المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[مبحث في سبب حب المال وعلاجه] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٣

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي غَوَائِل الْبُخْل وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حُبُّ الْمَالِ لِلْحَرَامِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي ذَمِّ الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْعَجَلَةُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ وَالتَّضَجُّرُ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْجُرْأَةُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ]

- ‌[الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ التَّمَرُّدُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الصَّلَفُ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْجَرْبَزَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ وَالْحَمَاقَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْخُمُودُ]

- ‌[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقِسْم الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَهُوَ سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّانِي مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّالِثُ الْخَطَأُ]

- ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ]

- ‌[السَّادِسُ الْغِيبَةُ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ النَّمِيمَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ]

- ‌[التَّاسِعُ اللَّعْنُ]

- ‌[الْعَاشِرُ السَّبُّ]

- ‌[الْحَادِي عَشَرَ الْفُحْشُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالتَّعْيِيرُ]

- ‌[الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ حُكْمُ الْمِرَاء]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ]

- ‌[السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ]

- ‌[التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنُ]

- ‌[الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى]

- ‌[الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ]

- ‌[التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ]

- ‌[الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّلَاثُونَ افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ]

- ‌[الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالَ الْخُطْبَةِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ]

- ‌[الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ]

الفصل: ‌[مبحث في سبب حب المال وعلاجه]

لَا يَظْهَرُ إلَّا بِلُزُومٍ خَفِيٍّ.

وَعَنْ الْحَسَنِ أَخَذَ إبْلِيسُ أَوَّلَ دِرْهَمٍ ضُرِبَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ، وَقَالَ مَنْ أَحَبَّك فَهُوَ عَبْدِي، وَعَنْ وَهْبٍ قَالَ سُلَيْمَانُ عليه الصلاة والسلام لِإِبْلِيسِ مَا أَنْتَ صَانِعٌ بِأُمَّةِ عِيسَى قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَيْ لَأَشْغَلَنَّهُمْ يَتَّخِذُونَ إلَهَيْنِ قَالَ فَمَا أَنْتَ صَانِعٌ بِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام قَالَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ حَتَّى يَكُونَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَشْهَى مِنْ شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ سُلَيْمَانُ أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْك فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَهَبَ كَمَا فِي تَنْبِيهِ الْغَافِلِينَ. (ت عَنْ كَعْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً» امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا، وَقَالَ الْقَاضِي ضَلَالًا، وَعِصْيَانًا «، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ» ؛ لِأَنَّهُ يَشْغَلُ الْبَالَ عَنْ الْقِيَامِ بِالطَّاعَةِ وَيُنْسِي الْآخِرَةَ.

[مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ]

(الْمَبْحَثُ الثَّانِي) . (فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ. وَسَبَبُهُ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ: حُبُّ الْأَوْلَادِ وَالْأَقَارِبِ) فَيَجْتَهِدُ فِي الْكَسْبِ لِإِغْنَائِهِمْ عَنْ الِاحْتِيَاجِ (وَعِلَاجُهُ أَنْ يَتَذَكَّرَ أَنَّ الَّذِي خَلَقَهَا) أَيْ الْأَنْفُسَ الْمَذْكُورَةَ (خَلَقَ مَعَهَا رِزْقَهَا) قَالَ اللَّه تَعَالَى {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وَأَوْجَدَ رِزْقَ كُلٍّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ حَدِيثِ «خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ فَكَتَبَ آجَالَهُمْ، وَأَعْمَارَهُمْ، وَأَرْزَاقَهُمْ وَمَنْ رَامَ مِنْهُمْ فَوْقَ مَا فُرِضَ لَهُ مِنْ الرِّزْقِ فَقَدْ كَدَّ نَفْسَهُ، وَأَتْعَبَ جِسْمَهُ، وَلَمْ يَأْتِ إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» ، وَفِي الْجَامِعِ أَيْضًا الرِّزْقُ أَشَدُّ طَلَبًا لِلْعَبْدِ مِنْ أَجَلِهِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ بِهِ وَضَمِنَهُ وَوَعْدُهُ لَا يَتَخَلَّفُ وَضَمَانُهُ لَا يَتَأَخَّرُ؛ وَلِذَا قَالَ بَعْضٌ: الرِّزْقُ يَطْرُقُ عَلَى صَاحِبِهِ الْبَابَ وَالرِّزْقُ يَطْلُبُ الْمَرْزُوقَ وَبِسُكُونِ أَحَدِهِمَا يَتَحَرَّكُ الْآخَرُ قَالَ الْغَزَالِيُّ قَدْ قَسَمَ اللَّهُ الْأَرْزَاقَ وَكَتَبَهَا فِي اللَّوْحِ، وَقَدَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَا يَأْكُلُهُ وَيَشْرَبُهُ وَيَلْبِسُهُ كُلٌّ بِمِقْدَارٍ مُقَدَّرٍ وَبِوَقْتٍ مُوَقَّتٍ لَا يَزِيدُ، وَلَا يَنْقُصُ، وَلَا يَتَقَدَّمُ، وَلَا يَتَأَخَّرُ كَمَا كُتِبَ بِعَيْنِهِ فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَحْرِصَ فِي رِزْقِهِ بَلْ يَكِلَهُ إلَى اللَّهِ الَّذِي تَوَلَّى الْقِسْمَةَ فِي خَلْقِهِ.

(وَكَمْ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَرِثْ عَنْ أَبِيهِ مَالًا) كَأَوْلَادِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَصَابَ كُلًّا مِنْهُمْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا مِنْ أَبِيهِ (وَحَالُهُ أَحْسَنُ مِمَّنْ وَرِثَ) عَنْ أَبِيهِ مَالًا عَظِيمًا كَأَوْلَادِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ حَيْثُ اقْتَسَمُوا الذَّهَبَ بِالْمَكَايِيلِ وَبَعْدَ زَمَانٍ قِيلَ سَأَلَ بَعْضُهُمْ النَّاسَ لِفَاقَتِهِ (وَ) أَنْ يَتَذَكَّرَ (أَنَّهُمْ إنْ كَانُوا أَتْقِيَاءَ فَيَكْفِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى) بِوَعْدِهِ {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» لَكِنْ يَشْكُلُ بِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبِ الْكَسْبِ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ فَلْيُتَأَمَّلْ. (وَإِنْ كَانُوا فَسَقَةً فَيَسْتَعِينُونَ بِمَالِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَرْجِعُ مَظْلِمَتُهُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَالَهُ آلَةً لِفِسْقِهِمْ وَظُلْمِهِمْ أَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا التَّرْدِيدِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ حِينَ عَيَّرَهُ وَاحِدٌ مِمَّنْ يَعُودُهُ بِعَدَمِ تَرْكِهِ شَيْئًا لِأَبْنَائِهِ الِاثْنَيْ عَشَرَ (إنْ عَلِمَ أَوْ ظَنَّ) اسْتِعَانَتَهُمْ بِهِ عَلَى الْفِسْقِ وَالظُّلْمِ، وَإِلَّا فَلَا تَرْجِعُ مَظْلِمَتُهُ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا فِي الْفَتَاوَى: الْوَصِيَّةُ بِتَمَامِ الثُّلُثِ أَفْضَلُ عِنْدَ كَوْنِ الْوَرَثَةِ كِبَارًا فَسَقَةً.

(وَ) السَّبَبُ (الثَّانِي التَّلَذُّذُ بِوُجُوبِ الْمَالِ وَرُؤْيَتِهِ وَتَقْلِيبِهِ بِيَدِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهِ) بِأَنْ تَمَكَّنَ حُبُّهُ فِي قَلْبِهِ، وَهَذَا شَأْنُ الْمُحِبِّ مَعَ مَحْبُوبِهِ

ص: 13

(فَلَا تَسْمَحُ) فَلَا تَرْضَى (نَفْسُهُ بِأَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَتَصَدَّقَ مِنْهُ) مُحَافَظَةً عَلَى غَرَضِ التَّلَذُّذِ (وَهَذَا) السَّبَبُ (مَرَضٌ لِلْقَلْبِ عَسِيرُ الْعِلَاجِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خُبْثِ الطَّبْعِ (لَا سِيَّمَا فِي كِبَرِ السِّنِّ) ؛ لِأَنَّهُ يَشِيبُ ابْنُ آدَمَ وَيَشُبُّ فِيهِ خَصْلَتَانِ الْحِرْصُ وَطُولُ الْأَمَلِ، الْحَدِيثَ.

(فَإِنْ قَبِلَ الْعِلَاجَ فَبِكَثْرَةِ التَّأَمُّلِ فِيمَا وَرَدَ) مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ (مِنْ ذَمِّ الْبُخْلِ وَالْبُخَلَاءِ وَنُفُورِ الطَّبْعِ عَنْهُمْ وَذَمِّ الْمَالِ وَآفَاتِهِ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]- وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «اللَّهُمَّ مَنْ أَحَبَّنِي فَارْزُقْهُ الْعَفَافَ وَالْكَفَافَ وَمَنْ أَبْغَضَنِي فَأَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ» وَرُوِيَ أَنَّهُ مَاتَ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ رَجُلٌ وَخَلَّفَ ابْنَيْنِ، وَقَصْرًا فَتَخَاصَمَا فِي قِسْمَتِهِ فَتَكَلَّمَتْ لَبِنَةٌ مِنْ الْقَصْرِ بِأَنْ لَا تَخَاصَمُوا لِأَجْلِي فَلَقَدْ كُنْت مَلِكًا عَمَّرْت ثَلَاثَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً ثُمَّ مِتَّ فَبَقِيتُ فِي الْقَبْرِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ رُفِعَ تُرَابِي وَجُعِلَ مِنِّي آنِيَةٌ فَبَقِيَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ انْكَسَرْتُ وَرُمِيَتْ فِي الطَّرِيقِ مِائَةً وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمَّ ضُرِبَتْ لَبِنَةً وَوُضِعَتْ فِي هَذَا الْقَصْرِ مُنْذُ ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً أَفَتُخَاصِمُونَ وَسَتَصِيرُونَ مِثْلِي فَاعْتَبِرُوا بِي.

وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَإِنَّ فِتْنَةَ أُمَّتِي الْمَالُ، وَأَفْضَلُ أَمْوَالِ الدُّنْيَا الدِّرْهَمُ وَالدِّينَارُ وَآخِرُ الْأَوَّلِ هَمٌّ وَآخِرُ الثَّانِي هُوَ النَّارُ» (وَمَدْحِ السَّخَاءِ) كَمَا مَرَّ، وَفِي الْمَوَاقِفِ أَنَّهُ اُشْتُهِرَ أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يُؤْثِرُ الْمَحَاوِيجَ وَالْمَسَاكِينَ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَهْلِهِ حَتَّى تَصَدَّقَ فِي الصَّلَاةِ بِخَاتَمِهِ وَنَزَلَ - {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] .

وَفِي حَاشِيَةِ الْمَوْلَى حَسَنٍ جَلَبِيٌّ رُوِيَ أَنَّهُ مَرِضَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ فَنَذَرَ عَلِيٌّ، وَفَاطِمَةُ وَجَارِيَتُهُمَا إنْ عُوفِيَا صِيَامَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعُوفِيَا، وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ فَاسْتَقْرَضَ عَلِيٌّ ثَلَاثَةَ أَصْوَاعِ شَعِيرٍ مِنْ يَهُودِيٍّ وَطَحَنَتْ فَاطِمَةُ صَاعًا وَخَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ عَلَى عَدَدِهِمْ فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ قَالَ سَائِلٌ يَا أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ أَنَا مِسْكِينٌ مِنْ مَسَاكِينِ الْمُسْلِمِينَ أَطْعِمُونِي أَطْعَمَكُمْ اللَّهُ مِنْ مَوَائِدِ الْجَنَّةِ فَآثَرُوهُ بِهِ وَبَاتُوا، وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئًا فَأَصْبَحُوا صِيَامًا، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ خَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ مِنْ الصَّاعِ الثَّانِي فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ سَأَلَ يَتِيمٌ فَآثَرُوهُ بِهِ، وَلَمْ يَطْعَمُوا شَيْئًا فَأَصْبَحُوا صِيَامًا، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ خَبَزَتْ خَمْسَةَ أَقْرَاصٍ مِنْ الصَّاعِ الثَّالِثِ فَعِنْدَ الْإِفْطَارِ سَأَلَ أَسِيرٌ فَآثَرُوهُ بِهِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى - {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7]- الْآيَاتِ لَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ مَدْخُولَةٌ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ (وَ) مَدْحِ (الزُّهْدِ) هُوَ مَا نُقِلَ عَنْ الْجُنَيْدِ اسْتِصْغَارُ الدُّنْيَا وَمَحْوُ آثَارِهَا مِنْ الْقَلْبِ.

وَعَنْهُ أَيْضًا هُوَ خُلُوُّ الْيَدِ مِنْ الْمِلْكِ وَالْقَلْبِ مِنْ التَّتَبُّعِ، وَعِنْدَ الشِّبْلِيِّ هُوَ أَنْ تَزْهَدَ فِيمَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى.

وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زَيْدٍ هُوَ تَرْكُ الدُّنْيَا وَالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ كَذَا فِي الْقُشَيْرِيَّةِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - رَكْعَتَانِ مِنْ زَاهِدٍ عَالِمٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ الْمُتَعَبِّدِينَ الْمُجْتَهِدِينَ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ أَبَدًا سَرْمَدًا قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِبَعْضِ التَّابِعِينَ أَنْتُمْ أَكْثَرُ أَعْمَالًا وَاجْتِهَادًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُمْ كَانُوا خَيْرًا مِنْكُمْ لِكَوْنِهِمْ أَزْهَدَ مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا فَمَقَادِيرُ الْأَعْمَالِ مِنْ طَاعَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ قَلِيلَةً فِي الْحُسْنِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ فِي التَّحَقُّقِ، وَعَمَلُ رَاغِبِي الدُّنْيَا، وَإِنْ كَثِيرًا فِي الْحِسِّ قَلِيلٌ فِي الْحَقِيقَةِ لِعَدَمِ سَلَامَتِهِمْ مِنْ قَوَادِحِ الْخُلُوصِ، وَعَنْ مَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ إنَّمَا تُمْكِنُ بِإِخْرَاجِ الدُّنْيَا مِنْ الْقَلْبِ، وَعَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيِّ شَكَا بَعْضُ النَّاسِ إلَى بَعْضِ الصَّالِحِينَ أَنَّهُ يَعْمَلُ أَعْمَالَ الْبِرِّ، وَلَا يَجِدُ حَلَاوَةً فِي قَلْبِهِ قَالَ؛ لِأَنَّ عِنْدَك بِنْتَ إبْلِيسَ، وَهِيَ الدُّنْيَا، وَلَا بُدَّ لِلْأَبِ أَنْ يَزُورَ بِنْتَهُ فِي بَيْتِهَا، وَهُوَ قَلْبُك، وَلَا يُؤْثِرُ دُخُولَهُ إلَّا فَسَادًا.

وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يُعْطَى الزَّاهِدُ ثَوَابَ الْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ ثُمَّ يُقْسَمُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ثَوَابُ أَعْمَالِهِ كَذَا فِي شَرْحِ الْحِكَمِ (وَ) بِكَثْرَةِ (الْبَذْلِ تَكَلُّفًا) لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ طَبْعِهِ (حَتَّى يَصِيرَ) بِالْمُدَاوَمَةِ (طَبْعًا لَهُ.

وَالثَّالِثُ: حُبُّ الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ الْعَاجِلَةِ قَبْلَ الْمَوْتِ الَّتِي لَا وُصُولَ لَهَا إلَّا بِالْمَالِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِحُبِّ الدُّنْيَا) كَاللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالْأَبْنِيَةِ الْعَالِيَةِ وَالْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْحَدَائِقِ.

حَاصِلُ الْكُلِّ حُبُّ الدُّنْيَا الَّتِي هِيَ رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَإِنْ كَانَ

ص: 14

حَدِيثًا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ (وَهُوَ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ) مِنْ آفَاتِ الْقَلْبِ (مَعَ طُولِ الْأَمَلِ) ؛ لِأَنَّهُ مَعَ قِصَرِهِ لَا يُتَصَوَّرُ حُبُّ الدُّنْيَا (وَعِلَاجُ طُولِ الْأَمَلِ كَثْرَةُ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَغَوَائِلِهِ، وَقَدْ سَبَقَ) بَيَانُهُمَا (وَأَمَّا حُبُّ الدُّنْيَا فَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَرَامِ فَحَرَامٌ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْحَلَالِ فَلَا) ؛ لِأَنَّهُ فِي أَمْرٍ مُبَاحٍ (وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ جِدًّا) ؛ لِأَنَّهُ مَنْبَعُ كُلِّ شَرٍّ وَمَعْدِنُ كُلِّ فِتْنَةٍ لَا يَخْفَى مَا فِي إطْلَاقِهِ بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ. .

(وَفِيهِ) أَيْ فِي بَيَانِ حُبِّ الدُّنْيَا (مَقَالَتَانِ الْمَقَالَةُ الْأُولَى فِي ذَمِّهِ وَغَوَائِلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]- الْآيَةَ){وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} [الحديد: 20] يَعْنِي أَنَّهَا أُمُورٌ خَيَالِيَّةٌ قَلِيلَةُ النَّفْعِ سَرِيعَةُ الزَّوَالِ أَتْعَابٌ كَتَعْذِيبِ الْحَيَوَانِ وَمَلْعَبَةِ الصِّبْيَانِ فِي عَدَمِ الْفَائِدَةِ، وَلَهْوٌ يَلْهُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ عَمَّا يُهِمُّهُمْ وَزِينَةٌ كَالْمَلَابِسِ الْحَسَنَةِ الْبَهِيَّةِ وَالْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ وَتَفَاخُرٌ بِالْأَنْسَابِ وَتَكَاثُرٌ بِالْعَدَدِ فَإِنْ قِيلَ الدُّنْيَا رُبَّمَا تَكُونُ خَيْرًا كَكَوْنِ الْأَمْوَالِ مَصْرُوفَةً إلَى رِضَاهُ وَطَاعَاتِهِ وَكَوْنِ الْأَوْلَادِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَدِّيَةِ وَالْأَعْمَالِ الْغَيْرِ الْمُنْقَطِعَةِ قُلْنَا مُثِّلَ هَذَا بِالْعَوَارِضِ الْخَارِجِيَّةِ وَالْكَلَامِ إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطَبْعُهُ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ (ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ» مَطْرُودَةٌ وَمَبْغُوضَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ مَتْرُوكَةٌ مُبْعَدَةٌ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْ النُّفُوسَ بِزَهْرَتِهَا، وَلَذَّتِهَا وَإِمَالَتِهَا عَنْ الْعُبُودِيَّةِ إلَى الْهَوَى حَتَّى سَلَكَتْ غَيْرَ طَرِيقِ الْهُدَى «مَلْعُونٌ مَا فِيهَا» مِنْ الشَّهَوَاتِ كَحُبِّ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ» أَيْ كُلَّ شَيْءٍ مُذَكِّرٍ لِلَّهِ تَعَالَى «وَمَا وَالَاهُ» أَيْ يُحِبُّهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْمُوَالَاةُ الْمَحَبَّةُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْمُرَادُ يَعْنِي مَلْعُونٌ مَا فِي الدُّنْيَا إلَّا ذِكْرَ اللَّهِ وَمَا أَحَبَّهُ اللَّهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا وَمَا سِوَاهُ مَلْعُونٌ «، وَعَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا» فَإِنَّ هَذِهِ مُسْتَثْنَيَاتٌ مِنْ أَعْمَالِ الْآخِرَةِ، وَفِي عَطْفِ عَالِمًا أَوْ مُتَعَلِّمًا بَعْدَ دُخُولِهِمَا فِي مَا وَالَاهُ عَلَى طَرِيقِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ تَنْبِيهٌ عَلَى شَرَفِ الْعِلْمِ وَالتَّعْلِيمِ وَتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ سِوَاهُمَا هَمَجٌ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هُنَا جَامِعُوا الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ، وَفِيهِ أَيْضًا أَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَرَأْسُ كُلِّ الْعِبَادَةِ وَالْحَدِيثُ مِنْ كُنُوزِ الْحِكَمِ وَجَوَامِعِ الْكَلِمِ لِدَلَالَتِهِ بِالْمَنْطُوقِ عَلَى جَمِيعِ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَبِالْمَفْهُومِ عَلَى رَذَائِلِهَا الْقَبِيحَةِ.

وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ، وَهُوَ مَا لَيْسَ لَهُ بَقَاءٌ؛ لِأَنَّ مَا خُلِقَ فِيهَا يُسْتَمْتَعُ بِهِ مَعَ حَقَارَتِهِ أَمَدًا قَلِيلًا ثُمَّ يَنْقَضِي وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَاتِ الدُّنْيَوِيَّةَ

ص: 15

حَقِيرَةٌ، وَأَنَّهَا أَطْيَبُ حَلَالٍ فِي الدُّنْيَا لِحِفْظِهَا زَوْجَهَا مِنْ الْحَرَامِ، وَإِعَانَتِهَا عَلَى الْقِيَامِ بِالْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ؛ وَلِكَوْنِهَا سَبَبًا لِلذَّرَارِيِّ الَّتِي هِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ صَالِحَةً كَانَتْ شَرَّ مَتَاعٍ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «حُبِّبَ إلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمْ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ» ، وَأَيْضًا «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا كَانَ لِلَّهِ عز وجل» ، وَأَيْضًا فِيهِ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ» ، وَأَيْضًا «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُونٌ مَا فِيهَا إلَّا مَا اُبْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى» قَدْ أَعْلَمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَالْأَرْبَعَةِ قَبْلَهُ أَنَّ الدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ إلَيْهِ تَعَالَى إلَّا مَا فِيهِ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ أَوْ جَلْبُ مَنْفَعَةٍ فَالْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ يَنْدَفِعُ بِهَا مَفْسَدَةُ الزِّنَا، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ جِمَاعُ الْمَنَافِعِ، وَالذِّكْرُ جِمَاعُ الْعِبَادَةِ وَمَنْشُورُ الْوِلَايَةِ وَالْكُلُّ يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِيهَا حُجَّةٌ لِمَنْ فَضَّلَ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى قَالُوا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَعَنَهَا، وَأَبْغَضَهَا إلَّا مَا كَانَ لَهُ فِيهَا وَمَنْ أَحَبَّ مَا لَعَنَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَأَبْغَضَهُ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِلَعْنَتِهِ وَغَضَبِهِ كَذَا فِي الْفَيْضِ لَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ فَضَّلَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الْغَنِيِّ شَاكِرًا وَمِنْ جُمْلَةِ شُكْرِهِ جَعْلُ الدُّنْيَا وَسِيلَةً لِلْآخِرَةِ بِنَحْوِ الصَّدَقَةِ وَالصَّرْفِ إلَى وُجُوهِ الْخَيْرِ فَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً لَهُمْ قَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ، وَقِيلَ «أَوْحَى اللَّهُ إلَى الدُّنْيَا أَنْ تَضَيَّقِي وَتَشَدَّدِي عَلَى أَوْلِيَائِي وَتَرَفَّهِي وَتَوَسَّعِي عَلَى أَعْدَائِي حَتَّى يَشْتَغِلُوا بِك عَنِّي فَلَا يَتَفَرَّغُوا لِذِكْرِي» ، وَقَدْ سَمِعْت حَدِيثَ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» .

وَأَنْشَدَ أَبُو الثَّعَالِي شِعْرًا

تَنَحَّ عَنْ الدُّنْيَا فَلَا تَخْطُبَنَّهَا

وَلَا يَخْطُبَنَّ قِتَالَهُ مَنْ يُنَاكِحُ

فَلَيْسَ يَفِي مَرْجُوُّهَا بِمَخُوفِهَا

وَمَكْرُوهُهَا إمَّا تَأَمَّلْتَ رَاجِحُ

(وَقَالَ أَبُو الْعَتَاهِيَةِ)

هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى

وَدَارُ الْفَنَاءِ وَدَارُ الْعِبَرْ

وَلَوْ نُلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا

لَمِتَّ وَلَمْ تَكُ تَقْضِي الْوَطَرْ

أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْبَقَاءِ

وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ

إذَا مَا كَبِرْتَ وَبَانَ الشَّبَابُ

فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ

وَقَالَ بَعْضُ الْبُلَغَاءِ

دَارُ الدُّنْيَا كَأَحْلَامِ الْمَنَامِ

وَسُرُورُهَا كَظِلِّ الْغَمَامِ

وَأَحْدَاثُهَا كَصَوَائِبِ السِّهَامِ

وَشَهَوَاتُهَا كَمَشُوبِ خَلْطِ السِّمَامِ

وَفِتْنَتُهَا كَأَمْوَاجِ الْطَوَامِّ

(ت عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» مَثَلٌ لِزِيَادَةِ الْقِلَّةِ وَغَايَةِ الْحَقَارَةِ «مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» أَيْ لَا يُمَتِّعُهُ أَدْنَى تَمَتُّعٍ هَذَا أَعْدَلُ شَاهِدٍ عَلَى حَقَارَةِ الدُّنْيَا قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: أَدْنَى عَلَامَاتِ الْفَقِيرِ لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا بِأَسْرِهَا لِوَاحِدٍ فَأَنْفَقَهَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ خَطَرَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْهَا مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ مَاهِيَّةُ الْفَقِيرِ، وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَاَللَّهِ لَدُنْيَاكُمْ عِنْدِي أَهْوَنُ مِنْ عِرْقِ خِنْزِيرٍ فِي يَدِ مَجْذُومٍ، وَقَدْ قِيلَ

وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ لَا يَرَى مَا يَسُوءُهُ

فَلَا يَتَّخِذْ شَيْئًا يَخَافُ لَهُ فَقْدًا

(دُنْيَا) ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يُصِيبُ عَبْدٌ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا» ، وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ فَإِنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ «إلَّا نُقِصَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ «مِنْ دَرَجَاتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى» لَفْظَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ «، وَإِنْ كَانَ» ذَلِكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْإِصَابَةِ «عَلَيْهِ» أَيْ عَلَى اللَّهِ «كَرِيمًا» مُكْرَمًا مَحْبُوبًا لَعَلَّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ صَرْفِ مَا أَصَابَهُ إلَى رِضَاهُ تَعَالَى بَلْ يَتَلَذَّذُ بِمُبَاحَاتِهِ، وَقِيلَ

هِيَ الدُّنْيَا أَقَلُّ مِنْ الْقَلِيلِ

وَعَاشِقُهَا أَذَلُّ مِنْ الذَّلِيلِ

تَصُمُّ بِسِحْرِهَا قَوْمًا وَتُعْمِي

فَهُمْ مُتَحَيِّرُونَ بِلَا دَلِيلِ

(حَدّ) أَحْمَدُ (ز) الْبَزَّارُ (حب) ابْنُ حِبَّانَ (حك) الْحَاكِمُ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ

ص: 16

- رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ» ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ الْمَحَبَّةِ تَقْتَضِي اسْتِحْصَالَ شَهَوَاتِهَا وَالتَّوَجُّهَ إلَى مُيُولَاتِهَا فَلَا يَتَفَرَّغُ لِعَمَلِ الْآخِرَةِ وَمَنْ نَظَرَ إلَى فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحِسَابِ حَلَالِهَا، وَعَذَابِ حَرَامِهَا وَشَاهَدَ بِنُورِ إيمَانِهِ جَمَالَ الْآخِرَةِ أَضَرَّ بِنَفْسِهِ فِي دُنْيَاهُ بِتَحَمُّلِ مَشَاقِّ الْعِبَادَاتِ وَتَجَنُّبِ الشَّهَوَاتِ فَصَبَرَ قَلِيلًا وَتَنَعَّمَ طَوِيلًا؛ وَلِأَنَّ مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ شَغَلَتْهُ عَنْ تَفْرِيغِ قَلْبِهِ لِحُبِّ رَبِّهِ؛ وَلِسَانِهِ لِذِكْرِهِ فَتَضُرُّ بِآخِرَتِهِ، وَلَا بُدَّ كَمَا أَنَّ مَحَبَّةَ الْآخِرَةِ تَضُرُّ بِالدُّنْيَا.

وَلَا بُدَّ كَمَا قَالَ (وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ) بِتَحَمُّلِ مَا يَنْفَعُهُ فِيهَا (أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ) أَيْ هُمَا كَكِفَّتَيْ الْمِيزَانِ فَإِذَا رَجَحَتْ إحْدَاهُمَا خَفَّتْ الْأُخْرَى وَكَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمُحَالٌ أَنْ يَظْفَرَ سَالِكُ طَرِيقِ الشَّرْقِ بِمَا يُوجَدُ فِي الْغَرْبِ وَكَالضَّرَّتَيْنِ إذَا رَضِيَتْ إحْدَاهُمَا سَخِطَتْ الْأُخْرَى فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَكَادُ يَكُونُ إلَّا لِمَنْ سَخَّرَهُ اللَّهُ لِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ فِي مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ، وَهُمْ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. «فَآثِرْ» أَنْتَ «مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» وَمَنْ أَحَبَّهَا صَيَّرَهَا غَايَتَهُ وَتَوَسَّلَ إلَيْهَا بِالْأَعْمَالِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ وَسَائِلَ إلَيْهِ، وَإِلَى الْآخِرَةِ فَعَكَسَ الْأَمْرَ، وَقَلَّتْ الْحِكْمَةُ فَانْتَكَسَ قَلْبُهُ، وَعَكَسَ قَضِيَّتَهُ إلَى وَرَائِهِ، وَهَذَا سِرٌّ مَنْكُوسٍ، وَقَلْبٌ مَعْكُوسٍ، وَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إذَا قَرَبْت مِنْ إحْدَاهُمَا بَعُدْت مِنْ الْأُخْرَى، وَفِي الْحَدِيثِ «فَكُونُوا أَبْنَاءَ الْآخِرَةِ، وَلَا تَكُونُوا أَبْنَاءَ الدُّنْيَا» ، وَعَنْ فُضَيْلٍ رحمه الله لَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى وَالْآخِرَةُ مِنْ خَزَفٍ يَبْقَى لَكَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْتَارَ خَزَفًا يَبْقَى فَكَيْفَ نَخْتَارُ خَزَفًا يَفْنَى عَلَى ذَهَبٍ يَبْقَى.

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَثَلُ صَاحِبِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ الْمَاشِي عَلَى الْمَاءِ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ لَا يَبْتَلَّ قَدَمَاهُ فَكُلُّ مَا أَلْهَاك عَنْ مَوْلَاك فَهُوَ دُنْيَاك» .

وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا زَهَّدَهُ فِي الدُّنْيَا وَرَغَّبَهُ فِي الْآخِرَةِ وَبَصَّرَهُ بِعُيُوبِ نَفْسِهِ» ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبُّك اللَّهُ وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ» .

(هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «هَلْ مِنْ أَحَدٍ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ إلَّا ابْتَلَّتْ قَدَمَاهُ قَالُوا لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ كَذَلِكَ صَاحِبُ الدُّنْيَا لَا يَسْلَمُ مِنْ الذُّنُوبِ» لِإِفْضَائِهَا إلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لَا يَسْتَقِيمُ حُبُّ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي قَلْبِ مُؤْمِنٍ كَمَا لَا يَسْتَقِيمُ الْمَاءُ وَالنَّارُ فِي إنَاءٍ وَاحِدٍ» ، وَعَنْ الْإِحْيَاءِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «لَمَّا بُعِثَ مُحَمَّدٌ عليه الصلاة والسلام أَتَتْ إبْلِيسَ جُنُودُهُ فَقَالُوا قَدْ بُعِثَ نَبِيٌّ وَأُخْرِجَتْ أُمَّةٌ قَالَ أَيُحِبُّونَ الدُّنْيَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ لَئِنْ كَانُوا يُحِبُّونَهَا مَا أُبَالِي أَنْ لَا يَعْبُدُوا الْأَوْثَانَ، وَأَنَا أَغْدُو عَلَيْهِمْ، وَأَرُوحُ بِثَلَاثٍ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِنْفَاقِهِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَإِمْسَاكِهِ، وَالشَّرُّ كُلُّهُ تَبَعٌ لِذَلِكَ» .

(حَدّ) أَحْمَدُ (عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ» لَمَّا كَانَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الدَّارِ الْإِقَامَةَ

ص: 17

مَعَ عَيْشٍ أَبَدِيٍّ وَالدُّنْيَا بِخِلَافِهِ لَمْ تَسْتَحِقَّ أَنْ تُسَمَّى دَارًا فَمَنْ دَارُهُ الدُّنْيَا فَلَا دَارَ لَهُ قَالَ عِيسَى مَنْ ذَا الَّذِي يَبْنِي عَلَى الْمَوْجِ دَارًا تِلْكُمْ الدَّارُ فَلَا تَتَّخِذُوهَا قَرَارًا، وَفِي رِوَايَةِ الْجَامِعِ زِيدَ هُنَا قَوْلُهُ «وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ» ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْمَالِ الْإِنْفَاقُ فِي وُجُوهِ الْقُرَبِ فَمَنْ أَتْلَفَهُ فِي شَهَوَاتِهِ فَحَقِيقٌ بِأَنْ يُقَالَ لَا مَالَ لَهُ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الظَّرْفُ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ «، وَلَهَا يَجْمَعُ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ» لِغَفْلَتِهِ عَمَّا يُهِمُّهُ فِي الْآخِرَةِ وَيُرَادُ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَجْمَعُ لِلْآخِرَةِ وَيَتَزَوَّدُ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى قَالَ فِي الْحِكَمِ لَا بُدَّ لِبِنَاءِ هَذَا الْوُجُودِ أَنْ تَنْهَدِمَ دَعَائِمُهُ، وَأَنْ تُسْلَبَ كَرَائِمُهُ فَالْعَاقِلُ مَنْ كَانَ بِمَا هُوَ يَبْقَى أَفْرَحَ مِنْهُ بِمَا هُوَ يَفْنَى، وَأَنْشَدَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا

أَيَا فُرْقَةَ الْأَحْبَابِ لَا بُدَّ لِي مِنْك

وَيَا دَارَ دُنْيَا إنَّنِي رَاحِلٌ عَنْك

وَيَا قِصَرَ الْأَيَّامِ مَا لِي وَلِلْمُنَى

وَيَا سَكَرَاتِ الْمَوْتِ مَا لِي وَلِلضَّحِكِ

وَمَا لِي لَا أَبْكِي لِنَفْسِي بِعَبْرَةٍ

إذَا كُنْت لَا أَبْكِي لِنَفْسِي فَمَنْ أَبْكِي

أَلَا أَيُّ حَيٍّ لَيْسَ بِالْمَوْتِ مُوقِنًا

وَأَيُّ يَقِينٍ مِنْهُ أَشْبَهُ بِالشَّكِّ

وَعَنْ عِيسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَا طَالِبَ الدُّنْيَا لِتَبَرَّ بِهَا تَرْكُهَا أَبَرُّ، وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «إذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الدُّنْيَا شَيْئًا تَعَسَّرَ عَلَيْكُمْ، وَإِذَا طَلَبْتُمْ مِنْ الْآخِرَةِ تَيَسَّرَ لَكُمْ» بَيْتٌ فَارِسِيٌّ

بد نيادل نه بندد هركه مرداست

كه دُنْيَا سرتسر اندوه ودردست

بكورستان نظركن تأبيني

كه دُنْيَا همنشينان راجه كردست

(هق) الْبَيْهَقِيُّ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ) مُرْسَلًا (أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ» بِشَهَادَةِ التَّجْرِبَةِ فَإِنَّ حُبَّهَا يَدْعُو إلَى كُلِّ خَطِيئَةٍ سِيَّمَا مَا يَتَوَقَّفُ تَحْصِيلُهُ عَلَيْهَا فَيُسْكِرُ عَاشِقَهَا حُبُّهَا عَنْ عِلْمِهِ بِتِلْكَ الْخَطِيئَةِ وَقُبْحِهَا، وَعَنْ كَرَاهَتِهَا وَاجْتِنَابِهَا وَحُبُّهَا يُوقِعُ فِي الشُّبُهَاتِ ثُمَّ فِي الْمَكْرُوهِ ثُمَّ فِي الْحَرَامِ بَلْ كَفَّرَ جَمِيعُ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبِينَ رُسُلَهُمْ لِحُبِّ الدُّنْيَا فَأَصْلُ كُلِّ خَطِيئَةٍ فِي الْعَالَمِ هُوَ حُبُّ الدُّنْيَا فَشَرُّ إبْلِيسَ لِحُبِّ الرِّيَاسَةِ الَّتِي هِيَ شَرٌّ مِنْ حُبِّ الدُّنْيَا وَمِنْ ثَمَّةَ قِيلَ الدُّنْيَا خَمْرُ الشَّيْطَانِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يُفِقْ مِنْ سَكْرَتِهَا إلَّا فِي عَسْكَرِ الْمَوْتَى خَاسِرًا نَادِمًا، وَفِي الْإِحْيَاءِ «مَرَّ مُوسَى - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِرَجُلٍ، وَهُوَ يَبْكِي وَرَجَعَ، وَهُوَ يَبْكِي، وَقَالَ يَا رَبِّ عَبْدُك يَبْكِي مِنْ مَخَافَتِك فَقَالَ تَعَالَى يَا ابْنَ عِمْرَانَ لَوْ نَزَلَ دِمَاغُهُ عَلَى دُمُوعِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى يَسْقُطَ لَمْ أَغْفِرْ لَهُ، وَهُوَ يُحِبُّ الدُّنْيَا» .

(تَنْبِيهٌ) أَخَذَ بَعْضٌ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُؤْخَذَ الْعِلْمُ إلَّا عَنْ أَقَلِّ النَّاسِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ أَنْوَرُ قَلْبًا فَكَيْفَ يُؤْخَذُ عِلْمٌ عَمَّنْ جَمَعَ رَأْسَ خَطِيئَاتِ الْوُجُودِ وَكَيْفَ، وَهُوَ الْمَانِعُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ اللَّهِ وَحَضْرَةِ الرَّسُولِ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَتَخَلَّقْ بِأَخْلَاقِ صَاحِبِ الْكَلَامِ لَا يُمْكِنُهُ دُخُولُ حَضْرَتِهِ، وَعَنْ نَصْرَانِيٍّ يَقُولُ لِفَقِيهٍ كَيْفَ يَزْعُمُ عُلَمَاؤُكُمْ وِرَاثَةَ

ص: 18

نَبِيِّهِمْ، وَهُمْ يَرْغَبُونَ فِيمَا زَهِدَ رُهْبَانُنَا قَالَ كَيْفَ؛ لِأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ فِي إقَامَةِ شِعَارِ دِينِهِمْ مِنْ تَدْرِيسٍ وَخَطَابَةٍ، وَإِمَامَةٍ عَرَضَ الدُّنْيَا وَرُهْبَانُنَا جَمِيعًا يَقُومُونَ بِأَمْرِ دِينِنَا مَجَّانًا فَانْظُرْ قُوَّةَ يَقِينِ أَصْحَابِنَا وَضَعْفَ يَقِينِ أَصْحَابِكُمْ فَلَوْ صَدَّقُوا رَبَّهُمْ أَنَّ مَا عِنْدَهُ خَيْرٌ، وَأَبْقَى لَزَهِدُوا فِي الدُّنْيَا كَنَبِيِّهِمْ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَقَالَ فِي شَرْحِ الْحِكَمِ عَنْ وَهْبٍ صَحِبَ رَجُلٌ بَعْضَ الرُّهْبَانِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِلِاسْتِفَادَةِ فَوَجَدَهُ مَشْغُولًا عَنْهُ بِذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْتَفَتَ فِي السَّابِعِ فَقَالَ يَا هَذَا عَلِمْت مَا تُرِيدُ حُبُّ الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَيْرٍ، وَالتَّوْفِيقُ نَجَاحُ كُلِّ بَرٍّ قَالَ وَكَيْفَ أَعْرِفُ ذَلِكَ؟ .

قَالَ جَدِّي مِنْ الْحُكَمَاءِ شَبَّهَ الدُّنْيَا بِسَبْعَةٍ شَبَّهَهَا بِالْمَاءِ الْمَالِحِ يَغُرُّ، وَلَا يَرْوِي وَيَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ وَبِظِلِّ الْغَمَامِ يَغُرُّ وَيَخْذُلُ وَبِالْبَرْقِ الْخُلَّبِ يَضُرُّ، وَلَا يَنْفَعُ وَبِسَحَابِ الصَّيْفِ يَغُرُّ وَلَا يَنْفَعُ، وَبِزَهْرِ الرَّبِيعِ يَغُرُّ بِنَضْرَتِهِ ثُمَّ يَصْفَرُّ فَتَرَاهُ هَشِيمًا وَبِأَحْلَامِ النَّائِمِ يَرَى السُّرُورَ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ لَمْ يَجِدْ إلَّا الْحَسْرَةَ وَبِالْعَسَلِ الْمَشُوبِ بِالسُّمِّ الزُّعَافِ يَضُرُّ وَيَقْتُلُ فَتَدَبَّرْت السَّبْعَةَ سَبْعِينَ مَرَّةً ثُمَّ زِدْت حَرْفًا وَاحِدًا فَشَبَّهْتهَا بِالْغُولِ الَّتِي تُهْلِكُ مَنْ أَجَابَهَا وَتَتْرُكُ مَنْ أَعْرَضَ عَنْهَا ثُمَّ عَنْ الْبَيْهَقِيّ هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ إلَّا مِنْ مَرَاسِيلِ الْحَسَنِ، وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ شِبْهُ الرِّيحِ، وَقَالُوا مَرَاسِيلُهُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ عِنْدَهُمْ.

وَفِي شَرْحِ الْأَلْفِيَّةِ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ بَلْ مِنْ كَلَامِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ أَبِي الدُّنْيَا أَوْ مِنْ كَلَامِ عِيسَى عليه الصلاة والسلام كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَوْ مِنْ كَلَامِ جُنْدَبٍ الْبَجَلِيِّ كَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَدَّهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ مِنْ الْمَوْضُوعَاتِ كَابْنِ تَيْمِيَّةَ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ حَجَرٍ بِأَنَّ مَرَاسِيلَ الْحَسَنِ حَسَنٌ، وَأَوْرَدَهُ الدَّيْلَمِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ قَالَ عَلِيٌّ الْقَارِيّ أَقُولُ الْقَائِلُ بِوَضْعِهِ لَمْ يُصَرِّحْ بِإِسْنَادِهِ وَالْأَسَانِيدُ مُخْتَلِفَةٌ وَالْمُرْسَلُ حُجَّةٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إذَا صَحَّ إسْنَادُهُ؛ وَلِذَا عَنْ ابْنِ الْمَدَائِنِيِّ مَرَاسِيلُ الْحَسَنِ إذَا رَوَاهَا الثِّقَاتُ صِحَاحٌ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي مَرَاسِيلِهِ ضَعِيفٌ فَالِاعْتِمَادُ عَلَى عِمَادِ الْإِسْنَادِ.

(هق دُنْيَا مُوسَى بْنُ يَسَارٍ رضي الله عنه) ، وَهُوَ تَابِعِيٌّ فَمُرْسَلٌ، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَكِنْ فِي سَنَدِهِ دَاوُد بْنُ الْخَيْرِ ضَعِيفٌ كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمَوَاهِبِ، وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الذَّهَبِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ أَوْ مَتْرُوكٌ أَوْ مَوْضُوعٌ (أَنَّهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا» هُوَ «أَبْغَضُ إلَيْهِ مِنْ الدُّنْيَا» ، وَإِنَّمَا أَسْكَنَ فِيهَا عِبَادَهُ - {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الكهف: 7]- وَمَا نَظَرَ إلَيْهَا أَيْ نَظَرَ رِضًا «، وَأَنَّهُ مُنْذُ خَلَقَهَا» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَمْ يَنْظُرْ إلَيْهَا» بُغْضًا لَهَا؛ لِأَنَّ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ مَنْ آذَى أَوْلِيَاءَهُ وَشَغَلَ أَحْبَابَهُ وَصَرَفَ وُجُوهَ عِبَادِهِ عَنْهُ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السَّيْرِ إلَيْهِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِ وَالدُّنْيَا مَبْغُوضَةٌ لِأَوْلِيَائِهِ شَاغِلَةٌ لَهُمْ عَنْهُ فَصَارَتْ بَغِيضَةً لَهُ لِخِدَاعِهَا وَغُرُورِهَا فَهِيَ فِتْنَةٌ وَمِحْنَةٌ حَتَّى لِكِبَارِ الْأَوْلِيَاءِ وَخَوَاصِّ الْأَصْفِيَاءِ لَكِنَّ اللَّهَ يَنْصُرُهُمْ وَيُظْفِرُهُمْ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي طَلَبُ الدُّنْيَا إلَّا لِضَرُورَةٍ، وَلَا يَتَنَاوَلُهَا إلَّا تَنَاوُلَ الْمُضْطَرِّ مِنْ الْمَيْتَةِ إذْ هِيَ سُمٌّ قَاتِلٌ فَالْعَاقِلُ يَطْلُبُ مِنْهَا قَدْرَ مَا يُصَانُ الْوَجْهُ بِهِ عَلَى كَرَاهَةٍ مِنْهَا لِكَوْنِهَا بَغِيضَةَ اللَّهِ، وَعَلَى تَوَقٍّ مِنْ سُمِّهَا وَحَذَرٍ مِنْ غَدْرِهَا وَغُرُورِهَا، وَفِي الْإِحْيَاءِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ يُؤْتَى بِالدُّنْيَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى صُورَةِ عَجُوزٍ شَمْطَاءَ أَيْ مُصْفَرَّةِ اللَّوْنِ زَرْقَاءَ أَنْيَابُهَا بَادِيَةٌ لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلَّا كَرِهَهَا فَتَظْهَرُ عَلَى الْخَلَائِقِ فَيُقَالُ لَهُمْ أَتَعْرِفُونَ هَذِهِ فَيَقُولُونَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ مَعْرِفَتِهَا فَيُقَالُ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي تَفَاخَرْتُمْ بِهَا وَتَقَاتَلْتُمْ عَلَيْهَا وَتَقَاطَعْتُمْ الْأَرْحَامَ لَهَا وَتَحَاسَدْتُمْ وَتَبَاغَضْتُمْ وَاغْتَرَرْتُمْ ثُمَّ تُقْذَفُ فِي جَهَنَّمَ فَتُنَادِي أَيْ رَبِّ أَيْنَ أَتْبَاعِي، وَأَشْيَاعِي فَيَقُولُ اللَّهُ أَلْحِقُوا بِهَا أَتْبَاعَهَا، وَأَشْيَاعَهَا اللَّهُمَّ احْفَظْنَا. انْتَهَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّنْيَا عَدُوَّةٌ لِلَّهِ وَلِأَوْلِيَائِهِ وَلِأَعْدَائِهِ أَمَّا عَدَاوَتُهَا لَهُ تَعَالَى فَلِأَنَّهَا مِنْ قُطَّاعِ طَرِيقِ عِبَادِهِ تَعَالَى إذْ لَا سَعَادَةَ إلَّا لِمَنْ قَدِمَ إلَيْهِ تَعَالَى، وَلَا قُدُومَ إلَّا بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الدُّنْيَا، وَأَمَّا لِأَوْلِيَائِهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ إلَيْهِمْ فَتَخْطَفُ قُلُوبَهُمْ وَتَسْلُبُ نُفُوسَهُمْ فَلَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا بِرِيَاضَاتٍ، وَأَتْعَابٍ شَدِيدَةٍ إلَّا وَاحِدٌ مِنْ أَلْفٍ قَالَ بَعْضٌ: تُرِكَتْ الدُّنْيَا لِقِلَّةِ غَنَائِهَا وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا وَسُرْعَةِ فَنَائِهَا وَخِسَّةِ

ص: 19

شُرَكَائِهَا، وَأَمَّا لِأَعْدَاءِ اللَّهِ فَلِأَنَّهَا تَتَزَيَّنُ فِي قُلُوبِهِمْ بِالْمَكْرِ وَالْحِيَلِ حَتَّى إذَا عَلِمَتْ أَنَّهُمْ أَحَبُّوهَا تَتْرُكُهُمْ وَتَنْضَمُّ إلَى غَيْرِهِمْ كَالْقَحْبَةِ تَتَحَوَّلُ مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ لِيُعَذَّبُوا فِي الدُّنْيَا بِنَارِ الْحَسْرَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِنَارِ النَّدَامَةِ بَلْ بِنَارِ الْقِيَامَةِ.

(هق دُنْيَا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -) مَوْقُوفًا عَلَيْهِ (أَنَّهُ قَالَ الدُّنْيَا حَلَالُهَا) كَالْإِرْثِ وَكَسْبِ الْحَلَالِ (حِسَابٌ) مُفْضٍ إلَى حِسَابٍ مِنْ أَيْنَ حَصَلَ، وَفِيمَ أُنْفِقَ، وَهَلْ أَدَّى حُقُوقَهُ (وَحَرَامُهَا النَّارُ) سَبَبٌ إلَى النَّارِ لَكِنَّهَا مُغَطَّاةٌ بِحِجَابِ الدُّنْيَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] فَإِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ زَالَ حِجَابُ الدُّنْيَا فَظَهَرَتْ النَّارُ كَمَا قَالَ - {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] فِي الْإِحْيَاءِ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ إنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ، وَقَدْ غَرِقَ فِيهَا نَاسٌ كَثِيرٌ فَلْتَكُنْ سَفِينَتُك تَقْوَى اللَّهِ وَحَشْوُهَا الْإِيمَانَ وَشِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ لَعَلَّك تَنْجُو وَمَا أَرَاك نَاجِيًا، وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ الدُّنْيَا حَانُوتُ الشَّيْطَانِ فَلَا تَسْرِقْ مِنْ حَانُوتِهِ فَيَجِيءُ فِي طَلَبِك فَيَأْخُذُك.

(طب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ» لِنَفْسِهِ، وَعِيَالِهِ وَأَضْيَافِهِ عَلَى الْوَجْهِ اللَّائِقِ بِهِ الْمُتَعَارَفِ لِأَمْثَالِهِ «كُلِّفَ أَنْ يَحْمِلَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَهُوَ لَيْسَ بِحَامِلٍ، وَهُوَ تَكْلِيفُ تَعْجِيزٍ وَتَعْذِيبٍ قِيلَ عَنْ الشِّرْعَةِ وَالسُّنَّةِ فِي مِقْدَارِ الْبِنَاءِ هُوَ فِي جِهَةِ الْعُلُوِّ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فَمَا دُونَهَا كُلُّ ذِرَاعٍ سِتُّ قَبَضَاتٍ مَعَ أُصْبُعٍ قَائِمٍ؛ لِأَنَّ الْمَقَامَ مَقَامُ الِاحْتِيَاطِ.

وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ أَوْضَاعِ الْجَوَانِبِ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِ السَّاكِنِ، وَالضَّابِطُ أَنْ يَكُونَ مِقْدَارَ الْحَاجَةِ فَمَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ جَاءَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِحَدِيثِ «مَنْ بَنَى» إلَخْ، وَفِي الْأَثَرِ مَنْ رَفَعَ بِنَاءَهُ فَوْقَ سِتَّةِ أَذْرُعٍ نَادَى مُنَادٍ إلَى أَيْنَ يَا أَفْسَقِ الْفَاسِقِينَ. انْتَهَى. وَفِي الْفَيْضِ عَنْ الْغَزَالِيِّ مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ حُبُّ التَّزَيُّنِ فِي الْبِنَاءِ وَالثِّيَابِ وَالْآثَارِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا رَأَى ذَلِكَ غَالِبًا عَلَى قَلْبِ إنْسَانٍ فَلَا زَالَ يَدْعُوهُ إلَى عِمَارَةِ الدَّارِ وَتَزْيِينِ سُقُوفِهَا وَحِيطَانِهَا وَتَوْسِعَةِ أَبْنِيَتِهَا وَيَدْعُوهُ إلَى التَّزْيِينِ بِالْأَثْوَابِ الْفَاخِرَةِ وَالدَّوَابِّ فَلَا يَزَالُ يُدْرِجُهُ مِنْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ إلَى أَجَلِهِ فَيَمُوتُ، وَهُوَ فِي سَبِيلِ الشَّيْطَانِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، ثُمَّ عَنْ الذَّهَبِيِّ بِأَنَّ الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ، وَعَنْ الْعِرَاقِيِّ فِيهِ لِينٌ وَانْقِطَاعٌ

(طط عَنْ ابْن بَشِيرٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ هَوَانًا» أَيْ ذُلًّا وَحَقَارَةً، وَفِي رِوَايَةٍ سُوءًا بَدَلَ هَوَانًا «أَنْفَقَ مَالَهُ» أَنْفَدَهُ «فِي الْبُنْيَانِ» نَحْوُ أَجْرِ الصُّنَّاعِ، وَفِي رِوَايَةٍ زَادَ وَالْمَاءِ وَالطِّينِ إذَا كَانَ لِغَيْرِ غَرَضٍ شَرْعِيٍّ أَوْ أَدَّى لِتَرْكِ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ أَوْ زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ بِدَارِ قَرَارٍ فَلَا يَعْمُرُهَا إلَّا الْأَشْرَارُ قِيلَ مِثْلُ هَذَا كُلِّهِ إنْ بِالْحَلَالِ، وَإِنْ بِالْحَرَامِ فَأَشَدُّ وِزْرًا كَمَا فِي حَدِيثِ «اتَّقُوا الْحَجَرَ الْحَرَامَ فِي الْبُنْيَانِ فَإِنَّهُ أَسَاسُ الْخَرَابِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ أَيْ خَرَابِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِقِلَّةِ الْبَرَكَةِ وَشُؤْمِ الْبَيْتِ أَوْ أَسَاسُ خَرَابِ الْبِنَاءِ نَفْسِهِ بِأَنْ يُسْرِعَ إلَيْهِ الْخَرَابُ فِي أَمَدٍ قَرِيبٍ، وَقِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ أَمْثَالُهُ عَلَى كَوْنِ الْبِنَاءِ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ لِأَجْلِ الْكِبَرِ دُونَ الْأَجْرِ أَوْ عَلَى التَّغْلِيظِ وَالتَّشْدِيدِ لِئَلَّا يَتَوَسَّلَ النَّاسُ إلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه الصلاة والسلام «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ كَانَ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفَعَ بِهِ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى» رَوَاهُ الدَّيْلَمِيُّ أَقُولُ ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْإِطْلَاقُ الشَّامِلُ لِلْحَلَالِ، وَأَنَّ الْعِلَّةَ مُطْلَقُ الْبِنَاءِ لَا الْمَالُ الْحَرَامُ وَيُؤَيِّدُهُ تَقْيِيدُ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ وَالثَّانِي بِقَوْلِهِ مَالَهُ إذْ الْأَصْلُ كَوْنُهُ مِنْ الْحَلَالِ بَلْ الْحَرَامُ لَيْسَ مَالًا لَهُ لَكِنَّ ارْتِفَاعَ الْبِنَاءِ لِدَفْعِ ثِقَلِ الْهَوَاءِ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَلْحَقَ بِالْحَاجَةِ.

وَأَمَّا لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّكْبِيرِ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ، وَفِي الْإِحْيَاءِ الدُّنْيَا دَارُ خَرَابٍ، وَأَخْرَبُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَعْمُرُهَا وَالْجَنَّةُ دَارُ عُمْرَانٍ، وَأَعْمَرُ مِنْهَا قَلْبُ مَنْ يَطْلُبُهَا، وَقِيلَ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ، وَهَرَامِسَةُ الدُّهُورِ، وَأَيْنَ شَدَّادٌ، وَعَادٌ، وَأَيْنَ إرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ - فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَلْبَابِ - وَتَفَكَّرُوا

ص: 20

يَوْمَ التَّنَادِّ لُدُّوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ. (فَآفَاتُهَا) أَيْ آفَاتُ الدُّنْيَا، وَفِي نُسْخَةٍ فَأَفَادَ أَيْ النَّبِيُّ عليه الصلاة والسلام (كَوْنَهَا عَدُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى) ؛ لِأَنَّهَا أَبْغَضُ الْخَلْقِ إلَيْهِ (وَ) كَوْنَهَا (جِيفَةً وَمَلْعُونَةً) أَيْ مَطْرُودَةً عَنْ مَوَاقِعِ الرِّضَا (وَصَادَّةً) أَيْ مَانِعَةً مُلْهِيَةً (عَنْ عِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمُفْضِيَةً إلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي وَحَطِّ الدَّرَجَاتِ وَشِدَّةِ الْحِسَابِ) ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ الْمُحَاسَبَةِ عَلَيْهِ قِلَّةً وَكَثْرَةً (بَلْ) مُفْضِيَةٌ إلَى (الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَ) آفَاتُهَا (قِلَّةُ غَنَائِهَا) بِفَتْحِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ نَفْعِهَا (وَكَثْرَةِ عَنَائِهَا) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ (وَسُرْعَةُ فَنَائِهَا وَخِسَّةُ شُرَكَائِهَا) إذْ الْمُشْرِكُ وَالْفَاسِقُ شُرَكَاءُ فِيهَا، وَقِيلَ كَالْبَهَائِمِ وَالْحَشَرَاتِ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ الْآفَاتِ.

(الْمَقَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي ثَمَرَاتِهِ) أَيْ حُبِّ الدُّنْيَا (وَذَمِّهَا) أَيْ الثَّمَرَاتِ (وَضِدِّهَا) ، وَهُوَ الزُّهْدُ فِيهَا، وَفِي نُسْخَةٍ وَضِدُّهُ أَيْ ضِدُّ حُبِّ الدُّنْيَا (وَمَدْحِهِ) أَيْ مَدْحِ الضِّدِّ (وَفِيهِ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ (مَقَامَانِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي ثَمَرَاتِهِ. اعْلَمْ أَنَّ حُبَّ الْمَالِ وَالدُّنْيَا يُورِثُ الْحِرْصَ الْمَذْمُومَ، وَهُوَ الثَّلَاثُونَ) مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ (وَهُوَ) أَيْ الْحِرْصُ (يُورِثُ التَّشَمُّرَ وَاسْتِغْرَاقَ الْأَوْقَاتِ) بِالْعَمَلِ (لِلصِّنَاعَاتِ وَالتِّجَارَاتِ) إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا (أَوْ) يُورِثُ (الطَّمَعَ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ) لِلْعَاجِزِ عَنْ الْكَسْبِ أَوْ الْكَسْلَانِ مَعَ الْحِرْصِ (وَهَذَا) أَيْ الطَّمَعُ (شَرٌّ مِنْ الْأَوَّلِ) قِيلَ أَيْ مِنْ التَّشَمُّرِ؛ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى الْحَسَدِ وَالْحِقْدِ (وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ) أَيْ الْحِرْصِ وَالطَّمَعِ (وَضِدِّهِ)، وَهُوَ التَّفْوِيضُ فِي مَبْحَثِ الرِّيَاءِ (ت عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ» أَيْ مُعْظَمَ هِمَّتِهِ، وَقَصْدِهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي نَظَرِهِ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا بَلْ وُجُودُهُ، وَعَدَمُهُ سِيَّانِ عِنْدَهُ «جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ» فَيَقْنَعُ بِالْقَلِيلِ، وَلَا يَحْرِصُ فِي طَلَبِ الْكَثِيرِ فَلَا يَتْعَبُ لِأَجْلِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ مِنْ غِنَى الْقَلْبِ كَوْنُهُ مَلِيًّا وَمِكْثَارًا فِي جَمْعِ ذُخْرِ الْآخِرَةِ الَّذِي كَانَ سَبَبُهُ الْقَلْبَ.

وَفِي بَعْضِ الْمَوَانِعِ هَذِهِ الرُّبَاعِيَّةُ مَكْتُوبَةٌ عَلَى سَيْفِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -

دَعْ الْحِرْصَ عَلَى الدُّنْيَا

وَطُولَ الْعَيْشِ لَا تَطْمَعْ

وَلَا تَجْمَعْ مِنْ الْمَالِ

فَلَا تَدْرِي لِمَنْ تَجْمَعْ

فَإِنَّ الرِّزْقَ مَقْسُومٌ

وَسُوءُ الظَّنِّ لَا يَنْفَعْ

فَقِيرٌ كُلُّ ذِي حِرْصٍ

غَنِيٌّ كُلُّ مَنْ يَقْنَعْ

(وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ) مَا تَفَرَّقَ مِنْ أُمُورِهِ وَيُوصِلُهُ إلَى مَقْصُودِهِ بِأَنْ يَرْزُقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ

ص: 21

«، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا، وَهِيَ رَاغِمَةٌ» ذَلِيلَةٌ مُكْرَهَةٌ يُعْنَى تَنْقَادُ إلَيْهِ الدُّنْيَا مَقْهُورَةً مُحَقَّرَةً كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ «يَا دُنْيَا اُخْدُمِي مَنْ خَدَمَنِي، وَأَتْعِبِي مَنْ خَدَمَك» «وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ» بِأَنْ يَجْعَلَ الدُّنْيَا فِي نَصْبِ عَيْنِهِ وَمَطْمَحِ نَظَرِهِ بِأَنْ يَصْرِفَ حَاصِلَ وَقْتِهِ إلَى تَحْصِيلِهَا وَتَكُونَ عَامَّةَ فِكْرِهِ وَتَأَمُّلِهِ حَتَّى تَكُونَ الشَّرْعِيَّاتُ فِي نَظَرِهِ كَالْعَادِيَاتِ الْغَيْرِ الْمُهِمَّةِ «جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ» كَأَنَّهُ كَشَيْءٍ غَيْرِ مُنْفَكٍّ عَنْهُ بَلْ كَشَيْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ «، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ» أَيْ مَا اجْتَمَعَ بِأَنْ يَجْعَلَ أُمُورَهُ صَعْبَةً كَأَنْ يَجْعَلَ قَضَايَاهُ مَعْكُوسَةً وَآمَالَهُ مَقْلُوبَةً «، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ» فَلَا يُفِيدُ جَدُّهُ وَسَعْيُهُ فِي إتْيَانِ الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْحَاشِيَةِ قِيلَ يَعْنِي جَعَلَ الْفَقْرَ لَا يَزُولُ، وَلَا يَبْرَحُ عَنْ مَطْمَحِ نَظَرِهِ، وَلَوْ أُوتِيَ مِنْ الْمَالِ مَهْمَا أُوتِيَ فَلَا يَزَالُ خَائِفًا مِنْ الْفَقْرِ.

وَعَنْ حَاتِمٍ الْأَصَمِّ رِزْقُك مِثْلُ ظِلِّك إنْ طَلَبْته تَبَاعَدَ، وَإِنْ تَرَكْته تَتَابَعَ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ «فَلَا يُسَمَّى إلَّا فَقِيرًا وَمَا يُصْبِحُ إلَّا فَقِيرًا» أَيْ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ إلَّا حَالَ كَوْنِهِ فَقِيرًا لِعَدَمِ الْغِنَى فِي قَلْبِهِ (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ «يُنَادِي مُنَادٍ دَعُوا» أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ «الدُّنْيَا لِأَهْلِهَا» أَيْ اُتْرُكُوهَا لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ حَظَّهُ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ نَصِيبًا فِي الْآخِرَةِ فَلَا تَتَشَارَكُوا مَعَهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ كَمَا أَنَّهُمْ لَا يَتَشَارَكُونَ مَعَكُمْ فِي آخِرَتِكُمْ (ثَلَاثًا) قَالَهُ ثَلَاثًا لِزِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ تَمْكِينًا فِي الْخَاطِرِ أَيُّهَا مَا لِعَدَمِ زَوَالِهِ مِنْ الْخَاطِرِ إذْ الْمَقَامُ مَقَامُ زِيَادَةِ الِاعْتِنَاءِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُجْعَلَ كُلٌّ لِمَعْنًى تَأَمَّلْ. (مَنْ أَخَذَ الدُّنْيَا) أَيْ مِنْ الدُّنْيَا كَمَا فِي نُسَخِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ) لِنَفْسِهِ وَمَنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ مَئُونَتَهُ (أَخَذَ حَتْفَهُ) أَيْ سَبَبَ مَوْتِهِ، وَهَلَاكِهِ فِي الْآخِرَةِ (وَهُوَ لَا يَشْعُرُ) بِأَنَّ الْمَأْخُوذَ فِيهِ هَلَاكُهُ إذْ هِيَ السُّمُّ الْقَاتِلُ فَطَلَبُهَا شَيْنٌ، وَقِلَّتُهَا زَيْنٌ فَإِنْ طَلَبَهَا لِيَطْلُبَ بِهَا الْبِرَّ، وَفِعْلَ الصَّنَائِعِ وَاكْتِسَابَ الْمَعْرُوفِ كَانَ عَلَى خَطَرٍ وَغُرُورٍ وَتَرْكُهُ لَهَا أَبْلَغُ فِي الْبِرِّ ثُمَّ عَنْ الْمُنْذِرِيِّ وَالْهَيْثَمِيِّ أَنَّهُ ضَعِيفٌ.

(خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ» أَيْ يَكْبُرُ سِنُّهُ «وَيَشُبُّ مِنْهُ» مِنْ الشَّبَابِ «اثْنَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ» ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَيَبْقَى مِنْهُ خَصْلَتَانِ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْجَاهِ وَالْعُمُرِ وَطُولُ الْأَمَلِ» فَالْحِرْصُ فَقْرُهُ، وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَالْأَمَلُ تَعَبُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ تَذْهَبْ هَاتَانِ الْخَصْلَتَانِ؛ لِأَنَّ الْمَرْءَ جُبِلَ عَلَى الشَّهَوَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} [آل عمران: 14] الْآيَةَ، وَإِنَّمَا تُنَالُ هُنَا بِالْمَالِ وَالْعُمُرِ وَالنَّفْسُ مَعْدِنُ الشَّهَوَاتِ، وَأَمَانِيُّهَا لَا تَنْقَطِعُ فَهِيَ أَبَدًا فَقِيرَةٌ لِتَرَاكُمِ الشَّهَوَاتِ عَلَيْهَا قَدْ بَرِحَ بِهَا خَوْفُ الْفَوْتِ وَضَيَّقَ عَلَيْهَا فَهِيَ مَفْتُونَةٌ بِذَلِكَ وَحَصَلَتْ فِتْنَتُهَا إلَى الْقَلْبِ فَأَصَمَّتْهُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَعْمَتْهُ؛ لِأَنَّ الشَّهَوَاتِ ظُلُمَاتٌ ذَاتُ رِيَاحٍ خَفَّاقَةٍ وَالرِّيحُ إذَا وَقَعَتْ فِي الْأُذُنِ أَصَمَّتْ وَالظُّلْمَةُ إذَا حَلَّتْ بِالْعَيْنِ أَعْمَتْ فَلَمَّا وَصَلَتْ هَذِهِ الشَّهْوَةُ إلَى الْقَلْبِ حَجَبَتْ النُّورَ فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ خَيْرًا قَذَفَ فِي قَلْبِهِ النُّورَ فَتَمَزَّقَ الْحِجَابُ.

(خ م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ» يَعْنِي إذَا خَلَا عَنْ الْعَوَارِضِ وَطُبِعَ جِنْسُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فَالْأَنْبِيَاءُ وَخَوَاصُّ الْأَوْلِيَاءِ لَا يَكُونُونَ نَقْضًا لِذَا

ص: 22

«وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ ذَهَبٍ» ، وَفِي رِوَايَةٍ «مِنْ فِضَّةٍ وَذَهَبٍ» لَكِنْ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إلَيْهِ ثَانِيًا» ثُمَّ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ «لَابْتَغَى لَهُمَا ثَالِثًا» ، وَهَلُمَّ جَرَّا إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ «، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ» ، وَفِي رِوَايَةٍ نَفْسَ بَدَلَ جَوْفَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَسُدُّ جَوْفَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَمْلَأُ فَاهُ، وَفِي أُخْرَى، وَلَا يَعْلَى بَطْنَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عُضْوًا بِعَيْنِهِ بَلْ الْمُرَادُ مِنْ الْكُلِّ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّفَنُّنُ ذَكَرَهُ الْكَرْمَانِيُّ كَمَا فِي الْفَيْضِ (إلَّا التُّرَابَ) لَا يَزَالُ حَرِيصًا عَلَى الدُّنْيَا حَتَّى يَمُوتَ وَيُمْلَأَ جَوْفُهُ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ «وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ» فَيَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ حِرْصِهِ كَمَا عَنْ سَائِرِهِ أَوْ تَابَ بِمَعْنَى وُفِّقَ يَعْنِي جُبِلَ الْآدَمِيُّ عَلَى حُبِّ الْحِرْصِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ، وَعَصَمَهُ لِإِزَالَةِ هَذِهِ الْجِبِلَّةِ عَنْهُ، وَفِي ذِكْرِ ابْنِ آدَمَ دُونَ الْإِنْسَانِ إيمَاءٌ إلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ طَبْعِهِ الْقَبْضُ وَالْيُبْسُ، وَإِزَالَتُهُ مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُمْطِرَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ غَمَامِ تَوْفِيقِهِ.

(تَنْبِيهٌ) : ذَهَبَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ إلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ لَوْ كَانَ لِأَبْنَاءِ الدُّنْيَا ذَلِكَ لَطَلَبُوا الزِّيَادَةَ مِنْهُ بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ أَيْ لَوْ كَانَ لِبَنِي آدَمَ الَّذِينَ نَظَرُوا إلَى ظَاهِرِ الدُّنْيَا دُونَ بَاطِنِهَا وَادِيَانِ مِنْ ذَلِكَ لَابْتَغَوْا ثَالِثًا، وَهَكَذَا بِخِلَافِ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِبَصَرِهِمْ إلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَعَرَفُوا مَا يُقَرِّبُهُمْ إلَى حَضْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَا يُبْعِدُهُمْ عَنْهَا، وَأَطَالَ وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ عَبَّاسٍ وَالزُّبَيْرُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَبُرَيْدَةُ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ مُتَوَاتِرٌ

قَالَ فِي الْإِحْيَاءِ بَعْدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْجِبِلَّةُ لِلْآدَمِيِّ مُضِلَّةً وَغَرِيزَةً مُهْلِكَةً أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ عَلَى الْقَنَاعَةِ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنَعَ بِهِ» ، وَقَالَ «مَا مِنْ أَحَدٍ غَنِيٍّ، وَلَا فَقِيرٍ إلَّا وَتَمَنَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَدْنَى قُوتٍ فِي الدُّنْيَا» ، وَفِي عِظَتِهِ عليه الصلاة والسلام لِأَعْرَابِيٍّ «اجْمَعْ الْيَأْسَ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ» ، وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ الطَّمَعَ فَقْرٌ وَالْيَأْسَ غِنًى.

(الْمَقَامُ الثَّانِي فِي ضِدِّ حُبِّ الدُّنْيَا وَضِدِّ الْحِرْصِ) . وَهُوَ الْقَنَاعَةُ (وَمَدْحُهُمَا ضِدُّ الْأَوَّلِ) حُبِّ الدُّنْيَا (الزُّهْدُ أَعْنِي) بِهِ (كَرَاهَةَ الدُّنْيَا وَبُرُودَتَهَا عَلَى الْقَلْبِ وَضِدُّ الثَّانِي) ، وَهُوَ الْحِرْصُ (الْقَنَاعَةُ، وَهُوَ) أَيْ الْقَنَاعَةُ وَالتَّذْكِيرُ بِاعْتِبَارِ الْخَبَرِ (الِاكْتِفَاءُ بِالْيَسِيرِ مِنْ الدُّنْيَا) مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ (بِلَا طَلَبِ الزِّيَادَةِ) فَعِنْدَهَا يَدُومُ عِزُّهُ وَيَسْلَمُ دِينُهُ؛ وَلِذَا يَقُولُونَ عَزَّ مَنْ قَنَعَ ذَلَّ مَنْ طَمِعَ وَالْعَبْدُ حُرٌّ إنْ قَنَعَ وَالْحُرُّ عَبْدٌ إنْ قَنَعَ أَيْ طَمِعَ (طب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا» أَيْ تَرْكُ الرَّغْبَةِ فِيهَا «يُرِيحُ الْقَلْبَ» مِنْ آفَاتِ التَّعَلُّقِ بِهَا «وَالْجَسَدَ» .

وَفِي رِوَايَةٍ وَالْبَدَنَ؛ لِأَنَّهُ يُفْرِغُهُ لِعِمَارَةِ وَقْتِهِ وَجَمْعِ قَلْبِهِ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَقَطْعِ مَوَادِّ طَمَعِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَفْسَدِ الْأَشْيَاءِ لِلْقَلْبِ قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ وَاسِعٍ أَوْصِنِي قَالَ أُوصِيك أَنْ تَكُونَ مَلِكًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ كَيْفَ قَالَ الزُّهْدَ فَالْزَمْ؛ وَلِلْحَدِيثِ تَتِمَّةٌ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَهِيَ الرَّغْبَةُ فِيهَا تُتْعِبُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ فَالْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَهُ سِيَّمَا لَهُ مَدْخَلِيَّةٌ لِلِاسْتِشْهَادِ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهَا إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَالنَّفْسُ تَسْلَى وَتُعَوَّدُ مَا عَوَّدْتَهَا كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ

ص: 23

فَالنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبَتْهَا

وَإِذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ

وَقَالَ

وَمَا النَّفْسُ إلَّا حَيْثُ يَجْعَلُهَا الْفَتَى

فَإِنْ تُوَقِّتْ تَاقَتْ وَإِلَّا تَسَلَّتْ

، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِالزُّهْدِ فَإِنَّ الزُّهْدَ عَلَى الزَّاهِدِ أَحْسَنُ مِنْ الْحُلِيِّ عَلَى النَّاهِدِ، وَفِي رِوَايَةِ أَحْمَدَ عَنْ طَاوُسٍ وَالرَّغْبَةُ فِي الدُّنْيَا تُطِيلُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ بَدَلَ قَوْلِهِ تُتْعِبُ الْقَلْبَ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَالدُّنْيَا عَذَابٌ حَاضِرٌ يُؤَدِّي إلَى عَذَابٍ مُنْتَظَرٍ فَمَنْ زَهِدَ فِيهَا اسْتَرَاحَتْ نَفْسُهُ وَصَارَ عَيْشُهُ أَطْيَبَ مِنْ عَيْشِ الْمُلُوكِ فَإِنَّ الزَّاهِدَ فِيهَا مَلِكٌ حَاضِرٌ إذْ الْعَبْدُ إذَا مَلَكَ شَهْوَتَهُ وَغَضَبَهُ فَهُوَ الْمَلِكُ عَلَى الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْمِلْكِ حُرٌّ وَالْمَلِكُ الْمُنْقَادُ لِشَهْوَتِهِ وَغَضَبِهِ عَبْدُهُمَا فَهُوَ مَمْلُوكٌ فِي صُورَةِ مَالِكٍ يَقُودُهُ زِمَامُ الشَّهْوَةِ وَالْغَضَبِ كَمَا يُقَادُ الْبَعِيرُ وَمَا أَحْسَنَ مَا قِيلَ

أَرَى الزُّهَّادَ فِي رَوْحٍ وَرَاحَهْ

وَمِنْ نَصَبِ الْمَتَاعِبِ فِي اسْتِرَاحَهْ

إذَا أَبْصَرْتَهُمْ أَبْصَرْتَ قَوْمًا

هُمُو أَهْلُ الْمَكَارِمِ وَالسَّمَاحَهْ

وَفِي رِوَايَةِ الْقُضَاعِيِّ عَنْ ابْنِ عَمْرٍو الرَّغْبَةُ فِيهَا تُكْثِرُ الْهَمَّ وَالْحُزْنَ وَالْبَطَالَةُ تُقْسِي الْقَلْبَ.

قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَأَمَّا الْعَارِفُ فَلَا قِيمَةَ لِلزُّهْدِ عِنْدَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّ مَا قُسِمَ لَهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَخَلُّفُهُ وَمَا لَا فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهُ فَاسْتَرَاحَ وَالدُّنْيَا كُلُّهَا لَا تَزِنُ عِنْدَهُمْ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ قِيلَ:

تَجَرَّدَ عَنْ مَقَامِ الزُّهْدِ قَلْبِي

فَأَنْتَ الْحَقُّ وَحْدَك فِي شُهُودِي

وَأَزْهَدُ فِي سِوَاك وَلَيْسَ شَيْءٌ

أَرَاهُ سِوَاك يَا سِرَّ الْوُجُودِ

وَمِنْهُمْ مَنْ احْتَقَرَ كُلَّ مَا فِي الدُّنْيَا مِمَّا لَمْ يُؤْمَرْ بِتَعْظِيمِهِ فَرَآهُ لِشِدَّةِ حَقَارَتِهِ عَدَمًا وَمِنْهُمْ مَنْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ اللَّهِ تَعَالَى وَرَأَى الْوُجُودَ كُلَّهُ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَزْهَدْ فِي شَيْءٍ بَلْ اسْتَعْمَلَ كُلَّ شَيْءٍ فِيمَا خُلِقَ لَهُ، وَهُوَ الْكَامِلُ وَتَمَامُهُ فِيهِ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَزْهَدُ النَّاسِ) أَشَدُّهُمْ زُهْدًا (قَالَ «مَنْ لَمْ يَنْسَ الْقَبْرَ وَالْبِلَى» مَصْدَرُ بَلَى يَبْلَى إذَا صَارَ خَلَقًا مُفْتَنًا أَيْ لَمْ يَنْسَ كَوْنَ الْقَبْرِ مَكَانَهُ وَكَوْنَهُ فِيهِ عِظَامًا بَالِيَةً

«وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا وَآثَرَ مَا يَبْقَى» ، وَهُوَ الْآخِرَةُ «عَلَى مَا يَفْنَى» ، وَهُوَ الدُّنْيَا «، وَلَمْ يَعُدَّ» أَيْ لَمْ يَحْسِبْ «غَدًا مِنْ أَيَّامِهِ» كِنَايَةً عَنْ قِصَرِ الْأَمَلِ مِنْ أَيَّامِهِ «، وَعَدَّ نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْتَى» لِقُوَّةِ خَوْفٍ مِنْ مَوْلَاهُ، وَقُوَّةِ رَغْبَتِهِ فِي تَشْيِيدِ أُخْرَاهُ.

(خ م عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَيْسَ الْغِنَى مِنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ» بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالرَّاءِ وَاحِدُ الْعُرُوضِ أَيْ الْأَمْوَالِ «، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» عَنْ الْقُرْطُبِيِّ أَيْ الْغِنَى النَّافِعُ أَوْ الْعَظِيمُ هُوَ غِنَى النَّفْسِ فَمَنْ اسْتَغْنَتْ نَفْسُهُ تَرَكَ الْمَطَامِعَ (م عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «قَدْ أَفْلَحَ» فَازَ وَظَفِرَ بِمُرَادِهِ «مَنْ أَسْلَمَ» فَنَجَا مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَوْ فَوَّضَ جَمِيعَ أُمُورِهِ إلَيْهِ تَعَالَى قَالَ فِي الْمِصْبَاحِ: وَأَسْلَمَ أَمْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَوَّضَ «وَرُزِقَ كَفَافًا» أَيْ مَا يَكْفِ عَنْ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ الضَّرُورَاتِ وَالْفَاقَاتِ

ص: 24

وَلَا يُلْحِقُهُ بِأَهْلِ التَّرَفُّهَاتِ (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ) بِمَدِّ الْهَمْزَةِ أَيْ جَعَلَهُ قَانِعًا بِمَا أَعْطَاهُ إيَّاهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ الزِّيَادَةَ لِمَعْرِفَةِ أَنَّ رِزْقَهُ مَقْسُومٌ لَنْ يَعْدُوَ مَا قُدِّرَ لَهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ رحمه الله

عَزِيزُ النَّفْسِ مَنْ لَزِمَ الْقَنَاعَهْ

وَلَمْ يَكْشِفْ لِمَخْلُوقٍ قِنَاعَهْ

أَنَالَتْهُ الْقَنَاعَةُ كُلَّ عِزٍّ

وَهَلْ عِزٌّ أَعَزُّ مِنْ الْقَنَاعَهْ

فَصَيِّرْهَا لِنَفْسِك رَأْسَ مَالٍ

وَصَيِّرْ بَعْدَهَا التَّقْوَى بِضَاعَهْ

(م عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُوتَ» هُوَ قَدْرُ مَا يُمْسِكُ الرَّمَقَ.

وَقِيلَ الْكِفَايَةُ مِنْ غَيْرِ إسْرَافٍ «آلِ مُحَمَّدٍ» لَعَلَّك عَرَفْت مَعْنَى الْآلِ فِيمَا قَبْلُ «كَفَافًا» قَدْرَ كِفَايَةٍ بِلَا زِيَادَةٍ، وَلَا نُقْصَانٍ أَوْ مَا يَقُوتُهُمْ وَيَكْفِيهِمْ بِحَيْثُ لَا يُشَوِّشُهُمْ الْجَهْدُ، وَلَا تُرْهِقُهُمْ، وَلَا تُذِلُّهُمْ الْمَسْأَلَةُ وَالْحَاجَةُ، وَلَا يَكُونُ فُضُولًا مُوجِبًا لِلسَّرَفِ وَالتَّبَسُّطِ فِي الدُّنْيَا وَالرُّكُونِ إلَيْهَا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى زُهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الدُّنْيَا، وَعَلَى تَقَلُّلِهِ مِنْهَا، وَهُوَ حُجَّةٌ لِمَنْ قَالَ إنَّ الْكَفَافَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى كَذَا نُقِلَ عَنْ الْمُفْهِمِ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الدَّقَّاقِ عِنْدَ تَكَلُّمِ النَّاسِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى أَيُّهُمَا أَفْضَلُ، وَعِنْدِي أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعْطَى الرَّجُلُ كِفَايَتَهُ ثُمَّ يُصَانَ فِيهَا وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ الْجَامِعِ «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلْإِسْلَامِ وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ بِهِ» قَالَ فِي الْفَيْضِ سَلَكَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَرِيقَ الِاقْتِصَادِ الْمَحْمُودِ فَإِنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ تُلْهِي، وَقِلَّتَهُ تُنْسِي فَمَا قَلَّ مِنْهُ وَكَفَى خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى، وَفِي دُعَاءِ الْمُصْطَفَى بِهِ إرْشَادٌ لِأُمَّتِهِ كُلَّ الْإِرْشَادِ إلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ بِكَثِيرٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْعَبَ الْعَاقِلُ فِي طَلَبِهَا لِكَوْنِهَا لَا خَيْرَ فِيهَا، وَحُكْمُ الْكَفَافِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الرِّيَاضَةَ حَتَّى أَنَّهُ يَأْكُلُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ مَرَّةً فَكَفَافُهُ، وَقُوَّتُهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ فِي كُلِّ أُسْبُوعٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ الْأَكْلَ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ فَكَفَافُهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَهُ فَتَرَ وَمِنْهُمْ كَثِيرُ الْعِيَالِ فَكَفَافُهُ مَا يَسُدُّ عِيَالَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقِلُّ عِيَالُهُ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةٍ فَقَدْرُ الْكِفَايَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَمِقْدَارُهَا غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَكِنَّ الْمَحْمُودَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْقِوَامُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالِاشْتِغَالُ بِهِ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ.

وَقَوْلُهُ «إنِّي أَسْأَلُك غِنَايَ وَغِنَى مَوْلَايَ» الْمُرَادُ غِنًى يَدْفَعُ الْفَاقَةَ فَقَطْ فَلَا يُخَالِفُهُ مَا هُنَا، وَقَوْلُهُ «اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِك عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي» لَمْ يُرِدْ بِهِ مَا يَزِيدُ عَلَى الْكَفَافِ. انْتَهَى. وَكَذَا قَوْلُهُ «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» (ت عَنْ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ «لَيْسَتْ الزَّهَادَةُ فِي الدُّنْيَا بِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَا إضَاعَةِ الْمَالِ» بِبَذْلِهِ فِيمَا لَا يَنْبَغِي «، وَلَكِنَّ الزُّهْدَ أَنْ تَكُونَ» أَيُّهَا الْعَاقِلُ «بِمَا فِي يَدِ اللَّهِ» فِي خَزَائِنِ وَعْدِهِ وَقِسْمَتِهِ «أَوْثَقَ مِنْك بِمَا فِي يَدِك» ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِك يَنْقُصُ بِالْإِنْفَاقِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ لَيْسَ لَهُ غَايَةٌ فَوُثُوقُك بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَكْثَرُ مِنْ وُثُوقِك بِمَا فِي يَدِك، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ كَيْنُونَةِ مَجِيءِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا عِنْدَك سِيَّيْنِ.

وَرُوِيَ أَنَّ الْبِسْطَامِيَّ قَالَ مَا غَلَبَنِي أَحَدٌ سِوَى شَابٍّ مِنْ أَهْلِ بَلْخٍ قَدِمَ عَلَيْنَا حَاجًّا فَقَالَ يَا أَبَا يَزِيدَ مَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قُلْت إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإِذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا فَقَالَ هَكَذَا كِلَابُ بَلْخٍ قُلْت فَمَا حَدُّ الزُّهْدِ عِنْدَكُمْ قَالَ إذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، وَإِذَا وَجَدْنَا آثَرْنَا قَالَ فِي الْقُشَيْرِيَّةِ، وَقِيلَ مَنْ صَدَقَ فِي زُهْدِهِ أَتَتْهُ الدُّنْيَا رَاغِمَةً؛ وَلِهَذَا قِيلَ لَوْ سَقَطَتْ قَلَنْسُوَةٌ مِنْ السَّمَاءِ لَمَا وَقَعَتْ إلَّا عَلَى رَأْسِ مَنْ لَا يُرِيدُهَا، وَفِيهَا أَيْضًا مَنْ تَكَلَّمَ فِي الزُّهْدِ وَوَعَظَ النَّاسَ ثُمَّ رَغِبَ فِي أَمْوَالِهِمْ رَفَعَ اللَّهُ حُبَّ الْآخِرَةِ مِنْ قَلْبِهِ.

وَقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ الزَّاهِدُ يَذْهَبُ كِيسُهُ قَبْلَ نَفْسِهِ وَالْمُتَزَهِّدُ يَذْهَبُ نَفْسُهُ قَبْلَ كِيسِهِ قِيلَ جَعَلَ اللَّهُ الشَّرَّ

ص: 25

كُلَّهُ فِي بَيْتٍ وَجَعَلَ مِفْتَاحَهُ حُبَّ الدُّنْيَا وَجَعَلَ الْخَيْرَ كُلَّهُ فِي بَيْتٍ وَجَعَلَ مِفْتَاحَهُ الزُّهْدَ فِي الدُّنْيَا «، وَأَنْ تَكُونَ» لِكَمَالِ إيمَانِك «فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ إذَا أُصِبْت بِهَا» بُنِيَ لِغَيْرِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّ الْأَدَبَ فِي مِثْلِهِ عَدَمُ الْإِسْنَادِ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مِنْهُ تَعَالَى «أَرْغَبَ مِنْك فِيهَا لَوْ أَنَّهَا بَقِيَتْ لَك» أَيْ كَوْنُ رَغْبَتِك فِي ثَوَابِ الْمُصِيبَةِ أَشَدَّ مِنْ رَغْبَتِك فِي مَحَلِّ الْمُصِيبَةِ عَلَى تَقْدِيرِ الْبَقَاءِ، وَعَلَامَتُهُ عَدَمُ الرِّضَا بِمَحَلِّهَا مَعَ فَقْدِ الثَّوَابِ

(وَلْنَذْكُرْ مَا وَرَدَ فِي مَدْحِ الْفَقْرِ فَإِنَّ سَمَاعَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَسْبَابِ الزُّهْدِ) وَالْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ مَنْ لَهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ، وَعِنْدَ بَعْضٍ بِالْعَكْسِ، وَعِنْدَ الصُّوفِيَّةِ هُوَ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَسْتَغْنِي إلَّا بِهِ، وَلَا يَسْتَرِيحُ إلَّا بِالْحُضُورِ مَعَهُ، وَعَلَامَتُهُ عَدَمُ الْأَسْبَابِ.

(ت عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ» بِأَيَّامِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ} [الحج: 47] وَنِصْفِ يَوْمٍ مَجْرُورٌ عَطْفُ بَيَانٍ أَوْ بَدَلٌ مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ يَعْنِي خَمْسَمِائَةِ عَامٍ هُوَ نِصْفُ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْقِيَامَةِ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى «أَرْبَعِينَ عَامًا» لِصَبْرِهِمْ عَلَى بَلْوَى الْفَقْرِ، وَلَا يَجْعَلُونَ فَقْرَهُمْ مَانِعًا لِطَاعَةِ رَبِّهِمْ بَلْ يَجْعَلُونَ الْغِنَى مَانِعًا فَلَا يَخْتَارُونَهُ مَعَ سُهُولَةِ سَبِيلِهِ، وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ عَلَيْهِمْ حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَتْ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَيَطُولُ حِسَابُهُمْ فَتَسْبِقُ الْفُقَرَاءِ لَا يَخْفَى مَا فِيهِ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَقِيلَ يُمْكِنُ أَنْ يُرَادَ مِنْ الْفُقَرَاءِ فُقَرَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ حُبُّ اللَّهِ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ بِالْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ ثُمَّ لَعَلَّ الْمُرَادَ الْفَقِيرُ الصَّابِرُ مَعَ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَعُمَّ إلَى الْفَقِيرِ الْغَيْرِ الصَّابِرِ مَعَ الْغَنِيِّ الْغَيْرِ الشَّاكِرِ، وَأَمَّا الصَّابِرُ مَعَ الْغَيْرِ الشَّاكِرِ فَبِمَعْزِلٍ عَنْ ذَلِكَ قَالَ فِي مِنْهَاجِ الْعَابِدِينَ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ قُبُورِهِمْ لَهُمْ نُجُبٌ يَرْكَبُونَهَا لَهَا أَجْنِحَةٌ خُضْرٌ فَتَطِيرُ بِهِمْ فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَأْتُوا عَلَى حِيطَانِ الْجَنَّةِ فَإِذَا رَأَتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ هَؤُلَاءِ فَيَقُولُونَ مَا نَدْرِي لَعَلَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَأْتِيهِمْ بَعْضُ الْمَلَائِكَةِ فَيَقُولُونَ مَنْ أَنْتُمْ وَمِنْ أَيِّ الْأُمَمِ أَنْتُمْ فَيَقُولُونَ نَحْنُ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ

ص: 26

فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ هَلْ حُوسِبْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولَانِ هَلْ وُزِنْتُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَيَقُولُونَ هَلْ قَرَأْتُمْ كُتُبَكُمْ فَيَقُولُونَ لَا فَتَقُولُ الْمَلَائِكَةُ ارْجِعُوا فَكُلُّ ذَلِكَ وَرَاءَكُمْ فَيَقُولُونَ هَلْ أَعْطَيْتُمُونَا شَيْئًا فَنُحَاسَبُ عَلَيْهِ» ، وَفِي خَبَرٍ آخَرَ «مَا مَلَكْنَا فَنَعْدِلُ أَوْ نَجُورُ، وَلَكِنْ عَبَدْنَا رَبَّنَا حَتَّى دَعَانَا فَأَجَبْنَاهُ فَيُنَادِي مُنَادٍ صَدَقَ عِبَادِي» - {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 91]-.

وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا نُقِلَ عَنْ الْفَيْضِ عَنْ الْعَسْكَرِيّ عَنْ مُضَرَ بْنِ جَرِيرٍ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - سُئِلَ عَنْ حَدِيثِ «يَدْخُلُ فُقَرَاءُ أُمَّتِي الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ» قَالَ الْمُرَادُ بِالْأَغْنِيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِمْ مِثْلَ عُثْمَانَ وَالزُّبَيْرِ وَابْنِ عَوْفٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - قَالَ مُضَرُ فَذَكَرْته لِعَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ لَا يُسْأَلُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا إنَّمَا يُسْأَلُ عَنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ. انْتَهَى.

كَأَنَّ ظَاهِرَهُ تَعْرِيضٌ عَلَى حَضْرَةِ الْإِمَامِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ، وَإِنَّمَا مَعْرِفَتُهُ أَحْكَامَ الْأَشْخَاصِ الدِّينِيَّةِ كَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مُتَبَادَرُ إطْلَاقِ ظَاهِرِهِ فَيُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ إذْ هُوَ يَسْتَلْزِمُ تَحْقِيرَ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَعَالِمِهَا، وَأَنَّ مَعْرِفَتَهَا إنَّمَا هِيَ مِنْ النُّصُوصِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعْرِفَتُهَا مِمَّنْ لَا يَعْرِفُ النُّصُوصَ، وَقَدْ قُرِّرَ أَنَّ الِاجْتِهَادَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ وَمَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِ النُّصُوصِ مِنْ التَّأْوِيلِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وَالْمُعَارِضِ وَالنَّسْخِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُمْ هُمْ الْوَاقِفُونَ عَلَى حَقِيقَةِ مُرَادِ الشَّارِعِ لَا غَيْرُهُمْ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ، وَقَدْ قَرَّرَ أَهْلُ الْحَدِيثِ أَنَّ حَدِيثَ الْفَقِيهِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى غَيْرِ الْفَقِيهِ، وَأَنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنَّ مَعْرِفَتَهُ مِنْ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ إنَّمَا هِيَ عَنْ أَحْوَالِهِمَا الْحِسِّيَّةِ لَا الشَّرْعِيَّةِ فَلَا يَخْفَى أَنَّهُ تَعَنُّتٌ وَمُكَابَرَةٌ بَحْتٌ كَيْفَ، وَهُوَ أُسْتَاذُ عَامَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ بَلْ كُلُّ الْفُقَهَاءِ بَعْدَهُ مِنْ عِيَالِهِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -، وَلَوْ سُلِّمَ خَطَؤُهُ فِي هَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ لَا يَقْتَضِي مِثْلَ ذَلِكَ التَّشْنِيعِ بَلْ التَّأَدُّبُ لَازِمٌ فِي تَعْبِيرِ زَلَّاتِ الْكِبَارِ وَالِاعْتِذَارِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُ الْخَطَأِ مِنْ الرَّاوِي لَعَلَّهُ لَمْ يَضْبِطْهُ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّ نِسْبَةَ الْجَهْلِ إلَى مَنْ أُجْمِعَ عَلَى عُلُوِّهِ لَيْسَ أَوْلَى مِنْ نِسْبَةِ الْكَذِبِ إلَى الرَّاوِي فِي رِوَايَتِهِ كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّبْكِيتِ وَالْإِلْزَامِ، وَإِلَّا فَقَوْلُ الْإِمَامِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْ قَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّ لَفْظَ الْأَغْنِيَاءِ فِي نَفْسِهِ مُتَبَادَرٌ فِي الْجَمِيعِ أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ مَانِعَةٌ عَنْ إرَادَةِ مَا هُوَ مِثْلُ عُثْمَانَ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْبِيرُ بِفُقَرَاءِ أُمَّتِي بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ عليه الصلاة والسلام دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ الْفَرِيقَانِ عَامَّانِ لِمَا فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ لَكِنْ لَا مُطْلَقًا بَلْ بِنِسْبَةِ كُلٍّ إلَى أَمْثَالِهِ فَالْفَقِيرُ الْمُمَاثِلُ لِلْغَنِيِّ فِي جَمِيعِ طَاعَاتِهِ سَابِقٌ عَلَى هَذَا الْغَنِيِّ لِفَقْرِهِ.

وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «فُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ» فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ.

، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا» لَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ مَقْصُورٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فَاجْتَرَأَ عَلَى مَا أَجْتَرَأَ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْفُقَرَاءِ هُمْ الَّذِينَ قَصَرُوا احْتِيَاجَهُمْ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الدُّنْيَا، وَأَمْتِعَتِهَا، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فَمِثْلُ عُثْمَانَ لَا يَضُرُّ وَيُقَرِّبُهُ مَا يُقَالُ إنَّ الْفَقِيرَ الَّذِي لَهُ مَحَبَّةٌ لِلدُّنْيَا فَمِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا وَالْغَنِيَّ الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لَهَا فَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُ الْأَغْنِيَاءِ مِنْ قَبِيلِ عَامٍّ خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ بِالْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ الْوَاقِعَةِ فِي حَقِّ مِثْلِ عُثْمَانَ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْفَقْرُ شَيْنٌ عِنْدَ النَّاسِ وَزَيْنٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ؛ لِأَنَّ الْفُقَرَاءَ إلَى اللَّهِ بِبَوَاطِنِهِمْ وَظَوَاهِرِهِمْ لَا يَشْهَدُونَ لِأَنْفُسِهِمْ حَالًا، وَلَا غِنًى، وَلَا مَالًا؛ وَلِلْفَقِيرِ مَعَ الرِّضَا فَضْلٌ كَبِيرٌ، وَقَالَ عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَزْيَنُ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِذَارِ الْحَسَنِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ» وَالْفَقْرُ عِنْدَ أَهْلِ التَّصَوُّفِ هُوَ الزُّهْدُ وَالْعِبَادَةُ، وَإِنْ ذَا مَالٍ وَغَيْرُهُ فَقِيرٌ، وَإِنْ فَقِيرًا.

وَقَالَ أَيْضًا عِنْدَ حَدِيثِ «الْفَقْرُ أَمَانَةٌ فَمَنْ كَتَمَهُ كَانَ عِبَادَةً» الْحَدِيثَ. الْفَقْرُ عِنْدَ الْمُتَصَوِّفَةِ الِانْقِطَاعُ إلَى اللَّهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الْفَقِيرِ إذَا كَانَ مَا ذُكِرَ كَانَ مَعْنَى الْغِنَى مُقَابِلَهُ عَلَى طَرِيقِ بَيَانِ الضَّرُورَةِ.

فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى الْحَدِيثِ الزَّاهِدُونَ الْمُنْقَطِعُونَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْمُشْتَغِلِينَ بِالدُّنْيَا فَلَا غُبَارَ فِيهِ فَلَعَلَّ الْمُعْتَرِضَ حَمَلَهُ عَلَى هَذَا إذْ قِيلَ إنَّهُ أَيْ عَبْدَ الْوَاحِدِ مِنْ الْمُتَصَوِّفَةِ

ص: 27

(خ م عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ» إمَّا فِي الْمِعْرَاجِ أَوْ بِالْكَشْفِ أَوْ فِي الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ «فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ» إمَّا مَالًا كَمَا هُوَ عِنْدَ الشَّرْعِيَّةِ أَوْ زُهْدًا وَانْقِطَاعًا إلَى اللَّهِ كَمَا هُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِيقَةِ قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ كَفَى ذَا الْمَالِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى التَّطْهِيرِ، وَلَوْلَا التَّدْنِيسُ بِهِ لَمْ تُطَهِّرْهُ الزَّكَاةُ، وَلِذَلِكَ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ لِعَدَمِ تَدَنُّسِهِمْ إذْ هُمْ خُزَّانُ اللَّهِ وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ؛ وَلِلنَّاسِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ غَنِيٍّ شَاكِرٍ، وَفَقِيرٍ صَابِرٍ مَعَارِكُ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ أَفْضَلَهُمَا أَتْقَاهُمَا فَإِنْ اسْتَوَيَا اسْتَوَيَا - {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]- كَذَا فِي الْفَيْضِ أَقُولُ، وَقَدْ سَمِعْت أَيْضًا فَضْلَ الْفَقِيرِ عَلَى الْغَنِيِّ عَنْ بَحْرِ الْكَلَامِ، وَفَضْلَ الْكَفَافِ مِنْهُمَا عَنْ شَرْحِ مُسْلِمٍ، وَفِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ قِيلَ الْغَنِيُّ أَفْضَلُ لِتَسَاوِيهِمَا فِي ضَعْفِ الْفَقْرِ مَعَ مَزِيَّةِ الْغَنِيِّ بِالْخَيْرَاتِ، وَقِيلَ الْفَقْرُ أَفْضَلُ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ هُوَ مَحَبَّةُ الدُّنْيَا وَذَكَرَ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّ الْفَقْرَ أَبْعَدُ عَلَى الْخَطَرِ، وَقَالُوا مِنْ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تَجِدَ «وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» لِعَدَمِ صَبْرِهِنَّ عَلَى الشِّدَّةِ، وَعَدَمِ شُكْرِهِنَّ فِي الرَّخَاءِ وَكُفْرَانِهِنَّ النِّعْمَةَ وَكَثْرَتِهِنَّ اللَّعْنَ وَغَلَبَةِ الْهَوَى فِيهِنَّ وَمَيْلِهِنَّ إلَى زُخْرُفِ الدُّنْيَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنْ مَفَاخِرِ الْآخِرَةِ أَغْلَبُ لِضَعْفِ عَقْلِهِنَّ وَسُرْعَةِ انْخِدَاعِهِنَّ، وَعُورِضَ بِأَنَّ ذَلِكَ حَالَ كَوْنِهِنَّ فِي النَّارِ أَمَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ فَالنِّسَاءُ فِي الْجَنَّةِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَجُلٍ زَوْجَتَيْنِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَسَبْعِينَ مِنْ الْحَوَرِ كَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَعُورِضَ بِخَبَرِ «رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ» وَأُجِيبَ أَنَّ كَثْرَتَهُنَّ فِي النَّارِ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا وَكَثْرَتَهُنَّ فِي الْجَنَّةِ مِنْ نِسَاءِ الْآخِرَةِ، وَفِيهِ أَيْضًا حَثٌّ عَلَى التَّقَلُّلِ مِنْ الدُّنْيَا وَتَحْرِيضُ النِّسَاءِ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُحَافَظَةِ فِي الدِّينِ عَلَى السَّبَبِ الْأَقْوَى، وَأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ مَخْلُوقَتَانِ الْآنَ كَذَا فِي الْفَيْضِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأَغْنِيَاءُ بَدَلُ النِّسَاءِ، وَفِي أُخْرَى بِهِمَا مَعًا.

(مج) ابْنُ مَاجَهْ (عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْفَقِيرَ الْمُتَعَفِّفَ» أَيْ الْمُتَكَلِّفَ فِي الْعِفَّةِ وَالِامْتِنَاعِ عَنْ سُؤَالِ النَّاسِ، وَعَنْ إذْلَالِ نَفْسِهِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا وَالسَّعْيِ فِي خِدْمَةِ أَهْلِهَا (أَبَا الْعِيَالِ) ثِقَةٌ بِضَمَانِ مَوْلَاهُ لَعَلَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ اشْتِدَادِ الْحَاجَةِ أَوْ لِلتَّلَهِّي وَالِادِّخَارِ، وَإِلَّا جَاءَ فِي الْأَثَرِ «مَنْ جَاعَ فَلَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ» ، وَقَدْ سَأَلَ النَّاسَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ نَبِيُّ اللَّهِ مُوسَى وَالْخَضِرُ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى - {اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} [الكهف: 77]- وَكَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْحَدَّادِيُّ شَيْخُ الْجُنَيْدِ يَسْأَلُ مِنْ بَابٍ أَوْ مِنْ بَابَيْنِ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ وَكَانَ لَهُ مَقَامٌ فِي الزُّهْدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ آدَمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَكِفًا بِجَامِعِ الْبَصْرَةِ مُدَّةً وَكَانَ يُفْطِرُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْلَةً، وَلَيْلَةُ إفْطَارِهِ يَطْلُبُ مِنْ الْأَبْوَابِ وَالثَّوْرِيُّ يَسْأَلُ فِي بَوَادِي الْحِجَازِ إلَى صَنْعَاءَ قَالَ كُنْت أَذْكُرُ لَهُمْ حَدِيثًا فِي الضِّيَافَةِ فَيُخْرِجُونَ إلَيَّ طَعَامًا فَأَتَنَاوَلُ مِنْهُ حَاجَتِي، وَأَتْرُكُ مَا بَقِيَ قَالَ بِشْرٌ الْحَافِي مَا سَأَلْت قَطُّ أَحَدًا إلَّا السَّرَقُسْطِيَّ؛ لِأَنَّهُ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا وَيَفْرَحُ بِخُرُوجِ الشَّيْءِ مِنْ يَدِهِ وَيَتَبَرَّمُ بِبَقَائِهِ عِنْدَهُ، كُلُّهُ مِنْ شَرْحِ الْحِكَمِ.

وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ مَكَثَ أَبُو حَفْصٍ الْحَدَّادُ عِشْرِينَ سَنَةً يَعْمَلُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِينَارٍ وَيُنْفِقُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَيَصُومُ وَيَخْرُجُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَبْوَابِ (طب عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبِلَالٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مُتْ فَقِيرًا» دُمْ عَلَى الْفَقْرِ لِتَمُوتَ عَلَيْهِ

ص: 28

وَعَنْ إِسْحَاقَ الْهَرَوِيِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْلُغَ الشَّرَفَ كُلَّ شَرَفٍ فَلْيَخْتَرْ سَبْعًا عَلَى سَبْعٍ فَإِنَّ الصَّالِحِينَ اخْتَارُوهَا حَتَّى بَلَغُوا سَنَامَ الْخَيْرَاتِ يَخْتَارُ الْفَقْرَ عَلَى الْغِنَى وَالْجُوعَ عَلَى الشِّبَعِ وَالدُّونَ عَلَى الْمُرْتَفِعِ وَالذُّلَّ عَلَى الْعِزِّ وَالتَّوَاضُعَ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحُزْنَ عَلَى الْفَرَحِ وَالْمَوْتَ عَلَى الْحَيَاةِ؛ وَلِذَا كَانَ السَّلَفُ يَفِرُّونَ إلَى الْفَقْرِ وَالْبَلْوَى كَمَا فَرَرْنَا مِنْهُمَا وَكَمَا حُكِيَ عَنْ خَيْرِ النُّسَّاجِ أَنَّهُ قَالَ دَخَلْت بَعْضَ الْمَسَاجِدِ فَإِذَا فِيهِ فَقِيرٌ فَلَمَّا رَآنِي تَعَلَّقَ بِي، وَقَالَ أَيُّهَا الشَّيْخُ تَعَطَّفْ عَلَيَّ فَإِنَّ مِحْنَتِي عَظِيمَةٌ فَقُلْت وَمَا هِيَ قَالَ فَقَدْت الْبَلَاءَ، وَقُرِنْت بِالْعَافِيَةِ فَنَظَرْت فَإِذَا هُوَ قَدْ فُتِحَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْفَقِيرَ الصَّادِقَ لَيَحْتَرِزُ مِنْ الْغِنَى حَذَرَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَيُفْسِدَ عَلَيْهِ فَقْرَهُ كَمَا أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْتَرِزُ مِنْ الْفَقْرِ حَذَرَ أَنْ يَدْخُلَهُ فَيُفْسِدَ عَلَيْهِ غِنَاهُ.

ثُمَّ إنَّمَا أَوْصَى بِدَوَامِ الْفَقْرِ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ طَهَارَةِ السِّرِّ وَصَفَاءِ الْقَلْبِ بِالْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِنَحْوِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِهِمَا شَهْوَةٌ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْفَاقَاتِ لِتَبَايُنِهَا لِنَحْوِ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ، وَقِيلَ إنَّ بِنْتَ فَتْحٍ الْمَوْصِلِيِّ عَرِيَتْ فَقِيلَ لَهُ أَلَا تَطْلُبُ مَنْ يَكْسُوهَا فَقَالَ لَا دَعْهَا حَتَّى يَرَى اللَّهُ عز وجل صَبْرِي عَلَيْهَا قَالَ فَكَانَ إذَا كَانَ لَيَالِي الشِّتَاءِ جَمَعَ عِيَالَهُ وَرَمَى بِكِسَائِهِ عَلَيْهِمْ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ أَفْقَرْتنِي، وَأَفْقَرْت عِيَالِي، وَأَعْرَيْتنِي، وَأَعْرَيْت عِيَالِي وَجَوَّعْتنِي وَجَوَّعْت عِيَالِي بِأَيِّ وَسِيلَةٍ تَوَسَّلْت إلَيْك، وَإِنَّمَا تَفْعَلُ هَذَا بِأَوْلِيَائِك، وَأَحِبَّائِك فَهَلْ أَنَا مِنْهُمْ حَتَّى أَفْرَحَ وَمِثْلُهُ عَنْ الْفُضَيْلِ أَنَّهُ بَكَى فِي لَيْلَةٍ فَقَالَ إلَهِي أَفْقَرْتنِي، وَأَقْعَدْتنِي، وَأَقْعَدْت عِيَالِي فِي بَيْتٍ لَيْسَ بِهِ مِصْبَاحٌ، وَقَدِيمًا تَفْعَلُ هَذَا بِأَوْلِيَائِك، وَأَهْلِ طَاعَتِك إلَهِي فَبِأَيِّ عَمَلٍ اسْتَحْقَقْت هَذَا حَتَّى أَدُومَ عَلَيْهِ.

«، وَلَا تَمُتْ غَنِيًّا» قِيلَ لَا تُخَالِطْ الْغَنِيَّ، وَلَا تُلَابِسْهُ أَبَدًا فَتَمُوتَ عَلَيْهِ. (طصس) الطَّبَرَانِيُّ فِي الصَّغِيرِ وَالْأَوْسَطِ (وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «لَمْ يَكُنْ يُنْخَلْ» عَلَى بِنَاءِ الْمَفْعُولِ «لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّقِيقُ» نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَكَانَ دَقِيقُهُ الشَّعِيرَ «، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا قَمِيصٌ وَاحِدٌ» إعْرَاضًا عَنْ زَهَرَاتِ الدُّنْيَا لَا لِعَدَمِ قُدْرَتِهِ عَلَى أَكْثَرَ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ فِي شِفَاءِ عِيَاضٍ رُوِيَ «أَنَّ جَبْرَائِيلَ عليه الصلاة والسلام نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ وَيَقُولُ أَيُحِبُّ حَبِيبِي أَنْ أَجْعَلَ هَذِهِ الْجِبَالَ ذَهَبًا وَتَكُونَ مَعَك حَيْثُمَا كُنْتَ فَأَطْرَقَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ يَا جَبْرَائِيلُ إنَّ الدُّنْيَا دَارُ مَنْ لَا دَارَ لَهُ وَمَالُ مَنْ لَا مَالَ لَهُ وَبِهَا يَغْتَرُّ مَنْ لَا عَقْلَ لَهُ إنَّمَا أُرِيدُ أَنْ أَشْبَعَ يَوْمًا، وَأَجُوعَ يَوْمًا فَإِذَا جُعْت تَضَرَّعْت، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت فَقَالَ جَبْرَائِيلُ ثَبَّتَك اللَّهُ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» .

وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً مَا مَلَكْت قَمِيصَيْنِ، وَعَنْ بَعْضٍ رَأَيْت كَأَنَّ الْقِيَامَةَ قَامَتْ فَيُقَالُ أَدْخِلُوا مَالِكَ بْنَ دِينَارٍ وَمُحَمَّدَ بْنَ وَاسِعٍ الْجَنَّةَ فَنَظَرْت أَيُّهُمَا يَتَقَدَّمُ فَتَقَدَّمَ مُحَمَّدٌ فَسَأَلْت عَنْ سَبَبِهِ فَقِيلَ إنَّهُ كَانَ لَهُ قَمِيصٌ وَاحِدٌ؛ وَلِمَالِكٍ قَمِيصَانِ، وَعَنْ الْعَوَارِفِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لَقَدْ رَأَيْت سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ يُصَلُّونَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْ لَا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ فَإِذَا رَكَعَ أَحَدُهُمْ قَبَضَ بِيَدَيْهِ مَخَافَةَ أَنْ تَبْدُوَ عَوْرَتُهُ.

وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَقِيَ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَإِذَا نَامُوا يُلْصِقُونَ جُنُوبَهُمْ عَلَى الْأَرْضِ بِلَا حَائِلٍ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْمِشْكَاةِ، وَعَنْ جَامِعِ الشُّرُوحِ

ص: 29

مِنْ شُرُوحِ الشِّرْعَةِ أَنَّهُ اُتُّفِقَ «لَهُ عليه الصلاة والسلام ثَوْبَانِ، وَهَبَ أَحَدَهُمَا لِفَقِيرٍ حَذَرًا مِنْ الْإِسْرَافِ أَوْ سُوءِ الْحِسَابِ» ، وَعَنْ الْحَرِيرِيِّ أَنَّهُ رَأَى فِي جَامِعِ بَغْدَادَ رَجُلًا لَا يَلْبَسُ أَكْثَرَ مِنْ ثَوْبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ رَأَيْت فِي الْمَنَامِ أَنِّي دَخَلْت الْجَنَّةَ فَرَأَيْت جَمَاعَةً مِنْ فُقَرَائِنَا عَلَى مَائِدَةٍ، وَأَرَدْت أَنْ أَجْلِسَ مَعَهُمْ فَمَنَعَنِي الْمَلَائِكَةُ، وَقَالُوا هَؤُلَاءِ أَصْحَابُ ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَلَك قَمِيصَانِ فَانْتَبَهْت وَنَذَرْت بِلُبْسِ ثَوْبٍ وَاحِدِ إلَى أَنْ أَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ عَنْ الْعَوَارِفِ.

وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ إلَّا عَارِيَّةً وَالْبِسْطَامِيُّ كَانَ قَمِيصُهُ يَوْمَ مَوْتِهِ عَارِيَّةً فَرَدُّوهُ إلَى صَاحِبِهِ، وَعَنْ الْبَعْضِ لَا يَلْبَسُ إلَّا مُسْتَأْجَرًا، وَلَا يَلْبَسُ عَلَى مِلْكٍ.

وَفِي الْمِشْكَاةِ لَقَدْ تَفَضَّلْتَ عَلَيْنَا بِأَنْ لَبِسْتَ أَلْوَانًا مِنْ الْمَلْبَسِ وَأَنَّنِي كَالسَّيْفِ فِي عُرْيِهِ، وَأَنْتَ مِثْلُ الْبَصَلِ الْمُكْتَسِي.

وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ لَهُ عليه الصلاة والسلام ثَوْبًا آخَرَ يَلْبَسُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَالْأَعْيَادِ، وَعِنْدَ خُرُوجِهِ إلَى الْوُفُودِ، وَقَدْ قَالَ التتارخانية «إنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرُبَّمَا قَامَ إلَى الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ رِدَاءٌ قِيمَتُهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمًا، وَعَلَيْهِ رِدَاءُ خَزٍّ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى آثَارَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ» ، وَأَبُو حَنِيفَةَ كَانَ يَرْتَدِي بِرِدَاءٍ قِيمَتُهُ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ وَيَقُولُ لِتَلَامِذَتِهِ إذَا رَجَعْتُمْ إلَى أَوْطَانِكُمْ فَالْبَسُوا الثِّيَابَ النَّفِيسَةَ، وَإِيَّاكُمْ وَالْخَسِيسَةَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إلَيْكُمْ بِعَيْنِ الرَّحْمَةِ فَهُوَ مَعَ زَهَادَتِهِ وَوَرَعِهِ كَانَ يُوصِيهِمْ بِذَلِكَ.

وَكَانَ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ يَلْبَسُ النَّفِيسَةَ وَيَقُولُ لِي نِسَاءٌ وَجِوَارِي فَأَتَزَيَّنُ كَيْ لَا يَنْظُرْنَ إلَى غَيْرِي، وَعَنْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ سِنْجَابًا وَكَانَ عَلَى الضَّحَّاكِ قَلَنْسُوَةُ سَمُّورٍ فَبِمَا ذُكِرَ يَحْصُلُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ مِثْلِ لُبْسِهِ قَمِيصًا وَاحِدًا فَقَطْ وَبَيْنَ لُبْسِهِ نَحْوَ رِدَاءٍ ذِي قِيمَةٍ كَثِيرَةٍ إذْ الْقَمِيصُ الْوَاحِدُ فِي أَكْثَرِ أَحْوَالِهِ، وَعِنْدَ عَدَمِ عُرُوضِ الْخَارِجِ وَكَوْنُ الرِّدَاءِ عِنْدَ عُرُوضِ دَاعٍ مِنْ الْخَارِجِ كَبَيَانِ أَصْلِ جَوَازِهِ لِأُمَّتِهِ وَتَزَيُّنِهِ لِنِسْوَانِهِ، وَإِلْقَاءِ مَهَابَةِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَعَدَمِ نَظَرِ الْخَلْقِ إلَيْهِ بِنَظَرِ الْحَقَارَةِ وَالْهَوَانِ وَتَحْدِيثِ النِّعْمَةِ.

ثُمَّ فِي التتارخانية أَيْضًا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - كَانَ يَلْبَسُ قَمِيصًا عَلَيْهِ كَذَا وَكَذَا رُقْعَةٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْحِكْمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَبِسَ ثِيَابًا نَفِيسَةً وَاتَّخَذَ أَلْوَانًا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَاقْتَدَى بِهِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ الْخُلَفَاءِ فَيَظْلِمُونَ لَعَلَّ تَفْصِيلَهُ مَا فِي نَحْوِ كِتَابِ أَسْمَاءِ الرِّجَالِ مِنْ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ يَوْمًا تَشَاوَرُوا، وَقَالُوا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْنَا دِيَارَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَطَرَفَيْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ يَأْتُونَ عُمَرَ فَيَرَوْنَ جُبَّتَهُ الَّتِي لَهَا اثْنَتَا عَشْرَةَ رُقْعَةً فَلْنَسْأَلْهُ حَتَّى يُغَيِّرَ بِثَوْبٍ لَيِّنٍ يُهَابُ فِيهِ مَنْظَرُهُ وَيُغْدَى عَلَيْهِ بِجَفْنَةٍ مِنْ الطَّعَامِ يَأْكُلُهُ مَعَ بَعْضِ الْكِبَارِ فَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا إلَّا عَلِيٌّ رضي الله عنه فَقَالَ لَسْت بِفَاعِلٍ ذَلِكَ فَأَشَارَ إلَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَسَأَلُوا عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ فَأَجَابَتَا فَقَالَتْ عَائِشَةُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَضَى إلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَلَمْ يُرِدْ الدُّنْيَا، وَلَمْ تُرِدْهُ وَكَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَقَدْ فُتِحَ عَلَى يَدَيْك كُنُوزُ كِسْرَى، وَقَيْصَرَ وَحُمِلَ إلَيْك أَمْوَالُهُمْ وَكَذَا طَرَفَا الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَرُسُلُ الْعَجَمِ وَوُفُودُ الْعَرَبِ يَرِدُونَ إلَيْك، وَعَلَيْك هَذِهِ الْجُبَّةُ فَلَوْ غَيَّرْتهَا بِلَيِّنٍ لَحَصَلَ مَهَابَةُ الْإِسْلَامِ وَيُغْدَى بِجَفْنَةِ الطَّعَامِ فَتَأْكُلُ مَعَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَبَكَى عُمَرُ بُكَاءً شَدِيدًا ثُمَّ قَالَ هَلْ تَعْلَمِينَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَبِعَ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ عَشَرَةَ أَيَّامٍ أَوْ خَمْسَةً أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ جَمَعَ بَيْنَ عَشَاءٍ وَغَدَاءٍ حَتَّى لَحِقَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتَا لَا فَقَالَ يَا عَائِشَةُ هَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قُرِّبَ إلَيْهِ طَعَامٌ عَلَى مَائِدَةٍ فِي ارْتِفَاعِ شِبْرٍ أَمَا كَانَ يَأْمُرُ بِالطَّعَامِ فَيُوضَعُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَأْمُرُ بِالْمَائِدَةِ فَتُرْفَعُ قَالَتَا نَعَمْ أَنْتُمَا زَوْجَتَاهُ عليه الصلاة والسلام وَأُمَّهَاتُ الْمُؤْمِنِينَ أَتَيْتُمَانِي تُرَغِّبَانِنِي فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام لَبِسَ جُبَّةً مِنْ الصُّوفِ فَرُبَّمَا حَكَّ جِلْدَهُ مِنْ خُشُونَتِهَا

ص: 30

قَالَتَا نَعَمْ فَهَلْ تَعْلَمِينَ أَنَّهُ كَانَ عليه الصلاة والسلام يَرْقُدُ عَلَى عَبَاءَةٍ عَلَى طَاقَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَانَ لَهُ مِسْحٌ فِي بَيْتِك يَا عَائِشَةُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ بِسَاطًا وَبِالنَّهَارِ فِرَاشًا فَنَدْخُلُ عَلَيْهِ فَنَرَى أَثَرَ الْحَصِيرِ عَلَى جَنْبِهِ أَلَا يَا حَفْصَةُ أَنْتِ حَدَّثْتنِي أَنَّك ثَنَيْت الْمِسْحَ لَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَوَجَدَ لِينَهُ فَرَقَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَسْتَيْقِظْ إلَّا بِأَذَانِ بِلَالٍ يَا حَفْصَةُ أَمَا تَعْلَمِينَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مَغْفُورًا لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ أَمْسَى جَائِعًا وَرَقَدَ سَاجِدًا، وَلَمْ يَزَلْ رَاكِعًا سَاجِدًا وَبَاكِيًا وَمُتَضَرِّعًا فِي آنَاءِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَى أَنْ قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَكَلَ عُمَرُ طَيِّبًا، وَلَا لَبِسَ لَيِّنًا، وَلَهُ أُسْوَةٌ بِصَاحِبَيْهِ، وَلَا جَمَعَ بَيْنَ إدْمَيْنِ إلَّا الْمِلْحَ وَالزَّيْتَ، وَلَا أَكَلَ لَحْمًا إلَّا فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً حَتَّى يَنْقَضِيَ مَا انْقَضَى مِنْ الْقَوْلِ قَالَتَا فَخَرَجْنَا فَخَبَّرْنَا بِذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاَللَّهِ عز وجل» .

(طب عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهُ «مَا كَانَ يَبْقَى عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ قَلِيلٌ، وَلَا كَثِيرٌ» وَكَلِمَةُ كَانَ لِلِاسْتِمْرَارِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى إيثَارِ الْفَقْرِ بِوَجْهَيْنِ قِلَّةُ الطَّعَامِ، وَإِيثَارُ الشَّعِيرِ.

وَفِي الشِّرْعَةِ فَمِنْ سُنَّةِ الْأَنْبِيَاءِ أَكْلُ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَذَلِكَ أَكْثَرُ طَعَامِهِمْ «وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَشْبَعُ مِنْهُ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ» فَلَا يَأْكُلُ الْمُؤْمِنُ إلَّا مِنْهُ أَوْ يَخْلِطُ بُرًّا بِالشَّعِيرِ، وَفِي الْحَدِيثِ «ثَلَاثٌ فِيهِنَّ الْبَرَكَةُ الْبَيْعُ إلَى الْأَجَلِ وَالْمُعَارَضَةُ أَيْ بَيْعُ الْعَرَضِ بِالْعَرَضِ وَخَلْطُ الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ لِلْبَيْتِ لَا لِلْبَيْعِ» . (ط عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ)(- رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ، وَقَدْ رَقَّعَ) فِي ثَوْبِهِ (بَيْنَ كَتِفَيْهِ بِرِقَاعِ) بِكَسْرِ الرَّاءِ جَمْعُ رُقْعَةٍ، وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تُجْعَلُ مَكَانَ الْقَطْعِ مِنْ الثَّوْبِ (ثَلَاثَ لِبَدٍ) أَيْ صَارَ مُلْبَدًا مُلْصَقًا كَاللِّبَدِ (بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ) ، وَهَذَا مِنْ زُهْدِهِ، وَإِلَّا فَقَدْ سَمِعْت قَرِيبًا أَنَّ خَزَائِنَ مُلُوكِ الدُّنْيَا كَقَيْصَرَ وَكِسْرَى فِي يَدِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ لِلْغَيْرِ بِمَا هُوَ اللَّائِقُ لِلْإِنْسَانِ أَوْ لِمَنْ هُوَ خَلِيفَةٌ بَعْدَهُ إذْ فُرَصُ الدُّنْيَا غَالِيَةٌ فِي مَقَامِهِمْ فَيَرَوْنَهُ أَوْ يَسْمَعُونَهُ فَيَقْتَدُونَ بِهِ فَلَا يَظْلِمُونَ الرَّعَايَا، وَلَا يَطْمَعُونَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ لِتَحْصِيلِ الْمَلَابِسِ النَّفِيسَةِ وَكَذَا الْمَآكِلَ اللَّطِيفَةَ وَكَذَا رَوَى الطَّبَرَانِيُّ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ قَالَ رَأَيْت عُمَرَ، وَعَلَيْهِ مُرَقَّعَةٌ فِيهَا سَبْعَ عَشْرَةَ رُقْعَةً فَانْصَرَفَ إلَى بَيْتِي بَاكِيًا ثُمَّ عُدْت فِي طَرِيقِي فَإِذَا عُمَرُ، وَعَلَى عَاتِقِهِ قِرْبَةُ مَاءٍ، وَهُوَ يَتَخَلَّلُ النَّاسَ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ لَا تَتَكَلَّمْ، وَأَقُولُ لَك فَسِرْت مَعَهُ حَتَّى صَبَّهَا فِي بَيْتِ عَجُوزٍ، وَعُدْنَا إلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ لِي إنَّهُ حَضَرَنِي بَعْدَ مُضِيِّك رَسُولُ الرُّومِ وَرَسُولُ الْفُرْسِ فَقَالُوا لِلَّهِ دَرُّك يَا عُمَرُ قَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى عِلْمِك، وَفَضْلِك، وَعَدْلِك فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِي تَدَاخَلَنِي مَا تَدَاخَلَ الْبَشَرَ فَقُمْت فَعَلْت بِنَفْسِي مَا فَعَلْت، وَفِي الِاحْتِسَابِ رَسُولُ مَلِكِ الرُّومِ جَاءَ بِهَدَايَا فَلَمْ يَجِدْ عُمَرُ فِي بَيْتِهِ وَبَيْتُهُ صَغِيرٌ مُسَوَّدٌ لِطُولِ الزَّمَانِ، وَقِيلَ إنَّهُ فِي السُّوقِ لِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ فَطَلَبَهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ تَحْتَ ظِلِّ حَائِطٍ مُتَوَسِّدٌ بِالدِّرَّةِ فَلَمَّا رَآهُ قَالَ عَدَلْت فَأَمِنْت وَأُمَرَاؤُنَا ظَلَمُوا فَاحْتَاجُوا إلَى الْحُصُونِ وَالْجُيُوشِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَفِي أَسْمَاءِ الرِّجَالِ أَنَّ زَوْجَةَ عُمَرَ اسْتَقْرَضَتْ دِينَارًا وَاشْتَرَتْ بِهِ عِطْرًا فِي قَوَارِيرَ، وَأَرْسَلَتْهُ هَدِيَّةً إلَى زَوْجَةِ مَلِكِ الرُّومِ، وَأَرْسَلَتْ الزَّوْجَةُ إلَى زَوْجَةِ عُمَرَ جَوَاهِرَ فَلَمَّا أَخْبَرَتْ عُمَرَ أَخَذَهَا فَبَاعَهَا وَدَفَعَ إلَى امْرَأَتِهِ دِينَارًا وَجَعَلَ مَا بَقِيَ فِي بَيْتِ الْمَالِ.

وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا اشْتَرَى قَمِيصًا فِي خِلَافَتِهِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَكَانَ

ص: 31

كُمُّهُ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ خَلْوَقَتِهِ فَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ، وَقَالُوا لِأَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ لِمَ لَا تَلْبَسُ جَيِّدًا قَالَ أَنَا الْيَوْمَ عَبْدٌ أَلْبَسُ لِبَاسَ الْعَبْدِ وَغَدًا إذَا أَعْتَقَنِي مَوْلَايَ يُلْبِسُنِي جَدِيدًا جَيِّدًا (ت عَنْ أَبِي طَلْحَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ «شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُوعَ) لِيَدْعُوَ لَنَا بِدَفْعِ الْجُوعِ وَكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ (وَرَفَعْنَا ثِيَابَنَا عَنْ حَجَرٍ حُجِرَ إلَى بُطُونِنَا» مِنْ قَبِيلِ التَّوْزِيعِ أَيْ رَفَعَ كُلٌّ مِنَّا ثَوْبَهُ عَنْ حَجَرٍ مُلْصَقٍ وَمُنْضَمٍّ إلَى بَطْنِهِ «فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ حَجَرَيْنِ» عَادَةُ أَهْلِ الرِّيَاضَةِ إذَا اشْتَدَّ جُوعُهُمْ أَنْ يَرْبِطُوا عَلَى بَطْنِهِمْ حَجَرًا كَيْ لَا يَسْتَرْخِيَ فَتَشُقَّ عَلَيْهِمْ الْحَرَكَةُ فَبِالشَّدِّ تَسْهُلُ الْحَرَكَةُ وَمَنْ جُوعُهُ أَشَدُّ يَرْبِطُ حَجَرَيْنِ.

وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام جَاءَ إلَى مَنْزِلِ فَاطِمَةَ فَشَكَتْ مِنْ الْجُوعِ فَقَالَتْ عَقَدْت عَلَى بَطْنِي ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ كُلٌّ لِجُوعِ يَوْمٍ فَكَشَفَ عليه الصلاة والسلام عَنْ بَطْنِهِ الشَّرِيفِ فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَحْجَارٍ» . وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ «أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - جَاءَ فِي لَيْلٍ إلَى مَنْزِلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَ عَنْ سَبَبِهِ فَقَالَ لَيْسَ غَيْرُ الْجُوعِ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَنَا مِثْلُكُمْ فِي الِابْتِلَاءِ بِالْجُوعِ فَكَشَفَ عَنْ بَطْنِهِ فَإِذَا هُوَ عَقَدَ أَحْجَارًا فَقَالَ مُنْذُ أَيَّامٍ لَمْ آكُلْ شَيْئًا» .، وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ وَجَبْرَائِيلُ عَلَى الصَّفَا فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَا جَبْرَائِيلُ وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ مَا أَمْسَى لِآلِ مُحَمَّدٍ سَفٌّ مِنْ دَقِيقٍ، وَلَا كَفٌّ مِنْ سَوِيقٍ فَلَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ بِأَسْرَعَ مِنْ أَنْ سَمِعَ هَزَّةً فِي السَّمَاءِ أَفْزَعَتْهُ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أَمَرَ اللَّهُ الْقِيَامَةَ أَنْ تَقُومَ قَالَ لَا، وَلَكِنْ أَمَرَ إسْرَافِيلَ فَنَزَلَ إلَيْك حِينَ سَمِعَ كَلَامَك فَأَتَاهُ إسْرَافِيلُ فَقَالَ إنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ مَا ذَكَرْت فَبَعَثَنِي إلَيْك بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الْأَرْضِ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْرِضَ عَلَيْك أَنْ أُسَيِّرَ مَعَك جِبَالَ تِهَامَةَ زُمُرُّدًا وَيَاقُوتًا وَذَهَبًا، وَفِضَّةً فَإِذَا أَرَدْت فَعَلْت فَإِنْ شِئْت نَبِيًّا مَلِكًا، وَإِنْ شِئْت نَبِيًّا عَبْدًا فَأَوْمَأَ إلَيْهِ جَبْرَائِيلُ أَنْ تَوَاضَعْ فَقَالَ بَلْ نَبِيًّا عَبْدًا ثَلَاثًا» .

(خ م عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -) ، وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ كَانَ يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ مَا نُوقِدُ فِيهِ نَارًا) لِلطَّبْخِ (إنَّمَا هُوَ) طَعَامُنَا بِدَلَالَةِ السِّيَاقِ (التَّمْرُ وَالْمَاءُ إلَّا أَنْ نُؤْتَى) مِنْ قِبَلِ الْجِيرَانِ (بِاللُّحَيْمِ) تَصْغِيرُ اللَّحْمِ لِلتَّقْلِيلِ (وَفِي رِوَايَةٍ «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ الْبُرِّ ثَلَاثًا حَتَّى مَضَى سَبِيلَهُ» أَيْ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ أَوْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (وَفِي أُخْرَى «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»

ص: 32

وَعَنْ الْعَوَارِفِ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الصُّفَّةِ «جِئْنَا جَمَاعَةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَقُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ أَحْرَقَ بُطُونَنَا التَّمْرُ وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ أَنَّهُ مُنْذُ شَهْرَيْنِ لَمْ يَرْتَفِعْ مِنْ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ دُخَانٌ لِلْخَبْزِ، وَلَيْسَ لَهُمْ إلَّا الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ» (ز) الْبَزَّارُ (عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ عَقَبَةً كَؤُودًا» صَعْبَةً شَدِيدَةً «، وَلَا يَنْجُو مِنْهَا إلَّا كُلُّ مُخِفٍّ» أَيْ خَفِيفُ الْحِمْلِ مِنْ الذُّنُوبِ أَوْ مِنْ الدُّنْيَا وَالْمَالِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقَبَةِ مَنَازِلُ الْآخِرَةِ، وَأَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا.

وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ وَمِفْتَاحُ الْجَنَّةِ حُبُّ الْمَسَاكِينِ، وَالْفُقَرَاءُ الصُّبُرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَقِيلَ إنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ أَدْهَمَ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَأَبَى، وَقَالَ تُرِيدُ أَنْ تَمْحُوَا اسْمِي مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ لَا أَفْعَلُ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ الْقَصَّارِ الْفَقْرُ لِبَاسٌ يُورِثُ الرِّضَا إذَا تَحَقَّقَ الْعَبْدُ فِيهِ وَسُئِلَ أَبُو عَلِيٍّ الدَّقَّاقُ عَنْ مِسْحٍ وَقَلَنْسُوَةٍ عَلَى طَرِيقِ اللَّطِيفَةِ بِكَمْ اشْتَرَيْت قَالَ اشْتَرَيْته بِالدُّنْيَا فَطُلِبَ بِالْآخِرَةِ فَلَمْ أَبِعْهُ، وَعَنْ حَمْدُونَ الْقَصَّارِ إذَا اجْتَمَعَ إبْلِيسُ وَجُنُودُهُ لَمْ يَفْرَحُوا بِشَيْءٍ كَفَرَحِهِمْ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا وَرَجُلٌ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَرَجُلٌ فِي قَلْبِهِ خَوْفُ الْفَقْرِ، وَعَنْ الْجُنَيْدِ يَا مَعْشَرَ الْفُقَرَاءِ إنَّكُمْ تُكْرَمُونَ بِاَللَّهِ وَتُعْرَفُونَ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَانْظُرُوا كَيْفَ تَكُونُونَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى إذَا خَلَوْتُمْ بِهِ.

وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ لَأَنْ أَقَعَ مِنْ فَوْقِ قَصْرٍ فَأَتَحَطَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الْغِنَى؛ لِأَنِّي سَمِعْت مِنْهُ عليه الصلاة والسلام «إيَّاكُمْ وَمُجَالَسَةَ الْمَوْتَى» يَعْنِي الْأَغْنِيَاءَ، وَعَنْ ابْنِ أَدْهَمَ طَلَبْنَا الْفَقْرَ فَاسْتَقْبَلَنَا الْغِنَى وَطَلَبَ النَّاسُ الْغِنَى فَاسْتَقْبَلَهُمْ الْفَقْرُ، وَعَنْ ابْنِ الْكَرِيمِيِّ أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّادِقَ لَيَحْتَرِزُ مِنْ الْغِنَى لِئَلَّا يُفْسِدَ فَقْرَهُ كَالْغَنِيِّ الْمُحْتَرِزِ مِنْ الْفَقْرِ لِئَلَّا يُفْسِدَ غِنَاهُ.

وَعَنْ سَهْلٍ: خَمْسَةُ أَشْيَاءَ مِنْ جَوْهَرِ النَّفْسِ فَقِيرٌ يُظْهِرُ الْغِنَى وَجَائِعٌ يُظْهِرُ الشِّبَعَ وَمَحْزُونٌ يُظْهِرُ الْفَرَحَ وَرَجُلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ عَدَاوَةٌ فَيُظْهِرُ الْمَحَبَّةَ وَرَجُلٌ يَصُومُ بِالنَّهَارِ وَيَقُومُ بِاللَّيْلِ، وَلَا يُظْهِرُ ضَعْفًا، وَعَنْ أَبِي حَفْصٍ أَحْسَنُ مَا يَتَوَسَّلُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى مَوْلَاهُ دَوَامُ الْفَقْرِ إلَيْهِ عَلَى جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَمُلَازَمَةُ السُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَطَلَبُ الْقُوتِ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ. وَقِيلَ مَنْ طَلَبَ الْفَقْرَ لِشَرَفِ الْفَقْرِ مَاتَ فَقِيرًا وَمَنْ طَلَبَ الْفَقْرَ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى مَاتَ غَنِيًّا، وَقِيلَ أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إلَى بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ إنْ أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ رِضَايَ عَنْك فَانْظُرْ كَيْفَ رِضَا الْفُقَرَاءِ عَنْك، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْكَاتِبِ كَانَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ فَتًى عَلَيْهِ أَطْمَارٌ رَثَّةٌ وَكَانَ لَا يُدَاخِلُنَا، وَلَا يُجَالِسُنَا فَوَقَعَتْ مَحَبَّتُهُ فِي قَلْبِي فَفُتِحَ لِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ وَجْهٍ حَلَالٍ فَوَضَعْتهَا عَلَى سَجَّادَتِهِ فَنَظَرَ إلَيَّ شَزْرًا ثُمَّ قَالَ اشْتَرَيْت هَذِهِ الْجَلْسَةَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْقِنَاعِ وَالْفَرَاغِ بِسَبْعِينَ أَلْفِ دِينَارٍ غَيْرَ الضِّيَاعِ وَالْمُسْتَغِلَّاتِ تُرِيدُ أَنْ تَخْدَعَنِي عَنْهَا بِهَذِهِ، وَقَامَ يَرُدُّهَا، وَقَعَدْت أَلْتَقِطُ فَمَا رَأَيْت كَعِزِّهِ حَيْثُ مَرَّ وَكَذُلِّي حَيْثُ كُنْت أَلْتَقِطُهَا.

وَقَالَ بُنَانٌ الْمِصْرِيُّ يَقُولُ كُنْت بِمَكَّةَ قَاعِدًا وَشَابٌّ بَيْنَ يَدَيَّ فَجَاءَهُ إنْسَانٌ وَحَمَلَ إلَيْهِ كِيسًا فِيهِ دَرَاهِمُ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي

ص: 33