفُلُ عَنْ الْخَلْقِ بِحَيْثُ لَا يُبْصِرُ مَنْ عِنْدَهُ وَعَيْنُهُ نَاظِرٌ إلَيْهِ وَلَا يَسْمَعُ الْكَلَامَ وَلَيْسَ بِهِ صَمَمٌ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ وَأَنَّ مُرَاقَبَةَ الْمُتَوَرِّعِينَ وَهُمْ قَوْمٌ غَلَبَتْ مُطَالَعَةُ جَمَالِهِ تَعَالَى عَلَى قُلُوبِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَكِنْ
لَمْ يُدْهِشْهُمْ ذَلِكَ بَلْ بَقِيَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ مُتَّسِعَةً لِلتَّلَفُّتِ إلَى الْأَحْوَالِ وَالْأَعْمَالِ وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ مُمَارَسَةِ الْأَعْمَالِ وَالْمُرَاقَبَةِ بِغَلَبَةِ الْحَيَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمْ فِيهِ وَيَفِرُّ مِنْ الْفَضِيحَةِ فِي الْقِيَامَةِ فَيَنْظُرُ قَبْلَ الْعَمَلِ إنْ لِلَّهِ فَيُمْضِيهِ أَوْ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَسْتَحْيِ مِنْ اللَّهِ فَيَكُفُّ عَنْهُ فَيَلُومُ نَفْسَهُ فِي رَغْبَتِهَا فِيهِ وَيَرُدُّهَا فَإِنَّهَا عَدُوَّةُ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَتَدَارَكْهَا اللَّهُ بِعِصْمَتِهِ ثُمَّ مُرَاقَبَةُ الطَّاعَةِ بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِكْمَالِ وَمُرَاعَاةُ الْآدَابِ وَحِرَاسَتُهَا مِنْ الْآفَاتِ وَمُرَاقَبَةُ الْمَعْصِيَةِ بِالتَّوْبَةِ وَالنَّدَمِ وَالْحَيَاءِ وَالتَّفَكُّرِ.
وَمُرَاقَبَةُ الْمُبَاحِ بِمُرَاعَاتِ الْآدِبِ ثُمَّ بِشُهُودِ الْمُنْعِمِ فِي النِّعْمَةِ وَبِالشُّكْرِ (ثُمَّ الْمُحَاسَبَةُ بَعْدَ الْعَمَلِ) هَلْ أَتَمَّ الْمَشْرُوطَ بِشَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ (أَوْ نَقَصَ) مِنْهُ اعْلَمْ أَنَّ تَفْصِيلَ الْمُحَاسَبَةِ عَلَى مَا فِي الْمِفْتَاحِ كَالْمُرَاقَبَةِ أَنَّ التَّاجِرَ يَسْتَعِينُ بِشَرِيكِهِ فَيُشَارِطُهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُرَاقِبُهُ ثَانِيًا ثُمَّ يُحَاسِبُهُ ثَالِثًا ثُمَّ يُعَاتِبُهُ رَابِعًا كَذَلِكَ الْعَقْلُ هُوَ التَّاجِرُ فِي مَتَاعِ الْآخِرَةِ وَشَرِيكُهُ النَّفْسُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَاسِبَهَا لِأَنَّ كُلَّ نَفَسٍ مِنْ أَنْفَاسِ الْعُمْرِ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ لَا عَرَضٌ يُمْكِنُ أَنْ يُشْتَرَى بِهَا كُنُوزٌ لَا تَتَنَاهَى أَبَدَ الْآبَادِ فَيَقُولُ لِلنَّفْسِ فِي صَبِيحَةِ كُلِّ يَوْمٍ مَالِي بِضَاعَةٌ إلَّا الْعُمْرَ فَمَهْمَا فَنِيَ فَقَدْ فَنِيَ رَأْسُ الْمَالِ وَوَقَعَ الْيَأْسُ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَذَا الْيَوْمُ الْجَدِيدُ قَدْ أَمْهَلَنِي اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ وَأَنْسَأَ فِي أَجَلِي وَلَوْ تَوَفَّانِي لَأَتَمَنَّى أَنْ أَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا وَأَعْمَلَ صَالِحًا وَإِيَّاكِ ثُمَّ إيَّاكِ أَنْ تُضَيِّعِي هَذَا الْيَوْمَ فَإِنَّ كُلَّ نَفْسٍ جَوْهَرَةٌ لَا قِيمَةَ لَهَا فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ لِنَفْسِهِ فِي أَوْقَاتِهِ ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ لَهَا وَصِيَّةً فِي أَعْضَائِهِ السَّبْعَةِ وَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا فَإِنَّهَا رَعَايَا خَادِمَةٌ لَهَا فِي هَذِهِ التِّجَارَةِ وَإِنْ لَمْ يَحْفَظْ هَذِهِ الْأَعْضَاءَ صَارَتْ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ لِجَهَنَّمَ.
أَمَّا الْعَيْنُ فَيَحْفَظُهَا عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ بَلْ عَنْ مُطْلَقِ الْفُضُولِ ثُمَّ يَأْمُرُ بِصَرْفِهَا إلَى مَا خُلِقَتْ لَهُ وَكَذَا سَائِرُ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ يُرَاقِبُ عِنْدَ الْعَمَلِ وَالْمُرَاقَبَةُ مِنْ مَبَادِئِ مَرْتَبَةِ الْإِحْسَانِ ثُمَّ رَأْسُ مَالِ السَّالِكِ فِي دِينِهِ الْفَرَائِضُ وَرِبْحُهُ النَّوَافِلُ وَخُسْرَانُهُ الْمَعَاصِي وَمَوْسِمُ التِّجَارَةِ جُمْلَةُ النَّهَارِ فَإِنْ وَقَعَ أَدَاءُ الْفَرَائِضِ عَلَى الْكَمَالِ فَيَشْكُرُ وَيَرْغَبُ فِي مِثْلِهَا وَإِنْ فَوَّتَهَا يَقْضِي وَإِنْ أَدَّاهَا نَاقِصَةً يَجْبُرُهَا بِالنَّوَافِلِ وَإِنْ صَدَرَتْ مَعْصِيَةٌ اشْتَغَلَ بِتَعْذِيبِ النَّفْسِ وَمُعَاتَبَتِهَا لِيَتَدَارَكَهَا ثُمَّ يُحَاسِبُ نَفْسَهُ عَنْ خَوَاطِرِهِ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَنَوْمِهِ حَتَّى عَنْ سُكُوتِهِ لِمَ سَكَتَ مَثَلًا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً بِشُبْهَةٍ يُعَاقِبُهَا بِالْجُوعِ وَإِذَا نَظَرَ إلَى مُحَرَّمٍ يُعَاقِبُ الْعَيْنَ بِمَنْعِ النَّظَرِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا (ثُمَّ الْمُعَاتَبَةُ وَالْمُعَاقَبَةُ) إنْ نَقَصَ مِنْهُ (بِنَحْوِ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالسَّهَرِ وَالنَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ وَنَحْوِهِ) مِنْ الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ كَالصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْحَجِّ (حَتَّى لَا يَرْجِعَ إلَيْهِ ثَانِيًا) .
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ أَعْدَى عَدُوِّك نَفْسُك الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْك وَقَدْ خُلِقَتْ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ فَإِنْ أَهْمَلْت فِي مَنْعِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا شَرَدَتْ وَجَمَحَتْ وَإِنْ عَاتَبْتهَا تَكُونُ لَوَّامَةً وَعَسَى أَنْ تَصِيرَ مُطْمَئِنَّةً فَلَا تَغْفُلْ عَنْ وَعْظِهَا سَاعَةً وَقُلْ لَهَا أَنْتِ تَدَّعِينَ الْحِكْمَةَ وَالْفَطِنَةَ وَأَنْتِ الْحَمْقَاءُ أَمَا تَعْرِفِينَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ وَأَنَّك صَائِرَةٌ إلَى إحْدَاهُمَا فَمَالَك تَشْتَغِلِينَ بِالْهَوَى وَاللَّهْوِ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنْ كُلَّ آتٍ قَرِيبٌ (فَمَجْمُوعُ مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ تَبَعًا) أَيْ فِي ضِمْنِ آفَاتِ الْقَلْبِ (وَأَصَالَةً) كَمَا بَعْدَ تَمَامِ ذَلِكَ (ثَمَانِيَةٌ وَسَبْعُونَ) لَعَلَّهُ تَقْسِيمٌ اسْتِقْرَائِيٌّ بَلْ جَعْلِيٌّ (إيمَانُ اعْتِقَادُ أَهْلِ السُّنَّةِ إخْلَاصٌ، إحْسَانٌ، تَوَاضُعٌ، ذِكْرٌ، مِنْهُ نَصِيحَةٌ، تَصَوُّفٌ، غَيْرَةٌ، غِبْطَةٌ، فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ سَخَاءٌ، إيثَارٌ، مُرُوءَةٌ، قُوَّةٌ، حِكْمَةٌ، شُكْرٌ، رِضًا صَبْرٌ، خَوْفٌ، مِنْ اللَّهِ حُزْنٌ لَهُ رَجَاءٌ، بُغْضٌ، فِي اللَّهِ حُبٌّ فِي اللَّهِ تَوَكُّلٌ، حُبٌّ، خُمُولٌ، اسْتِوَاءٌ، ذَمٌّ، وَمَدْحٌ، مُجَاهَدَةٌ، تَحْقِيقٌ، قِصَرُ أَمَلٍ ذِكْرُ مَوْتٍ تَفْوِيضٌ، تَسْلِيمٌ، تَمَلُّقٌ، فِي طَلَبِ الْعِلْمِ سَلَامَةٌ صَدْرٍ عَنْ حِقْدٍ شُجَاعَةٌ، حِلْمٌ، رِفْقٌ، أَمَانَةٌ، وَفَاءُ عَهْدٍ إنْجَازُ وَعْدٍ حُسْنُ ظَنٍّ زُهْدٌ، قَنَاعَةٌ، رُشْدٌ، سَعْيٌ، أَنَاةٌ، مُبَادَرَةٌ فِي عَمَلِ الْآخِرَةِ رِقَّةٌ، شَفَقَةٌ، حَيَاءٌ، صَلَابَةٌ، فِي أَمْرِ الدِّينِ أُنْسٌ بِاَللَّهِ شَوْقٌ إلَيْهِ مَحَبَّةُ اللَّهِ تَعَالَى وَقَارٌ، ذَكَاءٌ، عِفَّةٌ، اسْتِقَامَةٌ، أَدَبٌ، فِرَاسَةٌ،
تَفَكُّرٌ، صِدْقٌ، مُرَابَطَةٌ، مُشَارَطَةٌ، مُرَاقَبَةٌ، مُحَاسَبَةٌ، مُعَاتَبَةٌ، مُعَاقَبَةٌ، كَظْمُ غَيْظٍ عَفْوِيَّةٌ إرَادَةُ طُولِ حَيَاةٍ لِلْعِبَادَةِ تَوْبَةٌ، خُشُوعٌ، يَقِينٌ، عُبُودِيَّةٌ، حُرِّيَّةٌ، إرَادَةٌ.
وَلِلْمُتَقَدِّمَيْنِ وَمَنْ سَلَكَ مَسْلَكَهُمْ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي ضَبْطِ الْفَضَائِلِ وَحُدُودِهَا طَرِيقَةٌ لَا بَأْسَ أَنْ نَذْكُرَهَا) بَلْ لَا بُدَّ أَنْ نَذْكُرَهَا تَكْمِلَةً لِلْفَوَائِدِ اعْتِنَاءً بِشَأْنِ الْمَقَامِ فَإِنَّ لِكَلِمَةِ لَا بَأْسَ مَسَاغًا إلَى الْوُجُوبِ وَقَدْ عَرَفْت أَنَّهَا لَيْسَتْ بِكُلِّيَّةٍ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى أَوْ لِمُلَاحَظَةِ قَوْلِهِ (وَإِنْ وَقَعَ تَكْرَارٌ فِي بَعْضٍ لِعَدَمِ خُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ) لَكِنْ يُرَاد أَنَّ مَا تَضَمَّنَ تِلْكَ الْفَائِدَةَ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْإِتْيَانِ فَذِكْرُهُ أَوْلَى وَأَيْضًا اللَّائِقُ حِينَئِذٍ عَدَمُ ذِكْرِ مَا تَكَرَّرَ.
فَإِنْ قِيلَ إنَّ مَا تَكَرَّرَ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ التَّرْكِ وَالْفَائِدَةُ تُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْإِتْيَانِ فَتَعَارَضَا وَتَسَاقَطَا قُلْنَا ذَلِكَ عِنْدَ مَعْلُومِيَّةِ مُسَاوَاةِ الطَّرَفَيْنِ لَعَلَّ جَانِبَ الْفَائِدَةِ رَاجِعٌ (وَهِيَ) أَيْ الطَّرِيقَةُ الْمَذْكُورَةُ (حَصْرُ أُصُولِهَا وَتَفْرِيعُ شُعَبِ كُلٍّ مِنْهَا عَلَيْهِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ أُصُولَهَا أَرْبَعَةٌ ثَلَاثَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهِيَ الْحِكْمَةُ) وَهِيَ مَلَكَةٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِكُ بِهَا الصَّوَابَ مِنْ الْخَطَأِ (وَالشَّجَاعَةُ) هِيَ مَلَكَةٌ بِهَا تُقْدِمُ عَلَى أُمُورٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقْدَمَ عَلَيْهَا (وَالْعِفَّةُ) هِيَ مَلَكَةٌ بِهَا يُبَاشَرُ الْمُشْتَهَيَاتِ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ وَالْمُرُوءَةِ (وَ) أَصْلٌ (وَاحِدٌ مُرَكَّبٌ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ) الْأُصُولِ الْمُفْرَدَةِ (الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الْعَدَالَةُ) مَلَكَةٌ تَحْمِلُ عَلَى امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابِ الْمَنَاهِي وَالتَّخَلُّقِ مِمَّا يَلِيقُ بِأَمْثَالِهِ (فَشُعَبُ الْحِكْمَةِ) سَبْعٌ رَمَزَ لَهَا بِقَوْلِهِ (زَ) عَلَى حِسَابِ أَبْجَدٍ (الْأَوَّلُ صَفَاءُ الذِّهْنِ) جُودَةُ الذَّكَاءِ وَهُوَ (اسْتِعْدَادُ النَّفْسِ) لِاسْتِخْرَاجِ الْمَطْلُوبِ بِلَا تَشْوِيشٍ.
(الثَّانِي جَوْدَةُ الْفَهْمِ) وَهُوَ (صِحَّةُ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمَلْزُومِ إلَى اللَّازِمِ) ظَاهِرُ الْإِطْلَاقِ لَكِنْ الْمُنَاسِبُ فِي اللَّازِمِ الْبَيِّنِ.
(الثَّالِثُ الذَّكَاءُ سُرْعَةُ اقْتِدَاحِ) إنْتَاجِ (النَّتَائِجِ) لَعَلَّ مَا يُقَالُ بِالْحَدْسِ.
(الرَّابِعُ حُسْنُ التَّصَوُّرِ) هُوَ (الْبَحْثُ عَنْ الْأَشْيَاءِ بِقَدْرِ مَا هِيَ عَلَيْهِ) بِلَا قُصُورٍ بَلْ بِكِفَايَةٍ.
(الْخَامِسُ سُهُولَةُ التَّعَلُّمِ) هُوَ (قُوَّةُ النَّفْسِ عَلَى دَرْكِ الْمَطْلُوبِ بِالْكَلَامِ بِلَا زِيَادَةِ سَعْيٍ.
السَّادِسُ الْحِفْظُ ضَبْطُ الصُّوَرِ الْمُدْرَكَةِ) بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ.
(السَّابِعُ الذُّكْرُ) بِالضَّمِّ فِي الْقَلْبِ وَبِالْكَسْرِ فِي اللِّسَانِ (اسْتِحْضَارُ الْمَحْفُوظَاتِ) الْمُودَعَةِ فِي الْحَافِظَةِ وَهِيَ أَخَصُّ مِنْ الْحِفْظِ وَهُوَ تَدَارُكُ مَا عَلِمَهُ فِي الْمَاضِي حِينَ احْتِيَاجِهِ
(وَشُعَبُ الشَّجَاعَةِ " يب ") ثِنْتَا عَشْرَةَ (الْأَوَّلُ كِبَرُ النَّفْسِ اسْتِحْقَارُ الْيَسَارِ وَالْفَقْرِ وَالْكِبَرِ وَالصِّغَرِ) أَيْ اسْتِوَاءُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ عِنْدَهُ.
(الثَّانِي الْعَفْوُ تَرْكُ الْمُجَازَاةِ بِسُهُولَةٍ مِنْ
النَّفْسِ مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَى الِانْتِقَامِ.
(الثَّالِثُ عِظَمُ الْهِمَّةِ عَدَمُ الْمُبَالَاةِ) أَيْ الِاهْتِمَامِ (بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا وَشَقَاوَتِهَا) بَلْ هِمَّتُهُ أَدَاءُ حَقِّ الْمَوْلَى سبحانه وتعالى.
(الرَّابِعُ الصَّبْرُ) هُوَ قُوَّةُ مُقَاوَمَةِ الْآلَامِ وَالْأَهْوَالِ.
(الْخَامِسُ النَّجْدَةُ عَدَمُ الْجَزَعِ عِنْدَ الْمَخَاوِفِ) وَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُصُولِ مَلَكَةِ الثَّبَاتِ حَتَّى لَا يَعْتَرِيَهُ الْجَزَعُ عِنْدَ الْمَهَالِكِ وَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ الْأَفْعَالُ الْغَيْرُ الْمُنْتَظِمَةِ.
(السَّادِسُ الْحِلْمُ الطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ثَوْرَةِ الْغَضَبِ) أَيْ شِدَّتِهِ.
(السَّابِعُ السُّكُونُ) وَهُوَ (التَّأَنِّي فِي الْخُصُومَاتِ) مَعَ الْخُصَمَاءِ (وَالْحُرُوبِ) مَعَ الْأَعْدَاءِ.
(الثَّامِنُ التَّوَاضُعُ اسْتِعْظَامُ ذَوِي الْفَضَائِلِ وَمَنْ دُونَهُ) فِي الْمَرْتَبَةِ وَتَنْزِيلُ مَنْزِلَتِهِ دُونَ مَنَازِلِهِمْ (وَفِي الْمَالِ وَالْجَاهِ التَّاسِعُ الشَّهَامَةُ) هِيَ (الْحِرْصُ عَلَى مَا) أَيْ عَلَى مُبَاشَرَةِ أُمُورٍ عَظِيمَةٍ (يُوجِبُ الذِّكْرَ الْجَمِيلَ) لِنَعْتِهِ فِيهِ (مِنْ الْعَظَائِمِ الْعَاشِرُ الِاحْتِمَالُ إتْعَابُ النَّفْسِ فِي الْحَسَنَاتِ الْحَادِيَ عَشَرَ) مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ (الْحَمِيَّةُ) وَهِيَ (الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحُرُمِ وَالدِّينِ مِنْ التُّهْمَةِ) فَوَقَى صَاحِبُهَا أَهْلَهُ مَوَاطِنَ التُّهْمَةِ (وَثَانِيَ عَشْرَهَا) مِنْ شُعَبِهَا (الرِّقَّةُ) وَهِيَ (التَّأَذِّي مِنْ أَذًى يَلْحَقُ الْغَيْرَ مُطْلَقًا وَشُعَبُ الْعِفَّةِ اثْنَتَا عَشْرَةَ: أَحَدُهَا الْحَيَاءُ) وَهُوَ (انْحِصَارُ النَّفْسِ خَوْفَ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ) قَبِيحًا شَرْعِيًّا أَوْ عَقْلِيًّا أَوْ عُرْفِيًّا إمَّا مَا يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ عَلَيْهِ أَوْ مَا لَا يُلَائِمُ الطَّبْعَ أَوْ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ وَيُقَالُ لِمُبَاشِرِ الْأَوَّلِ الْعَاشِقُ وَالثَّانِي الْمَجْنُونُ وَالثَّالِثُ الْأَبْلَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ صَاحِبَ الْحَيَاءِ يُصَانُ عَنْ هَذِهِ الْأَلْقَابِ.
(الثَّانِي الصَّبْرُ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى) وَهُوَ غَيْرُ الصَّبْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ فَإِنَّهُ هُنَالِكَ مُدَافَعَةُ حُلُولِ الْآلَامِ وَالْأَهْوَالِ بِالنَّفْسِ وَهَاهُنَا مُدَافَعَةُ النَّفْسِ عَنْ مُتَابَعَةِ الْهَوَى وَلَا بُدَّ فِيهِمَا مِنْ قُوَّةِ الْمُقَاوَمَةِ.
(الثَّالِثُ الدَّعَةُ) وَهِيَ (السُّكُونُ عِنْدَ هَيَجَانِ الشَّهْوَةِ) وَلَا بُدَّ مِنْ حُصُولِ مَلَكَةِ التَّثَبُّتِ.
(الرَّابِعُ النَّزَاهَةُ) وَهِيَ (اكْتِسَابُ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مُهَانَةٍ وَلَا ظُلْمٍ وَإِنْفَاقُهُ فِي الْمَصَارِفِ الْحَمِيدَةِ) بِمَعْنَى طِيبِ الْمَدْخَلِ وَالْمَصْرِفِ.
(الْخَامِسُ الْقَنَاعَةُ) وَهِيَ (الِاقْتِصَارُ عَلَى الْكَفَافِ) بِمَعْنَى تَسْوِيَةِ الْمَدْخَلِ مَعَ الْمَخْرَجِ.
(السَّادِسُ الْوَقَارُ) وَهُوَ (التَّأَنِّي فِي التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْمَطْلَبِ) وَأُشِيرَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّأَنِّي مِنْ الرَّحْمَنِ» وَالْعَجَلَةُ بِضِدِّ ذَلِكَ.
(السَّابِعُ الرِّفْقُ حُسْنُ الِانْقِيَادِ لِمَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمِيلِ الثَّامِنُ حُسْنُ السَّمْتِ مَحَبَّةُ مَا يُكْمِلُ النُّفُوسَ
التَّاسِعُ الْوَرَعُ مُلَازَمَةُ الْأَعْمَالِ الْجَمِيلَةِ) بِمُوَافَقَةِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ وَالْمُرُوءَةِ.
(الْعَاشِرُ الْمُرُوءَةُ الرَّغْبَةُ الصَّادِقَةُ لِلنَّفْسِ فِي الْإِفَادَةِ بِقَدْرِ مَا يُمْكِنُ الْحَادِيَ عَشَرَ الِانْتِظَامُ تَقْدِيرُ الْأُمُورِ وَتَرْتِيبُهَا بِحَسَبِ الْمَصَالِحِ الثَّانِيَ عَشَرَ السَّخَاءُ إعْطَاءُ مَا يَنْبَغِي لِمَنْ يَنْبَغِي وَهَذَا تَحْتَهُ سِتَّةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ: الْكَرَمُ الْإِعْطَاءُ بِالسُّهُولَةِ وَطِيبِ النَّفْسِ.
الثَّانِي الْإِيثَارُ أَنْ يَكُونَ مَعَ الْكَفِّ عَنْ حَاجَتِهِ) يَعْنِي لَا يَأْكُلُ وَيُعْطِي.
(الثَّالِثُ النُّبْلُ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (أَنْ يَكُونَ مَعَ السُّرُورِ الرَّابِعُ الْمُوَاسَاةُ أَنْ يَكُونَ مَعَ مُشَارَكَةِ الْأَصْدِقَاءِ) يَعْنِي فِي فِي النِّعْمَةِ بَعْدَ بَذْلِ الْمَالِ عَلَيْهِمْ.
(الْخَامِسُ السَّمَاحَةُ) بَذْلُ مَا لَا يَجِبُ تَفَضُّلًا.
(السَّادِسُ الْمُسَامَحَةُ) تَرْكُ مَا لَا يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ أَيْ يَتْرُكُهُ (تَنَزُّهًا) مِثْلَ بَاعَ زَيْدٌ مِنْ عَمْرٍو فَرَسًا بِمِائَةٍ فَأَسْقَطَ مِنْ الْمِائَةِ عَشَرَةً بِلَا تَوَقُّفِ الْمُجَازَاةِ
(وَشُعَبُ الْعَدَالَةِ) أَرْبَعَةَ عَشَرَ.
(الْأَوَّلُ الصَّدَاقَةُ: الْمَحَبَّةُ الصَّادِقَةُ بِحَيْثُ لَا يَشُوبُهَا غَرَضٌ وَيُؤْثِرُ) أَيْ صَاحِبُ الصَّدَاقَةِ مَنْ يُحِبُّهُ (عَلَى نَفْسِهِ فِي الْخَيْرَاتِ) أَيْ فِي أَصْنَافِ الْأَمْوَالِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] .
(الثَّانِي الْأُلْفَةُ اتِّفَاقُ الْآرَاءِ فِي الْمُعَاوَنَةِ عَلَى تَدْبِيرِ الْمَعَاشِ) هَذَا بِمَعْنَى الْمُشَاوَرَةِ.
(الثَّالِثُ الْوَفَاءُ مُلَازَمَةُ طَرِيقِ الْمُوَاسَاةِ وَمُحَافَظَةُ عُهُودِ الْخُلَطَاءِ) بِمَعْنَى الصَّاحِبِ وَالْخَلِيطِ.
(الرَّابِعُ التَّوَدُّدُ طَلَبُ مَوَدَّةِ الْأَكْفَاءِ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ) الْكُفْءُ الْمِثْلُ وَالنَّظِيرُ.
(الْخَامِسُ الْمُكَافَأَةُ مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِمِثْلِهِ أَوْ زِيَادَةٍ السَّادِسُ حُسْنُ الشَّرِكَةِ رِعَايَةُ الْعَدْلِ فِي الْمُعَامَلَاتِ
السَّابِعُ حُسْنُ الْقَضَاءِ تَرْكُ النَّدَمِ وَالْمَنِّ فِي الْمُجَازَاةِ) أَيْ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَأَرَادَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَاةِ فَلْيَتَجَنَّبْ النَّدَمَ وَالْمَنَّ فَإِنَّ الْمَنَّ مَذْمُومٌ فِي الْإِنْفَاقِ فَضْلًا عَنْ أَمْرٍ يَقْتَضِي الْمُجَازَاةَ
(الثَّامِنُ صِلَةُ الرَّحِمِ مُشَارَكَةُ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْخَيْرَاتِ التَّاسِعُ الشَّفَقَةُ صَرْفُ الْهِمَّةِ إلَى إزَالَةِ الْمَكْرُوهِ عَنْ النَّاسِ الْعَاشِرُ الْإِصْلَاحُ التَّوَسُّطُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْخُصُومَاتِ بِمَا يَدْفَعُهَا الْحَادِيَ عَشَرَ التَّوَكُّلُ تَرْكُ السَّعْيِ فِيمَا لَا يَسَعُهُ قُدْرَةُ الْبَشَرِ الثَّانِيَ عَشَرَ التَّسْلِيمُ الِانْقِيَادُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَرْكُ الِاعْتِرَاضِ فِيمَا لَا يُلَائِمُ) الطَّبِيعَةَ وَالنَّفْسَ.
(الثَّالِثَ عَشَرَ الرِّضَا طِيبُ النَّفْسِ فِيمَا يُصِيبُهُ وَيَفُوتُهُ مُطْلَقًا مَعَ عَدَمِ التَّغَيُّرِ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْعِبَادَةُ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى وَأَهْلِهِ وَامْتِثَالُ أَوَامِرِهِ وَتَرْكُ مَحَارِمِهِ فَمَجْمُوعُ الْأُصُولِ وَالشُّعَبِ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ) فُرُوعٌ وَأَرْبَعَةٌ أُصُولٌ (وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا نَقَلَ عَنْ الْمُتَقَدِّمِينَ (زِيَادَةُ ثَلَاثِينَ فَضِيلَةً عَلَى مَا ذَكَرْنَا) يَعْنِي أَنَّ فِيهَا زِيَادَةَ ثَلَاثِينَ فَضِيلَةً لَمْ يَذْكُرْهَا الْمُصَنِّفُ لِأَنَّهُ أَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرَهُ (وَهِيَ هَذِهِ) صَفَاءُ الذِّهْنِ جَوْدَةُ الْفَهْمِ حُسْنُ التَّصَوُّرِ سُهُولَةُ التَّعَلُّمِ الْحِفْظُ الذِّكْرُ كِبَرُ النَّفْسِ عِظَمُ الْهِمَّةِ النَّجْدَةُ السُّكُونُ الشَّهَامَةُ الِاحْتِمَالُ الْحَمِيَّةُ الدَّعَةُ النَّزَاهَةُ حُسْنُ السَّمْتِ الِانْتِظَامُ الْكَرَمُ النُّبْلُ الْمُوَاسَاةُ السَّمَاحَةُ الْمُسَامَحَةُ الصَّدَاقَةُ الْأُلْفَةُ التَّوَدُّدُ الْمُكَافَأَةُ حُسْنُ الشَّرِكَةِ حُسْنُ الْقَضَاءِ صِلَةُ الرَّحِمِ الْإِصْلَاحُ فَهِيَ سِتٌّ مِنْ شُعَبِ الْحِكْمَةِ وَسَبْعٌ مِنْ شُعَبِ الشَّجَاعَةِ وَتِسْعٌ مِنْ شُعَبِ الْعِفَّةِ وَثَمَانٍ مِنْ شُعَبِ الْعَدَالَةِ
(فَعَلَيْك أَيُّهَا السَّالِكُ بِالِاحْتِرَازِ عَنْ جَمِيعِ الْخَبَائِثِ الْمَذْكُورَةِ وَدَفْعِهَا وَحِفْظِ أَضْدَادِهَا وَ) حِفْظِ (بَاقِي الْفَضَائِلِ أَيْضًا) الْمَذْكُورَةِ بِالْأَصَالَةِ وَفِي طَرِيقَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ يَلْتَبِسُ بِك شَيْءٌ مِنْ الرَّذَائِلِ (أَوْ إزَالَتِهَا) كُلًّا أَوْ بَعْضًا مِنْهَا فِيك (وَدَفْعِهَا) إنْ يَلْتَبِسْ شَيْءٌ مِنْهَا وَتَحْصِيلِ أَضْدَادِهَا وَسَائِرِ الْفَضَائِلِ (حَتَّى) غَايَةٌ لِلْحِفْظِ (تَبْقَى) عِنْدَك فِي صُورَةِ الِاتِّصَافِ بِالْفَضَائِلِ (أَوْ تَحْصُلَ لَك) فِي صُورَةِ الِاتِّصَافِ بِالرَّذَائِلِ (تَزْكِيَةُ النَّفْسِ) بِسَبَبِ الْإِزَالَةِ (وَتَصْفِيَةُ الرُّوحِ) مِنْ كَدُورَاتِهَا (وَتَخْلِيَةُ الْقَلْبِ) بِالْمُعْجَمَةِ (وَتَحْلِيَتُهُ فَإِنَّ التَّصَوُّفَ) الْمُفَسَّرَ بِالْخُرُوجِ عَنْ كُلِّ خُلُقٍ دَنِيءٍ وَالدُّخُولُ فِي كُلِّ خُلُقٍ سَنِيٍّ (وَالطَّرِيقَةُ) الظَّاهِرُ الطَّرِيقَةُ الصُّوفِيَّةُ (عِبَارَةٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ)
وَقِيلَ التَّصَوُّفُ اسْتِرْسَالُ النَّفْسِ مَعَ اللَّهِ عَلَى مَا يُرِيدُ أَوْ أَنْ تَكُونَ مَعَ اللَّهِ بِلَا عَلَاقَةٍ
أَوْ الْأَخْذُ بِالْحَقَائِقِ وَالْيَأْسُ مِمَّا فِي أَيْدِي الْخَلَائِقِ أَوْ عَنْوَةٌ لَا صُلْحَ فِيهَا أَوْ ذِكْرٌ مَعَ اجْتِمَاعٍ وَعَمَلٌ مَعَ اتِّبَاعٍ أَوْ إبَاحَةٌ عَلَى بَابِ الْحَبِيبِ وَإِنْ طَرَدَ أَوْ وَقْتٌ فَارِغٌ وَقَلْبٌ طَيِّبٌ أَوْ الْجُلُوسُ مَعَ اللَّهِ بِلَا هَمٍّ أَوْ بِرِقَّةٍ مُحْرِقَةٍ أَوْ عِصْمَةٍ مِنْ رُؤْيَةِ الْكَوْنِ أَوْ مُوَافَقَةُ الْأَحْوَالِ وَلُزُومُ الْأَدَبِ أَوْ الِانْقِيَادُ إلَى الْحَقِّ أَوْ إسْقَاطُ الْجَاهِ وَسَوَادُ الْوَجْهِ فِي الدَّارَيْنِ كَمَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا يُوَافِقُ الْبَعْضَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِلْزَامَ وَعَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ هَذَا الْعِلْمِ أَخَافُ عَلَيْهِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ وَأَدْنَى النَّصِيبِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَتَسْلِيمُهُ لِأَهْلِهِ كَمَا مَرَّ (وَخُصُوصًا سَبْعَةٌ مِنْ الرَّذَائِلِ) لِشِدَّةِ قُبْحِهَا (فَإِنَّهَا أُمَّهَاتُ الْخَبَائِثِ فَعَسَى إنْ نَجَوْت مِنْهَا) بِالتَّأْيِيدِ الْإِلَهِيِّ (أَنْ تَنْجُوَ مِنْ غَيْرِهَا) فَإِنَّ الْأُصُولَ إذَا قُطِعَتْ تَيْبَسُ الْفُرُوعُ (أَيْضًا وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ وَالرِّيَاءُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ وَالْبُخْلُ وَالْإِسْرَافُ بَلْ أَزِيدُ) عَلَى التَّكَلُّمِ
(وَأَقُولُ إنْ نَجَوْت مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأُوَلِ فَلَعَلَّك تَفُوزُ وَتَنْجُو مِنْ بَاقِيهَا لِأَنَّ الْبَوَاقِيَ إمَّا أَسْبَابُهَا) أَيْ أَسْبَابُ الْأَرْبَعَةِ (أَوْ ثَمَرَاتُهَا) الْحَاصِلَةُ مِنْهَا كَالْكِبْرِ فَإِنَّهُ يُثْمِرُ الْحَسَدَ وَالرِّيَاءَ بِأَنَّهُ يُثْمِرُ الْإِسْرَافَ (أَوْ مُتَعَلِّقَاتُهَا فَزَوَالُهَا) أَيْ الْأَرْبَعَةِ (بِالتَّمَامِ يَسْتَلْزِمُ زَوَالَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ) الْبَاقِيَةِ مِنْهَا (وَالْأَوَّلَانِ) أَيْ الْكُفْرُ وَالْبِدْعَةُ (ظَاهِرًا الْفَسَادِ بَيِّنَا الْغَوَائِلِ) ظَاهِرَا الْمَهَالِكِ (غَنِيَّانِ عَنْ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ وَالْأَخِيرَانِ) الرِّيَاءُ وَالْكِبْرُ (قَدْ كَانَ أَكْثَرُ اهْتِمَامِ السَّلَفِ فِيهِمَا) قِيلَ أَيْ فِي الْوَقْتِ عَلَى قُبْحِهِمَا وَعَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهُمَا (حُكِيَ) فِي حَقِّ الرِّيَاءِ (عَنْ رَابِعَةَ الْعَدَوِيَّةِ أَنَّهَا قَالَتْ مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِي) بَيْنَ النَّاسِ وَإِنْ فَعَلْنَهَا فِي الْخَلْوَةِ (لَا أَعُدُّهُ شَيْئًا) لِأَنَّهَا قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ لَعَلَّ لِهَذَا اخْتَارَ السَّادَةُ الصُّوفِيَّةُ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ وَلَعَلَّ الِاحْتِجَاجَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِكَايَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْمَقَامِ الْخَطَّابِيِّ وَإِلَّا فَلَا يَصْلُحُ مِثْلُهَا حُجَّةً وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ إظْهَارَ الْعَمَلِ وَإِخْفَاءَهُ مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ
(وَعَنْ بَعْضِهِمْ) قِيلَ هُوَ الْبِسْطَامِيُّ (قَالَ قَضَيْت صَلَاةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً كُنْت صَلَّيْتهَا فِي الْمَسْجِدِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ أَنِّي تَأَخَّرْت يَوْمًا بِعُذْرٍ) عَنْ الصَّفِّ الْأَوَّلِ (فَصَلَّيْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي فَاعْتَرَتْنِي) أَيْ عَرَضَتْ لِي (خَجْلَةٌ) أَيْ حَيَاءٌ (مِنْ النَّاسِ حَيْثُ رَأَوْنِي قَدْ صَلَّيْت فِي الصَّفِّ الثَّانِي فَعَرَفْت أَنَّ نَظَرَ النَّاسِ إلَيَّ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ كَانَ يَسُرُّنِي بِسَبَبِ اسْتِرْوَاحِ نَفْسِي مِنْ حَيْثُ لَا أَشْعُرُ) أَيْ لَا أَعْلَمُ فَخِفْت مِنْ شَوْبِ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ قَضَيْت مِقْدَارَ ذَلِكَ الَّذِي صَلَّيْته فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ لُزُومَ الْقَضَاءِ فِي مِثْلِهِ وَلَوْ احْتِيَاطًا لَا يُوجَدُ فِي الْفِقْهِيَّةِ وَأَنَّ الصَّلَاةَ الَّتِي أَدَّيْت بِالْكَرَاهَةِ التَّحْرِيمِيَّةِ إنَّمَا تُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ خَارِجَهُ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ عَلَى أَنَّ كَرَاهَةَ الصَّلَاةِ فِي مِثْلِهِ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فَضْلًا عَنْ التَّحْرِيمِيَّةِ وَقَوْلُهُمْ
حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ إنَّمَا يَجْرِي فِيمَا يُعْلَمُ مَشْرُوعِيَّتُهُ وَلَوْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَوْ لَزِمَ قَضَاءُ مِثْلِهَا وَلَوْ نَدْبًا لَنُقِلَ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِينَ تَدَبَّرْ (وَقَالَ أَبُو يَزِيدَ الْبِسْطَامِيُّ) فِي حَقِّ الْكِبْرِ (مَا دَامَ الْعَبْدُ يَظُنُّ أَنَّ فِي الْخَلْقِ شَرًّا مِنْهُ) وَلَوْ نَحْوَ فِرْعَوْنَ كَمَا تَقَدَّمَ مَعَ أَشْكَالِهِ تَفْصِيلًا (فَهُوَ مُتَكَبِّرٌ فَقِيلَ لَهُ مَتَى يَكُونُ مُتَوَاضِعًا فَقَالَ إذَا لَمْ يَرَ لِنَفْسِهِ مَقَامًا) عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنْدَ النَّاسِ (وَلَا حَالًا) مِنْ الْأَحْوَالِ الْمَرْضِيَّةِ، الْحَالُ: مَا يَتَحَوَّلُ وَيَنْتَقِلُ وَالْمُقَدَّمُ مَا يَقُومُ وَيَثْبُتُ لَكِنْ إذَا تَحَقَّقَا وَثَبَتَا عِنْدَهُ كَيْفَ يُتَصَوَّرُ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ بَلْ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْكَذِبَ وَكُفْرَانَ النِّعْمَةِ فَلَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ عَدَمُ جَعْلِهَا آلَةً لِلْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ
(وَعَنْهُ) أَبِي يَزِيدَ (أَنَّهُ قَالَ كَابَدْت) الْمُكَابَدَةُ الْمَشَقَّةُ وَالتَّعَبُ (الْعِبَادَةَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فَرَأَيْت قَائِلًا يَقُولُ لِي يَا أَبَا يَزِيدَ خَزَائِنُهُ تَعَالَى مَمْلُوءَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ) لِكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْعِبَادِ (إنْ أَرَدْت الْوُصُولَ إلَيْهِ) إلَى اللَّهِ تَعَالَى (فَعَلَيْك بِالذُّلِّ وَالِاحْتِقَارِ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا ذَلِكَ كَانَ وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا (وَعَنْ الْجُنَيْدِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي مَجْلِسِهِ لَوْلَا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ زَعِيمُ الْقَوْمِ» أَيْ أَمِيرُهُمْ وَرَئِيسُهُمْ «أَرْذَلَهُمْ» مِنْ الرَّذَالَةِ (مَا تَكَلَّمْت عَلَيْكُمْ) بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّ هَذَا الْمَقَامَ مَقَامُ الرَّئِيسِ وَرَئِيسُهُمْ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَرْذَلُهُمْ وَأَنَا أَرْذَلُكُمْ فَلِهَذَا تَكَلَّمْت عَلَيْكُمْ
(وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ أَنَّهُ قَالَ مَا سُرِرْت فِي إسْلَامِي) أَيْ بَعْدَ تَرْكِ السَّلْطَنَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَعُدَّ نَفْسَهُ مُسْلِمًا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَذَا قِيلَ (إلَّا فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ كُنْت فِي سَفِينَةٍ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِضْحَاكٌ) مُبَالَغَةٌ مِنْ الضَّحِكِ (يَقُولُ كُنَّا فِي الْغَزْوِ نَأْخُذُ بِشَعْرِ الْعِلْجِ) بِالْكَسْرِ وَالسُّكُونِ كَافِرٌ غَلِيظٌ مِنْ كُفَّارِ الْعَجَمِ (فِي بِلَادِ التُّرْكِ هَكَذَا) إشَارَةً إلَى كَيْفِيَّةِ أَخْذِهِ (وَكَانَ يَأْخُذُ بِشَعْرِ رَأْسِي فَيَهُزُّنِي) أَيْ يُحَرِّكُنِي وَيَجْعَلُنِي آلَةَ ضَحِكٍ لَهُمْ (فَسَرَّنِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي تِلْكَ السَّفِينَةِ أَحَدٌ أَحْقَرُ) مِنْ حَيْثُ الدُّنْيَا (فِي عَيْنِهِ مِنِّي) يُرَادُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ الْقَبِيحَ مِنْهُ أَنْ يُعْلِمَهُ كَوْنَهُ عَالِمًا وَصَالِحًا فَيَفْعَلُهُ لِعِلْمِهِ وَصَلَاحِهِ فَكُفْرٌ وَإِلَّا فَأَذَى الْمُسْلِمِ مَعْصِيَةٌ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ السُّرُورُ عَلَى كُفْرِ الْغَيْرِ وَعِصْيَانِهِ وَأَنَّ الْمَرْءَ مَأْمُورٌ بِالتَّزَيُّنِ الَّذِي يُوجِبُ عَدَمَ الْمُهَانَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى نَوْعِهِ وَالْقَوْلُ إنَّ ذَلِكَ مِنْ قَبِيلِ الْفَتْوَى وَعَمَلُهُمْ إنَّمَا هُوَ بِطَرِيقِ التَّقْوَى غَيْرُ مَعْلُومٍ جَرْيُهُ هُنَا (وَ) ثَانِيهَا (كُنْت عَلِيلًا فِي مَسْجِدٍ) مِنْ الْمَسَاجِدِ (فَدَخَلَ الْمُؤَذِّنُ عَلَيَّ فَقَالَ لِي اُخْرُجْ) لَعَلَّهُ لِخَوْفِ سَرِقَةِ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ الْمَسْجِدِ (فَلَمْ أَطِقْ) الْخُرُوجَ لِغَايَةِ الضَّعْفِ فَلَمْ يَتَرَحَّمْ (فَأَخَذَ بِرِجْلِي وَجَرَّنِي إلَى خَارِجِ الْمَسْجِدِ) فَسَرَّنِي ذَلِكَ لِلتَّحْقِيرِ وَالِاسْتِخْفَافِ
(وَ) ثَالِثُهَا (كُنْت بِالشَّامِ