المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[المبحث الثالث للإسراف في أصناف الإسراف] - بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية وشريعة نبوية في سيرة أحمدية - جـ ٣

[محمد الخادمي]

فهرس الكتاب

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ مِنْ الْآفَاتِ الْقَلْبِيَّةِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْإِسْرَافُ وَالتَّبْذِيرُ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي غَوَائِل الْبُخْل وَسَبَبِهِ وَآفَاتِهِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ حُبُّ الْمَالِ لِلْحَرَامِ]

- ‌[مَبْحَثٌ فِي سَبَبِ حُبِّ الْمَالِ وَعِلَاجِهِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّانِي الْعِلَّةُ الْخَفِيَّةُ وَالسَّبَبُ الْأَصْلِيُّ فِي ذَمِّ الْإِسْرَاف]

- ‌[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الرَّابِعُ الْإِسْرَافَ هَلْ يَقَعُ فِي الصَّدَقَةِ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْخَامِسُ فِي عِلَاجِ الْإِسْرَافِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ مِنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ الْعَجَلَةُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْفَظَاظَةُ وَغِلْظَةُ الْقَلْبِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْوَقَاحَةُ قِلَّةُ الْحَيَاءِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْجَزَعُ وَالشَّكْوَى]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ كُفْرَانُ النِّعْمَةِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ السُّخْطُ وَالتَّضَجُّرُ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ التَّعْلِيقُ ذِكْرُ قِوَامِ بِنْيَتِك عَنْ شَيْءٍ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ حُبُّ الْفَسَقَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ بُغْضُ الْعُلَمَاءِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْجُرْأَةُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَأْسُ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْحُزْنُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْغِشُّ وَالْغُلُّ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ الْفِتْنَةُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ الْمُدَاهَنَةُ]

- ‌[الْخَمْسُونَ الْأُنْسُ بِالنَّاسِ وَالْوَحْشَةُ لِفِرَاقِهِمْ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ الطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ الْعِنَادُ وَمُكَابَرَةُ الْحَقِّ وَإِنْكَارُهُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ التَّمَرُّدُ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الصَّلَفُ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ الْجَرْبَزَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ الْبَلَادَةُ وَالْغَبَاوَةُ وَالْحَمَاقَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ الشَّرَهُ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ الْخُمُودُ]

- ‌[السِّتُّونَ آخِرُ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ]

- ‌[الصِّنْفُ الثَّانِي فِي آفَاتِ اللِّسَانِ وَهُوَ قِسْمَانِ]

- ‌[الْقِسْم الْأَوَّلُ فِي وُجُوبِ حِفْظِهِ]

- ‌[الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ قِسْمَيْ آفَاتِ اللِّسَانِ وَفِيهِ سِتَّةُ مَبَاحِثَ]

- ‌[الْمَبْحَثُ الْأَوَّلُ فِي الْكَلَامِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ الْحَظْرُ وَهُوَ سِتُّونَ]

- ‌[الْأَوَّلُ كَلِمَةُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّانِي مَا فِيهِ خَوْفُ الْكُفْرِ]

- ‌[الثَّالِثُ الْخَطَأُ]

- ‌[الرَّابِعُ الْكَذِبُ]

- ‌[السَّادِسُ الْغِيبَةُ]

- ‌[السَّابِعُ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ النَّمِيمَةُ]

- ‌[الثَّامِنُ السُّخْرِيَةُ وَالِاسْتِهْزَاءُ]

- ‌[التَّاسِعُ اللَّعْنُ]

- ‌[الْعَاشِرُ السَّبُّ]

- ‌[الْحَادِي عَشَرَ الْفُحْشُ]

- ‌[الثَّانِيَ عَشَرَ الطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ وَالتَّعْيِيرُ]

- ‌[الثَّالِثَ عَشَرَ النِّيَاحَةُ]

- ‌[الرَّابِعَ عَشَرَ حُكْمُ الْمِرَاء]

- ‌[الْخَامِسَ عَشَرَ الْجِدَالُ]

- ‌[السَّادِسَ عَشَرَ الْخُصُومَةُ]

- ‌[السَّابِعَ عَشَرَ الْغِنَاءُ]

- ‌[الْوَصِيَّةُ لِلْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ]

- ‌[التَّغَنِّي بِمَعْنَى حُسْنِ الصَّوْتِ بِلَا لَحْنٍ وَلَا زِيَادَةٍ وَإِسْقَاطِ حَرْفٍ مِنْ الْقُرْآنُ]

- ‌[الْقِرَاءَةُ بِالْأَلْحَانِ الْمَوْضُوعَةِ الْمُحْدَثَةِ الْمُوَافِقَةِ لِعِلْمِ الْمُوسِيقَى]

- ‌[الِاسْتِغْنَاءُ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْأَشْعَارِ وَأَحَادِيثِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّامِنَ عَشَرَ إفْشَاءُ السِّرِّ]

- ‌[التَّاسِعَ عَشَرَ الْخَوْضُ فِي الْبَاطِلِ]

- ‌[الْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْمَالِ وَالْمَنْفَعَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ مِمَّنْ لَا حَقَّ فِيهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ سُؤَالُ الْعَوَامّ عَنْ كُنْهِ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ عَنْ الْمُشْكِلَاتِ الظَّاهِرَةِ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ الْخَطَأُ فِي التَّعْبِيرِ وَدَقَائِقُ الْخَطَأِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ النِّفَاقُ الْقَوْلِيُّ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ كَلَامُ ذِي اللِّسَانَيْنِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ الشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ الْأَمْرُ بِالْمُنْكَرِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَعْرُوفِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ غِلْظَةُ الْكَلَامِ وَالْعُنْفُ فِيهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ السُّؤَالُ وَالتَّفْتِيشُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ]

- ‌[الثَّلَاثُونَ افْتِتَاحُ الْجَاهِلِ الْكَلَامَ]

- ‌[الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ التَّكَلُّمُ عِنْدَ الْآذَانِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ الْإِجَابَةِ]

- ‌[الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي حَالَ الْخُطْبَةِ]

- ‌[الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الصَّادِقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ الْجِمَاعِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ عَلَى مُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ وَالظَّالِمِ بِالْبَقَاءِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ الْكَلَامُ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ]

- ‌[الْأَرْبَعُونَ كَلَامُ الدُّنْيَا فِي الْمَسَاجِدِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ وَضْعُ لَقَبِ سُوءٍ لِمُسْلِمٍ]

- ‌[الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ]

- ‌[الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ الْيَمِينُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى]

- ‌[الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ كَثْرَةُ الْحَلِفِ وَلَوْ عَلَى الصِّدْقِ]

- ‌[الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ الْإِمَارَةِ وَالْقَضَاءِ]

- ‌[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ سُؤَالُ تَوْلِيَةِ الْأَوْقَافِ]

- ‌[السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ طَلَبُ الْوِصَايَةِ]

- ‌[الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ]

- ‌[التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ رَدُّ عُذْرِ أَخِيهِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ]

- ‌[الْخَمْسُونَ تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ]

- ‌[الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ إخَافَةُ الْمُؤْمِنِ]

- ‌[الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ قَطْعُ كَلَامِ الْغَيْرِ وَحَدِيثِهِ بِكَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ]

الفصل: ‌[المبحث الثالث للإسراف في أصناف الإسراف]

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9](وَعَنْ الْمَوْتِ وَالْآخِرَةِ، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ) الضَّارَّةُ (غَالِبَةٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمَالِ (قَلَّمَا يَنْفَكُّ صَاحِبُهُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ الضَّارَّةِ (فَلِذَلِكَ كَثُرَ الذَّمُّ) لِلْمَالِ وَالدُّنْيَا (فَلِلْمَالِ جِهَتَانِ مُتَضَادَّتَانِ خَيْرٌ وَشَرٌّ فَالْمَدْحُ وَالذَّمُّ حَقَّانِ فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ نِعْمَةً عَظِيمَةً فَإِسْرَافُهُ اسْتِحْقَارٌ لِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِهَانَةٌ لَهَا، وَإِضَاعَةٌ وَكُفْرَانٌ بِهَا وَتَرْكٌ لِشُكْرِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الْمَقْتَ وَالْبُغْضَ وَالْعِتَابَ وَالْعَذَابَ مِنْ مُعْطِيهَا) ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى (وَ) يَسْتَوْجِبُ (سَلْبَهَا) أَيْ سَلْبَ النِّعْمَةِ (وَإِزَالَتَهَا عَنْ مَحَلِّهَا) ، وَهُوَ الْعَبْدُ (لِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ قَدْرَهَا، وَ) عَدَمِ (رِعَايَتِهِ حَقِّهَا كَمَا أَنَّ شُكْرَهَا وَحِفْظَهَا عَمَّا ذُكِرَ) مِنْ الْبُخْلِ وَالْإِسْرَافِ أَوْ مِنْ الِاسْتِحْقَارِ وَالْإِهَانَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَهُوَ الْأَنْسَبُ (يَسْتَوْجِبُ ثَبَاتَهَا وَزِيَادَتَهَا) عَلَى الشَّاكِرِ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] قِيلَ هُنَا وَالْخِطَابُ، وَإِنْ كَانَ لِبَنِي إسْرَائِيلَ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ أَحْرَى بِحَوْزِ الْكَمَالَاتِ مِنْهُمْ.

أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ بَلْ الْأَوْلَى فِي مِثْلِهِ أَنْ يُبْتَنَى عَلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا شَرِيعَةٌ لَنَا إذَا قَصَّهَا اللَّهُ أَوْ أَخْبَرَ بِهَا الرَّسُولُ بِلَا نَكِيرٍ.

[الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ لِلْإِسْرَافِ فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ]

(الْمَبْحَثُ الثَّالِثُ) لِلْإِسْرَافِ (فِي أَصْنَافِ الْإِسْرَافِ) لَمَّا أَثْبَتَ مَذْمُومِيَّةَ الْإِسْرَافِ وَحُرْمَتَهُ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَحَصَلَ لِلسَّالِكِ نَفْرَةٌ مِنْهُ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ أَصْنَافَهُ لِيُمْكِنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ. (اعْلَمْ أَنَّ الْإِسْرَافَ إهْلَاكُ الْمَالِ وَإِضَاعَتُهُ، وَإِنْفَاقُهُ) قِيلَ الْأَوْلَى، وَإِنْفَاذُهُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ مَحَلَّ الْقَافِ لِمَا أَنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْخَيْرِ. انْتَهَى. أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ فَافْهَمْ (مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ مُعْتَدٍّ بِهَا) قُيِّدَ بِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الِاخْتِيَارِيَّ لَا يَصْدُرُ عَنْ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ إلَّا بَعْدَ التَّحْقِيقِ بِفَائِدَةٍ مَا، وَلَكِنَّ تِلْكَ الْفَائِدَةَ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُعْتَدٍّ بِهَا يُقَالُ لَهُ فِي الْمَالِ إسْرَافٌ، وَفِي غَيْرِهِ عَبَثٌ (دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ مُبَاحَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ إنْفَاقِهِ بِفَائِدَةٍ مُعْتَدَّةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ فِي الشَّرْعِ كَإِنْفَاقِهِ فِي الثِّيَابِ الْمُحَرَّمَةِ وَالْأَوَانِي الْمُحَرَّمَةِ (فَمِنْهُ) مِنْ الْإِسْرَافِ (ظَاهِرٌ مَشْهُورٌ) يَعْلَمُهُ كُلُّ أَحَدٍ (كَإِلْقَاءِ الْمَالِ فِي الْبَحْرِ وَالْبِئْرِ وَالنَّارِ وَنَحْوِهَا) مِنْ الْمُتْلِفَاتِ كَصَبِّ الدِّبْسِ وَالزَّيْتِ عَلَى الْأَرْضِ (مِمَّا لَا يُوصَلُ إلَيْهِ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهِ وَخَرْقِهِ وَكَسْرِهِ، وَقَطْعِهِ بِحَيْثُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ)

ص: 41

قِيلَ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ مَعَ مَا ذُكِرَ انْتِفَاعٌ مَا بِهِ لَمْ يَكُنْ إسْرَافًا لِحُصُولِ النَّفْعِ مَعَ ذَلِكَ فِي الْجُمْلَةِ (وَكَعَدِمِ اجْتِنَاءِ الثِّمَارِ) أَيْ أَخْذِهَا مِنْ الشَّجَرِ وَجَمْعِهَا (وَالزُّرُوعِ) مِنْ الْأَرْضِ (حَتَّى تَهْلِكَ وَتَفْسُدَ، وَعَدَمِ إيوَاءِ الْمَوَاشِي) أَيْ ضَمِّهَا جَمْعُ مَاشِيَةٍ هِيَ نَحْوُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ (وَالْأَرِقَّاءِ) جَمْعُ رَقِيقٍ (دَارًا) تُحَصِّنُهَا (أَوْ نَحْوَهَا) مِمَّا يُصَانُ فِيهِ عَادَةً مِنْ التَّلَفِ (فِي مَوْضِعٍ يُخَافُ فِيهِ) مِنْ الْهَلَاكِ (وَعَدَمِ الْإِطْعَامِ وَالْإِلْبَاسِ حَتَّى يَهْلِكَ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ أَوْ الْجُوعِ وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ (مَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ يَحْتَاجُ إلَى تَنْبِيهٍ وَتَذْكِيرٍ) لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ (كَعَدَمِ تَعَهُّدِهِ) تَفْتِيشِ أَحْوَالِهِ (بَعْدَ جَمْعِهِ وَحِفْظِهِ) فِي مَكَان (حَتَّى يَتَعَفَّنَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِوُصُولِ رُطُوبَةٍ) أَرْضِيَّةٍ (أَوْ بَلَلٍ أَوْ نَحْوِهَا) مِمَّا يَكُونُ سَبَبًا لِتَلَفِهِ كَمَنْ جَمَعَ بَصَلَهُ وَزَرْعَهُ وَبِطِّيخَهُ، وَعَدَسَهُ وَشَعِيرَهُ وَحِنْطَتَهُ وَغَيْرَهَا وَأَصَابَهَا بَلَلُ مَاءٍ وَنَحْوُهُ فَهَلَكَتْ وَضِيعَتْ (أَوْ) حَتَّى (يَأْكُلَهُ السُّوسُ) هُوَ دُودُ الْحَبِّ وَالْفَوَاكِهِ (أَوْ الْفَأْرَةُ) عَنْ الْمِصْبَاحِ يُهْمَزُ، وَلَا يُهْمَزُ يَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى (أَوْ النَّمْلُ أَوْ نَحْوُهَا) مِنْ دَوَابِّ الْأَرْضِ وَالْحَشَرَاتِ (وَأَكْثَرُ وُقُوعِ هَذَا فِي الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَالْمَرَقِ وَالْجُبُنِ) بِضَمَّتَيْنِ مُشَدَّدُ النُّونِ أَوْ مُخَفَّفُهُ (وَنَحْوِهَا) مِمَّا يَتَعَفَّنُ كَالدُّهْنِ وَالسَّمْنِ وَالشَّيْرَجُ (وَفِي الْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالْبَصَلِ، وَقَدْ يَقَعُ فِي الْيَابِسَةِ كَالتِّينِ وَالزَّبِيبِ وَالْمِشْمِشِ) وَالْعُنَّابِ وَالتُّوتِ.

(وَقَدْ يَكُونُ) مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَسَادِ (فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا) كَالْمَاشِّ وَالْأَرُزِّ (وَقَدْ يَكُونُ) الْفَسَادُ (فِي الثِّيَابِ وَالْكُتُبِ وَكَصَبِّ مَا فَضَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَنَحْوِهِ وَكَغَسْلِ الْقِطْعَةِ وَالْمِلْعَقَةِ وَالْيَدِ قَبْلَ اللَّعْقِ أَوْ الْمَسْحِ) بِالْيَدِ أَوْ الْخُبْزِ (فَالْأَكْلُ) عَقِيبَهُ يَعْنِي أَنَّ غَسْلَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ وُجُودِ اللَّعْقِ، وَقَبْلَ وُجُودِ الْمَسْحِ بِالْيَدِ أَوْ الْخُبْزِ بَعْدَهُ سَوَاءٌ لَمْ يُوجَدْ الْمَسْحُ أَوْ وُجِدَ، وَلَمْ يُوجَدْ الْأَكْلُ بَعْدَهُ يَكُونُ مِنْ الْإِسْرَافِ وَمَنْ قَالَ الظَّاهِرُ فِي الْأَكْلِ بَدَلٌ فَالْأَكْلُ لَمْ يُصَبَّ لِعَدَمِ انْحِصَارِهِ فِي صُورَةِ الْأَكْلِ كَمَا فِي نَقْلِ الْعَسَلِ مِنْ ظَرْفٍ إلَى ظَرْفٍ بِيَدِهِ مَثَلًا فَإِنَّ غَسْلَ يَدِهِ قَبْلَ اللَّعْقِ مِنْ الْإِسْرَافِ كَذَا قِيلَ. وَأَقُولُ كَعَدَمِ إصَابَةِ مَنْ قَالَ إنَّهُ مِنْ قَلَمِ النَّاسِخِ، وَالظَّاهِرُ فِي الْأَكْلِ أَيْ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ إسْرَافٌ فِي الْأَكْلِ أَيْ فِي الْمَأْكُولِ، وَلَوْ لَبَنًا كَمَا فِي الْمَوَاهِبِ. انْتَهَى.

ثُمَّ أَقُولُ بَلْ لَا حَاصِلَ لِقَوْلِهِ فِي الْأَكْلِ إذْ الْإِسْرَافُ إنَّمَا يَنْدَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَ اللَّعْقِ وَالْمَسْحِ لَا بِمُجَرَّدِ اللَّعْقِ وَالْمَسْحِ وَمَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ مُعْتَبَرٌ فِي الرِّوَايَاتِ أَيْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ

ص: 42

(وَعَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ وَغَيْرِهِ) كِبْرًا وَكَسَلًا كَحَبَّاتِ الْأُرْزِ وَالْعَدَسِ السَّاقِطِ، وَفِي الْبُسْتَانِ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «مَنْ أَكَلَ مَا سَقَطَ مِنْ الْمَائِدَةِ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّزْقِ وَوُقِيَ الْحُمْقَ عَنْهُ، وَعَنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ» (مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ) مِنْ الشُّيُوخِ وَالْمُغَفَّلِينَ (عَلَى الْأَرْضِ أَوْ عَلَى سُفْرَةٍ) . قِيلَ الْإِثْمُ فِي عَدَمِ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ أَيْدِي الصِّبْيَانِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ، وَفِي غَيْرِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَذَا الْإِثْمُ عَلَى الْأَضْيَافِ فِي طَعَامِ الضِّيَافَةِ لَا عَلَى صَاحِبِهَا. أَقُولُ لَيْسَ الْإِثْمُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فَقَطْ بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَحْضُرُ عِنْدَهُمْ وَيَقْدِرُ عَلَى الِالْتِقَاطِ هَذَا ثُمَّ لَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ مَا ذُكِرَ فِيمَا فِيهِ نَوْعُ خَفَاءٍ لَيْسَ مِنْ قَبِيلِ بَذْلِ الْمَالِ، وَقَدْ عَرَفْت سَابِقًا بِبَذْلِ الْمَالِ أَوْ بِإِهْلَاكِ الْمَالِ وَجَعْلِ الْبَذْلِ أَيْ الصَّرْفِ أَعَمَّ إلَى جِنْسِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْعَدَمِيَّاتِ بِجَعْلِ الْبَذْلِ بِمَا يَكُونُ ابْتِدَاءً أَوْ الْتِزَامًا لَا يَشْمَلُ جَمِيعَ الصُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ سِيَّمَا مِثْلَ مَا سَقَطَ مِنْ يَدِ الصِّبْيَانِ خُصُوصًا بِلَا إسْقَاطٍ وَبَعْدَ هَذَا يَكُونُ التَّعْرِيفُ حِينَئِذٍ تَعْرِيفًا بِالْأَخْفَى وَمَا سَيَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَيْسَ لَهُ تَقْرِيبٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ فَسَيُعْلَمُ (م عَنْ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ» أَيْ الْقَصْعَةِ الصَّغِيرَةِ وَجَمْعُهَا صِحَافٌ، وَعَنْ الزَّمَخْشَرِيِّ قَصْعَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ، وَعَنْ الْكِسَائِيّ أَعْظَمُ الْقِصَاعِ الْجَفْنَةُ ثُمَّ الْقَصْعَةُ تَلِيهَا تُشْبِعُ الْعَشَرَةَ ثُمَّ الصَّحْفَةُ تُشْبِعُ الرَّجُلَ.

وَفِي بُسْتَانِ أَبِي اللَّيْثِ عَنْ النَّبِيِّ عليه الصلاة والسلام «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الَّذِينَ يَلْعَقُونَ أَصَابِعَهُمْ» ، وَفِيهِ أَيْضًا «الْقَصْعَةُ تَسْتَغْفِرُ لِمَنْ يَلْعَقُهَا» ، وَفِيهِ أَيْضًا حَدِيثُ «إذَا طَعِمَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَمْسَحُ يَدَهُ حَتَّى يَمُصَّهَا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ طَعَامٍ يُبَارَكُ لَهُ» ثُمَّ الظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ لِلنَّدْبِ كَمَا قِيلَ فَلَا يَدُلُّ عَلَى الْإِسْرَافِ إذْ الْإِسْرَافُ حَرَامٌ، وَتَرْكُ النَّدْبِ لَيْسَ بِحَرَامٍ فَلَا تَقْرِيبَ فَانْتَظِرْ (وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ «إنَّ الشَّيْطَانَ يَحْضُرُ أَحَدَكُمْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِ» صِفَةُ شَيْءٍ أَيْ عِنْدَ كُلِّ شَيْءٍ كَانَ مِنْ شَأْنِ أَحَدِكُمْ وَحَالِهِ يَعْنِي أَنَّ كُلَّ حَالٍ وَشَأْنٍ يَصْدُرُ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ فَالشَّيْطَانُ حَاضِرٌ «حَتَّى يَحْضُرَهُ» أَيْ الشَّيْطَانُ كُلَّ أَحَدٍ «عِنْدَ طَعَامِهِ» لِيَأْكُلَ مِنْ سَقَطَاتِ لُقْمَتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ يَأْخُذُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْحَدِيثِ فَظَهَرَ ضَعْفُ مَا يُقَالُ لِيَشْغَلَهُ عَنْ ذِكْرِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ «فَإِذَا سَقَطَتْ لُقْمَةُ أَحَدِكُمْ» قِيلَ بِضَمِّ اللَّامِ «فَلْيَأْخُذْهَا» ، وَإِلَّا فَيَأْخُذُهَا الشَّيْطَانُ وَيَأْكُلُهَا «فَلْيُمِطْ» أَيْ لِيُزِلْ بَعْدَ الْأَخْذِ «مَا كَانَ بِهَا مِنْ أَذًى» مِنْ تُرَابٍ وَسِخٍ طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ يُمْكِنُ إزَالَتُهُ «، وَلْيَأْكُلْهَا» فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ إزَالَتُهُ النَّجَسَ فَلَا يَأْكُلُهَا بَلْ يَدَعُهَا، وَقِيلَ يُطْعِمُهَا كَلْبًا أَوْ هِرَّةً لِمَا فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ أَكَلَ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ الَّتِي لَا تُشْتَهَى إلَّا فَضْلَ إطْعَامِ نَحْوِ الشَّاةِ، وَلَا يُلْقَ فِي النَّهْرِ أَوْ الطَّرِيقِ إلَّا لِأَجْلِ النَّمْلِ كَمَا فَعَلَهُ السَّلَفُ.

أَقُولُ: لَا يَخْفَى مَا فِيهِ مِنْ عَدَمِ التَّقْرِيبِ بَلْ لَا بُدَّ فِي جَوَازِ إطْعَامِ النَّجَسِ وَالْمُحَرَّمِ إلَى الْحَيَوَانِ مِنْ حُجَّةٍ وَبَيَانٍ فَإِنَّ تَبَادَرَ قَوْلُهُ يُطْعِمُهَا الْحَمْلَ إلَيْهَا لِأَجْلِ الْأَكْلِ، وَقَدْ قَالَ فِي الْأَشْبَاهِ فِي دَجَاجَةٍ نَجِسَتْ لَا طَرِيقَ لِأَكْلِهَا إلَّا أَنْ تُحْمَلَ الْهِرَّةُ إلَيْهَا فَتَأْكُلَهَا نَعَمْ فِي التَّتَارْخَانِيَّة الْمَاءُ وَالدُّهْنُ إذَا، وَقَعَتْ فِيهِمَا نَجَاسَةٌ يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا فِي غَيْرِ الْبَدَنِ كَسَقْيِ الدَّوَابِّ وَبَلِّ الطِّينِ وَالِاسْتِصْبَاحِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا «فَلَا يَدَعُهَا لِلشَّيْطَانِ» يَدُلُّ عَلَى طَرِيقِ إشَارَةِ النَّصِّ أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا يَأْكُلُهَا الشَّيْطَانُ فَإِمَّا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْأَكْلِ كَمَا أَنَّ النُّصُوصَ مَحْمُولَةٌ عَلَى ظَوَاهِرِهَا، وَإِمَّا بِمَعْنَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ أَنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلنِّعْمَةِ وَتَحْقِيرُهَا وَاقْتِدَاءٌ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَقِيلَ هُنَا يَعْنِي أَنَّ تَرْكَ اللُّقْمَةِ إسْرَافٌ، وَهُوَ حَرَامٌ مِنْ فِعْلِ الشَّيْطَانِ نَاشِئٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِهِ أَمَسَّ فِي مَقْصُودِ الْمَقَامِ لَكِنَّ دَلَالَةَ الْعِبَارَةِ عَلَى الْإِسْرَافِ الْمُحَرَّمِ لَا تَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ لَا سِيَّمَا عِنْدَ كَوْنِ التَّرْكِ لِأَكْلِ نَحْوِ حَيَوَانٍ فَافْهَمْ. نَعَمْ فِي الْخُلَاصَةِ وَمِنْ السَّرَفِ أَنْ يَتْرُكَ لُقْمَةً مِنْ يَدِهِ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَبْدَأَ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ «فَإِذَا فَرَغَ فَلْيَلْعَقْ أَصَابِعَهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي فِي أَيِّ طَعَامِهِ الْبَرَكَةُ» فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ اللَّعْقَ لَا يَكُونُ فِي وَسَطِ الْأَكْلِ بَلْ فِي خِتَامِهِ قَالُوا

ص: 43

لِأَنَّ اللَّعْقَ فِي أَثْنَائِهِ خِلَافُ الْأَدَبِ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: أَيْضًا وَمِنْ السُّنَّةِ أَنْ يَلْعَقَ أَصَابِعَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا بِالْمِنْدِيلِ وَمِنْ السُّنَّةِ لَعْقُ الْقَصْعَةِ قِيلَ يَبْدَأُ فِي اللَّعْقِ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِالسَّبَّابَةِ ثُمَّ بِالْإِبْهَامِ. (م عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَكَلَ طَعَامًا لَعِقَ أَصَابِعَهُ الثَّلَاثَ» عَلَى التَّرْتِيبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ آنِفًا وَتَرْكُهُ فِعْلُ الْأَعَاجِمُ وَالْجَبَابِرَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ وَالْأَمْرُ بِلَعْقِ الْأَصَابِعِ حَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِرْشَادِ وَحَمَلَهُ الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ وَبَالَغَ ابْنُ حَزْمٍ فَقَالَ هُوَ فَرْضٌ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ عِنْدَهُمْ عَلَى التَّخْيِيرِ إمَّا لَعْقُهَا أَوْ إلْعَاقُهَا فَلَا يَخْفَى أَنَّ النَّدْبَ وَالْإِرْشَادَ يُبْعِدُ حُسْنَ الِاسْتِشْهَادِ بَلْ حُسْنُهُ يَحْمِلُهُ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ الْفَرْضِ، وَهُوَ كَمَا تَرَى لَيْسَ بِمَذْهَبٍ نَعَمْ جَمْعُ اخْتِلَافِ الْمَذَاهِبِ هُوَ الْعَزِيمَةُ وَالْأَحْوَطُ لَكِنْ لَيْسَ كَلَامُنَا فِيهِ.

ثُمَّ قَالَ الْمُنَاوِيُّ: وَهَذَا أَدَبٌ حَسَنٌ وَسُنَّةٌ جَمِيلَةٌ لِإِشْعَارِهِ بِعَدَمِ الشَّرَهِ فِي الطَّعَامِ وَبِالِاقْتِصَارِ عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ وَالثَّلَاثُ فِيمَا يُمْكِنُ، وَإِلَّا فَيَسْتَعِينُ بِمَا يَحْتَاجُهُ مِنْ أَصَابِعِهِ ثُمَّ قَالَ وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى مَنْ كَرِهَ لَعْقَ الْأَصَابِعِ اسْتِقْذَارًا.

قَالَ الْخَطَّابِيُّ: عَابَ قَوْمٌ أَفْسَدَ عُقُولَهُمْ التَّرَفُّهُ لَعْقَ الْأَصَابِعِ وَاسْتَقْبَحُوهُ كَأَنَّهُمْ مَا عَلِمُوا أَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي لُعِقَ جُزْءٌ مِنْ الْمَأْكُولِ، وَإِذَا لَمْ يُسْتَقْذَرْ الْكُلُّ فَلَا يُسْتَقْذَرُ الْبَعْضُ.

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ رَجُلٌ قَالَ كَمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَحِسَ أَصَابِعَهُ فَقَالَ السَّامِعُ " أَيْنَ بِي ادبست " يَكْفُرُ (فَفِي اللَّعْقِ) كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ (وَأَخْذِ السَّاقِطِ) كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ.

(فَوَائِدُ الِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِسْرَافِ)، وَقَدْ عَرَفْت مَا فِيهِ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مُحَرَّمًا قَطْعًا (وَرَفْعُ الْكِبْرِ وَالرِّيَاءِ) فَهُمَا أَيْضًا كَمَا تَرَى فَلْيُتَأَمَّلْ (وَاحْتِمَالُ وُصُولِ الْبَرَكَةِ) إلَيْهِ كَمَا فِي حَدِيث إنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمْ الْبَرَكَةُ (وَالِاقْتِدَاءُ بِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ) ؛ لِأَنَّهُ فِعْلُهُ بَلْ عَادَتُهُ (وَالِامْتِثَالُ لِأَمْرِهِ) كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ (وَرَبْطُ الْعَتِيدِ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الْفَوْقِيَّةِ أَيْ الْحَاضِرِ عِنْدَهُ مِنْ نِعَمِهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ قَدْرَهَا (وَجَلْبُ الْمَزِيدِ) فِيمَا يُسْتَقْبَلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] .

(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ الْخَفِيِّ (عَدَمُ الْتِقَاطِ مَا سَقَطَ مِنْ الْأُرْزِ وَالْحِمَّصِ وَنَحْوِهِمَا لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْغَسْلِ) أَيْ غَسْلِ نَحْوِ الْأُرْزِ لِتَنْحِيَةِ نَحْوِ الْحَصَى وَالتُّرَابِ (حَتَّى يُرْمَى) عَلَى الْأَرْضِ (وَيُكْنَسَ) عَلَى الْقَمَائِمِ (فَإِنْ أَطْعَمَ كِسْرَاتِ الْخُبْزِ وَنَحْوِهِ الدَّجَاجَةَ) كَمَا اجْتَمَعَ مِنْ الْأُرْزِ وَنَحْوِهِ كَمَا قِيلَ. أَقُولُ لَا حَاجَةَ إلَى الِاجْتِمَاعِ بَلْ يَحْمِلُ الدَّجَاجَةَ إلَى تِلْكَ الْحُبُوبِ الْمُتَفَرِّقَةِ (أَوْ الشَّاةَ أَوْ الْبَقَرَةَ أَوْ النَّمْلَ أَوْ الطَّيْرَ لَا يَكُونُ إسْرَافًا) لِعَدَمِ إضَاعَتِهِ بَلْ فِيهِ أَجْرٌ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ «فِي كُلِّ» أَيْ إرْوَاءٍ «ذَاتِ كَبِدٍ حَرَّاءَ» تَأْنِيثُ أَحَرَّ «أَجْرٌ» عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِحَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ، وَهُوَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِهِ وَنُبِّهَ بِالسَّقْيِ عَلَى جَمِيعِ وُجُوهِ الْإِحْسَانِ مِنْ الْإِطْعَامِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَفِيهِ أَنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْحَيَوَانِ

ص: 44

مِمَّا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ وَتَعْظُمُ بِهِ الْأُجُورُ، وَلَا يُنَاقِضُهُ الْأَمْرُ بِقَتْلِ بَعْضِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ أُمِرْنَا بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ كَذَا فِي الْقَبْضِ وَفِي حَدِيثِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَيْضًا «الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ تبارك وتعالى ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ» قَالَ الْمُنَاوِيُّ فَكُنْ رَحِيمًا لِنَفْسِك؛ وَلِغَيْرِك، وَلَا تَسْتَبِدَّ بِخَيْرِك فَارْحَمْ الْجَاهِلَ بِعِلْمِك وَالذَّلِيلَ بِجَاهِك وَالْفَقِيرَ بِمَالِك وَالصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ بِشَفَقَتِك وَرَأْفَتِك وَالْعُصَاةَ بِدَعْوَتِك وَالْبَهَائِمَ بِعَطْفِك وَدَفْعِ غَضَبِك فَأَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ أَرْحَمُهُمْ لِخَلْقِهِ فَكُلُّ مَا تَفْعَلُهُ مِنْ خَيْرٍ دَقَّ أَوْ جَلَّ فَصَادِرٌ عَنْ صِفَةِ الرَّحْمَةِ

بَادِرْ إلَى الْخَيْرِ يَا ذَا اللُّبِّ مُغْتَنِمَا

وَلَا تَكُنْ مِنْ قَلِيلِ الْخَيْرِ مُحْتَشِمَا

وَاشْكُرْ لِمَوْلَاك مَا أَوْلَاك مِنْ نِعَمٍ

فَالشُّكْرُ يَسْتَوْجِبُ الْأَفْضَالَ وَالْكَرَمَا

وَارْحَمْ بِقَلْبِك خَلْقَ اللَّهِ وَارْعَهُمُوا

فَإِنَّمَا يَرْحَمُ الرَّحْمَنُ مَنْ رَحِمَا

وَلَعَلَّك قَدْ سَمِعْت مَغْفُورِيَّةَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِمَرْحَمَتِهِ نَمْلَةً، وَعُمَرَ بِمَرْحَمَتِهِ عُصْفُورًا، وَأَبِي حَنِيفَةَ بِمَرْحَمَتِهِ ذُبَابًا (وَمِنْهُ عَدَمُ تَحَفُّظِ الْعِمَامَةِ وَاللِّبَاسِ وَالنَّعْلِ عَمَّا يُبْلِيهِ) مِنْ الْبِلَى أَيْ مَا يُسْرِعُ بِهِ الْبِلَى (أَوْ يُحْرِقُهُ) مِنْ إلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ النَّدِيَّةِ قِيلَ مِنْهُ نَشْرُ ثِيَابِ الْكَتَّانِ فِي ضَوْءِ الْقَمَرِ فَإِنَّهُ يُبْلِيهَا (وَكَثْرَةُ اسْتِعْمَالِ الصَّابُونِ فِي الْغَسْلِ) زِيَادَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ (وَالدُّهْنِ وَالشَّمْعِ) ، وَهُوَ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَسَلِ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّحْمِ (فِي السِّرَاجِ) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْقَلِيلِ، وَكَذَا اسْتِعْمَالُ الْحَطَبِ وَرَاءَ الْحَاجَةِ (وَمِنْهُ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ بِالنُّقْصَانِ) عَنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ أَوْ إجَارَةِ الْمِثْلِ (وَالشِّرَاءُ وَالِاسْتِئْجَارُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْقِيمَةِ إذَا لَمْ يُضْطَرَّ) فَإِنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ (أَوْ لَمْ يَنْوِ الصَّدَقَةَ) قِيلَ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَاتِ لَعَلَّ لِكَوْنِهَا مِنْ قَبِيلِ الصَّدَقَةِ الْخَفِيَّةِ (وَنَحْوَهَا) نَحْوُ صِيَانَةِ الْعِرْضِ وَكَفِّ اللِّسَانِ وَخَوْفِ لُحُوقِ ضَرَرٍ (وَإِنْ كَانَ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ (بِطَرِيقِ الْغَبْنِ فَقَدْ وَرَدَ) فِي الْحَدِيثِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (الْمَغْبُونُ لَا مَحْمُودَ) عِنْدَ النَّاسِ (وَلَا مَأْجُورَ) عِنْدَ اللَّهِ لَعَلَّ هَذَا مِنْ قَبِيلِ إقَامَةِ دَلِيلِ التَّالِي مَقَامَ التَّالِي فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ إسْرَافًا وَحَرَامًا، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِمَمْدُوحٍ، وَلَا مَأْجُورٍ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِهِ لِكَوْنِهِ لَمْ يَحْتَسِبْ بِمَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهِ فَيُؤْجَرْ، وَلَمْ يَتَحَمَّدْ إلَى بَائِعِهِ فَيُحْمَدْ لَكِنْ اسْتَرْسَلَ فِي وَقْتِ الْمُبَايَعَةِ وَاسْتَغْبَنَ فَلَمْ يَقَعْ عِنْدَ الْبَائِعِ مَوْقِعَ الْمَعْرُوفِ فَيُحْمَدْ بَلْ رَجَعَ لِنَفْسِهِ فَقَالَ خَدَعْته فَذَهَبَ الْحَمْدُ، وَلَمْ يَحْتَسِبْ فَذَهَبَ الْأَجْرُ.

(وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ فِي الْكَفَنِ كَمًّا) بِكَوْنِهِ زَائِدًا عَلَى الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ فِي الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ فِيهِ وَالْخَمْسَةُ فِيهَا وَيَكُونُ الْإِزَارُ وَاللِّفَافَةُ مِنْ الْقَرْنِ إلَى الْقَدَمِ لَا أَزْيَدَ مِنْهُ وَيَكُونُ الْقَمِيصُ مِنْ الْمَنْكِبِ إلَى الْقَدَمِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَقِيلَ إلَى السَّاقِ لَا أَكْثَرَ مِنْهُ، وَفِيهِ نَظَرٌ يُعْرَفُ بِالتَّتَبُّعِ كَذَا قِيلَ (أَوْ كَيْفًا) بِأَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا يَلْبَسُهُ فِي حَيَاتِهِ فِي الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ فِي الرِّقَّةِ وَالْحُسْنِ وَالْقِيمَةِ

ص: 45

وَلِمَا تَلْبَسُ الْمَرْأَةُ عِنْدَ زِيَارَةِ أَبَوَيْهَا، وَعِنْدَ الْبَعْضِ لِمَا يُلْبَسُ فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ وَصَّى بِالزِّيَادَةِ فَمُشَارِكٌ لِلْوَلِيِّ فِي الْإِثْمِ، وَإِلَّا فَهُوَ عَلَى الْوَلِيِّ (وَ) الزِّيَادَةُ (فِي الْوُضُوءِ) كَمًّا وَكَيْفًا وَكَذَا الْغُسْلُ.

(حَدّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنَّهُ قَالَ «مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَعْدِ) بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - وَهُوَ يَتَوَضَّأُ» مَعَ الْإِسْرَافِ «فَقَالَ مَا هَذَا السَّرَفُ يَا سَعْدُ قَالَ أَوَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ» ، وَهُوَ طَاعَةٌ الْهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ أَتَقُولُ هَكَذَا، وَفِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الشَّرْحِ الْكَبِيرِ لِلْحَلَبِيِّ «قَالَ نَعَمْ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نَهْرٍ جَارٍ» لَعَلَّ هَذَا فِي أَوَائِلِ الْإِسْلَامِ فَسَعْدٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ كِبَارِ أَعْيَانِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَدَمُ عِرْفَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي مِثْلِ هَذَا الَّذِي تَعُمُّ فِيهِ الْبَلْوَى بَعِيدٌ مِنْ مِثْلِهِ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ إنَّ صُدُورَ أَصْلِ السَّرَفِ مِنْهُ عَلَى السَّهْوِ وَالذُّهُولِ أَوْ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَرْتَبَةِ سَرَفٍ وَالسُّؤَالُ إمَّا لِتَعْلِيمِ الْغَيْرِ أَوْ لِزِيَادَةِ تَمْكِينِ الْخَاطِرِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الشَّيْءِ بِطَرِيقٍ وَاحِدٍ لَيْسَ كَمَعْرِفَتِهِ بِطُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْرِفَتُهُ الْأَصْلِيَّةُ بِطَرِيقِ الظَّنِّ وَبِالسُّؤَالِ يُسْتَحْصَلُ الْقَطْعُ وَالْيَقِينُ ثُمَّ إنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ إنْ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ عِنْدَ الشَّكِّ أَوْ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكَافِي لَكِنَّ قَوْلَهُ بِنِيَّةِ وُضُوءٍ آخَرَ لَا يَخْلُو عَنْ خَفَاءٍ وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُنَبَّهَ هُنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْحُدُودِ الْمَحْدُودَةِ فِي أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إنَّمَا تَكُونُ سَرَفًا إذَا لَمْ تَكُنْ بِنِيَّةِ طُولِ الْغُرَّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْمَصَابِيحِ مَنْ «اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» نَعَمْ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فَاحِشَةً فِعْلُهَا سَرَفٌ أَيْضًا لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مَكْرُوهَةٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْهُمَامِ، وَقَدْ عَرَفْت أَنَّ الْإِسْرَافَ حَرَامٌ.

أَقُولُ: لَعَلَّ الْمُرَادَ مِنْ الْحُرْمَةِ فِي الْإِسْرَافِ إمَّا تَغْلِيبٌ أَوْ عُمُومُ مَجَازٍ أَوْ مِنْ قَبِيلِ بَيَانِ حُكْمِ أَكْثَرِ أَفْرَادِهِ أَوْ أَعْظَمِهِ، وَإِلَّا فَالْإِسْرَافُ كَمَا تَرَى يَتَحَقَّقُ فِي ضِمْنِ الْكَرَاهَةِ بَلْ فِيمَا تَرْكُهُ أَوْلَى، فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ أَكْثَرُ الشُّبَهِ الْمُشَارَةِ إلَيْهَا فِيمَا مَرَّ ثُمَّ إنَّ كَوْنَ الزِّيَادَةِ مَكْرُوهَةً إنْ كَانَ الْمَاءُ مِلْكًا لَهُ أَوْ مَاءً مُبَاحًا، وَإِلَّا فَإِنْ وَقْفًا فَحَرَامٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ أَمِيرِ الْحَاجِّ (وَمِنْهُ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ) بِأَنْ لَا يَصِيرَ لَهُ مَيْلٌ إلَى الطَّعَامِ لَا أَنْ لَا يَقْدِرَ عَلَى تَنَاوُلِ شَيْءٍ، وَقِيلَ فَوْقَ الشِّبَعِ أَكْلُ طَعَامٍ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ أَفْسَدَ مَعِدَتَهُ وَكَذَا فِي الشُّرْبِ، وَهَذَا حَرَامٌ قَطْعِيٌّ يَكْفُرُ مَنْ يَتَمَنَّى حِلَّهُ فَإِنَّهُ حَرَامٌ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ كَالزِّنَى وَاللُّوَاطَةِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ لِحِلِّهِ فِي بَعْضِ الْأَدْيَانِ، وَفِي أَوَائِلِ هَذَا الدِّينِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ فِي الْجَمِيعِ كَخِلَافِهِ لِحِكْمَتِهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ إضَاعَةُ الْمَالِ وَإِسْرَافٌ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ كَالْجُوعِ كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام «الْبِطْنَةُ أَصْلُ الدَّاءِ وَالْحِمْيَةُ أَصْلُ الدَّوَاءِ» فَأَكْثَرُ الْأَمْرَاضِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالْمَرَضُ يَمْنَعُ الْعِبَادَاتِ وَيُشَوِّشُ الْقَلْبَ وَيَمْنَعُ الذِّكْرَ وَالْفِكْرَ وَيَمْنَعُ الْعَيْشَ وَيُحْوِجُ إلَى الدَّوَاءِ وَالطَّبِيبِ.

وَنُقِلَ عَنْ جَامِعِ الشُّرُوحِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ كِسْرَى أَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَطِبَّاءِ عِرَاقِيٌّ رُومِيٌّ هِنْدِيٌّ سُودَانِيٌّ فَقَالَ لَهُمْ مَا الدَّوَاءُ الَّذِي لَا دَاءَ مَعَهُ فَأَشَارَ الْكُلُّ غَيْرَ السُّودَانِيِّ إلَى دَوَاءٍ وَسَكَتَ هُوَ، وَهُوَ أَحْذَقُهُمْ فَقَالَ هُوَ أَنْ لَا تَأْكُلَ إلَّا بَعْدَ الْجُوعِ، وَأَنْ تَرْفَعَ يَدَك قَبْلَ الشِّبَعِ فَصَدَّقَهُ كُلُّهُمْ. وَقَدْ قِيلَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] الطِّبَّ كُلَّهُ كَمَا قِيلَ كرجه خدا كفت كُلُوا وَاشْرَبُوا ليك عقبش كفت وَلَا تُسْرِفُوا. وَفِي الْحَدِيثِ «مَا مَلَأَ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ» .

وَرُوِيَ فِي الظَّهِيرِيَّةِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قِيلَ لَهُ أَلَا نَتَّخِذُ لَك الْجَوَارِشَ قَالَ وَمَا الْجَوَارِشُ قَالُوا هَاضُومٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَوَيَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الشِّبَعِ. وَعَنْ الِاخْتِيَارِ «تَجَشَّأَ رَجُلٌ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَقَالَ نَحِّ عَنَّا جُشَاءَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ

ص: 46

شِبَعًا» (إلَّا لِأَجْلِ الضَّيْفِ حَتَّى لَا يَخْجَلَ) وَكَذَا لِتَطْيِيبِ قَلْبِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ (أَوْ لِصَوْمِ الْغَدِ) إنْ عَلِمَ الضَّعْفَ، وَإِلَّا فَإِقْلَالُ السَّحُورِ لِلصَّائِمِ مَطْلُوبٌ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْإِحْيَاءِ فَيَضْعُفُ مَا يُقَالُ هُنَا سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ ضَعْفٌ بِعَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ أَوْ لَا قِيلَ فِي الْخَيْرِ لَا يُحَاسَبُ الْعَبْدُ عَلَى مَا يَأْكُلُهُ مَعَ إخْوَانِهِ وَكَذَا عَلَى أَكْلِهِ السَّحُورَ وَمَا أَفْطَرَ عَلَيْهِ.

عَنْ الْمُبْتَغَى مَنْ نَزَلَ ضَيْفًا عَلَى إنْسَانٍ فَلَمْ يُضِفْهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَجْهَرَ بِالشِّكَايَةِ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ} [النساء: 148] يَعْنِي مُنِعَ مِنْهُ حَقُّهُ فِي الْقِرَى (وَمِنْهُ الْأَكْلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ) أَيْ فِي بَيَاضِ نَهَارِهِ فَقَطْ كَمَا سَيُعْلَمُ لَكِنْ يُخَالِفُهُ مَا فِي الشِّرْعَةِ، وَلَا يَأْكُلُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَرَّتَيْنِ فَإِنَّهُ مِنْ الْإِسْرَافِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْإِفْطَارَ وَالسَّحُورَ لِلصَّائِمِ أَمْرٌ شَرْعِيٌّ بَلْ اسْتِحْبَابِيٌّ. (هق) الْبَيْهَقِيُّ (عَنْ عَائِشَةَ) رضي الله عنها وَعَنْ أَبَوَيْهَا (أَنَّهَا قَالَتْ «رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ أَكَلْت فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَالَ» مُنْكِرًا «يَا عَائِشَةُ أَمَا تُحِبِّينَ أَنْ لَا يَكُونَ لَك شُغْلٌ إلَّا جَوْفُكِ» الِاسْتِفْهَامُ لِلتَّوْبِيخِ أَيْ لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ لَا تُحِبِّي شَيْئًا غَيْرَ جَوْفِك (الْأَكْلُ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنْ الْإِسْرَافِ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَأَنَّ ظَاهِرَ الصِّيغَةِ الْعُمُومُ كَاقْتِضَاءِ قَاعِدَةِ أُصُولِنَا لَكِنْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يُخَصَّ ذَلِكَ بِعَائِشَةَ لِعِرْفَانِهِ عليه الصلاة والسلام كَوْنَ أَكْلِهَا بِعَدَمِ الْجُوعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ وَالْأَشْخَاصِ وَالْمَأْلُوفَاتِ وَإِلَّا فَقَدْ صَرَّحَ فِي الْكَفَّارَاتِ الْفِقْهِيَّةِ مِنْ لُزُومِ الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فِي كُلِّ يَوْمٍ لَعَلَّ لِمِثْلِ هَذَا يُبَادِرُ الْمُصَنِّفُ التَّأْوِيلَ (وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) اقْتِبَاسٌ فِي مَقَامِ تَعْلِيلٍ.

(وَمِنْهُ أَكْلُ كُلِّ مَا اُشْتُهِيَ مج) ابْنُ مَاجَهْ (هق) الْبَيْهَقِيُّ (دُنْيَا) ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا (عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ» ؛ لِأَنَّهُ إلْهَاءٌ عَمَّا يُهِمُّ وَإِتْعَابٌ لِلنَّفْسِ لِتَحْصِيلِهِ لِمُجَرَّدِ حَظِّهَا وَاشْتِغَالٌ بِالدُّنْيَا عَنْ الْآخِرَةِ قِيلَ: وَلَمْ يُرِدْ النَّهْيَ عَنْ شُرْبِ كُلِّ مَا اشْتَهَيْتَ فَإِنَّهُ عليه الصلاة والسلام كَانَ يَتَخَيَّرُ الْمَاءَ مِنْ بُيُوتِ أَصْحَابِهِ وَيَطْلُبُ شُرْبَ الْعَذْبِ الزُّلَالِ مِنْهُ مَعَ كَمَالِ زُهْدِهِ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ لِلْمُنَاوِيِّ ثُمَّ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ) حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَأَنَسٍ (الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ أَوْ قَبْلَ الْهَضْمِ وَ) قَبْلَ (الْجُوعِ) لَا يَخْفَى أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ إمَّا لِمَجْمُوعِ الْحَدِيثَيْنِ أَوْ الْبَعْضِ لِلْبَعْضِ أَوْ الْمَجْمُوعِ لِلْبَعْضِ وَالْبَعْضِ لِلْبَعْضِ وَالْكُلُّ مَنْظُورٌ فِيهِ إذْ إرَادَةُ فَوْقَ الشِّبَعِ مِنْ الْمَرَّتَيْنِ بَعِيدٌ وَكَذَا قَبْلِيَّةُ الْهَضْمِ وَالْأَعَمُّ الْأَغْلَبُ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ يَجُوعُ وَيَزُولُ شِبَعُهُ وَكَذَا يَهْضِمُ فِي آخِرِ النَّهَارِ، وَأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ دَاعِيَ التَّشَهِّي هُوَ الْجُوعُ فَلَعَلَّ التَّأْوِيلَ الْأَوْلَى مَا أُشِيرَ إلَيْهِ آنِفًا فَحِينَئِذٍ لَا تَقْرِيبَ عَلَى أَنَّهُ قَالَ الزَّيْلَعِيُّ لَا نُنْكِرُ تَغَيُّرَ الْأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الْأَزْمَانِ فَافْهَمْ فَإِنَّ قَوْلَهُ (إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَكْلَ مَرَّتَيْنِ فِي بَيَاضِ النَّهَارِ لَا سِيَّمَا فِي الْأَيَّامِ الْقَصِيرَةِ خُصُوصًا لِمَنْ لَا يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الشَّاقَّةَ بِالْجَوَارِحِ لَا يَكُونُ عَنْ جُوعٍ صَادِقٍ) لَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بَلْ يَشْعُرُ بِعَدَمِ التَّقْرِيبِ بِوَجْهٍ آخَرَ إذْ الْمَطْلُوبُ الْمُطْلَقُ وَمَا أَشْعَرَ بِهِ التَّعْلِيلُ التَّقْيِيدُ بِأَقْصَرَ وَالْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ الْمَطْلُوبُ عَلَى الْجُزْئِيَّةِ (وَإِنْ أَكَلَ كُلَّ مَا اشْتَهَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى الشِّبَعِ) غَالِبًا فَيَكُونُ إسْرَافًا لَا يَخْفَى أَيْضًا أَنَّ الْمَطْلُوبَ مُطْلَقُ التَّشَهِّي فَالْأَوْلَى عَدَمُ التَّقَيُّدِ بِقَوْلِهِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَإِنَّ فِي

ص: 47

ظَاهِرِهِ نَوْعَ مُخَالَفَةٍ لِمَا يَذْكُرُهُ هُنَا فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقْيِيدِ الدَّافِعِ لِتِلْكَ الْمُخَالَفَةِ (وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ) مِنْ الْحَدِيثَيْنِ (التَّشْبِيهُ) بِالْإِسْرَافِ يَعْنِي بِمَنْزِلَةِ الْإِسْرَافِ لَا نَفْسِهِ فِي كَوْنِهِ حَظْرًا مُطْلَقًا (لَا التَّحْرِيمُ) إذْ هُوَ مَكْرُوهٌ، وَلَوْ تَنْزِيهًا فَيَكُونُ اسْتِعَارَةً مُصَرَّحَةً وَوَجْهُ الشَّبَهِ مُطْلَقُ الْحَظْرِيَّةِ وَغَرَضُهُ التَّأَكُّدُ فِي الْإِنْكَارِ وَالْمُبَالَغَةِ لَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى هَذَا التَّوْجِيهِ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِقَوْلِهِ وَمِنْهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَيْ مِنْ قَبِيلِ الْإِسْرَافِ لَا مِنْ بَابِ الْإِسْرَافِ فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَشْمَلُ مَا لَا يَكُونُ مِنْ نَفْسِهِ بَلْ مِنْ مُلْحَقِهِ وَتَابِعِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي كَمَا نَقَلَ الْأُسْتَاذُ أَحْمَدُ الْإِيَادِيُّ تَغَمَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِغُفْرَانِهِ عَنْ الْبَعْضِ.

(وَمِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ الْخَفِيِّ (الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ) أَيْ فِي أَنْوَاعِ الْأَطْعِمَةِ (إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِكْثَارِ لَكِنْ بِشَرْطِ نِيَّةِ الْعِبَادَةِ (بِأَنْ يَمَلَّ مِنْ بَجَّةٍ) أَيْ مِنْ نَوْعٍ (فَيَسْتَكْثِرَ) الْبَجَّاتِ (حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ) مِنْهَا (شَيْئًا) الظَّاهِرُ أَنَّ التَّنْوِينَ لِلتَّقْلِيلِ أَوْ التَّحْقِيرِ (فَيَجْتَمِعَ) مِنْ الْبَجَّاتِ (قَدْرُ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَوْ قَصَدَ) بِتَكْثِيرِهَا (أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا إلَى آخِرِ الطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِإِكْثَارِ الْبَجَّاتِ عَنْ السُّيُوطِيّ هُنَا الْبَأْسُ الْحَرْبُ ثُمَّ كَثُرَ فِي الْخَوْفِ أَيْ لَا خَوْفَ، وَعَنْ الْغَيْرِ هِيَ كَلِمَةٌ دَالَّةٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يُتَرَدَّدُ فِي أَمْرِهِ لَعَلَّك قَدْ سَمِعْت فِيمَا سَبَقَ تَفْصِيلَهَا لَكِنَّ الْأَكْثَرَ فِيمَا تَرَكَهُ أَوْلَى (كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ) فِي خَامِسٍ الْكَرَاهِيَةُ لَكِنْ ذَكَرَ فِي قُبَيْلِهِ أَيْضًا وَمِنْ الْإِسْرَافِ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ إلَّا لِأَجْلِ الضَّيْفِ أَوْ يُرِيدُ صَوْمَ الْغَدِ وَإِذَا أَكَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ لِيَسْتَقِيَ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لَا بَأْسَ بِهِ قَالَ رَأَيْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَأْكُلُ أَلْوَانًا مِنْ الطَّعَامِ وَيُكْثِرُ ثُمَّ يَتَقَيَّأُ وَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ. انْتَهَى.

فِي التتارخانية عَنْ الْخَانِيَّةِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَلَا يَخْفَى حِينَئِذٍ مَا فِي الْحَصْرِ مِنْ الْخَفَاءِ (وَغَيْرِهِ) قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة وَمِنْ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ الْإِكْثَارُ فِي الْبَجَّاتِ وَالْأَلْوَانِ إلَخْ ثُمَّ لَا عَلَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ هُنَا خُلَاصَةَ مَا فِي مِفْتَاحِ السَّعَادَةِ فِي أَمْرِ الضِّيَافَةِ هِيَ سُنَّةُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ خَرَجَ مِيلًا أَوْ مِيلَيْنِ يَلْتَمِسُ مَنْ يَتَغَدَّى مَعَهُ؛ وَلِصِدْقِ نِيَّتِهِ فِيهَا دَامَتْ ضِيَافَتُهُ فِي مَشْهَدِهِ.

«وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا الْإِسْلَامُ فَقَالَ إطْعَامُ الطَّعَامِ وَبَذْلُ السَّلَامِ» ، وَفِيهَا خَمْسَةُ آدَابٌ أَحَدُهَا الدَّعْوَةُ فَيَدْعُو الْأَتْقِيَاءَ دُونَ الْفُسَّاقِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «أَكَلَ طَعَامَكُمْ الْأَبْرَارُ» وَيَقْصِدُ الْفُقَرَاءَ وَلَا يَخُصُّ الْأَغْنِيَاءَ وَفِي الْحَدِيثِ «شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ تُدْعَى إلَيْهِ الْأَغْنِيَاءُ وَيُذَادُ عَنْهُ الْفُقَرَاءُ» وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُهْمِلَ أَقَارِبَهُ فَإِنَّهُ قَطْعُ رَحِمٍ، وَأَنْ لَا يَقْصِدَ الْمُبَاهَاةَ وَالتَّفَاخُرَ بَلْ اسْتِمَالَةَ قُلُوبِ الْإِخْوَانِ وَالتَّسَنُّنَ بِسُنَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إطْعَامِ الطَّعَامِ، وَإِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَدْعُو مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَشُقُّ الْإِجَابَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَضَرَ تَأَذَّى بِالْحَاضِرِينَ فَيَدْعُو مَنْ يُحِبُّ دَعْوَتَهُ. وَثَانِيهَا الْإِجَابَةُ هِيَ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقِيلَ بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ دُعِيتُ إلَى كُرَاعٍ لَأَجَبْتُ، وَلَوْ أُهْدِيَ إلَيَّ ذِرَاعٌ لَقَبِلْتُ» ، وَلَهَا آدَابٌ خَمْسَةٌ الْأَوَّلُ أَنْ لَا يُمَيِّزَ الْغَنِيَّ بِالْإِجَابَةِ عَنْ الْفَقِيرِ إلَّا إذَا عَلِمَ فِي دَعْوَتِهِ فَخْرًا وَتَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ وَلَا يُجِيبُ الثَّانِي أَنْ لَا يَمْتَنِعَ عَنْ الْإِجَابَةِ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ، وَقِيلَ يُجِيبُ قَدْرَ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ.

الثَّالِثُ أَنْ يَحْضُرَ، وَلَوْ صَائِمًا تَطَوُّعًا، وَلْيَنْوِ إدْخَالَ السُّرُورِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الدَّاعِي تَكَلُّفًا فَيَتَعَلَّلُ، وَإِذَا لَمْ يُفْطِرْ فَضِيَافَتُهُ الطِّيبُ وَالْكَلَامُ الطَّيِّبُ.

الرَّابِعُ: أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْإِجَابَةِ أَنَّ فِي الطَّعَامِ شُبْهَةً أَوْ الْمَوْضِعِ أَوْ الْبِسَاطِ أَوْ فِي الْمَقَامِ مُنْكَرًا مِنْ فُرُشِ دِيبَاجٍ أَوْ إنَاءِ فِضَّةٍ أَوْ تَصْوِيرِ حَيَوَانٍ أَوْ سَمَاعِ الْمَلَاهِي أَوْ الْهَزْلِ أَوْ اللَّعِبِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ مُحَرَّمَةٌ أَوْ مَكْرُوهَةٌ وَكَذَا إذَا كَانَ الدَّاعِي ظَالِمًا أَوْ مُبْتَدِعًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ شِرِّيرًا أَوْ مُتَكَلِّفًا طَلَبًا لِلْمُبَاهَاةِ وَالْفَخْرِ

ص: 48

وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْإِجَابَةِ قَضَاءَ شَهْوَةِ الْبَطْنِ بَلْ الِاقْتِدَاءَ بِالسُّنَّةِ وَيَنْوِي التَّحَرُّزَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ، وَفِي الْحَدِيثِ «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى» أَوْ يَنْوِي إكْرَامَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ أَكْرَمَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ فَإِنَّمَا يُكْرِمُ اللَّهَ تَعَالَى» وَيَنْوِي إدْخَالَ السُّرُورِ فِي قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ سَرَّ مُؤْمِنًا فَقَدْ سَرَّهُ اللَّهُ» وَيَنْوِي أَيْضًا سُنَّةَ الزِّيَادَةِ. وَثَالِثُهَا آدَابُ الْحُضُورِ فَيَدْخُلُ بِلَا تَصَدُّرٍ بَلْ يَتَوَاضَعُ وَلَا يُطَوِّلُ عَلَيْهِمْ الِانْتِظَارَ، وَلَا يُفَاجِئُ قَبْلَ اسْتِعْدَادِهِمْ وَلَا يَزْحَمُ الْحَاضِرِينَ فِي الْمَكَانِ بَلْ يَجْلِسُ حَيْثُ يَأْمُرُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ، وَلَا يُكْثِرُ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ خُرُوجِ الطَّعَامِ، وَإِذَا بَاتَ الضَّيْفُ فِي مَنْزِلِهِ فَلْيُعَرِّفْهُ الْقِبْلَةَ وَمَوْضِعَ الطَّهَارَةِ وَالْوُضُوءِ وَيَغْسِلْ رَبُّ الْبَيْتِ أَوَّلًا يَدَهُ قَبْلَ الطَّعَامِ وَبَعْدَهُ يَتَأَخَّرُ، وَإِذَا رَأَى فِي الْبَيْتِ مُنْكَرًا غَيَّرَ بِيَدِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَنْكَرَ بِلِسَانِهِ وَانْصَرَفَ كَفُرُشِ الدِّيبَاجِ وَأَوَانِي الْفِضَّة.

وَرَابِعُهَا إحْضَارُ الطَّعَامِ، وَلَهُ آدَابٌ خَمْسَةٌ. الْأَوَّلُ التَّعْجِيلُ.

الثَّانِي تَرْتِيبُ الْأَطْعِمَةِ فَتَقْدِيمُ الْفَاكِهَةِ أَوَّلًا شَرْعًا وَطِبًّا ثُمَّ اللَّحْمُ وَالثَّرِيدُ؛ لِأَنَّ لَهُ فَضْلًا عَلَى سَائِرِ الْأَطْعِمَةِ فَإِنْ جَمَعَ إلَيْهِ حَلَاوَةً فَقَدْ جَمَعَ الطَّيِّبَاتِ وَتَمَامُهَا بِشُرْبِ الْمَاءِ الْبَارِدِ وَزِينَةُ الْمَائِدَةِ الْبُقُولُ لِخُضْرَتِهَا وَتُسْتَحَبُّ.

الثَّالِثُ أَنْ يُقَدِّمَ مِنْ الْأَلْوَانِ أَلْطَفَهَا حَتَّى يَسْتَكْفِئَ مِنْهَا مَنْ يُرِيدُ، وَعَادَةُ الْمُتَرَفِّهِينَ تَقْدِيمُ الْغَلِيظِ لِيُكْثِرَ مِنْ اللَّطِيفِ بَعْدَهُ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَمِنْ سُنَّةِ الْمُتَقَدِّمِينَ أَنْ يُقَدِّمُوا الْأَلْوَانَ جُمْلَةً دَفْعَةً لِيَأْكُلَ كُلٌّ مِمَّا يَشْتَهِي.

الرَّابِعُ أَنْ لَا يُبَادِرَ إلَى رَفْعِ الْأَلْوَانِ بَلْ يُمَكِّنُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى يَرْفَعُوا الْأَيْدِيَ، وَأَيْضًا لَا يَرْفَعُ يَدَهُ قَبْلَ الضِّيفَانِ بَلْ يَكُونُ آخِرَهُمْ أَكْلًا.

الْخَامِسُ أَنْ يُقَدِّمَ قَدْرَ الْكِفَايَةِ إذْ النَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الْمُرُوءَةِ وَالزِّيَادَةُ تَضْيِيعٌ إلَّا أَنْ تَطِيبَ نَفْسُهُ بِأَكْلِهِمْ الْجَمِيعَ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ لَيْسَ فِي الطَّعَامِ سَرَفٌ.

وَخَامِسُهَا الِانْصِرَافُ، وَلَهُ آدَابٌ ثَلَاثَةٌ. الْأَوَّلُ مِنْ سُنَّةِ الْمُضِيفِ أَنْ يُشَيِّعَ إلَى بَابِ الدَّارِ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَطَيِّبُ الْكَلَامِ. وَالثَّانِي مِنْ التَّوَاضُعِ أَنْ يَنْصَرِفَ الضَّيْفُ طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِنْ جَرَى فِي حَقِّهِ تَقْصِيرٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يَخْرُجَ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْمَنْزِلِ، وَإِذْنِهِ وَيُرَاعِي قَلْبَهُ فِي قَدْرِ الْإِقَامَةِ، وَإِذَا نَزَلَ ضَيْفًا فَلَا يُقِيمُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا إذَا أَلَحَّ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَنْ خُلُوصِ قَلْبٍ (وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْمَلَ كَلَامُهُ) أَيْ الْخُلَاصَةِ (هَذَا عَلَى حَصْرِ الْحَاجَةِ فِي هَذَيْنِ) مِنْ الْمَلَالِ وَالضِّيَافَةِ (بَلْ يَعُمُّ إرَادَةَ التَّلَذُّذِ وَالتَّنَعُّمِ مِنْ غَيْرِ ضَيَاعٍ وَنِيَّةٍ فَاسِدَةٍ) مِنْ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ وَالشُّهْرَةِ وَالتَّكَبُّرِ (لِقَوْلِهِ تَعَالَى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} [الأعراف: 32] مِنْ النَّبَاتِ وَالْحُبُوبِ وَالْمَعَادِنِ كَالْحَرِيرِ وَالْقُطْنِ {وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ {قُلْ هِيَ} [الأعراف: 32] أَيْ الطَّيِّبَاتُ {لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف: 32] لَا يُشَارِكُهُمْ فِيهَا الْكَافِرُ {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 32]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] الْآيَةَ) - {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87]- أَيْ لَا تُبَالِغُوا فِي التَّضْيِيقِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاحَاتِ - {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [المائدة: 87]- لَا يَرْضَى عَنْ تَجَاوُزِ الْحَدِّ نَزَلَتْ فِي جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - هَمُّوا بِاعْتِزَالِ نَحْوِ النِّسَاءِ وَتَرْكِ طَيِّبَاتِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ (وَقَدْ صَرَّحُوا) أَيْ الْفُقَهَاءُ (بِجَوَازِ التَّفَكُّهِ بِأَنْوَاعِ الْفَوَاكِهِ مُسْتَدِلِّينَ بِالْآيَتَيْنِ وَرَوَوْهُ) أَيْ الصَّحَابَةُ التَّفَكُّهَ (عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَعَلَّ الْأَوْلَى

ص: 49

إرْجَاعُ الضَّمِيرِ الثَّانِي إلَى مَا أُرْجِعَ إلَيْهِ الضَّمِيرُ الْأَوَّلُ لَكِنْ لَمْ نَظْفَرْ فِيمَا عِنْدَنَا مِنْ الْفِقْهِيَّةِ عَلَى عَيْنِ هَذَا التَّصْرِيحِ وَحُمِلَ هَذَا التَّصْرِيحُ عَلَى مَا فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ جَمْعِ الْفَوَاكِهِ وَالْبَجَّاتِ) بَعِيدٌ مِنْ تَبَادُرِ اللَّفْظِ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ دَلِيلٌ آخَرُ ظَاهِرُهُ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ إذْ عَدَمُ الْفَرْقِ إنَّمَا يَتَحَصَّلُ عِنْدَ التَّسَاوِي لَكِنَّ الْمُتَبَادَرَ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ دَلَالَةِ النَّصِّ فَلَا يَرِدُ مَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَالنَّصُّ مَوْجُودٌ عَلَى دَعْوَى الْمُصَنِّفِ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَمْثَالِهِ سِيَّمَا عَلَى عَادَةِ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ دَلِيلَ الْمُقَلِّدِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَلَّدَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَأَنَّ الِاسْتِدْلَالَ بِالنُّصُوصِ إنَّمَا هُوَ مَنْصِبُ الْمُجْتَهِدِ، وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْقِرَاضِ الْمُجْتَهِدِ فِي زَمَانِنَا وَالْأَصَحُّ عَدَمُ تَجَزِّي الِاجْتِهَادِ سِيَّمَا قَدْ اُحْتُجَّ هُنَا أَوَّلًا بِصَرِيحِ قَوْلِ الْفُقَهَاءِ فَالِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ.

(خ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -) الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَدِيثٌ مَوْقُوفٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِمَذْهَبِ الصَّحَابِيِّ وَإِنْ كَانَ فِيهِ كَلَامٌ مَذْكُورٌ فِي مَحَلِّهِ لَا يَخْلُو عَنْ إشْكَالٍ لَعَلَّ الْحَقَّ فِي الْجَوَابِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِإِثْبَاتِ الْمَطْلُوبِ بَلْ لِتَأْيِيدِهِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِالْحُجَّةِ فَكَأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ أَخَذَ هَذَا الْحُكْمَ مِنْ هَذَا النَّصِّ أَوْ أَنْ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الِاجْتِهَادِ لَيْسَ كُلَّ الْحُكْمِ فَإِنَّ بَعْضَ النُّصُوصِ ظَاهِرُ الدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى يَفْهَمُهُ كُلُّ عَالِمٍ عَامِّيٍّ، وَأَنَّ كُلَّ نَصٍّ مُوَافِقٌ لِقِيَاسِ الْفُقَهَاءِ فَيُحْتَجُّ بِهِ مُطْلَقًا فَاحْفَظْهُ فَإِنَّهُ يَنْفَعُك فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ. «كُلْ مَا شِئْتَ» مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْفَوَاكِهِ «وَالْبَسْ مَا شِئْتَ» فَلَا بُدَّ مِنْ تَخْصِيصِ نَحْوِ الْمَكْرُوهِ وَمَا فِيهِ شُبْهَةٌ فَضْلًا عَنْ الْمُحَرَّمِ «مَا أَخْطَأَك سَرَفٌ وَمَخِيلَةٌ» أَيْ مُدَّةُ خَطَأِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ عَنْك.

حَاصِلُهُ أَنَّ أَكْلَ كُلِّ مَأْكُولٍ، وَلُبْسَ كُلِّ مَلْبُوسٍ جَائِزٌ لَك مَا لَمْ يَصِلْ إلَى رُتْبَةِ السَّرَفِ وَالْخُيَلَاءِ، وَالسَّرَفُ فِي الْأَكْلِ عَلَى مَا عَرَفْت أَنْ يَكُونَ فَوْقَ الشِّبَعِ مَثَلًا، وَفِي اللِّبَاسِ كَأَنْ يَكُونَ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ لَيْسَا لِلنَّدَبِ كَمَا لَا يَكُونَانِ لِلْوُجُوبِ بَلْ لِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ وَالْإِبَاحَةِ فَلَا يُنَافِي مَمْدُوحِيَّةَ قِلَّتِهِمَا خُصُوصًا قِلَّةَ الْأَكْلِ قَالَ فِي التَّتَارْخَانِيَّة رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الْأَطِبَّاءِ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ هَلْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى طِبٌّ قَالَ نَعَمْ جُمِعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ - {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]- يَعْنِي أَنَّ الْإِسْرَافَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ مَنْشَأُ الْأَمْرَاضِ، وَقِيلَ مَنْ قَلَّ أَكْلُهُ كَانَ أَصَحَّ جِسْمًا، وَأَجْوَدَ حِفْظًا، وَأَذْكَى فَهْمًا وَأَقَلَّ نَوْمًا، وَأَخَفَّ بَدَنًا وَزِيدَ فِي الْبُسْتَانِ، وَفِي كَثْرَةِ الْأَكْلِ مَضَارُّ كَثِيرَةٌ مِنْهَا التُّخَمَةُ وَتَوَلُّدُ الْأَمْرَاضِ الْمُخْتَلِفَةِ وَفِي الْحَدَائِقِ الْجُوعُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْمُجَاهَدَةِ وَبِسَبَبِهِ تَنْفَجِرُ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ، وَعَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيِّ مِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ، وَعَنْ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيّ الْجُوعُ نُورٌ وَالشِّبَعُ نَارٌ، وَفِي الْقُشَيْرِيَّةِ أَيْضًا عَنْ الرَّازِيّ الْجُوعُ لِلْمُرِيدِينَ رِيَاضَةٌ؛ وَلِلتَّائِبِينَ تَجْرِبَةٌ؛ وَلِلزَّاهِدِينَ سِيَاسَةٌ.

(وَمِنْهُ أَكْلُ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ أَوْ) أَكْلُ (وَسَطِهِ مَعَ تَرْكِ جَوَانِبِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ كَانَ يَخَالُ يَأْكُلُهَا غَيْرُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَذَا فِي الْخُلَاصَةِ وَغَيْرِهَا وَمِنْهُ وَضْعُ الْخُبْزِ عَلَى الْمَائِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الْحَاجَةِ كَذَا فِي الِاخْتِيَار وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ هَذَا) أَيْ كَلَامُ الِاخْتِيَارِ (أَيْضًا) كَكَلَامِ الْخُلَاصَةِ

ص: 50

(عَلَى أَنْ يَضِيعَ مَا فَضَلَ مِنْ الْكِسْرَاتِ، وَلَا يَأْكُلُهُ أَحَدٌ أَوْ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ وَالشُّهْرَةَ، وَإِلَّا فَلَا إسْرَافَ) فِيهِ وَكَذَا لَا حَظْرَ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ لَكِنَّ قَوْلَهُ أَوْ عَلَى أَنْ يَقْصِدَ الرِّيَاءَ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصُودُ الْمَقَامِ فَافْهَمْ (وَأَمَّا أَكْلُ النَّفَائِسِ) جَمْعُ نَفِيسَةٍ، وَهِيَ مَا يُرْغَبُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارَاةِ وَيَجِيءُ بِمَعْنَى الْخَطِيرِ (مِنْ الْأَطْعِمَةِ، وَلُبْسِ اللِّبَاسِ الْفَاخِرِ وَالرَّقِيقِ) ، وَقَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّ قِيمَةَ رِدَائِهِ عليه الصلاة والسلام فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ أَلْفُ دِرْهَمٍ، وَفِي بَعْضِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ، وَقِيمَةَ رِدَاءِ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ (وَبِنَاءُ الْأَبْنِيَةِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ الشَّارِعُ تَحْرِيمًا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِسْرَافٍ إذَا كَانَ مِنْ حَلَالٍ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْكِبْرَ وَالْفَخْرَ) عَنْ الْقُنْيَةِ لُبْسُ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ مُبَاحٌ إذَا لَمْ يَتَكَبَّرْ وَتَفْسِيرُهُ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا كَمَا كَانَ قَبْلَهَا. انْتَهَى.

فِي الْخُلَاصَةِ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ إذَا كَانَ لَا يَتَكَبَّرُ، وَلَا يُضَيِّعُ الْفَرَائِضَ، وَلَا يَمْنَعُ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى فِي التتارخانية يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَبْسُطَ فِي بَيْتِهِ مَا شَاءَ مِنْ الثِّيَابِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الصُّوفِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وَالْمُنَقَّشَةِ، وَلَهُ سَتْرُ الْجُدْرَانِ بِالْإِزَارِ مِنْ اللِّبْدِ وَغَيْرِهِ وَيَجُوزُ بَسْطُ مَا فِيهِ صُورَةٌ أَوْ يَتَّخِذَ مَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ الْمُصَلُّونَ. وَفِي الْبُسْتَانِ الْبِسْ مِنْ الثِّيَابِ مَا لَا يُزْرِيك بِهِ السُّفَهَاءُ وَلَا يَعِيبُ الْفُقَهَاءُ، وَعَنْ عُمَرَ إذَا وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَوَسِّعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَأَمَّا الْأَبْنِيَةُ فَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى بُنْيَانًا فِي غَيْرِ ظُلْمٍ، وَلَا اعْتِدَاءٍ كَانَ أَجْرُهُ جَارِيًا مَا انْتَفَعَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ» .

وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ بَنَى بِنَاءً أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ وَبَالًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَكَذَا قَوْلُهُ «مَنْ بَنَى فَوْقَ مَا يَكْفِيهِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى عُنُقِهِ» وَكَذَا قَوْلُهُ «مَنْ بَنَى فَوْقَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ نَادَاهُ مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ يَا عَدُوَّ اللَّهِ إلَى أَيْنَ تُرِيدُ» كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَكَذَا مَا رُوِيَ «الْمُؤْمِنُ يُؤْجَرُ فِي نَفَقَتِهِ كُلِّهَا إلَّا شَيْئًا جَعَلَهُ فِي التُّرَابِ وَالْبِنَاءِ» كَمَا نُقِلَ عَنْ شِهَابِ الْأَخْبَارِ

وَكَذَا قَوْلُهُ «إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ شَرًّا جَعَلَ مَالَهُ فِي الطَّبِيخَيْنِ» أَيْ الْآجُرِّ وَالْخَشَبِ كَمَا نُقِلَ عَنْ الْكِفَايَةِ وَنَحْوِهَا فَلَعَلَّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ الْمُشَارِ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ مَا لَمْ يَمْنَعْ عَنْهُ الشَّارِعُ وَكَذَا مَا حُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِمَاكٍ أَنَّهُ قَالَ لِهَارُونَ الرَّشِيدِ حِينَ بَنَى دَارًا رَفِيعًا رَفَعْت الطِّينَ وَوَضَعْت الدِّينَ إنْ كَانَ هُوَ مِنْ مَالِك فَأَنْتَ مِنْ الْمُسْرِفِينَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَالِ غَيْرِك فَأَنْتَ مِنْ الظَّالِمِينَ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَفِي رِوَايَةٍ، وَأَنْتَ خَائِنٌ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ فَاللَّائِقُ بِمَنْ بَنَى أَنْ يَنْوِيَ بِبِنَائِهِ عِبَادَتَهُ تَعَالَى فِيهِ وَحِفْظَهُ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَلَا يُنْفِقُ مَالًا كَثِيرًا فِي الْبِنَاءِ إذْ لَا خَيْرَ فِيمَا يُنْفَقُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ كَمَا فِي الشِّرْعَةِ قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ هَذَا الْحَدِيثُ، وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا لَكِنَّهُ خُصَّ بِالْقَرَائِنِ وَالْأَحْوَالِ بِنَحْوِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَالرِّبَاطِ وَمَوَاضِعِ التَّعَبُّدِ يُؤْجَرُ الْبَانِي اتِّفَاقًا، وَعَنْ حُجَّةِ الْإِسْلَامِ: مِنْ أَبْوَابِ الشَّيْطَانِ وَوَسَاوِسِهِ حُبُّ التَّزَيُّنِ فِي نَحْوِ الْبِنَاءِ إلَى آخِرِ مَا قَالَ فِيهِ فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَإِنْ كَانَ شَبِيهًا بِهِ) صُورَةً (وَ) إنْ كَانَ (يُعَدُّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِسْرَافِ (مَجَازًا وَمَكْرُوهًا تَنْزِيهًا) يُشِيرُ إلَى نَحْوِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَيَجُوزُ جَمْعُ الْكَرَاهَةِ مَعَ عَدَمِ السَّرَفِ لَكِنْ قَدْ عُدَّ مِنْ السَّرَفِ بَعْضُ الْمَكْرُوهَاتِ فَافْهَمْ (إذْ اللَّائِقُ بِطَالِبِ الْآخِرَةِ أَنْ يَقْنَعَ) بِمُجَرَّدِ الْكَفَافِ كَمًّا وَكَيْفًا (وَيَتَصَدَّقَ) بِمَا يَزِيدُ عَلَى دَفْعِ ضَرُورَتِهِ (لِأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) .

(وَمِنْ الْإِسْرَافِ كُلُّ مَا صُرِفَ إلَى الْمَعَاصِي وَالْمَنَاهِي) كَمَا صُرِفَ إلَى الْخَمْرِ

ص: 51

وَآلَاتِ الْمَعَازِفِ وَصَاحِبِ اللَّهْوِ وَالتَّغَنِّي وَالنَّائِحَةِ وَسَائِرِ الْمَعَاصِي كَمَنْ اسْتَأْجَرَ لِيُزَخْرِفَ لَهُ بَيْتًا بِالتَّمَاثِيلِ وَمِنْ الْمُشْكِلِ فِي هَذَا الْمَقَامِ مَا فِي الْفَتَاوَى كَقَاضِي خَانْ وَلَا بَأْسَ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُؤَاجِرَ دَارًا مِنْ ذِمِّيٍّ لِيَسْكُنَهَا، وَإِنْ شَرِبَ فِيهَا الْخَمْرَ أَوْ عَبَدَ فِيهَا الصَّلِيبَ أَوْ أَدْخَلَ الْخَنَازِيرَ فَذَاكَ بَذْلٌ لَا يَلْحَقُ الْمُسْلِمَ ثُمَّ قَالَ كَمَنْ بَاعَ غُلَامًا مِمَّنْ يَقْصِدُ بِهِ الْفَاحِشَةَ أَوْ بَاعَ جَارِيَةً لَهُ مِمَّنْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتِيِّ أَوْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا ثُمَّ قَالَ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِيَنْحِتَ لَهُ طُنْبُورًا أَوْ يَرْبِطَا فَفَعَلَ طَابَ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِهِ وَزَادَ فِي التتارخانية قَوْلَهُ فِي الْإِعَانَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَفِي التَّتَارْخَانِيَّة أَيْضًا رَجُلٌ جَمَعَ الْمَالَ وَهُوَ كَانَ مُطْرِبًا مُغَنِّيًا إنْ بِغَيْرِ شَرْطٍ يُبَاحُ لَهُ، وَإِنْ بِشَرْطٍ يُرَدُّ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَفِيهِ أَيْضًا اسْتَأْجَرَ لِضَرْبِ الطَّبْلِ إنْ لِلَّهْوِ لَا يَجُوزُ، وَإِنْ لِلْغُزَاةِ وَالْقَافِلَةِ يَجُوزُ.

وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي نَائِحَةٍ أَوْ صَاحِبِ طَبْلٍ أَوْ مِزْمَارٍ اكْتَسَبَ مَالًا إنْ بِشَرْطِ مَالٍ بِإِزَاءِ النِّيَاحَةِ أَوْ الْغِنَاءِ لَا يَجُوزُ، وَفِي الْإِنَابَةِ الْأَخْذُ إذَا كَانَ بِمُقَابَلَةِ الْمَعْصِيَةِ كَانَ مَعْصِيَةً وَالسَّبِيلُ فِي الْمَعَاصِي رَدُّهَا وَيُؤْمَرُ بِالتَّصَدُّقِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَعْرِفْ لِيَصِلَ إلَيْهِ. مَالُ الْمُغَنِّيَةِ إنْ قُضِيَ بِهِ دَيْنٌ لَمْ يَسَعْ صَاحِبَ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ عَلَى الْأَخْذِ، وَفِي الْيَنَابِيعِ رَجُلٌ مَاتَ وَكَسْبُهُ خَبِيثٌ الْأَوْلَى تَوَرُّعُ الْوَرَثَةِ فَإِنْ عَلِمُوا أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ يَرُدُّونَهَا عَلَيْهِمْ، وَإِلَّا فَالْمِيرَاثُ حَلَالٌ لَهُمْ فِي الْحُكْمِ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ التَّصَدُّقُ ثُمَّ قَالَ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ بَلْ هُوَ حَرَامٌ وَكَذَا مَا هُوَ ظُلْمٌ فَالتَّوَرُّعُ أَوْلَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِيَّةِ خُصَمَاءِ أَبِيهِ، وَفِي الْيَنَابِيعِ وَمَا جَمَعَ السَّائِلُ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ خَبِيثٌ، وَأَمَّا الَّذِي تَأْخُذُهُ النَّائِحَةُ وَالْقَوَّالُ وَالْمُغَنِّي فَالْأَمْرُ فِيهِ أَيْسَرُ لِأَنَّ فِيهِ إعْطَاءً بِرِضًا وَمِنْ غَيْرِ عَقْدٍ.

ص: 52