الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«وَخَلَقَ خَلْقًا يُذْنِبُونَ» لِيَتَحَقَّقَ مَظْهَرُ صِفَةِ الْغُفْرَانِ «فَيَغْفِرُ لَهُمْ»
قَالَ فِي الْمَبَارِقِ لَيْسَ هَذَا تَحْرِيضًا لِلنَّاسِ عَلَى الذُّنُوبِ بَلْ كَانَ صُدُورُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ وَإِزَالَةِ شِدَّةِ الْخَوْفِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْخَوْفَ كَانَ غَالِبًا عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّ بَعْضُهُمْ إلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ لِلْعِبَادَةِ وَبَعْضُهُمْ اعْتَزَلَ النِّسَاءَ وَبَعْضُهُمْ النَّوْمَ وَفِي الْحَدِيثِ تَنْبِيهٌ عَلَى رَجَاءِ مَغْفِرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل وَتَحْقِيقُ أَنَّ مَا ثَبَتَ فِي عِلْمِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يَغْفِرَ لِلْعَاصِي فَلَوْ قُدِّرَ عَدَمُ عَاصٍ يَخْلُقُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَعْصِيهِ فَيَغْفِرُ لَهُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «قَالَ تَعَالَى عز وجل لَوْ عَلِمَ عَبْدِي أَنِّي لَذُو قُدْرَةٍ عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ غَفَرْت لَهُ وَلَا أُبَالِي مَا لَمْ يُشْرِكْ بِي شَيْئًا» انْتَهَى قَوْلُهُ لِتَسْلِيَةِ الصَّحَابَةِ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَمْرِ كَذَلِكَ فِي الْوَاقِعِ وَإِلَّا فَلَا كَذِبَ لِلنَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام.
فَإِنْ قِيلَ هَذَا مِنْ قَبِيلِ تَعْلِيقِ الْمُحَالِ بِالْمُحَالِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمُذْنِبِ فِي عِلْمِهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَخَبَرِهِ يَجْعَلُ تَخَلُّفَهُ مُحَالًا قُلْنَا نَعَمْ لَكِنْ لَيْسَ مُحَالًا بِالذَّاتِ بَلْ بِالْغَيْرِ فَيَجْتَمِعُ مَعَ الْمُمْكِنِ الذَّاتِيِّ فَافْهَمْ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الذُّنُوبِ لِئَلَّا يَتَعَطَّلَ كَثِيرٌ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَالْعَفْوِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالِانْتِقَامِ وَالْغَضَبِ وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا أُشِيرَ آنِفًا أَنَّ انْتِظَارَ الْمَغْفِرَةِ إنَّمَا يُسَمَّى رَجَاءً إذَا تَمَهَّدَتْ جَمِيعُ أَسْبَابِهِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ اخْتِيَارِ الْعَبْدِ مِنْ بَثِّ بَذْرِ الْإِيمَانِ وَسَقْيِهِ بِمَاءِ الطَّاعَاتِ وَتَطْهِيرِ الْقَلْبِ مِنْ شَوْكِ الْأَخْلَاقِ الرَّدِيئَةِ وَانْتَظِرْ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى الثَّبَاتَ عَلَيْهِ إلَى الْمَوْتِ وَحُسْنَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ انْتِظَارُهُ رَجَاءً حَقِيقِيًّا مَحْمُودًا فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَ مَا ذُكِرَ مِنْ الشَّرَائِطِ ثُمَّ انْتَظَرَ الْمَغْفِرَةَ فَانْتِظَارُهُ حُمْقٌ وَغُرُورٌ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ فِي حَاصِلِ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ تَعَالَى كَمَا أَحَبَّ أَنْ يُحْسِنَ إلَى الْمُحْسِنِ أَحَبَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنْ الْمُسِيءِ.
[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]
(الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ التَّوَجُّعُ وَالتَّأَسُّفُ عَلَى مَا فَاتَ مِنْ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ)
الَّتِي غَرَّتْ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَمَاقَةِ وَالْجَهْلِ مَعَ أَنَّهَا سَمُومٌ قَاتِلَةٌ وَعَوْرَاتٌ بَادِيَةٌ وَفَضَائِحُ مُرْدِيَةٌ وَقَبَائِحُ مُهْلِكَةٌ تَعْلَمُهَا الْعُقَلَاءُ وَتَغْفُلُ عَنْهَا الْجُهَلَاءُ إذْ هِيَ حُظُوظٌ نَفْسَانِيَّةٌ وَأَعْرَاضٌ شَهْوَانِيَّةٌ حَيْثُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ (وَيَلْزَمُهُ الْفَرَحُ بِإِتْيَانِهَا وَإِقْبَالِهَا وَكَثْرَتِهَا وَمَنْشَؤُهُ) أَيْ الْحُزْنِ الْمَذْكُورِ
(حُبُّ الدُّنْيَا) الَّذِي هُوَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَمَعْدِنُ كُلِّ شَرٍّ وَمَقَرُّ كُلِّ هَوَى وَبِضَاعَةُ كُلِّ فَسَادٍ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا ثَلَاثَةٌ الْأَوَّلُ مَا يَصْحَبُك فِي الْآخِرَةِ وَيَبْقَى مَعَك ثَمَرَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالْعِلْمِ وَهُوَ لَذَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ عَاجِلَةٌ وَكَذَا الْعِبَادَاتُ لِمَنْ يَتَلَذَّذُ بِهَا وَالثَّانِي مَا فِيهِ حَظٌّ عَاجِلٌ لَا ثَمَرَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَالتَّلَذُّذِ بِالْمَعَاصِي وَالْمُبَاحَاتِ وَالثَّالِثُ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَهُمَا كَالطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ إنْ جُعِلَ وَسِيلَةً إلَى الْأَوَّلِ فَمِنْ عَمَلِ الْآخِرَةِ وَإِنْ إلَى الثَّانِي فَمِنْ الدُّنْيَا وَلَا يَبْقَى مَعَ الْعَبْدِ إلَّا صَفَاءُ الْقُلُوبِ وَذَلِكَ بِالْكَفِّ عَنْ الشَّهَوَاتِ وَالْأُنْسِ بِاَللَّهِ بِكَثْرَةِ ذِكْرِهِ وَمَحَبَّتِهِ الْحَاصِلَةِ مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهِيَ تَتَوَلَّدُ مِنْ الْفِكْرِ فَالْمُرَادُ هُنَا الثَّانِي مُطْلَقًا وَبَعْضُ الثَّالِثِ كَمَا لَا يَخْفَى.
ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا إمَّا أَعْيَانٌ كَالْأَرَاضِيِ لِلْبِنَاءِ وَالزِّرَاعَةِ وَإِمَّا مَعَادِنُ كَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَإِمَّا نَبَاتٌ كَالْمَلْبُوسِ وَالدَّوَاءِ وَالْغِذَاءِ وَإِمَّا حَيَوَانٌ كَالْبَهَائِمِ لِلْأَكْلِ وَالرُّكُوبِ وَإِمَّا إنْسَانٌ لِلْخِدْمَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْجَاهِ ثُمَّ لِلْعَبْدِ عَلَاقَتَانِ الْأُولَى بِالْقَلْبِ هُوَ حُبُّهُ لَهَا وَحَظُّهُ مِنْهَا وَانْصِرَافُ هَمِّهِ إلَيْهَا حَتَّى يَصِيرَ قَلْبُهُ كَالْعَبْدِ وَيَتَفَرَّعُ عَنْ هَذِهِ الْعَلَاقَةِ أَكْثَرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ كَالْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَحُبِّ الثَّنَاءِ وَالتَّفَاخُرِ وَالثَّانِيَةُ بِالْبَدَنِ وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِصْلَاحِ مَا ذُكِرَ وَيُشِيرُ إلَيْهَا قَوْلُهُ (وَتَوَقُّعُ) انْتِظَارِ (حُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ وَبَقَائِهَا) وَتَفْصِيلُ تِلْكَ الْمَطَالِبِ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ نَوْعَ الْإِنْسَانِ مُضْطَرٌّ إلَى الْقُوتِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَلْبَسِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى الْفِلَاحَةِ لِتَحْصِيلِ النَّبَاتِ وَالرِّعَايَةِ لِحِفْظِ الْحَيَوَانِ وَإِنْمَائِهِ وَالِاقْتِنَاصِ لِتَحْصِيلِ نَحْوِ صَيْدٍ وَمَعْدِنٍ أَوْ حَطَبٍ وَالْحِيَاكَةِ كَالْغَزْلِ وَالْخِيَاطَةِ لِلْمَلْبَسِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَسْكَنِ ثُمَّ هَذِهِ الصِّنَاعَاتُ مُفْتَقِرَةٌ إلَى الْأَدَوَاتِ وَالْآلَاتِ فَاحْتِيجَ إلَى النِّجَارَةِ وَهِيَ الْعَمَلُ فِي الْخَشَبِ وَالْحِدَادَةِ هِيَ الْعَمَلُ فِي الْمَعْدِنِ وَالْخَرْزِ هِيَ الْعَمَلُ فِي جُلُودِ الْحَيَوَانِ فَهَذِهِ أُمُّ الصِّنَاعَاتِ ثُمَّ لِكَوْنِ الْإِنْسَانِ مَدَنِيًّا بِالطَّبْعِ احْتَاجَ إلَى مُعَاشَرَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَهَكَذَا وَهَكَذَا هِيَ الْمَطَالِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ الْمَشَارَةُ (وَهُوَ) أَيْ تَوَقُّعُ حُصُولِ جَمِيعِ الْمَطَالِبِ وَبَقَائِهَا (جَهْلٌ) بِحَقِيقَةِ الْحَالِ إذْ النَّيْلُ لِجَمِيعِ تِلْكَ الْمُنَى مُحَالٌ لَا مَحَالَةَ
إنَّ مَنْ جَدَّ إلَى نَيْلِ الْمُنَى
…
كَدَّ فِيمَا سَعْيُهُ لَنْ يُوصِلَا
فَاتْرُكِي نَفْسِي سَعْيًا فِي الْمُنَى
…
لِتَنَالِي وَصْلَ مَنْ لَنْ يَفْصِلَا
(فَلْتَتَوَجَّهْ) أَيُّهَا السَّالِكُ (إلَى الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ) مِنْ مُرْضِيَاتِ الْحَسَنَاتِ مُعْرِضًا عَنْ مِثْلِ تِلْكَ الزَّائِلَاتِ الْفَانِيَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [الكهف: 46] لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الصَّالِحَاتِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ الْعَامَّةُ وَإِنْ فُسِّرَتْ بِنَحْوِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْحَجِّ وَصِيَامِ رَمَضَانَ وَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ تَأْتِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُجَنِّبَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ فَلَعَلَّهُ مَجَازٌ لِكَوْنِهَا جَامِعَةً لِجَمِيعِ الْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ كَمَا فِي الْفَيْضِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) تَحْذِيرًا مِنْ الْحُزْنِ الْمَذْكُورِ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] عِلَّةٌ لِلتَّقْرِيرِ وَالْكَتْبِ أَيْ أَثْبَتَ وَكَتَبَ لِكَيْ لَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] بِمَا أَعْطَاكُمْ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا فَإِنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الْكُلَّ مُقَدَّرٌ هَانَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْيُ الْحُزْنِ الْمَانِعِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَرَحِ الْمُوجِبِ لَلْبَطِرِ وَالِاخْتِيَالِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْآفَاتِ إمَّا دِينِيَّةٌ وَهِيَ ثَلَاثٌ الْأُولَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقُدْرَةَ بِالْمَالِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَإِنْ أَقْدَمَ هَلَكَ وَإِنْ صَبَرَ وَقَعَ فِي شِدَّةٍ الثَّانِيَةُ أَنَّ الْمَالَ يَجُرُّهُ إلَى التَّنَعُّمِ بِالْمُبَاحَاتِ ثُمَّ