الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَحَاطَ بِكُلِّ النِّعَمِ (وَرَازِقِهِ) بِأَنْوَاعِ الْأَرْزَاقِ (وَهَادِيهِ) إلَى أَنْوَاعِ الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ (وَمُنْجِيهِ) مِنْ الْمَصَائِبِ وَالْبَلِيَّاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (بِتَرْكِ الْأَوَامِرِ) فَرْضًا أَوْ وَاجِبًا (الْإِلَهِيَّةِ) فَإِنَّ أَكْثَرَهَا مِنْ الْقُرْآنِ (وَالسُّنَنِ الْمُحَمَّدِيَّةِ) يَشْمَلُ النَّدْبَ (وَيَسْتَحْيِي مِنْ الْمَخْلُوقِ الْعَاجِزِ) فَإِنَّ النَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَكَذَا الْمُعْطِي وَالْمَانِعَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى (لِطَلَبِ ثَنَائِهِمْ) الْأَوْلَى ثَنَائِهِ إذْ هُوَ رَاجِعٌ إلَى الْمَخْلُوقِ فَلَعَلَّهُ أَرْجَعَهُ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِغْرَاقِ (وَرِضَاهُمْ وَحُطَامِهِمْ) قِيلَ بِضَمِّ الْمُهْمَلَةِ الْأُولَى وَتَخْفِيفِ الثَّانِيَةِ هُوَ الْمَالُ الْحَرَامُ (وَيَفِرُّ) مِنْ الْفِرَارِ (مِنْ تَعْيِيرِهِمْ، وَلَا يَفِرُّ مِنْ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ) وَاَللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُخْشَى بِتَرْكِ أَوَامِرِهِ (وَلَا مِنْ حِرْمَانِ الشَّفَاعَةِ) بِتَرْكِ سُنَنِهِ عليه الصلاة والسلام فَإِنَّ تَرْكَ السُّنَنِ مُوجِبٌ لِاسْتِحْقَاقِ حِرْمَانِهَا، وَإِنْ جَازَ شَفَاعَتُهُ عليه الصلاة والسلام بِمُجَرَّدِ إحْسَانِهِ، وَكَرَمِهِ فَيَنْدَفِعُ مَا أُورِدَ عَلَى مِثْلِهِ بِنَحْوِ حَدِيثِ «شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» فَإِنَّهُ إذَا شَفَعَ لَهُمْ فَكَيْفَ لِتَارِكِي سُنَّتِهِ، وَهُوَ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ اتِّفَاقًا بَلْ مَكْرُوهٌ تَحْرِيمًا أَوْ تَنْزِيهًا، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ نَحْوُ حَدِيثِ «مَنْ تَرَكَ سُنَّتِي لَمْ يَنَلْ شَفَاعَتِي» (فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ) قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فَهَلْ تَرْضَى لِنَفْسِك أَيُّهَا الْأَخُ الْعَاقِلُ أَنْ تُحْرَمَ مِنْ شَفَاعَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَحَبِيبِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّتِي يَرْجُوهَا وَيَطْلُبُهَا كُلُّ الْخَلَائِقِ حَتَّى الْأَوْلِيَاءِ رحمهم الله وَالنَّبِيِّينَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَيُّ عَمَلٍ مَقْبُولٍ يُنْجِيك مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ وَيُدْخِلُك الْجَنَّةَ إنْ لَمْ تَنَلْك شَفَاعَةُ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا إلَى آخِرِ مَا قَالَ.
[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى]
(السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ) : (الْجَزَعُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالزَّايِ (وَالشَّكْوَى) عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَقِيلَ الْجَزَعُ قِلَّةُ الصَّبْرِ وَضَعْفُ الْهِمَّةِ عَنْ حَمْلِ مَا نَزَلَ بِهِ وَالشَّكْوَى التَّظَلُّمُ مِمَّا يُلَائِمُهُ مِنْ الْمَضَرَّاتِ (وَهُوَ عَدَمُ تَحَمُّلِ الْمِحَنِ) جَمْعُ مِحْنَةٍ الْبَلِيَّةُ (وَالْمَصَائِبِ، وَإِظْهَارُهُمَا) أَيْ الْمِحَنِ وَالْمَصَائِبِ (قَوْلًا أَوْ فِعْلًا تَضَجُّرًا) مِنْهُمَا قَالَ الْمُحَشِّي أَمَّا الْإِظْهَارُ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّضَجُّرِ كَالْإِظْهَارِ لِلطَّبِيبِ لِلْعِلَاجِ أَوْ لِأَجْلِ الِاعْتِذَارِ أَوْ تَسْلِيَةِ الْغَيْرِ بِنَاءً عَلَى خُلْفِ الْوَعْدِ فَلَيْسَ بِجَزَعٍ وَقَدْ يَكُونُ بَاعِثًا لِإِظْهَارِ الرِّيَاءِ تَدَبَّرْ انْتَهَى (وَضِدُّهُ) أَيْ الْجَزَعِ (الصَّبْرُ، وَهُوَ حَبْسُ النَّفْسِ عَنْ الْجَزَعِ) قِيلَ الصَّبْرُ ثَبَاتُ الْقُوَّةِ الْمُضَادَّةِ لِلشَّهْوَةِ فِي مُقَاوَمَةِ الشَّهْوَةِ وَتَفْصِيلُهُ أَنَّ لِلْبَهَائِمِ شَهْوَةً بِلَا عَقْلٍ؛ وَلِلْمَلَائِكَةِ عَقْلًا بِلَا شَهْوَةٍ؛ وَلِلْإِنْسَانِ كِلَاهُمَا مَعًا وَالصَّبْرُ مُقَاوَمَةُ الْعَقْلِ الشَّهْوَةَ فَهُوَ مَخْصُوصٌ بِالْإِنْسَانِ دُونَ الْبَهَائِمِ لِنُقْصَانِهِمْ وَدُونَ الْمَلَائِكَةِ لِكَمَالِهِمْ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فَلَيْسَ لَهُمْ مِيزَانٌ كَمَا لَيْسَ لَهُمْ حِسَابٌ لِعَدَمِ دُخُولِ الصَّبْرِ تَحْتَ إحْصَاءِ عَدَدٍ، وَفِي الْحَدِيثِ «تُنْصَبُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ فَتُوزَنُ أُجُورُهُمْ، وَلَا يُنْصَبُ لِأَهْلِ الْبَلَاءِ بَلْ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنْ الْفَضْلِ» ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «مَنْ صَبَرَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَلَهُ ثَلَاثُمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ فَلَهُ سِتُّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ فَلَهُ تِسْعُمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ دَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ الْعَرْشِ إلَى الثَّرَى»
كَذَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ وَوَقَعَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ.
قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17] (طب عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أُصِيبَ» فِعْلٌ مَجْهُولٌ «بِمُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ» ، وَلَوْ بِالْجَرْحِ «فَكَتَمَهَا» أَيْ أَخْفَاهَا صَبْرًا عَلَيْهَا وَطَلَبًا لِثَوَابِهَا «، وَلَمْ يَشْكُهَا لِأَحَدٍ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ» ، وَعَنْ الْبُدُورِ السَّافِرَةِ لِلسُّيُوطِيِّ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَغُرَفًا لَيْسَ لَهَا مَعَالِيقُ مِنْ فَوْقِهَا، وَلَا عِمَادٌ مِنْ تَحْتِهَا قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَدْخُلُهَا أَهْلُهَا قَالَ يَدْخُلُونَهَا أَشْبَاهَ الطَّيْرِ قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنْ قَالَ لِأَهْلِ الْأَسْقَامِ وَالْأَوْجَاعِ وَالْبَلْوَى» ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ لَا يُنَاقِضُهُ قَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام «فِي مَرَضِهِ وَارَأْسَاهُ» ، وَقَوْلُ سَعْدٍ قَدْ اشْتَدَّ بِي الْوَجَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَوْلُ عَائِشَةَ رضي الله عنها وَارَأْسَاهُ فَإِنَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِخْبَارِ لَا الشَّكْوَى فَإِذَا حَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أَخْبَرَ بِعِلَّتِهِ لَمْ يَكُنْ شَكْوَى بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْبَرَ بِهَا بِتَسَخُّطٍ مَثَلًا فَإِنَّ الْكَلِمَةَ الْوَاحِدَةَ قَدْ يُثَابُ عَلَيْهَا وَقَدْ يُعَاقَبُ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ أَيْضًا «مَنْ أُصِيبَ فِي جَسَدِهِ بِشَيْءٍ فَتَرَكَهُ لِلَّهِ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ» .
(دَيْلَم) الدَّيْلَمِيُّ (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قَالَ الْإِيمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ وَنِصْفٌ شُكْرٌ» بِصَرْفِ كُلِّ نِعْمَةٍ إلَى مَا خُلِقَ لَهُ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ بِالْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالِ هُوَ الْإِيمَانُ. وَحَاصِلُ التَّصْدِيقِ بِالْمَعَارِفِ الْيَقِينُ وَحَاصِلُ التَّصْدِيقِ بِالْأَعْمَالِ الصَّبْرُ إذْ لَا يُمْكِنُ تَرْكُ الْمَعْصِيَةِ وَالْمُوَاظَبَةُ عَلَى الطَّاعَةِ إلَّا بِالصَّبْرِ، وَأَيْضًا رُبَّمَا يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَحْوَالِ الْمُثْمِرَةِ لِلْأَعْمَالِ لَا الْمَعَارِفِ وَالْأَعْمَالُ إمَّا ضَارٌّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ نَافِعٌ فِيهِمَا وَالصَّبْرُ فِي الْأَوَّلِ وَالشُّكْرُ فِي الثَّانِي.
وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» فَيَكُونُ الصَّوْمُ رُبُعَ الْإِيمَانِ
(وَأَفْضَلُ الصَّبْرِ مَا عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى) أَيْ عِنْدَ فَوْرَةِ الْمُصِيبَةِ وَابْتِدَائِهَا قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ التَّسَلِّي بِشَيْءٍ مِنْ التَّسَلِّيَاتِ لِكَثْرَةِ الْمَشَقَّةِ حِينَئِذٍ، وَأَصْلُ الصَّدْمِ الضَّرْبُ فِي شَيْءٍ صُلْبٍ ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي كُلِّ مَكْرُوهٍ وَوَقَعَ بَغْتَةً وَمَعْنَاهُ أَنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ قُوَّةِ الْمُصِيبَةِ أَشَدُّ فَالثَّوَابُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ فَإِنَّ بِطُولِ الْأَيَّامِ يَتَسَلَّى الْمُصَابُ فَيَصِيرُ الصَّبْرُ طَبْعًا، وَقَدْ بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى - الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةً قَالُوا إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ -.
وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ قِيلَ حُبِسَ الشِّبْلِيُّ وَقْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَقَالَ مَنْ أَنْتُمْ قَالُوا أَحِبَّاؤُك جَاءُوك زَائِرِينَ فَأَخَذَ يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، وَأَخَذُوا يَهْرُبُونَ فَقَالَ يَا كَذَّابُونَ لَوْ كُنْتُمْ أَحِبَّائِي لَصَبَرْتُمْ عَلَى بَلَائِي.
وَفِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ الْقُدْسِيَّةِ «مَنْ يَتَحَمَّلُ مَا يَتَحَمَّلُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَجْلِي» ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ كُنْت بِمَكَّةَ فَرَأَيْت فَقِيرًا طَافَ بِالْبَيْتِ، وَأَخْرَجَ مِنْ جَيْبِهِ رُقْعَةً وَنَظَرَ فِيهَا وَمَرَّ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَتَرَقَّبْته أَيَّامًا وَهُوَ يَفْعَلُ مِثْلَهُ فَيَوْمًا مِنْ الْأَيَّامِ طَافَ وَنَظَرَ فِي الرُّقْعَةِ وَتَبَاعَدَ قَلِيلًا وَسَقَطَ مَيِّتًا فَأَخْرَجْنَا الرُّقْعَةَ مِنْ جَيْبِهِ فَإِذَا فِيهَا - {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ؛ وَلِمِثْلِ ذَلِكَ الْفَضْلِ كُلِّهِ قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ الْمُصِيبَةُ وَاحِدَةٌ فَإِذَا جَزَعَ صَاحِبُهَا تَكُونُ ثِنْتَيْنِ إحْدَاهُمَا الْمُصِيبَةُ وَثَانِيَتُهُمَا ذَهَابُ أَجْرِ الْمُصِيبَةِ بَلْ الْمُصِيبَةُ هِيَ هَذَا لَا نَفْسُ الْمُصِيبَةِ.
(خ م عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الصَّبْرُ» أَيْ الْكَامِلُ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ الْجَزِيلُ «عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى» إذْ بَعْدَ ذَلِكَ يَهُونُ الْأَمْرُ وَتَنْكَسِرُ حِدَةُ الْمُصِيبَةِ فَإِنَّ مُفَاجَأَةَ الْمُصِيبَةِ بَغْتَةً بِهَا رَوْعَةٌ تُزْعِجُ الْقَلْبَ (وَالصَّبْرُ أَصْلُ كُلِّ عِبَادَةٍ) قَالَ فِي الْمِنْهَاجِ فَإِنَّ مَبْنَى أَمْرِ الْعِبَادَةِ كُلِّهِ عَلَى الصَّبْرِ وَاحْتِمَالِ الْأَذَى فَمَنْ لَمْ يَكُنْ صَبُورًا لَمْ يَصِلْ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِالْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ عِبَادَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَجَرَّدَ لَهَا اسْتَقْبَلَتْهُ الشَّدَائِدُ وَالْمَصَائِبُ مِنْ وُجُوهٍ أَوَّلُهَا لَا عِبَادَةَ إلَّا بِقَمْعِ الْهَوَى، وَقَهْرِ النَّفْسِ، وَلَا أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ مِنْ ذَلِكَ وَثَانِيهَا حِفْظُ عَمَلِهِ عَمَّا يُفْسِدُهُ وَاتِّقَاءُ الْعَمَلِ أَشَدُّ مِنْ الْعَمَلِ وَثَالِثُهَا مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْمِحْنَةِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمُصِيبَةِ نَفْسًا، وَأَوْلَادًا أَوْ أَقْرِبَاءَ، وَعِرْضًا وَغَيْرَهَا فَكُلُّهَا تُوجِبُ الصَّبْرَ، وَإِلَّا فَالْجَزَعُ يَمْنَعُ الْعِبَادَةَ وَرَابِعُهَا كُلَّمَا ازْدَادَ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْمَصَائِبُ لَهُ أَكْثَرُ وَالْبَلَاءُ عَلَيْهِ أَشَدُّ كَقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الشُّهَدَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ» فَإِذَنْ مَنْ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ تَكْثُرُ عَلَيْهِ الْمِحَنُ ثُمَّ قَالَ فِي الصَّبْرِ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: أَوَّلُهَا كَالنَّجَاةِ وَالنَّجَاحِ - {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]- الْآيَةَ أَيْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بِالصَّبْرِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ الشَّدَائِدِ.
وَثَانِيهَا: وَكَالظَّفَرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] .
وَثَالِثُهَا: وَكَالظَّفَرِ بِالْمُرَادِ {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف: 137] .
وَرَابِعُهَا: وَكَالتَّقَدُّمِ عَلَى النَّاسِ وَالْإِمَامَةِ - {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة: 24]-.
وَخَامِسُهَا: وَكَالثَّنَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44] .
وَسَادِسُهَا: وَكَالْبِشَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَالرَّحْمَةِ {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] إلَى قَوْله تَعَالَى {هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 157] .
وَسَابِعُهَا: وَكَمَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 146] .
وَثَامِنُهَا: وَكَالدَّرَجَاتِ الْعُلَى فِي الْجَنَّةِ - {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان: 75] .
وَتَاسِعُهَا: وَكَالتَّكْرِمَةِ الْعَظِيمَةِ - {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 24] .
وَعَاشِرُهَا: وَكَالثَّوَابِ الْغَيْرِ الْمُتَنَاهِي - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]- فَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى صَبْرِ سَاعَةٍ؛ وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنْ الصَّبْرِ» ، وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه جَمِيعُ خَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فِي صَبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ