المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌محمدصلى الله عليه وآله وسلم - آثار ابن باديس - جـ ٤

[ابن باديس، عبد الحميد]

فهرس الكتاب

- ‌قسم التاريخ

- ‌تبليغ الرسالة

- ‌مقدمة:

- ‌المقصد:

- ‌فصل علمي:

- ‌الدرجة الأولى الأمر بالتبليغ المطلق:

- ‌الدرجة الثانية الأمر بتبليغ العشيرة:

- ‌الدرجة الثالثة الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة:

- ‌الدرجة الرابعة الأمر بالتبليغ العام لمن في عصره ولمن بعدهم:

- ‌فصل عملي:

- ‌الخاتمة:

- ‌محمدصلى الله عليه وآله وسلم

- ‌شكوى الجزائر وبلواها

- ‌محمد عثمان باشاداي الجزائر

- ‌كلمة عن الجامع الأخضر

- ‌فاجعة قسنطينة

- ‌إبتداء الاعتداء:

- ‌ليلة السبت

- ‌استنتاجات من حوادث هذه الليلة:

- ‌صبيحة السبت4 أوت:

- ‌مساء السبت:

- ‌استنتاجات من حوادث يوم السبت وليلة الأحد:

- ‌يوم الأحد 5 أوت:

- ‌كيف ابتدأت الفتنة وكيف انتهت:

- ‌استنتاج وتعليل:

- ‌المصائب على الجانبين:

- ‌ليلة الإثنين ويومها:

- ‌في ليلة الإثنين جدد اليهود اعتداءهم على بيوت الله:

- ‌استنتاجات وملاحظات:

- ‌صبيحة الثلاثاء:

- ‌وفاء الوفد بوعده:

- ‌يوم السبت 11 أوت:

- ‌تنظير بين المسلمين واليهود:

- ‌النواب:

- ‌مفتي المسلمين وحبر اليهود:

- ‌الشرطة:

- ‌الأمة:

- ‌القتلى:

- ‌الخاتمة:

- ‌قسم العرب في القرآن

- ‌العرب في القرآن-2

- ‌قسم التراجم

- ‌رجال الإسلام ونساؤه

- ‌عبادة بن الصامت

- ‌أم حرام بنت ملحان

- ‌سعد بن الربيع

- ‌صدق ما عاهد الله عليه:

- ‌الحجاج بن عِلَاط

- ‌نسبه:

- ‌إسلامه ووفاته:

- ‌مسكنه وإقامته:

- ‌حاله في الجاهلية:

- ‌حاله في الإسلام:

- ‌الأسوة:

- ‌كيف كان إسلامه:

- ‌عمله:

- ‌زهده وورعه:

- ‌صدقه وصدعه بالحق:

- ‌تربيته:

- ‌مذهبه في المال:

- ‌جواب الأئمة عن استدلاله:

- ‌إعلانه رأيه وإثارته الفقراء:

- ‌حرية النظر:

- ‌النتيجة:

- ‌استقدام عثمان رضي الله عنه له من الشام:

- ‌فقه عثمان:

- ‌خروجه إلى الربذة:

- ‌تحذير:

- ‌وفاته:

- ‌سيدنا بلال الحبشي

- ‌نسبه:

- ‌إسلامه:

- ‌تعذيبه في الله وصبره:

- ‌ترجيح واقتداء:

- ‌عتقه:

- ‌جهاده:

- ‌وظيفته:

- ‌جزاء الحكيم:

- ‌ثناء عمر رضي الله عنه

- ‌تبشيره بالجنة:

- ‌سنه ووفاته:

- ‌عكاشة بن محصن

- ‌إسمه ونسبه:

- ‌سبقته ومشاهده:

- ‌أخبار تتعلق به:

- ‌‌‌بيان:

- ‌بيان:

- ‌إقادة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم له من نفسه:

- ‌تنبيه وتحذير:

- ‌القدوة:

- ‌الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ

- ‌إسمها ونسبها:

- ‌سابقتها ومشاهدها:

- ‌قدرها ومنزلتها:

- ‌حكاية طريفة عنها:

- ‌الفوائد والأحكام

- ‌النساء في الحرب:

- ‌إقرار الحق وإنكار الباطل:

- ‌حزازات النفوس:

- ‌القدرة:

- ‌سمية بنت خياط

- ‌بيتها:

- ‌إسلامها وسابقتها:

- ‌تعذيبها واستشهادها:

- ‌أوليات النساء في الإسلام:

- ‌الأسوة:

- ‌هند بنت عتبة

- ‌كيف أسلمت:

- ‌صدق إسلامها:

- ‌أخلاقها:

- ‌عبرة وقدوة:

- ‌نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو النِّجَارِي الأَنْصَارِي

- ‌سابقته ومشاهده:

- ‌ظرفه ونوادره:

- ‌الإسلام دين السماحة والسجاحة:

- ‌نقص رجح به الكمال:

- ‌الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية

- ‌سابقتها:

- ‌منزلتها الشخصية:

- ‌منزلتها في المجتمع:

- ‌الإقتداء:

- ‌تحذير:

- ‌النّعمان بنُ عديّ العدويّ

- ‌نسبه:

- ‌سابقته:

- ‌ولايته وعزله:

- ‌خاصتان له:

- ‌أدب وقدوة:

- ‌التعريف بكتاب العواصم من القواصم

- ‌ترجمة الإمام ابن العربى

- ‌نسبه وأوليته:

- ‌نشأته:

- ‌ رحلته

- ‌أشياخه:

- ‌تلامذته:

- ‌منزلته في العلم والفضل:

- ‌ولايته للقضاء:

- ‌محنته:

- ‌تصانيفه:

- ‌مولده ووفاته:

- ‌عبد العزيز الثعالبي

- ‌أبناء المغرب العربي

- ‌شيخي:

- ‌السيد محمد الخضر حسين:

- ‌جانب عامر من جوانب القيادة:

- ‌صديقنا:

- ‌الأستاذ الهلالي:

- ‌قصة الشهر:

- ‌الشيخ طاهر الجزائري:

- ‌أصله ونشأته:

- ‌علمه وعمله:

- ‌أخلاقه وعاداته:

- ‌غريب عاداته:

- ‌تآليفه ورسائله:

- ‌رسائله الخاصة:

- ‌رزء الإسلام

- ‌السيد محمد رشيد رضاــ-1

- ‌مولده:

- ‌بيته:

- ‌نشأته:

- ‌تعلمه وشيوخه:

- ‌الكتب التي خرجته:

- ‌تنسكه:

- ‌تخلص نسكه من الباطل والضلال:

- ‌تعليمه وإرشاده:

- ‌أمره بالمعروف وتغييره للمنكر:

- ‌ما وقع بينه وبين شيخه الجسر بسبب هذا الإنكار:

- ‌ السيد محمد رشيد رضاــ-2

- ‌البيئة المنزلية:

- ‌أثر المعلم:

- ‌التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي:

- ‌تعيين الغاية والاستعداد لها:

- ‌التفكير والاستقلال فيه:

- ‌بعده من الوظيف:

- ‌سبب الهجرة إلى مصر:

- ‌سبب تعلقه بالأستاذ الإمام وأول تعرفه به:

- ‌آثار اتصاله بالأستاذ الإمام:

- ‌وفاء السيد للأستاذ الإمام في حياته وبعد وفاته:

- ‌مواقفه بعد الأستاذ الإمام:

- ‌غايته السياسية:

- ‌أثر السيد رشيد في العالم الإسلامي:

- ‌العلامة الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي

- ‌منزلته العلمية:

- ‌منزلته في القضاء والفتوى:

- ‌موقفه من الإصلاح الديني:

- ‌إنصافه للأستاذ الإمام وشهادته له:

- ‌علاقتي به:

- ‌مصطفى كمال

- ‌قسم القصص الديني والتاريخي

- ‌محاورة الرشيدمع محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة

- ‌الخنساء وبنوها

- ‌كيف كان بناء الكعبة المشرفة

- ‌ملك العرب

- ‌مناظرة بين سلفي ومعتزليفي مجلس الواثق

- ‌هذه نعلي ونعل آبائيمحافظة الرشيد على زي قومه

- ‌العامة المتعلمة

- ‌النجاة من العطب بقليل من الأدب

- ‌أباة الضيميزيد بن المهلب

- ‌أعظم قائد

- ‌ضلال شيخين واهتداء غلام

- ‌الراعي

- ‌خلوا بيني وبين ناقتي

- ‌كن خير آخد

- ‌لا أثر للعبودية مع الأحرار

- ‌من خان قوما فليس منهم

- ‌العبرة:

- ‌من ذكريات بدر

- ‌بيان وإيضاح:

- ‌بئس حامل القرآن أنا إذاً

- ‌العبرة:

- ‌هكذا تكون النزاهة

- ‌الأسوة الحسنة:

- ‌رقية الله

- ‌العبرة:

- ‌الأسوة:

- ‌نعوذ بالله من السلب بعد العطاء

- ‌وأنا أغتنمها

- ‌العبرة:

- ‌القدوة:

- ‌مصرع ظالم

- ‌إباء وعدالة:

- ‌عبرة في مقتله:

- ‌السر كل السر في الأرواح

- ‌قسم الرحلات

- ‌للتعارف والتذكير

- ‌الحروش:

- ‌عزابة:

- ‌سكيكدة:

- ‌سانطارنو

- ‌مجاز الدشيش- وسيدي مزريش:

- ‌عين مليلة:

- ‌أم لباقي:

- ‌عين البيضاء:

- ‌مسكيانة:

- ‌جولة صحافية

- ‌ مليانة

- ‌بعض التفصيل:

- ‌خميس مليانة:

- ‌الأصنام:

- ‌غليزان:

- ‌مستغانم:

- ‌زاوية الشيخ ابن طكوك:

- ‌في بعض جهات الوطن-2

- ‌قرية آرزيو:

- ‌وهران:

- ‌رحلتنا إلى العمالة الوهرانية

- ‌تمهيد:

- ‌تاريخ بداية الرحلة ونهايتها:

- ‌البلدان التي زرتها:

- ‌ماذا كنت أقوم به في كل بلدة:

- ‌موضوع الدرس ومادته:

- ‌الإشاعات الباطلة:

- ‌الأسئلة والأجوبة:

- ‌طريفتان في الموضوع:

- ‌مظاهر الاتحاد:

- ‌تعلق الأمة بحكومتها:

- ‌كرم الأمة وإقبالها:

- ‌فضل الحكومة ورجالها:

- ‌فضل الصحافة العربية والفرنسية:

- ‌فضل الرفاق علينا:

- ‌خدماتنا بهذه الرحلة:

- ‌دفع توهم:

- ‌في تونس العزيزة

- ‌محاضرة الأستاذ عبد الحميد بن باديس:

- ‌الحالة العلمية:

- ‌الحالة السياسية:

- ‌الشيخ عبد الحميد بن باديس في قالمة

- ‌قسم تطور الشهاب

- ‌خاتمة المجلد الخامس

- ‌فاتحة المجلد السادس

- ‌خاتمة المجلد السادس

- ‌تنبيه

- ‌فاتحة المجلد التاسع

- ‌مجلة الشهاب والحركة الإصلاحية

- ‌بعد عقد من السنين

- ‌في العشيرة الصحافية:

- ‌ما جاء في "البلاغ" الذائع

- ‌نفحة من الجزائر:

- ‌ما جاء في "القلم" البليغ

- ‌ما جاء في "الزهرة" الزاهرة

- ‌الشهاب النيرفي عقده الثاني الحفيل

- ‌ما جاء في " الزهو" العذبة

- ‌مجلة "الشهاب" الغراء

- ‌فاتحة العام الثاني من العقد الثاني

- ‌عمل الماضي:

- ‌التعليم:

- ‌الإصلاح:

- ‌أمل المستقبل:

- ‌فاتحة السنة (13)

- ‌بيان واعتذار

- ‌فاتحة السنة الرابعة عشرة

- ‌الشباب:

- ‌ الوطن

- ‌فرنسا:

- ‌الإدارة:

- ‌الأمة:

- ‌العلماء:

- ‌النواب:

- ‌المصلحون:

- ‌الطرقية:

- ‌فاتحة السنة الخامسة عشرة

- ‌قسم الصلاة على النبي

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-1

- ‌تمهيد

- ‌ القسم العلمي

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-2

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-3

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-4

- ‌وفسر بقرابته:

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-5

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-6

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-7

- ‌القسم العملي:

- ‌التحذير:

- ‌قسم الفقه والفتاوى

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌المباحثة والمناظرة:

- ‌من الإجارة لا من المكس

- ‌الدواء لمنع الحمل والعزل:

- ‌كراء الأسواق-2

- ‌قسم الفتوى-1

- ‌سؤال:

- ‌ الجواب

- ‌قسم الفتوى-2

الفصل: ‌محمدصلى الله عليه وآله وسلم

‌محمد

صلى الله عليه وآله وسلم

-

رجل القومية العربية

ــ

لا يستطيع أن ينفع الناس من أهمل أمر نفسه. فعناية المرء بنفسه- عقلا وروحاً وبدناً- لازمة له ليكون ذا أثر نافع في الناس على منازلهم منه في القرب والبعد، ومثل هذا كل شعب من شعوب البشر لا يستطيع أن ينفع البشرية ما دام مهملا مشتتا لا يهديه علم، ولا يمتنه خلق، ولا يجمعه شعور بنفسه ولا بمقوماته ولا بروابطه. وإنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله، فأخذ الأصول الثابتة من الماضي. وأصلح من شأنه في الحال، ومد يده لبناء المستقبل يتنأول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه معرضا عما لا حاجة له به أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته.

فمحمد- صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول الإنسانية، كانت أول عنايته موجهة إلى قومه وكانت دعوته على ترتيب حكيم بديع لا يمكن أن يتم إصلاح إنسانيا أو شعبيا إلا بمراعاته. فكان "أول دعوته- صلى الله عليه وآله وسلم لعشيرته لقوله تعالى:{وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} فلما نزلت صعد الصفا ثم نادى «يا صباحاه» - وكان دعوة الجاهلية إذا دعاها الرجل اجتمعت إليه عشيرته- فاجتمعت إليه قريش عن بكرة أبيها، فعمَّ وخصَّ فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن العدو مصبحكم أكنتم مصدقي. قالوا ما جربنا

ص: 17

عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. يا بني كعب ابن لؤي يا بني مرة بن لؤي يا آل عبد شمس يا آل عبد مناف يا آل هشام يا آل عبد المطلب ياصفية يا فاطمة، سلوني من مالي ما شئتم، وأعلموا أن أوليائي يوم القيامة المتقون، فإن تكونوا يوم القيامة مع قرابتكم فذلك. وإياي، لا يأتي الناس بالأعمال وتأتون بالدنيا تحملونها على أعناقكم فأصد بوجهي عنكم فتقولون يا محمد فأقول هكذا - وصرف وجهه إلى الشق الآخر- غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبَلَالِهَا .. ثم وجه دعوته إلى بقية العرب لقوله تعالى:{لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} وهم عامة العرب فكان يعرض نفسه على قبائل العرب في مواسم الحج وما يتصل بها من أسواقهم ثم عمم دعوته لقوله تعالى: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} فكاتب ملوك الأمم وقد عمت دعوته العرب وتهيأ أمرهم لعموم دخولهم في الإسلام وكان ذلك أيام هدنته مع قريش قبيل فتح مكة. ثم تجد أكثر السور المكية قد وجه فيها الخطاب إلى قريش وإلى العرب وعولجت فيه مفاسدهم الاجتماعية وضلالاتهم الشركية وما كان منهم من تحريف وتبديل لملة إبراهيم فكان أول الإصلاح متوجها إليهم ومعنيا بهم حتى ينتشلوا من وهدة جهلهم وضلالهم وسوء حالهم وتستنير عقولم وتتطهر نفوسهم وتستقيم أعمالهم فيصلحوا لتبليغ دين الله وهدى رسوله- صلى الله عليه وآله وسلم للأمم بالقول والعمل. ثم لأجل أن يشعروا بأن القرآن هو كتاب هداية لهم كلهم وأن الرسول لهم كلهم، أنزل القرآن على سبعة أحرف، فعم جميع لهجاتهم، وكان النبي- صلى الله عليه وآله وسلم يخاطبهم بتلك اللهجات وينطق بالكلمات منها ليس من لهجة قريش. وكان في هذا ما أشعرهم بوحدتهم بالتفافهم حول مركز واحد ينتهون كلهم إليه ويشتركون فيه. وقد نبه على هذا المعنى قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ

ص: 18

وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} فأخبره أن القرآن شرف له ولقومه- نزل بلغتهم ونهض بهم من كبوتهم وأخرجهم من الظلمات إلى النور وهيأهم لهداية الأمم وإنقاذها من الهلاك وقيادتها لعزها وسعادتها- وأنهم يسئلون عن هذه النعمة. يقول هذا ليعملوا بالقرآن ويعلموا أن شرفه إنما هو للعالمين.

على أن العرب رشحوا لهداية الأمم، وإن الأمم التي تدين بالإسلام وتقبل هدايته ستتكلم بلسان الإسلام وهو لسان العرب فينمو عدد الأمة العربية بنمو عدد من يتكلمون لغتها، ويهتدون مثلها بهدي الإسلام. علم هذا فبيَّن أن من تكلم بلسان العرب فهو عربي وإن لم يتحدر من سلالة العرب، فكان هذا من عنايته بهم لتكثير عددهم لينهضوا بما رشحوا له. بين هذا في حديث رواه ابن عساكر في تاريخ بغداد بسنده عن مالك الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (جاء قيس بن مطاطية إلى حلقة فيها سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي فقال: هذا الأوس والخزرج قد قاموا بنصرة هذا الرجل "يعني النبي صلى الله عليه وسلم" فما بال هذا "يعني الفارسي والرومي والحبشي ما يدعوهم إلى نصره وهم ليسوا عربا مثل قومه" فقام إليه معاذ بن جبل- رضي الله عنه فأخذ بتلبيسه "ما على نحره من الثياب" ثم أتى النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره بمقالته فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا يجر ردائه "لما أعجله من الغضب" حتى أتى المسجد ثم نادى: الصلاة جامعة، ليجتمع الناس"، وقال- صلى الله عليه وآله وسلم:«أيها الناس، الرب واحد والأب واحد، وأن الدين واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي» فقام معاذ فقال: فما تأمرني بهذا المنافق يا رسول الله؟ قال: «دعه إلى النار» فكان قيس ممن ارتد في الردة فقتل.

ص: 19

تكاد لا تخلص أمة من الأمم لعرق واحد وتكاد لا تكون أمة من الأمم لا تتكلم بلسان واحد فليس الذي يكون الأمة ويربط أجزاءها ويوحد شعورها ويوجهها إلى غايتها هو هبوطها من سلالة واحدة، وإنما الذي يفعل ذلك هو تكلمها بلسان واحد: ولو وضعت أخوين شقيقين يتكلم كل واحد منهما بلسان وشاهدت ما بينهما من اختلاف نظر وتباين قصد وتباعد تفكير، ثم وضعت شامياً وجزائرياً- مثلا- ينطقان باللسان العربي ورأيت ما بينهما من اتحاد وتقارب في ذلك كله، لو فعلت هذا لأدركت بالمشاهدة الفرق العظيم بين الدم واللغة في توحيد الأمم.

فانظر بعد هذا إلى ما قرره هذا النبي الكريم، رسول الإنسانية ورجل القومية العربية، في الحديث المتقدم فقضى بكلمته تلك على العصبية العنصرية الضيقة المفرقة، فنبه على تساوي البشر في أنهم كلهم مخلوقون لله فربهم واحد وأنهم كلهم كل من عنصر واحد فأبوهم آدم واحد، وذكر بأخوة دين الإسلام دين الأخوة البشرية والتسامح الإنساني، ثم قرر قاعدة عظمى من قواعد العمران والاجتماع في تكوين الأمم. ووضع للأمة العربية قانونا دينيا اجتماعيا طبيعيا لتتسع دائرتها لجميع الأمم التي رشحت لدعوتها إلى الإسلام بلغة الإسلام. وقد كان ذلك من أعظم ما سهل نشر الهداية الإسلامية وتقارب عناصر البشرية وامتزاجها بعضها ببعض حتى كان ثمرة اتحادها وتعاونها ذلك التمدن الإسلامي العربي الذي أنار العالم شرقا وغربا، وكان السبب في نهضة الغرب والأساس لمدنية اليوم. وبذلك أيضا كانت الأمة العربية اليوم تجاوز السبعين مليونا عدا لا تخلو منهم قارة من قارات المعمور.

كوَّن رسول الإنسانية ورجل القومية العريبة أمته هذا التكوين المحكم العظيم ووجهها لتقوم للإسلام والبشرية بذلك العمل الجليل. فلم يكونها لتستولي على الأمم، ولكن لتنقذهم من سلطة المتسولين

ص: 20

باسم الملك أو باسم الدين. ولم يكونها لتستخدم الأمم في مصالحها، ولكن لتخدم الأمم في مصالحهم. ولم يكونها لتدوس كرامة الأمم وشرفها ولكن لتنهض بهم من دركات الجهل والذل والفساد، إلى درجات العز والصلاح والكرامة. وبالجملة: لم يكونهم لأنفسهم بل كونهم للبشرية جمعاء. فبحق قال فيهم الفيلسوف العظيم غوستاف لوبون: لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من العرب، نعم لأنهم فتحوا فتح هداية لا فتح استعمار، وجاءوا دعاة سعادة لا طغاة استعباد.

هذا هو رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذي كان له الفضل- باذن الله- عليهما ويشهد المنصفون من غير العرب وغير المسلمين له بهذا الفضل ويتغنى العرب غير المسلمين بذكره. وكم دبجت أقلام الكتاب والشعراء من إخواننا نصارى العرب بالشرق من حلل البيان في الثناء عليه والإشادة بفضله.

هذا هو رسول الإنسانية ورجل الأمة العربية الذي نهتدي بهديه، ونخدم القومية العربية خدمته، ونوجهها توجيهه، ونحيا لها ونموت عليها، وإن جهل الجاهلون

وخدع المخدوعون

واضطرب المضطربون

وإلى أعتابه الكريمة نتقدم بهذه الكلمة في مولده الشريف، الذي هو عيد الإسلام والعروبة والإنسانية كلها. عاد الله فيه باللطف والرحمة على الجميع (1).

(1) ش: ج 3، م 12، ص 103 - 107 غرة ربيع الأول 1355ه - جوان 1936م.

ص: 21