الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَجُرُّ بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ إلَى أَنْ لَا يَفِيَ الْحَلَالَ فَيَقْدَمُ الشُّبُهَاتِ وَيَتْبَعُهُ أَنْ يُصَانِعَ النَّاسَ بِالرِّيَاءِ وَالْمُدَاهَنَةِ وَالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ الثَّالِثَةُ أَنَّهُ يُلْهِيهِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ خُسْرَانٌ عَظِيمٌ وَإِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ كَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ وَالْهَمِّ وَالْغَمِّ وَالتَّعَبِ فِي دَفْعِ الْحُسَّادِ وَتَجَشُّمِ الْمَصَاعِبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ فَإِذَنْ تِرْيَاقُ الْمَالِ أَخْذُ الْقُوتِ مِنْهُ وَصَرْفُ الْبَاقِي إلَى الْخَيْرَاتِ وَمَا عَدَاهُ سَمُومٌ وَآفَاتٌ وَإِلَى بَعْضِ مَا ذَكَرَ يُشِيرُ قَوْلُهُ (اعْلَمْ أَنَّ الْحُزْنَ إذَا أَخْرَجَ صَاحِبَهُ مِنْ الصَّبْرِ إلَى الْجَزَعِ) وَالشَّكْوَى (وَ) أَنَّ (الْفَرَحَ) إذَا أَخْرَجَ صَاحِبَهُ (مِنْ الشُّكْرِ إلَى الطُّغْيَانِ وَالْبَطَرِ) أَيْ الْكِبْرِ أَوْ الْأَشَرِ (فَحَرَامَانِ) قِيلَ مِنْ الْكَبَائِرِ لِلْوَعِيدِ الشَّدِيدِ (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يُخْرِجَا (فَلَا) بَلْ مَذْمُومَانِ وَمَكْرُوهَانِ تَنْزِيهًا (وَلَكِنَّ الْكَمَالَ اسْتِوَاءُ إتْيَانِ الدُّنْيَا وَفَوَاتِهَا) لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ أُخْبِرَ إلَيْهِ بِعَطَايَا كَثِيرَةٍ فَحَمِدَ ثُمَّ أُخْبِرَ أَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ أَخَذُوهَا فَحَمِدَ أَيْضًا فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ الْأَوَّلُ لِعَدَمِ وِجْدَانِي فِي قَلْبِي سُرُورًا مِنْهَا وَالثَّانِي لِعَدَمِ وِجْدَانِي حُزْنًا مَا.
(وَهُوَ مَقَامُ التَّسْلِيمِ) قِيلَ هُوَ انْقِيَادُ إظْهَارِ الْعُبُودِيَّةِ (وَالتَّفْوِيضِ) هُوَ أَنْ لَا يَخْتَارَ الْعَبْدُ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأَنْ يَرْضَى بِاخْتِيَارِ مَوْلَاهُ وَقِيلَ التَّفْوِيضُ قَبْلَ نُزُولِ الْقَضَاءِ وَالتَّسْلِيمُ بَعْدَهُ (وَذَلِكَ) الْمَقَامُ (عَزِيزٌ) نَادِرٌ (جِدًّا) لَا يُوجَدُ إلَّا فِي أَقَلِّ قَلِيلٍ.
[السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا]
(السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ الْخَوْفُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا وَهُوَ انْقِبَاضُ الْقَلْبِ كَرَاهَةَ أَنْ يُصِيبَهُ)
فِي الِاسْتِقْبَالِ (مَكْرُوهٌ دُنْيَوِيٌّ وَهُوَ غَيْرُ الْحُزْنِ لِأَنَّهُ) أَيْ الْحُزْنَ (لِمَا مَضَى) وَنَزَلَ مِنْ الْمَصَائِبِ أَوْ فَوَاتِ الْمَطَالِبِ (وَالْخَوْفُ لِلْمُسْتَقْبَلِ وَغَيْرُ الْجُبْنِ لِأَنَّهُ نُقْصَانُ الْغَضَبِ وَلَا يَسْتَلْزِمُ) الْجُبْنُ (الْخَوْفَ وَهُوَ) أَيْ الْخَوْفُ (إمَّا مِنْ الْفَقْرِ أَوْ الْمَرَضِ أَوْ إصَابَةِ مَكْرُوهٍ) كَأَخْذِ أَمْوَالٍ وَإِتْلَافِ نَفْسٍ وَضَرْبٍ وَحَبْسٍ (مِنْ مَخْلُوقٍ أَمَّا الْأَوَّلُ) أَيْ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ (فَمَذْمُومٌ جِدًّا لِأَنَّ الْفَقْرَ حَالُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَالُ أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ) - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعِلْمِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْفَقْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَرَذَالَةِ الْغِنَى الَّذِي هُوَ مَعْدِنُ أَكْثَرِ الشُّرُورِ وَلِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ عليه الصلاة والسلام بَعْدَ الْعَرْضِ عَلَيْهِ (وَ) أَكْثَرُ (الْأَوْلِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ) كَالصِّدِّيقِ الْأَعْظَمِ كَمَا رُوِيَ عَنْهُ عليه الصلاة والسلام «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ
الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَفِي الْخَبَرِ «الْفَقْرُ مَشَقَّةٌ فِي الدُّنْيَا وَمَسَرَّةٌ فِي الْآخِرَةِ» لَكِنْ يَشْكُلُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَإِبْرَاهِيمَ وَدَاوُد وَسُلَيْمَانَ وَشُعَيْبٍ كَانُوا أَغْنِيَاءَ وَكَثِيرًا مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَيْثُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ فَصُولِحَتْ امْرَأَتُهُ مِنْ رُبْعِ ثُمُنِهَا عَلَى ثَمَانِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ ثَمَانِينَ أَلْفَ دِينَارٍ
أَقُولُ فِي التَّقْيِيدِ بِالْأَكْثَرِ إشَارَةٌ إلَى دَفْعِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ كَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَالْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ وَنَبِيِّنَا عليه الصلاة والسلام اخْتَارُوا الْفَقْرَ حَتَّى قِيلَ مَاتَ أَرْبَعُونَ نَبِيًّا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجُوعِ وَالْقَمْلِ كَمَا فِي بَحْرِ الْكَلَامِ لِأَبِي الْمُعِينِ النَّسَفِيِّ عَلَى أَنَّ غِنَى الْأَنْبِيَاءِ صُورِيٌّ لِعَدَمِ مَيْلِهِمْ وَحُبِّهِمْ وَاطْمِئْنَانِهِمْ بِالْمَالِ بَلْ أَكَلُوا مِنْ كَسْبِ أَنْفُسِهِمْ وَلَعَلَّك قَدْ سَمِعْت سَابِقًا أَنَّ لِلْفُقَرَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ دِيوَانًا يَزْدَحِمُ الْأَغْنِيَاءُ الْتِجَاءً مِنْهُمْ بِإِحْسَانِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَحُكِيَ أَنَّهُ أُعْطِيَ لِابْنِ أَدْهَمَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فَرَدَّهَا فَقَالَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَمْحُوا اسْمِي مِنْ دِيوَانِ الْفُقَرَاءِ (فَهُوَ نِعْمَةٌ وَعَلَامَةُ سَعَادَةٍ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُشَارَكَةِ لِأَفْضَلِ الْخَلَائِقِ وَأَنَّ الرَّاحَةَ فِي السَّلَامَةِ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْأُصُولِ الْمُحْتَمَلُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ فَإِنَّ نَفْعَ الْفَقْرِ كَالْمُتَيَقَّنِ وَنَفْعَ الْغِنَى كَالْمُحْتَمَلِ وَالْأَوْلَى الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ (فَالْخَوْفُ مِنْهُ عَدَّهُ مِحْنَةً وَبَلِيَّةً) كَيْفَ وَالْفُقَرَاءُ الصَّابِرُونَ يَخَافُونَ مِنْ الْغِنَى كَمَا يَخَافُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ الْفَقْرِ وَذَلِكَ لِصِدْقِ عَقِيدَتِهِمْ بِمَا لِلْفُقَرَاءِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ «الْفُقَرَاءُ الصُّبُرُ جُلَسَاءُ اللَّهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَإِنْ كَانَ نِعْمَةً وَسَعَادَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَحْفَظَ آدَابَهُ كَأَنْ لَا يَكْرَهَ الْفَقْرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا الْفَقِيرَ وَيَفْرَحَ بِهِ بَلْ يَطْلُبُهُ لِعِلْمِهِ بِغَوَائِلِ الْغِنَى وَيَكْرَهَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْكَفَافِ وَكَأَنْ يُظْهِرَ التَّعَفُّفَ وَالتَّجَمُّلَ وَلَا يُظْهِرَ الشَّكْوَى وَالْفَقْرَ بَلْ يَجْتَهِدُ بِسَتْرِ فَقْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة: 273] وَلَا يَتَوَاضَعْ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ بَلْ يَتَكَبَّرُ عَلَيْهِ وَلَا يُخَالِط الْأَغْنِيَاءَ وَلَا يُدَاهِنْهُمْ فِي الْحَقِّ طَمَعًا فِي عَطَائِهِمْ وَلَا يَفْتُرْ عَنْ عِبَادَتِهِ لِفَقْرِهِ وَيَبْذُلَ قَلِيلَ مَا فَضَلَ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ جَهْدَ الْمُقِلِّ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرِ الْغِنَى وَلَا يَدَّخِر بَعْدَ قَدْرِ الْحَاجَةِ وَفِي الِادِّخَارِ ثَلَاثُ دَرَجَاتٍ دَرَجَةُ الصِّدِّيقِينَ أَنْ لَا يَدَّخِرَ إلَّا لِيَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ وَدَرَجَةُ الْمُتَّقِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِأَرْبَعَيْنِ يَوْمًا وَمَا زَادَ مِنْ طُولِ الْأَمَلِ وَقَدْ فَهِمُوا ذَلِكَ مِنْ مِيعَادِ مُوسَى عليه الصلاة والسلام وَدَرَجَةُ الصَّالِحِينَ أَنْ يَدَّخِرَ لِسَنَةٍ فَمَا زَادَ خَارِجٌ عَنْ حَيِّزِ الْخُصُوصِ بِالْكُلِّيَّةِ (وَعَلَى التَّسْلِيمِ) أَيْ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ الْفَقْرَ مِحْنَةٌ وَبَلِيَّةٌ
(فَفِيهِ) أَيْ فِي خَوْفِ الْفَقْرِ (سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى) الَّذِي وَعَدَ وَتَكَفَّلَ بِإِيصَالِ رِزْقِ كُلٍّ إلَيْهِ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ حَرَامٌ (ز) الْبَزَّارُ (يعل) أَبُو يَعْلَى (طكط) الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَالْكَبِيرِ (عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَادَ» مِنْ الْعِيَادَةِ فِي الْمَرَضِ «بِلَالًا فَأَخْرَجَ لَهُ صُبَرًا» بِضَمٍّ فَفَتْحٍ: الْمَجْمُوعُ «مِنْ تَمْرٍ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام مَا هَذَا يَا بِلَالُ» النِّدَاءُ لِزِيَادَةِ التَّلَطُّفِ وَالْمُؤَانَسَةِ «فَقَالَ ادَّخَرْته لَك» لَا لِنَفْسِي (وَفِي رِوَايَةٍ «لِأَضْيَافِك قَالَ عليه الصلاة والسلام أَمَا تَخْشَى أَنْ يُجْعَلَ لَك» أَيْ يَصِيرَ لَك فِي الْآخِرَةِ بِذَلِكَ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» الْبُخَارُ وَالدُّخَانُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّارِ نَفْسِهَا (وَفِي رِوَايَةٍ «أَنْ يَفُورَ لَك» مِنْ الْفَوْرِ وَهُوَ الْغَلَيَانُ «بُخَارٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ» وَفِي أُخْرَى «أَنْ يَكُونَ لَك دُخَانٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَنْفِقْ بِلَالًا» قِيلَ أَصْلُهُ بِلَالِي قُلِبَتْ يَاءُ الْإِضَافَةِ أَلِفًا «وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا» وَيَجُوزُ النَّصْبُ
لِلسَّجْعِ بَعْدَ حَذْفِ الْيَاءِ أُورِدَ هُنَا بِمَا مَرَّ مِنْ جَوَازِ الِادِّخَارِ سَنَةً
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْمَنْعَ لِمَنْ خَافَ مِنْ الْفَقْرِ فَمَنْعُ بِلَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ أَقُولُ تَصَوُّرُ مِثْلِهِ عَنْ نَحْوِهِ بَعِيدٌ بَلْ سُوءُ ظَنٍّ فَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ دَرَجَةِ الصِّدِّيقِينَ هَذَا لَكِنْ يَشْكُلُ بِأَنَّ ادِّخَارَ بِلَالٍ لَيْسَ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ بَلْ لِأَضْيَافِهِ عليه الصلاة والسلام فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ وَلَا تَخْشَ إلَخْ أَقُولُ لَعَلَّ الْمُرَادَ تَقْرِيرُ بِلَالٍ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الضِّيَافَةِ فَالْمُرَادُ مِنْ الْإِنْفَاقِ مَا يَشْمَلُ الضِّيَافَةَ وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْفَيْضِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَرَدَتْ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ حِينَ كَانَ الِادِّخَارُ مَمْنُوعًا وَالضِّيَافَةُ وَاجِبَةً ثُمَّ نُسِخَ، ثُمَّ فِي قَوْلِهِ ذِي الْعَرْشِ نُكْتَةٌ لَطِيفَةٌ وَهِيَ أَتَخَافُ مِنْ ذِي الْعَرْشِ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ أَنْ لَا يُوَصِّلَ إلَيْك رِزْقَك الَّذِي تَكَفَّلَ وَوَعَدَ قَالَ سُفْيَانُ لَيْسَ لِلشَّيْطَانِ سِلَاحٌ كَخَوْفِ الْفَقْرِ فَإِذَا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ أَخَذَ بِالْبَاطِلِ وَمَنَعَ مِنْ الْحَقِّ وَتَكَلَّمَ بِالْهَوَى وَظَنَّ بِرَبِّهِ ظَنَّ سُوءٍ وَفِي تَخْرِيجِ الْحَاكِمِ عَنْ بِلَالٍ «يَا بِلَالُ الْقَ اللَّهَ تَعَالَى فَقِيرًا وَلَا تَلْقَهُ غَنِيًّا قَالَ إذَا رُزِقْت فَلَا تَمْنَعْ قَالَ وَكَيْفَ لِي بِذَلِكَ قَالَ هُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَالنَّارُ» ثُمَّ عَنْ الْعِرَاقِيِّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ وَعَنْ ابْنِ حَجَرٍ حَسَنٌ وَعَنْ الْهَيْتَمِيِّ لَهُ إسْنَادَانِ أَحَدُهُمَا حَسَنٌ وَالْآخَرُ فِيهِ قَيْسُ بْنُ رَبِيعٍ وَفِيهِ كَلَامٌ لَكِنْ فِي أَسَانِيدِ أَبِي هُرَيْرَةَ مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ فِيهِ كَلَامٌ (وَعِلَاجُهُ) أَيْ خَوْفِ الْفَقْرِ (الْقَلَعِيُّ إزَالَةُ أَسْبَابِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ خَوْفُ الْمَوْتِ أَوْ الْمَرَضِ مِنْ الْجُوعِ وَخَوْفُ فَوْتِ التَّنَعُّمِ الْمُعْتَادِ) عِنْدَ سَعَةِ الدُّنْيَا (وَحُصُولِ الْقَلِقِ) الِاضْطِرَابِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْفَوْتِ فَيَمْتَنِعُ عَنْ التَّفَرُّغِ لِلْأَعْمَالِ (وَخَوْفُ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْكَسْبِ) لِمَنْ قَدَرَ (أَوْ) إلَى (السُّؤَالِ) لِمَنْ لَمْ يَقْدِرْ مَثَلًا
(وَطَرِيقُ إزَالَتِهَا) أَيْ الْأَسْبَابِ (إجْمَالًا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ سُوءُ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّا مَأْمُورُونَ بِحُسْنِ الظَّنِّ بِهِ تَعَالَى) كَمَا سَبَقَ فَهُوَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَخِلَافُهُ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ (وَ) طَرِيقُ إزَالَتِهَا (تَفْصِيلًا أَنَّ الْمَوْتَ مُتَيَقَّنٌ) مِنْ الْيَقِينِ (وَآتٍ عَلَى كُلِّ حَالٍ) حَالَ الْغِنَى وَحَالَ الْفَقْرِ (إمَّا بَغْتَةً) فَجْأَةً قِيلَ أَكْثَرُ سَبَبِهِ شُيُوعُ الزِّنَا لَكِنْ لَا يُلَائِمُهُ أَنَّهُ رَحْمَةٌ لِلْأَبْرَارِ وَعُقُوبَةٌ لِلْأَشْرَارِ (وَإِمَّا بِسَبَبٍ مُقَدَّرٍ) فِي الْأَزَلِ كَالْقَتْلِ وَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ (فَإِنْ قُدِّرَ) فِي الْأَزَلِ (كَوْنُهُ) أَيْ سَبَبِ مَوْتِهِ (جُوعًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ) لِأَنَّ إرَادَتَهُ تَعَالَى لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ مُرَادِهِ وَأَنَّهُ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَأَنَّ التَّقْدِيرَ لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ (وَإِنْ كَانَ عِنْدَك مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا) لَكِنْ يَشْكُلُ بِالْأَجَلِ الْمُعَلَّقِ وَبِأَقْسَامِ الْكَسْبِ مِنْ الْفَرْضِ وَالْوُجُوبِ وَغَيْرِهِمَا فَتَأَمَّلْ (وَإِلَّا) وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ الْجُوعَ (فَلَا) تَمُوتَنَّ مِنْ الْجُوعِ (أَصْلًا) كُنْت غَنِيًّا أَوْ لَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَك حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ الْمَالِ لَكِنْ يَشْكُلُ بِتَرْتِيبِ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ فِي قَتْلِ الْأَنْفُسِ وَالضَّمَانِ فِي إتْلَافِ الْحَيَوَانِ إذْ الْمُقَدَّرُ لَا يَزُولُ بَلْ يَقَعُ أَلْبَتَّةَ فَلْيُتَأَمَّلْ أَيْضًا (وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ الْمَوْتِ جُوعًا وَشِبَعًا) فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْخَلَاصُ مِنْ الْمَوْتِ سِيَّمَا فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا (فَعَلَيْك الرِّضَا بِالْقَضَاءِ) وَلَا تَلْتَفِتْ إلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَإِنَّ
الْأَجَلَ وَاحِدٌ وَالْمُقَدَّرَ كَائِنٌ لَكِنْ يَشْكُلُ بِمَا فِي الِاعْتِقَادِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ الْمَقْتُولُ لَجَازَ أَنْ يَمُوتَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْ لَا يَمُوتَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِامْتِدَادِ الْعُمْرِ وَلَا بِالْمَوْتِ بَدَلَ الْقَتْلِ فَتَأَمَّلْ فِيهِ
(وَكَذَا الْمَرَضُ إنْ قُدِّرَ فَآتٍ) لَا مَحَالَةَ (وَإِلَّا فَلَا وَلَا دَخْلَ فِيهِ) أَيْ فِي إتْيَانِ الْمَرَضِ وَعَدَمِهِ (لِلْغِنَى وَالْفَقْرِ بَلْ تَرَى الْأَغْنِيَاءَ أَكْثَرَ أَمْرَاضًا مِنْ الْفُقَرَاءِ) لِاعْتِيَادِهِمْ أَكْلَ الْأَطْعِمَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الطَّبَائِعِ وَكَثْرَةِ هُمُومِهِمْ وَخِدْمَةِ الدُّنْيَا وَكَثْرَةِ الْأَعْدَاءِ (وَتَنَعُّمَك وَتَلَذُّذَك سَيَزُولُ) بِالْمَوْتِ (لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ يَخَافُ الْعَاقِلُ مِنْ تَقَدُّمِهِ) مِنْ تَقَدُّمِ زَوَالِ النِّعَمِ وَالتَّلَذُّذِ بِالْفَقْرِ (أَيَّامًا قَلَائِلَ لَوْ سَلِمَ) فَوْتُ التَّلَذُّذِ (وَالْكَسْبُ قَدْ صَدَرَ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ) كَمَا تَقَدَّمَ تَفْصِيلُهُ وَكَمَا فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا رَعَى الْغَنَمَ» كَمَا نُقِلَ عَنْ الْبُخَارِيِّ (وَالْأَوْلِيَاءِ) كَيْفَ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11]{وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]- وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ» - وَفِي رِوَايَةٍ «التَّاجِرُ الْأَمِينُ الصَّدُوقُ الْمُسْلِمُ مَعَ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ»
قَالَ الطِّيبِيُّ قَوْلُهُ مَعَ النَّبِيِّينَ بَعْدَ قَوْلِهِ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ حُكْمٌ مُرَتَّبٌ عَلَى الْوَصْفِ الْمُنَاسِبِ مِنْ قَوْلِهِ {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ} [النساء: 69]- الْآيَةَ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ التَّاجِرُ الصَّدُوقُ لَا يُحْجَبُ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ أَيْ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَلَا يَمْنَعُهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَكَانَتْ لَهُ تِجَارَةٌ يُقَلِّبُهَا لَوْلَا تَمَنْدُلُ بَنِي الْعَبَّاسِ بِي جَعَلُونِي كَالْمِنْدِيلِ يَمْسَحُونَ بِي أَوْسَاخَهُمْ مَا فَعَلْت هَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَشَرْحُهَا مِنْ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا تَعَفُّفًا عَنْ الْمَسْأَلَةِ وَسَعْيًا عَلَى عِيَالِهِ وَتَعَطُّفًا عَلَى جَارِهِ لَقِيَ اللَّهَ وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» هَذَا إنْ كَانَ لِلتَّعَفُّفِ وَالتَّصَدُّقِ وَإِلَّا فَإِنْ لِلشُّهْرَةِ وَالِادِّخَار فَمَذْمُومٌ (فَالْخَوْفُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْكَسْبِ (إمَّا لِلرِّيَاءِ) فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْكَسْبِ رِيَاءً (أَوْ الْكِبْرِ أَوْ الْبَطَالَةِ) وَكُلُّهَا مَذْمُومَةٌ (وَالسُّؤَالُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ فِي عِيَالِهِ (جَائِزٌ) جَوَابٌ عَنْ خَوْفِ الِاحْتِيَاجِ إلَى السُّؤَالِ (فَأَيُّ ضَرَرٍ فِيهِ) بَلْ وَاجِبٌ عَلَى حَسْبِ ضَرُورَتِهِ حَتَّى لَوْ لَمْ يَسْأَلْ فَمَاتَ جُوعًا يَكُونُ آثِمًا اعْلَمْ أَنَّ السُّؤَالَ بِلَا ضَرُورَةٍ حَرَامٌ لِاسْتِلْزَامِهِ الشَّكْوَى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ إذْلَالُ النَّفْسِ لِغَيْرِهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ إيذَاءٌ لِلْمَسْئُولِ غَالِبًا وَهُوَ حَرَامٌ إذْ رُبَّمَا لَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِمَا يَبْذُلُهُ عَنْ طِيبِ قَلْبِهِ فَيَكُونُ بَذْلُهُ رِيَاءً أَوْ حَيَاءً فَأَخْذُهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ
وَأَمَّا السُّؤَالُ بِالِاضْطِرَارِ كَسُؤَالِ الْجَائِعِ الْخَائِفِ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْمَرَضِ وَالْعَارِي الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَا يُوَارِي بَدَنَهُ فَجَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الِاضْطِرَارِ كَمَنْ لَهُ جُبَّةٌ وَلَكِنْ يَتَأَذَّى بِالْبَرْدِ وَكَمَنْ يُرِيدُ الْكِرَاءَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمَشْيِ لَكِنْ يَتْعَبُ فَجَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ وَأَمَّا الْحَاجَةُ الْخَفِيفَةُ كَمَنْ يُرِيدُ ثَوْبًا عَلَى ثَوْبِهِ لِسَتْرِ خُرُوقِهِ أَوْ كَمَنْ يَسْأَلُ لِأَجْلِ الْإِدَامِ وَلَهُ خُبْزٌ وَكَمَنْ يَكْتَرِي الْفَرَسَ وَهُوَ يَجِدُ كِرَاءَ الْحِمَارِ فَمُبَاحٌ مَعَ الْكَرَاهَةِ بِشَرْطِ عَدَمِ الشَّكْوَى وَالذُّلِّ وَالْإِيذَاءِ فَإِنْ لِغَيْرِ مَا ذُكِرَ فَحَرَامٌ وَسَيَجِيءُ.
(وَأَمَّا الثَّانِي) وَهُوَ الْخَوْفُ مِنْ الْمَرَضِ (فَأَمَّا) خَوْفُهُ (لِفَوْتِ التَّنَعُّمِ) بِسَبَبِهِ (فَقَدْ عَرَفْت عِلَاجَهُ) أَنَّهُ سَيَزُولُ لَا مَحَالَةَ فَكَيْفَ يَصْدُرُ عَنْ الْعَاقِلِ الْخَوْفُ مِنْ تَقْدِيمِ الزَّوَالِ أَيَّامًا قَلَائِلَ (وَأَمَّا) خَوْفُهُ (لِفَوْتِ الطَّاعَةِ الْمُعْتَادَةِ وَنَقْصِ الثَّوَابِ) بِفَوَاتِهَا (فَجَهْلٌ إذْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ أَنَّ الْمَرِيضَ يُكْتَبُ لَهُ مَا اعْتَادَهُ) أَيْ
ثَوَابُ مَا اعْتَادَهُ (فِي الصِّحَّةِ بَلْ يَزِيدُ ثَوَابُهُ إنْ صَبَرَ) وَلَمْ يُظْهِرْ الْجَزَعَ وَالشِّكَايَةَ قَوْلًا أَوْ فِعْلًا وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» قَالَ فِي شَرْحِهِ حَمَلَهُ ابْنُ بَطَّالٍ عَلَى النَّفْلِ فَقَطْ وَتَعَقَّبَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ بِأَنَّ الْفَرْضَ قَاعِدًا كَالْفَرْضِ قَائِمًا فِي الْأَجْرِ وَأَخَذَ مِنْهُ أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ تُثَابَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَرُدَّ بِالْفَرْقِ بِالْأَهْلِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَبِالنِّيَّةِ وَعَدَمِهَا وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ اُكْتُبُوا لِعَبْدِي مَا كَانَ يَعْمَلُ صَحِيحًا مُقِيمًا» وَجَاءَ مَرْفُوعًا «خُذْ مِنْ صِحَّتِك لِمَرَضِك وَمِنْ حَيَاتِك لِمَوْتِك» وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا «مَا مِنْ امْرِئٍ يَكُونُ لَهُ صَلَاةٌ بِاللَّيْلِ فَيَغْلِبُهُ عَلَيْهَا نَوْمٌ إلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَجْرَ صَلَاتِهِ وَكَانَ نَوْمُهُ عَلَيْهِ صَدَقَةً» (لِمَا وَرَدَ أَنَّ الْأَصِحَّاءَ يَتَمَنَّوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ كَانَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ (يُقْرَضُ) أَيْ تُقَطَّعُ (أَبْدَانُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ لَمَّا رَأَوْا مِنْ كَثْرَةِ ثَوَابِ الْمَرِيضِ) فِي الشِّرْعَةِ فِي الْحَدِيثِ «إذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا ابْتَلَاهُ حَتَّى يَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ»
وَقَالَ عليه الصلاة والسلام «يَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُعْطَى أَهْلُ الْبَلَاءِ الثَّوَابَ لَوْ أَنَّ جُلُودَهُمْ قُرِضَتْ بِالْمَقَارِيضِ» وَفِي شَرْحِهِ عَنْ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ هُوَ «فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ جِيءَ بِأَهْلِ الْأَعْمَالِ فَوُفُّوا أَعْمَالَهُمْ بِالْمِيزَانِ أَهْلِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ ثُمَّ يُؤْتَى بِأَهْلِ الْبَلَاءِ فَلَا يُنْصَبُ لَهُمْ الْمِيزَانُ وَلَا يُنْشَرُ لَهُمْ الدِّيوَانُ يُصَبُّ عَلَيْهِمْ الْأَجْرُ صَبًّا فَيَوَدُّ أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا لَوْ أَنَّهُمْ كَانَتْ تُقْرَضُ أَجْسَامُهُمْ بِالْمَقَارِيضِ لِمَا يَرَوْنَ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ مِنْ الثَّوَابِ» (فَعَلَيْك الْعَزْمُ عَلَى الصَّبْرِ) عَلَى الْمَرَضِ (إنْ وَقَعَ) حَتَّى تَنَالَ الْأَجْرَ وَقَدْ قَالَ - {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]- {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ «فَمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ حَتَّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ ثَلَاثَمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» (وَإِنْ خِفْت مِنْ نَفْسِك عَدَمَ الصَّبْرِ) عَلَى مِحْنَةِ الْمَرَضِ (فَعَلَيْك أَنْ تَسْأَلَ الْعَافِيَةَ) وَقَدْ عَرَفْت بَعْضَ تَفَاصِيلِ مَعْنَى الْعَافِيَةِ وَفُسِّرَ هُنَا بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْمِحَنِ وَالْبَلَايَا وَفِي الْحِصْنِ الْحَصِينِ عَنْ التِّرْمِذِيِّ «سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فَإِنَّ أَحَدًا لَمْ يُعْطَ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ» .
وَعَنْهُ أَيْضًا «مَا سَأَلَ الْعِبَادُ شَيْئًا أَفْضَلَ مِنْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ وَيُعَافِيَهُمْ» .
وَعَنْ الْبَزَّارِ «وَمَرَّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْمٍ مُبْتَلِينَ فَقَالَ أَمَا كَانَ هَؤُلَاءِ يَسْأَلُونَ الْعَافِيَةَ»
وَعَنْ الطَّبَرَانِيِّ «وَكَانَ يَقُولُ يَا عَمِّ أَكْثِرْ الدُّعَاءَ بِالْعَافِيَةِ» وَعَنْهُ أَيْضًا فَلِيَنْظُرْ الْعَاقِلُ مِقْدَارَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ مِنْ دُونِ الْكَلِمِ وَلِيُؤْمِنْ بِأَنَّهُ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أُوتِيَ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَتْ لَهُ الْحِكَمُ فَإِنَّ مَنْ أُعْطِيَ الْعَافِيَةَ فَازَ بِمَا يَرْجُوهُ قَلْبُهُ قَلْبًا وَقَالَبًا وَدُنْيَا وَدِينًا وَرَقَى مِمَّا يَخَافُهُ فِي الدَّارَيْنِ عِلْمًا يَقِينًا فَلَقَدْ تَوَاتَرَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدُّعَاءُ بِالْعَافِيَةِ وَوَرَدَ عَنْهُ لَفْظًا وَمَعْنَى مِنْ خَمْسِينَ طَرِيقًا هَذَا وَقَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَهُوَ الْمَعْصُومُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَقِيقِيًّا فَكَيْفَ بِنَا وَنَحْنُ غَرَضٌ لِسِهَامِ الْقَدَرِ وَعَرَضٌ بَيْنَ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ كَمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ «اللَّهُمَّ إنَّا نَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» انْتَهَى مَا فِي الْحِصْنِ (مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ تُدَاوِمَ عَلَى دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - د عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَدَعُ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَحِينَ يُصْبِحُ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فُسِّرَ هُنَا بِدِفَاعِ اللَّهِ عَنْ الْعَبْدِ الْأَسْقَامَ وَالْآلَامَ وَالْمِحَنَ وَالْبَلَايَا وَشَدَائِدَهَا
وَنَكَالَهَا «اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ» عَنْ الذُّنُوبِ وَالزَّلَلِ «وَالْعَافِيَةَ» عَنْ جَمِيعِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَضَارِّ «فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي» مَا فِي مِنْ الْعُيُوبِ وَالْخَلَلِ وَالتَّقْصِيرِ وَالزَّلَلِ وَهِيَ مَا يُسْتَهْجَنُ ذِكْرُهُ مِنْ الْقَبَائِحِ «وَآمِنْ» بِالْمَدِّ «رَوْعَاتِي» أَيْ مَا أَخَافُهُ «اللَّهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ» مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَجِيءُ مِنْ بَيْنَ يَدَيْهِ «وَمِنْ خَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي وَمِنْ فَوْقِي» مَا يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ نَكْبَةٍ وَفِتْنَةٍ فَإِنَّ مَا يَحِيقُ بِهِ وَيَصِلُ إلَيْهِ مِنْ إحْدَى هَذِهِ الْجِهَاتِ فَلِذَلِكَ سَأَلَ أَنْ يَحْفَظَهُ مِنْ جَمِيعِ جِهَاتِهِ قِيلَ عَنْ زَيْنِ الْعَرَبِ وَأَمَّا جِهَةُ الْفَوْقِ فَإِنَّ مِنْهَا يَنْزِلُ الْبَلَاءُ وَالصَّوَاعِقُ وَالْعَذَابُ «وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِك أَنْ أُغْتَالَ» أَيْ أَهْلَك.
عَنْ الرَّاغِبِ: الْغَوْلُ: إهْلَاكُ الشَّيْءِ مِنْ حَيْثُ لَا يُحَسُّ بِهِ «مِنْ تَحْتِي» وَقَعَ فِي الْجَامِعِ عَلَى تَخْرِيجِ الْبَزَّارِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - هَكَذَا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الْعَافِيَةَ فِي دُنْيَايَ وَدِينِي وَأَهْلِي وَمَالِي اللَّهُمَّ اُسْتُرْ عَوْرَاتِي إلَخْ ثُمَّ قَالَ فِي شَرْحِهِ خَرَّجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَكَذَا الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَعُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ حِينَ يُمْسِي وَيُصْبِحُ انْتَهَى فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَا يَخْفَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ فَافْهَمْ.
(وَأَمَّا الثَّالِثُ) وَهُوَ خَوْفُ إصَابَةِ مَكْرُوهٍ مِنْ مَخْلُوقٍ (فَعِلَاجُهُ تَرْكُ السَّبَبِ) وَهُوَ مَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِصَابَتِهِ مِنْ جِهَتِهِمْ (إنْ أَمْكَنَ بِلَا ضَرَرٍ دِينِيٍّ) بِأَنْ يَلْزَمَ مِنْ تَرْكِهِ تَرْكُ وَاجِبٍ أَوْ ارْتِكَابُ حَرَامٍ (وَإِلَّا) أَيْ وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِلَا ضَرَرٍ دِينِيٍّ (فَالتَّوْطِينُ) فَاللَّازِمُ هُوَ التَّوْطِينُ أَيْ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الْمَخْلُوقِ وَالْفِرَارُ مِنْ ضَرَرِ الدِّينِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْهَلَاكِ الْأَبَدِيِّ فِي النَّارِ بِخِلَافِ ضَرَرِ الدُّنْيَا فَإِنَّهُ ضَرَرٌ يَسِيرٌ سَيَزُولُ لَا مَحَالَةَ (إذْ الْمُقَدَّرُ) مِنْ الْفَقْرِ وَالْغِنَى (كَائِنٌ) أَلْبَتَّةَ (وَالْأَجَلُ وَاحِدٌ) فِي الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ (وَنِعَمُ الدُّنْيَا ظِلٌّ زَائِلٌ وَنَوْمٌ نَائِمٌ) بَلْ وِزْرٌ وَوَبَالٌ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الدُّنْيَا دَارُ مَمَرٍّ لَا دَارُ مَقَرٍّ كَمَا قَالَ الدُّنْيَا قَنْطَرَةٌ فَاعْبُرُوهَا وَلَا تَعْمُرُوهَا. كُنْيَةُ الدُّنْيَا أَبُو الْفَنَاءُ وَكُنْيَةُ الْآدَمِيِّ أَبُو الْجَفَاءُ وَلَا تَطْلُبْ مِنْ الْفَنَاءِ بَقَاءً وَلَا تَطْلُبْ مِنْ الْجَفَاءِ وَفَاءً فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَعُبُورٍ لَا دَارُ بَقَاءٍ وَسُرُورٍ أَوَّلُهَا خِزْيٌ وَفُتُورٌ وَآخِرُهَا مَوْتٌ وَقُبُورٌ وَدَارُ مِحْنَةٍ وَمَشَقَّةٍ وَفِرَاقٍ لَا دَارُ مَسَرَّةٍ وَمَحَبَّةٍ وَتَلَاقٍ أَيْنَ قَيَاصِرَةُ الْقُصُورِ وَأَيْنَ هَرَامِسَةُ الدُّهُورِ وَأَيْنَ شَدَّادٌ وَعَادٌ وَأَيْنَ إرَمُ ذَاتُ الْعِمَادِ أَيْنَ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ وَأَيْنَ الْأَحْبَابُ وَالْأَحْفَادُ أَيْنَ الشُّيُوخُ وَالْعُلَمَاءُ وَأَيْنَ الْأَسْلَافُ الْعُظَمَاءُ كُلُّهُمْ مَضَوْا وَتَرَكُونَا يَتَامَى غَابُوا عَنَّا وَتَرَكُونَا كَالْأَيَامَى فَيَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَاتَ مِنْ فُرْصَتِنَا يَا مَوْلَانَا وَيَا غَايَةَ رَغْبَتِنَا ارْحَمْ غُرْبَتَنَا وَاكْشِفْ كُرْبَتَنَا وَلَا تَكِلْنَا إلَى أَنْفُسِنَا وَمِنْ كُلِّ بُؤْسٍ وَخِزْيٍ احْفَظْنَا (فَلَيْسَ مِنْ عُلُوِّ الْهِمَّةِ وَالْمُرُوءَةِ) وَعُلُوُّ الْهِمَّةِ مِنْ الْإِيمَانِ