الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-3 -
غريب عاداته:
كان سمت الشيخ وهندامه سمت العوام وهندامهم وعمامته من الأغباني في جبة بسيطة وقفطان قطن وزنار مزدوج يخبأ فيه بعض الدراهم وألبسته من صنع الوطن إلا النظارتين والطربوش ويختار من القمصان والسراويل ما خف ثمنه ليطرحه إذا اتسخ ولا يشغل ذهنه بغسله وكثيرا ما يلبس قميصين وسروالين وقفطانين وصدريتين وجبتين ليكون على أتم الاستعداد لما يطرأ على أحد الزوجين فيطرحه حالا ويستعيض عنه بأخيه دون انتظار شيء آخر ويقل استعماله للمناديل المتعارفة المعمولة من القطن فيعمد إلى اتخاذ مناديل من الورق الغليط يضم بعضه إلى بعض ويخيطه فيكون دفترا يلقي به الشيخ بعد أن يتسخ كله. وكان يطهر جسمه ولا ينظف ثيابه كثيرا. أصيب بهذه الخلة خصوصا بعد أن فقد والدته في صباه ولم يبق له من رحمه امرأة تتعهده أبدا بنظافة ثيابه والعناية بظواهره وأنى له هوان يسد مسد أمه في ذلك وفكره مشغول بمطالب عالية أخرى قد لا يتسع لمثل هذه الجزئيات في رأيه.
ورأيت في بعض تعليقاته في ترجمة عبد الله بن الخشاب وكأنه بنقله لها ترجم نفسه فقال بلسان الحال، وهذا رجل مثلي كان إلى الخمول قال:"كان وسخ الثياب ما تأهل ولا تسرى له معرفة بالحديث والمنطق والفلسفة والهندسة بل بكل فن، وكان يترك عمامته أشهرا ولا يغسلها ويلبسها كيف اتفق فإذا قيل له في ذلك يقول ما استوت العمة على رأس عاقل قط" وشيخنا رحمه الله كان من هذا الطراز. والعبقرية على ما يظهر تكمل من صاحبها ناحية واحدة وتنقص منه من الناحية الأخرى بقدرها. أراد الشيخ أحد أصحابه في القاهرة
خلال الحرب العامة على أن يغير جبته لأنها بليت بعض أطرافها فسكت الشيخ عن إجابته، فلما ألح عليه مرتين وثلاثا أجابه "يا فلان تريدني على اقتناء جبة جديدة وأهل الشام اليوم تموتون من الجوع".
وأضافه أحد أصدقائه في بيروت وأخذ ذات يوم ثيابه بدون استئذانه ليغسلها وعوضه عنها ثيابا جديدة فحنق الشيخ وما زال بمضيفه حتى أعاد إليه ثيابه الوسخة وذلك لئلا يشغل فكره في ثيابه ريثما تغسل وتنشف ولئلا يلبس ثيابا غير ثيابه. وغضب مرة على أحد أصحابه ومساكنيه في القاهرة لأنه افترص غيابه فنزع من غرفة الشيخ جميع الكتب والفراش المملوء بالبق وكنس الغرفة ونفض الغبار عن الكتب والأواني وغسلها ووضع سماً لقتل البق في السرير حتى لا يصل إلى الشيخ فيقرصه وأعاد كل شيء إلى مكانه فلما رأى الشيخ ذلك عرف ما دبر له ولم تطب نفسه بهذه التعزيلة وانحى على صاحبه باللوم والتقريع. ورأيته مراراً نتأ مسمار أو مسامير عن حذائه فكان يخصف من ورق الشجر يجعله في الحذاء لينقي ضغط المسمار على رجليه ولا تحدثه نفسه أن يذهب إلى الحذاء يصلح له حذاءه وإذا قلت له في ذلك أجابك أن الوقت لا يساعدني. وكان مداسه متسعاً في الشتاء يجرف من الأرض طيناً كثيراً يعلق بجبته فيصبح وجهها شكلا وقفاها شكلا آخر. ولطالما تبرم بزيارته أيام المطر بعض ربات البيوت مخافة أن يعلق طين جبته في المقعد الذي يقعد عليه. وكان إذا اشتد الحر استثقل الجوربين فنزعهما من رجليه وعوضهما أوراقاً هشة ملونة جعلها خفاً في نعله لتمتص العرق بزعمه. وأنت لا تملك نفسك من الضحك إذا رأيت رجليه وتستغرب من عظيم كهذا يهزأ بعادات مجتمعه إلى هذا الحد ولا يبالي النقد ولا الملام ولطالما قال أنا شاذ ولا أحب أن يقتدي بي أحد.
ومن عادة الشيخ أن يحمل في جيوبه وعبابه بعض الدفاتر والرسائل
بل أقلاما ودواة ومقراضا وسكينا وأبرا وخيوطاً وشيئا مما يحمل من النواشف والخبز والجبن والزبدة والتين والزبيب وفي بعضها مادة دهنية دسمة يخشى أن تسيخ كالشواء وما دخله سمن أو زيت من المآكل يضع ذلك في مقوى أو ورق غليظ ويستعمله عندما يريد ويطعم منه أصحابه إن أحبوا، أما الدخان والسكر والمربى فيحمل منه مؤونة أيام أحيانا، وقد يطبخ القهوة في داره كمية وافرة ويعمل منها ما يكفيه أسبوعا حتى لا يضيع وقته بطبخها كلما أراد تناول فنجان منها وهكذا يشربها باردة بائتة أياماً لئلا يشتغل بها كل ساعة عن مطالعته. وقال لي مرة أنه ابتاع أرطالا من البرتقال وضعها في داره ومن الغد بدا له أن يسافر وتذكر وهو على أذرع قليلة من البيت أنه يجب أن يستصحب في حقيبته شيئا من البرتقال وتذكر ما اشتراه منه بالأمس فآثر أن يبتاع برتقالا من الطريق لئلا يضيع وقته بالرجوع إلى الدار بعد إزماعه الخروج منها ولم يعد الشيخ إلى داره إلا بعد ستة أشهر وفرح أن رأى برتقالاته تضمر وتنشف.
وكان مغرما بالتدخين منعه الطبيب منه وأراده على إبطاله فتعذر عليه ذلك فقال الطبيب إن كان لا بد من التدخين فلف بنفسك لفائفك حتى يمضي جانب من الوقت في اللف وكان الشيخ لا يحسن صنع لفائفه فتجيء واحدة دقيقة وأخرى غليظة وثالثة متوسطة وعندئذ يبدأ الشيخ بتجاربه ليضع اللفافة في البز (الفم) الذي يلائمها وكان في جيب الشيخ بضعة من هذه الابزاز يتخيرها من القصب أو غيره من أنواع الخشب وهكذا كان يتلهى عن الإكثار من التدخين ولو بضع دقائق وإذا قلت له بإبطال التدخين ينهرك ويعرض عن حديثك هذا وهو صاحب إرادة قدت من حديد أو صخر.
ومن عادة الشيخ خلال الأربعين السنة الأخيرة من حياته أن لا ينام إلا إذا صلى الصبح يساهر بعض أصحابه هزيعا من الليل ثم يغشى
حجرته يطالع ويؤلف وكان لا يراعي أوقات بعض أحبابه فيوقظهم أحياناً بعد الهزيع الثاني من منامهم ليسمر عندهم أما من كان لهم مواعيد ويعرفون التوقيت لساعات الليل والنهار فكان يصونهم عن غشيان منازلهم موهنا ولا يطرق أبوابهم بعد الأوقات المعينة للسمر والسهر.
كان يحب السباحة والعوم وله مسبح خاص في بيروت وآخر في صيدا ومسابح في بعض أنهر دمشق وربما لبس سراويله مبللة بعد الخروج من سباحته ويهوى السير على الأقدام للتريض ولطالما قطع عشرات الأميال بين المدن والقرى والجبال والأودية سائراً على قدميه. وقد يراه في الطريق بعض أصحابه أو من لا يعرفه ويدعونه إلى الركوب في مركباتهم أو على متون دوابهم فيأبى لأنه لا يحب أن ينقض أمراً أبرمه ونفسه تتوق إلى السير ماشيا فأي معنى للركوب. ومن أغرب أطواره أنه إذا استعدت نفسه للقيلولة قال وهو وسط إخوانه يتذاكرون ويتدارسون. يقيل وهو قاعد ويضع على وجهه منديلا وربما أتم إغفاءته عند إنجاز الدرس والمذاكرة ولم يكن يحب أن يطول الدرس أكثر من نصف ساعة لأنه يتبرم بالجد في هذه المجالس وهو يقضي الساعات في مطالعاته الخاصة (1).
-4 -
كان الشيخ لا يعرف الهجر ولا يشتم شتما ينبو عن حد الأدب مع حدة فيه ظاهرة وألم من من أكثر أحوال المجتمع وكان إذا صفا ذهنه تفصح عبارته في محاضرته وإلا فيعتريها شيء من اللهجة المغربية ممزوجة بالعامية الدمشقية وله تعبيرات خاصة وأساليب في مصطلحاته
(1) ش: ج 7، م 5، ص 21 - 24 غرة ربيع الأول 1348ه، أوت 1929م.
ونبراته لطيفة تحلو من فمه، يمزج أحماضا من الجد وما أحصى عليه أن نطق يوما بفحش أو هراء أو استعمل ما ينافي الأدب والمروءة وكان يميل إلى بعض من فيهم البلاهة ممزوجة بالذكاء وتصدر عنهم غرائب الأفكار والتصورات وربما قصدهم كل سنة من بلد إلى بلد ليقطع بينهم أياما يخرج فيها من الجد ويدخل معهم في حديث قد يروقه للتسلية.
حدثني أحد لداته قال: كنا في دمر إحدى قرى دمشق نقضي فيها يوما للنزهة وكنا في نحو الثلاثين من العمر فاعتزل الشيخ طاهر في ناحية من الحديقة يطالع ويكتب في ظل شجرة وكنا حراصا على أن يكون معنا طول النهار وكانت في البستان فتاة إسرائيلية جميلة الطلعة فاقترحنا عليها أن تذهب إلى الشيخ المستظل بالشجرة وتأتينا به ونحن نكرمها بالمال فصدعت بالأمر ولما رفع رأسه من كتابه أخرج لها في الحال قطعة من قمر الدين (معجون المشمش) وقال لها: "إيه بارك الله أتأكلين قمر الدين يا قمر الدنيا" وصرف الفتاة بهذا التقريظ وهذا كل ما أثر عن الشيخ في باب التصابي. وسأله أحد الطلبة عن حكم التقبيل وما إليه فأجابه هذا موضوع لا أعرفه سل غيري وتكلم أحد أصحابه بعيداً عن الحشمة في حضرته فأشاح بوجهه وتصام كأنه ما سمع ولا دهش لهذا الغريب من الحديث على حين كان مغرما بالغرائب ولكن لا من هذا البحر والقافية.
سأله أحد الفقهاء ممن ألفوا كتباً دينية حشوها بما لا يقره الشرع الصحيح ولا العقل الصريح كيف تجد كتبي يا شيخ طاهر؟ فأجابه في الحال متخلصا أجمل تخلص "اشتغلوا ونحن نشتغل لنرى لمن تكون النتيجة" وكان يكره المتشدقين من المؤلفين والكاتبين خصوصا في الدين والسياسة بل يكره كل من يقول بغير علم ويحاسب الذين يرمون الكلام على عواهنه حسابا غير يسير ويسميهم الحشوية كما
يكره الجلجلوتين والقبوريين والجامدين والمماحكين. وسمعته يقول إن فلاناً بردِّه على الماديين وهو لا يحسن العلوم المادية فتح علينا أبوابا يصعب سدها وفلانا بمقالاته السياسية المطولة يفتح بقلمه كل حين مشاكل صعبة الحل.
وكان ينهر من يوردون أحاديث تفت في عضد السامعين وتلقي في قلوبهم الرعب والوهم لأن من مذهبه تقوية القلوب وإزالة غشاء الأوهام من الأحلام وأن يصمد المرء لكافحة الحوادث ولا يحب الاستقراء والاستنتاج إذا كانا في غير محلهما حتى لا يؤدي التزيد والتفلسف إلى تزييف الوقائع وإلباس الحقائق غير صورها ولذلك كان يستلطف من الإنكليز السكسونيين إيجازهم في أحاديثهم وكتبهم ويوحشه من اللاتينيين تبسطهم في أقوالهم ومكتوباتهم.
كان يرفق بالضعفاء ويرفع من قدر الصعاليك ويحمل على العظماء ويترفع عن ملابستهم وكثيرا ما كان يحدث العامة برفق وتؤدة ويخاطبهم خطاب إخوانهم لهم. ولطالما قال أن من الحكمة أن لا تجعلوا بينكم وبين العامة حجابا كثيفا إذا أحببتم هدايتهم والانتفاع بهم في المجتمع وعليكم أن توهموهم أن ليس بينكم وبينهم من الدرجات إلا قليل يوشكون هم إذا اشتغلوا قليلا أن يساموكم أو يفوقوكم فهو بهذا كالطبيب الحاذق يعطي المريض الجرعة التي تناسبه ويتدرج به في المقويات درجة درجة وهكذا كان مع كل طالب ومستفيد، تحقق لدى الشيخ أن ابن أخيه، وكان من نوابغ الشبان، ابتلي بآخرة بالشراب يتعاطاه، فقطع مكاتبته مع شدة حبه له وظل لا يكلمه ولا يبحث عنه مدة اثنتي عشرة سنة وهو يكتم السبب في إعراضه عن نجل شقيقه حتى أشار مرة لبعض خاصته بما يرتكبه المغضوب عليه من أخذ المسكر، وعد عليه في جملة هناته أنه أتعب نفسه في المدرسة زيادة على المطلوب فضعف بصره حتى ينال رتبة علية وكان عليه لو سمع
نصائح عمه أن لا يرهق نفسه ويكتفي من المنافسة مع أقرانه بما توصله إليه الطبيعة بدون إعنات ولا إنهاك بدن وهذا من قوة نفسه وصدق حدسه.
كان يكره الاستعمار كرها شديدا ويحب المدنية ويحث على تعلم لغات الغرب ويكره السياسة العثمانية ويقول أن استيلاء الترك على بلاد العرب أضر بها وأزال مدنيتها وغير أخلاقها ولم يكن ينكر على الأتراك أدبهم في عشرتهم ونظامهم في بيوتهم وحسن معاملتهم لكبرائهم. وكان يحب من أهل المدنيات الحديثة كل أمة ترفق بالمسلمين في الجملة ويحب من الناس من يصرف في خدمة المسائل العامة شيئا من وقته وماله. وكان يقول وهو على فراش الموت عدوا رجالكم واغفروا لهم بعض زلاتهم وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد البلاد منهم ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم يقول هذا رجل أخلص كل الإخلاص في خدمة أمته وتفانى في حبها ومعالجة أدوائها الاجتماعية وكان جماعا ما كافأته به في حياته عبوسا وانقباضا وتنغيصا وغصصا ثم عصيانا على إصلاحه الناجع كالطبيب النطاسي يريد الخير بمريضه المعربد وكلما ناوله الدواء عضه وأدماه وشتمه وآذاه "أريد حياته ويريد قتلي". وكان الشيخ كثيراً ما ينشد قول البهاء زهير:
يا أيها الباذل مجهوده
…
في خدمة أف لها خامة
إلى متى في تعب ضائع
…
بدون هذا تأكل اللقمة
تشقى ومن تشقى له غافل
…
كأنك الراقص في الظلمة
ويشبه الشيخ من كثير من الوجوه غاندي الفيلسوف الهندي المعاصر وإن لم يكن له ما لهذا من الشجاعة وذلك أن الشيخ لا يحب الأذى ولا العنف ويحاول إحياء كل ما هو آسياوي من اللغات والتقاليد وتعليم الناس الصنائع وعدم الغفلة عما عند الأمم الغربية من مقومات
العلم. ولا عجب فالعقل واحد مهما اختلفت الأعصار وتباينت الأفكار العقل السليم في هذا الشرق القريب وفي ذلك الشرق الأوسط وما وراءه من الشرق الأقصى لا يختلف في مظاهره الحقيقية عما هو عليه في أوروبا وأميركا وإفريقيا.
نعم لم يكن الشيخ طاهر كالمهاتما غاندي في حملاته حتى ولا في تصريحاته، المبدآن متفقان إلا قليلاً، ولكن ابن الوثنية جسر على العمل بمداه أكثر من ابن الإسلام. شعار غاندي "هندوسا كنا أم بارسيين نصارى أم يهوداً أياً كنا يجب إذا تاقت نفوسنا إلى أن نعيش أمة واحدة أن تكون مصلحة الفرد مصلحة الجماعة ولا عبرة إلا لعدل مطالبه" أما الشيخ الجزائري فكان يتوقع من القوم أن يقولوا هذا وهو لا يدعوهم إليه إلا بالإشارة والمثال البعيد. والحكيم الهندي قال ما اعتقده غير مجمجم فتخلص من قيود كثيرة وأراد أمته علنا أن تنهج سبيله فكانت شهرته شهرة عالمية وانحصرت شهرة الشيخ في بعض أصقاع العرب. وكان بعضهم يقول أن الشيخ ضنين بالإفادة حتى ادعى بعضهم "أن الشيخ طاهر بئر علم ولكن لا ينتفع بها" والحقيقة أنه يصعب على الشيخ مجاملة من يشتهى ولا مأرب له إلا أن يقال عنه أنه باحث وطالب فوائد فلا يرى أن يتعب نفسه في إفهام فضولي يسأله في الفلسفة العليا أو في مسائل تعلو عن محيط عقله على حين هو في حاجة إلى أن يتعلم القراءة والكتابة فكان في ضنانته هذه حكيما أيضا لا يظلم الحكمة فيلقي دررها بين أرجل من لا يعرف قدرها ولا يتأتى له أن يحسن الانتفاع بها. أما المستعدون للتلقي والترقي فكان يجهد أن يختصر لهم طريق الوصول إلى ما يريدون ويبعث كل حين عقليتهم ويفيض من واسع علمه (1) على أذهانهم وكلما
(1) في الأصل عمله.