الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[تاسع وخمسون: مسحه ضرع شاة أم معبد فدرّت باللبن]
وأما مسحه صلى الله عليه وسلم ضرع شاة أم معبد فدرت باللبن، بعد ما كانت في جهد لا تبض بقطرة، فخرجه الأئمة الحفاظ: خرجه الحرث بن أبي أسامة، وأبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي، من حديث أبي أحمد بشر بن محمد السكري المزوي قال:
حدثنا عبد الملك بن وهب المذحجي، حدثنا الحرّ بن الصباح، عن أبي معبد الخزاعي [ (1) ] ، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج ليلة هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر رضي الله عنه وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، ودليلهم عبد اللَّه بن أريقط الليثي، فمروا بخيمتي أم معبد الخزاعية [ (1) ]- وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة، تحتبي [ (2) ] وتجلس بفناء الخيمة، فتطعم وتسقى- فسألوها: هل معها لحم أو لبن يشتروا منها؟
فلم يجدوا عندها شيئا من ذلك، فقالت: لو كان عندنا شيئا ما أعوزكم القرى، وإذا القوم مرملون مسنتون.
فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فإذا شاة في كسر الخيمة، فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ فقالت شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: فهل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذاك، قال: تأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: إن كان بها حلب فاحلبها، قال: فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسحها، وذكر اسم اللَّه ومسح ضرعها، وذكر اسم اللَّه ودعا بإناء لها يربض الرهط فتفاجت [ (3) ] ودرّت واجترت، فحلب فيه
[ (1) ] أم معبد الخزاعية، هي عاتكة، بنت خالد بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، وقيل: عاتكة بنت خالد ابن خليف، بن منقذ بن ربيعة، وهي أخت حبيش بن خالد الأشعر الخزاعي القديدي، وله صحبة ورواية، وهو راوي حديثها. وزوجها أبو معبد الخزاعي مختلف في اسمه، وتوفى في حياة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان يسكن قديدا، وهي موضع قرب مكة، وفي (معجم ما استعجم) : 3/ 1054، أن هذه القرية سميت قديدا لتقدد السيول بها، وهي لخزاعة.
[ (2) ] تحتبي: تجلس على أليتها، وتضم فخذيها إلى بطنها بذراعيها لتستند.
[ (3) ] تفاجّت: فرّجت ما بين رجليها للحلب.
ثجا حتى علاه البهاء، فسقاها وسقى أصحابه فشربوا جميعا حتى أراضوا، وشرب صلى الله عليه وسلم آخرهم وقال: ساقي القوم آخرهم، ثم حلب فيه ثانيا عودا على بدء فغادره عندها ثم ارتحلوا،
قال: فقل ما لبث أن جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزا حيلا عجافا يتساوكن هزلا [ (1) ]، فلما رأى اللبن عجب وقال: من أين هذا اللبن يا أم معبد ولا حلوبة في البيت والشاة عازب؟ فقالت: لا واللَّه، إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت وكيت.
قال: صفيه لي يا أم معبد، فو اللَّه إني أراه صاحب قريش الّذي يطلب، فقالت: رأيت رجلا ظاهر الوضاءة حسن الخلق، مبلج الوجه، لم تعبه ثجلة، ولم تزر به صعلة، قسيم وسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره عطف، وفي صوته صهل، أحور أكحل، أزجّ أقرن، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار، وإذا تكلم سماه وعلاه البهاء، حلو المنطق، فصل لا نزر ولا هزر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدّرن، أبهى الناس وأجمله من بعيد، وأحلاه وأحسنه من قريب، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أجمل الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال استمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا لأمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفنّد.
قال: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي تطلب، ولو صادفني لالتمست أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
قال: وأصبح صوت بمكة عاليا بين السماء والأرض، يسمعونه ولا يدرون من يقوله وهو ينشد ويقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه
…
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبرّ وارتحلا به
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما روى اللَّه عنكم
…
به من فعال لا تجاري وسؤدد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
…
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
[ (1) ] ضعافا.
فغادرها رهنا لديها لحالب
…
يردّدها في مصدر ثم مورد
قال: فأصبح الناس وقد فقدوا نبيهم، فأخذوا على خيمتي أم معبد حتى لحقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قال: وأجابه حسان بن ثابت يقول:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
…
وقدس من يسرى إليهم ويغتدى
ترحّل عن قوم فزالت عقولهم
…
وحل على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
…
وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسكعوا
…
عمى، وهداة يقتدون بمهتدى
لقد نزلت منه على أهل يثرب
…
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
…
ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
…
فتصديقها في صحوة اليوم أو غد
ليهن أبا بكر سعادة جده
…
بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمسلمين بمرصد [ (1) ]
[ (1) ](دلائل أبي نعيم) : 1/ 337- 340، حديث رقم (238)، وقال في آخره: قال أبو أحمد بن بشر بن محمد، حدثنا عبد الملك بن وهب: بلغني أن أم معبد هاجرت وأسلمت، ولحقت برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. ورواه أبو أمية محمد بن إبراهيم بن بشر بن محمد مثله.
حدثنا سليمان بن أحمد، إملاء وقراءة، قال حدثنا على بن عبد العزيز قال: قال أبو عبيد القاسم بن سلام:
البرزة من النساء: الجلدة، التي تظهر للناس، ويجلس إليها القوم.
مرملين مسنتين: المرمل الّذي قد نفد زاده، والمسنت الّذي أصابته السّنة، وهي الأزمة والمجاعة.
قال أبو عبيد: إذا قال: يال فلان: فذلك في الاستغاثة بالفتح، ويال المسلمين. وإذا أراد التعجب والنداء قال: بال فلان بالكسرة.
كسر الخيمة: وهو مؤخرها، وفيه لغتان: كسر، وكسر.
وقال بعضهم: الكسر هو في مقدم الخيمة.
فتفاجّت عليه: يعني فرجت رجليها كما تفعل التي تحلب.
بإناء يربض الرهط: أي ينهنههم مما يجتريهم لكثرته إذا شربوه.
فحلب فيها ثجا: يعني سيلا، وكذلك كل سيل، ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن الحجّ فقال: العجّ والثّجّ،
وخرج قاسم بن أصبغ من حديث أبي هاشم محمد بن سليمان بن الحكم، عن جده أيوب بن الحكم عن حرام بن هشام عن أبيه هشام، عند جده حبيش ابن خالد صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فذكره بمعناه.
[ () ] فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية، والثّجّ: سيل دماء الهدي، وقال تعالى: ماءً ثَجَّاجاً [النبأ: 14] .
أراضوا: أصل هذا في صبّ اللبن على اللبن، ومعنى قولها: أراضوا: هو شرب لبن صبّ على لبن.
فغادره عندها: تركه عندها.
تساوكن هزلا: التساوك: المشي الضعيف.
الشاة عازب: يعني قد عزبن عن البيت فخرجن إلى المرعى.
الحيّل: التي ليست بحوامل.
وقولها في صفة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
ظاهر الوضاءة: يعني الجمال، والوضيء: الجميل.
المتبلّج الوجه: الّذي فيه إضاءة ونور. رجل مبلّج وأبلج، قال الأعشى:
حكّمتوه فقضى بينكم
…
أبلج مثل القمر الباهر
لم تعبه ثجلة: ومعناه عظم البطن، تقول: فليس هو كذلك.
لم تزر به صعلة: تريد صغر الرأس، يقال: رجل صعل.
وسيم قسيم: كلاهما هو الجمال.
في عينيه دعج: وهو سواد الحدقة، يقال: رجل أدعج، امرأة دعجاء.
في أشفاره عطف: كان بعض الناس يظنها معطوفة، وأنا أظنها وطفا، وكذلك كل مستطيل مسترسل، وأيضا السحابة الدانية من الأرض وطف.
في صوته صهل: إنه صحل، وهو شبيه بالبحح، وليس بالشديد منه، ولكنه حسن، وبذلك توصف الظباء.
في عنقه سطع: هو الطول، يقال منه رجل أسطع، وامرأة سطعاء، وهذا مما يمدح به الناس.
الأزجّ: هو المقوس الحاجبين، والأقرن: هو الّذي التقى حاجباه بين عينيه.
منطقه لا نزر ولا هزر: فالنزر: القليل: والهزر: الكثير، تقول: قصد بين ذلك.
لا تقتحمه عين من قصر: تقول: لا تزدريه فتنبذه ولكن تقبله وتهابه.
محفود محشود: فالمحفود: المخدوم، قال اللَّه عز وجل: بَنِينَ وَحَفَدَةً، ومحشود: هو الّذي قد حشده أصحابه وحفّوا حوله، (المرجع السابق)، (دلائل البيهقي) : 2/ 491- 496، باب اجتياز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمرأة وابنها، وما ظهر في ذلك من آثار النبوة، 6/ 84- 86، باب ما جاء في ظهور بركته في الشاة التي لم يكن فيها لبن حتى نزل لها لبن، وقد مضى ذلك في ذكر نزوله بمخيمتي أم معبد، ونزوله قبل ذلك بالأغنام التي كان يرعاها ابن أم معبد، (المستدرك) : 3/ 10- 12، كتاب الهجرة، حديث رقم (4274/ 18)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ويستدل على صحته وصدق رواته بدلائل: منها: نزول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة ذوات عدد. ومنها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يهتمون بوضع الحديث، والزيادة والنقصان، وقد
وقال يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال: خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، لم يعلم أهل مكة أين وجّه، حتى سمعوا مغردا بين أخشبي [ (1) ] مكة يقول:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه
…
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهنئ بني كعب مكان فنائهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد [ (2) ]
قال ابن إسحاق: فعرف أهل مكة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم توجه قبل المدينة.
وقال الواقدي: حدثني حزام بن هشام عن أبيه عن أم معبد- واسمها عاتكة بنت خالد بن حبيب- قالت: لما طلعوا الأربعة على راحلتين، نزلوا بنا، فجئت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بشاة أريد أن أذبحها، فإذا هي ذات در، فأدنيتها منه فلمس ضرعها فقال: لا نذبحها،
فأرسلتها وجئت بأخرى فذبحتها فطبخت لهم، فأكل هو وأصحابه، قلت: ومن معه؟ قالت: ابن أبي قحافة ومولى ابن أبي قحافة وابن أريقط- وهو على شركه بعد- قالت: فتغدى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، منها وأصحابه، وسفرتهم منها، ما وسعته سفرتهم، وأبقى عندنا لحمها أو أكثره.
فبقيت الشاة التي لمس ضرعها عندنا حتى كان زمان الرمادة، زمان عمر بن
[ () ] أخذوه لفظا بعد لفظ، عن أبي معبد وأم معبد، ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، والأب عن جده، لا إرسال ولا وهن في الرواة. ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي، أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه، فأما الإسناد الّذي رويناه بسياقة الحديث عن الكعبيين، فإنه إسناد صحيح عال للعرب الأعاربة، وقد علونا في حديث الحرّ بن الصباح، (عيون الأثر) : 1/ 190، (سيرة ابن هشام) : 3/ 14، (دلائل أبي نعيم) : 2/ 337- 343، حديث رقم (238) .
[ (1) ] الأخشبان: جبلان بمكة.
[ (2) ] هذه الأبيات في (عيون الأثر) : 1/ 188- 189، هكذا:
جزى اللَّه خيرا والجزاء بكفه
…
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما رحلا بالحق وانتزلا به
…
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أبر وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله
…
وأعطى برأس السابح المتجرد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
وفي بعض المراجع: «السانح» بدلا من «السابح» .
الخطاب رضي الله عنه، وهي سنة ثماني عشرة من الهجرة، كنا نحلبها صبوحا وغبوقا، وما في الأرض قليل ولا كثير. قال حزام: وكانت أم معبد يومئذ مسلمة.
قال المؤلف- رحمه الله: هكذا أورد أبو نعيم هذا الخبر من حديث أم معبد- رضي الله عنها عن الواقدي، وفيه ما يخالف ما تقدم، على أن فيه علما من أعلام النبوة.
وخرج أبو نعيم من حديث إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق قال: حدّثت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه أنها قالت: لما خرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكر رضي الله عنه فخرجت إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنت أبي بكر؟ قلت: لا أدري واللَّه أين أبي، قالت: فرفع أبو جهل يده- وكان فاحشا خبيثا- فلطم خدي لطمة خرم قرطي.
قالت: ثم انصرفوا، فمضى ثلاث ليال ما ندري أين توجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة، يغني بأبيات شعر غنى بها العرب، وأن الناس ليتبعونه يسمعون صوته وما يرونه، حتى خرج بأعلى مكة:
جزى اللَّه رب الناس خير جزائه
…
رفيقين قالا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتديا به
…
فأفلح من أمسى رفيق محمد
ليهن بني كعب مكان فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
فما حملت من ناقة فوق رحلها
…
أبرّ وأوفى ذمة من محمد
وأكسي لبرد الحال قبل ابتذاله
…
وأغطى برأس السانح المتجرد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا حيث توجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر ابن فهيرة، وعبد اللَّه بن أريقط دليلهما [ (1) ] .
وخرج البيهقي من حديث يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني قال: سمعت عبد الرحمن بن
[ (1) ](عيون الأثر) : 1/ 189، حيث رواه بعد حديث أم معبد ثم قال في آخره: وبه قال أبو بكر الشافعيّ: حدثنا محمد بن يحيى بن سليمان، حدثنا أحمد بن محمد بن أيوب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، قال: حدّثت عن أسماء
…
، وساق الحديث، وزاد بيتين.
أبي ليلى يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال: خرجت مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة فأتينا إلى حيّ من أحياء العرب، فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى بيت منتحيا فقصد إليه، فلما نزلنا لم يكن فيه إلا امرأة فقالت: يا عبدي اللَّه، إنما أنا امرأة وليس عندي أحد، فعليكما بعظيم الحي إن أردتم القرى، قال: فلم يجبها- وذلك عند المساء- فجاء ابن لها بأعنز له يسوقها فقالت له: انطلق يا بني بهذه العنز والشاة إلى هذين الرجلين فقل لهما: تقول لكما أمي: اذبحا هذه وكلا وأطعمانا.
فلما جاء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق بالشفرة وجئني بالقدح، قال: إنها عزبت وليس لها لبن، قال: انطلق، فانطلق فجاء بقدح، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم ضرعها ثم حلب حتى ملأ القدح ثم قال: انطلق به إلى أمك، فشربت حتى رويت، ثم جاء به فقال: انطلق بهذه وجئني بأخرى، ففعل بها كذلك، ثم جاء بأخرى فسقا أبا بكر، ثم جاء بأخرى ففعل بها كذلك، ثم شرب النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
فبتنا ليلتنا ثم انطلقنا، فكانت تسمية المبارك.
وكثرت غنمها حتى جلبت جلبا إلى المدينة، فمر أبو بكر الصديق رضي الله عنه فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أماه، إن هذا الرجل الّذي كان مع المبارك، فقامت إليه فقالت: يا عبد اللَّه، من الرجل الّذي كان معك؟ قال: وما تدرين من هو؟
قالت: لا، قال: هو النبي صلى الله عليه وسلم، قالت فأدخلني عليه، قال: فأدخلها عليه فأطعمها وأعطاها [ (1) ] .
وفي رواية: قالت: دلني عليه، فانطلقت معي وأهدت له شيئا من أقط ومتاع الأعراب، قال: فكساها وأعطاها، قال: ولا أعلم إلا قال: أسلمت [ (2) ] .
قال البيهقي- رحمة اللَّه عليه-: هذه القصة وإن كانت تنقص عما روينا في قصة أم معبد وتزيد في بعضها فهي قريب منها، وتشبه أن تكونا واحدة، وقد ذكر
[ (1) ](دلائل البيهقي) : 2/ 491- 492 باب اجتياز رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالمرأة وابنها- وما ظهر في ذلك من آثار النبوة.
[ (2) ] هي رواية ابن عبدان كما صرح بذلك البيهقي في المرجع السابق.
محمد بن إسحاق بن يسار من قصة أم معبد شيئا يدل على أنها وهذه القصة قصة واحدة سواء بها [ (1) ] .
وذكر من حديث يونس بن بكير عن ابن إسحاق قال: لما نزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بخيمتي أم معبد- وهي التي غرد بها الجن بأعلى مكة- واسمها عاتكة بنت حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم، فأرادوا القرى،
قالت: واللَّه ما عندنا طعام ولا منحة ولا لنا شاة إلا حائل، فدعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم [ببعض غنمها، فمسح ضرعها بيده، ودعا اللَّه، وحلب في العس حتى رغى وقال: اشربي يا أم معبد، فقالت: اشرب فأنت أحق به، فردّه عليها فشربت. ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فشرب، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى دليله، ثم دعا بحائل أخرى، ففعل بها مثل ذلك فسقى عامرا، ثم يروح.
وطلبت قريش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوها عنه، فقالوا:
رأيت محمدا وحليته كذا؟ فوصفوه لها فقالت: ما أدري ما تقولون، قد ضافني حالب الحائل، قالت قريش: فذاك الّذي نريد] .
[قال البيهقي: فيحتمل أن يكون أولا، أي التي في كسر الخيمة، كما روينا في حديث أم معبد، ثم رجع ابنها بأعنز، كما روينا في حديث ابن أبي ليلى، ثم لما أتى زوجها وصفته له، واللَّه تعالى أعلم][ (2) ] .
وخرج الحاكم قصة أم معبد من طريق [أبي سعيد، أحمد بن محمد بن عمرو الأخمسيّ بالكوفة، حدثنا الحسين بن حميد بن الربيع الخزار، حدثنا سليمان بن الحكم
[ (1) ](المرجع السابق)، وقد رجح هذا أيضا الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية) : 3/ 238.
[ (2) ](دلائل البيهقي) : 2/ 493- 494، وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) وقد أثبتناه منه.
وقد سجّل شاعر العروبة والإسلام [أحمد محرم] في (ديوان مجد الإسلام) هذا الحدث الجليل من خيمة أم معبد فقال:
ما حديث لأمّ معبد تستقيه
…
ظمأى النفوس عذبا نميرا
سائل الشاة كيف درّت وكانت
…
كزّة الضرع لا ترجّى الدرورا
بركات السّمح المؤمّل يقرى
…
أمم الأرض زائرا أو مزورا
مظهر الحق للنّبوّة سبحانك
…
ربّا فرد الجلال قديرا
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
ابن أيوب بن سليمان بن ثابت بن بشار الخزاعي، حدثنا أخي أيوب بن الحكم، وسالم بن محمد الخزاعي، جميعا، عن حزام بن هشام، عن أبيه حزام بن حبيش ابن خويلد صاحب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج من مكة مهاجرا إلى المدينة، وأبو بكر رضي اللَّه تعالى عنه، ومولى أبي بكر: عامر بن فهيرة، ودليلهما: الليثي عبد اللَّه بن أريقط، مروا على خيمتي أم معبد الخزاعية- وكانت امرأة برزة جلدة، تحتبي بفناء الخيمة، ثم تسقي وتطعم- فسألوها لحما وتمرا ليشتروا منها، فلم يصيبوا عندها شيئا من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين.
فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى الشاة في كسر الخيمة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟ قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم، قال: هل بها من لبن؟ قالت: هي أجهد من ذلك، قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها حلبا فاحلبها، فدعا بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فمسح بيده ضرعها وسمى اللَّه تعالى، ودعا لها في شاتها، فتفاجت عليه ودرّت فاجترّت.
فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجا، حتى علاه البهاء، ثم سقاها حتى رويت، وسقى أصحابه حتى رووا، وشرب آخرهم حتى أراضوا، ثم حلب فيه الثانية على هدة حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها، ثم بايعها، وارتحلوا عنها.
فقلّ ما لبث حتى جاء زوجها أبو معبد ليسوق أعنزا عجافا يتساوكن هزالا، مخّهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن أعجبه، قال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاء عازب حائل، ولا حلوب في البيت؟ قالت: لا واللَّه إلا أنه مرّ بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا، قال: صفيه لي يا أم معبد، قالت: - رأيت رجلا ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم تعبه ثجلة، ولم تزريه صعلة، وسيم قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، وفي صوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزجّ أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاه من بعيد، وأحسنه وأجمله من قريب، حلو المنطق،] [ (1) ]
[ (1) ] ما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.
فصلا لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن، ربعة، لا تشنأه من طول، ولا تقتحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا، له رفقاء يحفون به، إن قال سمعوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لا عابس ولا مفند.
قال أبو معبد: هذا واللَّه صاحب قريش الّذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلا.
وأصبح صوت بمكة عاليا يسمعون الصوت ولا يدرون من صاحبه وهو يقول:
جزى اللَّه ربّ الناس خير جزائه
…
رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالهدى واهتدت به
…
فقد فاز من أمسى رفيق محمد
فيال قصي ما زوى اللَّه عنكم
…
به من فعال لا تجازي وسؤدد
ليهن أبا بكر سعادة جده
…
بصحبته من يسعد اللَّه يسعد
وليهن بني كعب مقام فتاتهم
…
ومقعدها للمؤمنين بمرصد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها
…
فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت
…
عليه صريحا ضرة الشاة مزبد
فغادره رهنا لديها لحالب
…
يرددها في مصدر بعد مورد]
[فلما سمع حسان الهاتف بذلك شبب يجاوب الهاتف فقال رضي اللَّه تعالى عنه:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم
…
وقدّس من يسري إليهم ويغتدى
ترحل عن قوم فضلت عقولهم
…
وحلّ على قوم بنور مجدّد
هداهم به بعد الضلالة ربهم
…
فأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وهل يستوي ضلال قوم تسفهوا
…
عمى، وهداة يهتدون بمهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب
…
ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله
…
ويتلو كتاب اللَّه في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب
…
فتصديقها في اليوم أو في ضحى الغد [ (1) ]
قال ابن هشام: وأم معبد هي: أم معبد بنت كعب، امرأة من بني كعب، من خزاعة] [ (2) ] .
[ (1) ](المستدرك) : 3/ 10- 11، حديث رقم 4274/ 18، وقال في آخره: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الذهبي في (التخليص) : صحيح، ونزول المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيمتين متواترا في أخبار صحيحة، ولذلك دلائل منها: أن الذين ساقوا الحديث على وجهه أهل الخيمتين من الأعاريب الذين لا يتهمون، وقد أخذوه عن أبي معبد وأم معبد. ومنها: أن له أسانيد كالأخذ باليد أخذ الولد عن أبيه، لا إرسال ولا وهن في الرواة، ومنها: أن الحرّ بن الصباح النخعي أخذه عن أبي معبد، كما أخذه ولده عنه. وقد سبق شرح غريب هذا الحديث.
[ (2) ](سيرة ابن هشام) : 3/ 14، وأم معبد اسمها: عاتكة بنت خالد، إحدى بنى كعب من خزاعة، وهي أخت حبيش بن خالد، وله صحبة ورواية، ويقال له الأشقر، وأخوها حبيش بن خالد وخالد الأشعر أبو هما، هو ابن حنيف بن منقذ بن ربيعة بن أصرم بن ضبيس بن حرام بن حبشية بن كعب ابن عمرو، وهو أخو خزاعة. (هامش المرجع السابق) .
وما بين الحاصرتين مطموس في (خ) ، واستدركناه من كتب السيرة.