الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلوا بيني وبين ناقتي
كان الأعراب يجيئون للنبي- صلى الله عيه وآله وسلم- يسألونه ويستجدونه في غلظة وجفوة من القول فكان يعطيهم ويتجاوز عن جفائهم ويعذرهم ببداوتهم. فجاءه أعرابي يطلب منه شيئاً فأعطاه إياه ثم قال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم «أأحسنت إليك؟» ليعرف ما عنده من الاعتراف بالإحسان أو ليعرف اكتفاءه بما أعطاه فقال له الأعرابي: (لا ولا أجملت) أي ما أتيت لا بحسن ولا بجميل. فغضب المسلمون وقاموا إليه ليوقعوا به جزاء سوء أدبه فأشار إليهم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أن كفوا ثم قام النبي- صلى الله عليه وآله وسلم ودخل منزله وأرسل إلى الأعرابي وزاده شيئا ثم قال له: «أأحسنت إليك؟» فقال الأعرابي: "نعم. فجازاك الله به من أهل وعشيرة خيراً". هكذا توسل النبي- صلى الله عليه وآله وسلم إلى تأديبه واستخراج الاعتراف بالجميل منه ليتربى عليه وحمله على النطق بالكلام الطيب بزيادة الإحسان إليه. فاعترف بالإحسان ودعا الله بالجزاء للنبي- صلى الله عليه وآله وسلم بسبب إحسانه وشعر بأن النبي- صلى الله عليه وآله وسلم كان له أهلا وعشيرة وهذه كلها معارف وآداب وشعور طيب جاء بها هذا الأعرابي الجافي بسبب تربيته بزيادة الإحسان إليه. وأراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يتركه يرى بين الصحابة- رضي الله عنهم بالعين التي كانوا يرونه بها لجفائه وسوء أدبه وأن لا يترك في قلوبهم شيئاً عليه، فقال له: «إنك قلت ما قلت وفي أنفس أصحابي شيء فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في
صدورهم عليك» دعاه بألطف القول وألينه دون أمر ولا إلزام فقال الأعرابي: "نعم" فلما كان الغد أو العشي جاء الأعرابي لمجلس النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: «إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي. أكذلك، قال نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً» .
ثم أراد النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أن يضرب مثلا لأصحابه- رضي الله عنهم يبين لهم به كيف يكون رد الشارد وجذب النفور وتأليف الجافي، وأن المتصدي لتربية الناس أعرف من غيره بما يصلحهم وأن الرئيس المتبوع أعرف بطباع أتباعه وأحق بتأليفهم وتربيتهم من الاتباع بعضهم في بعض، فقال لهم- صلى الله عليه وآله وسلم:«مثلي ومثل هذا مثل رجل له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحبها: خلوا بيني وبين ناقتي فإني أوفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت (بركت) وشد عليها رحلها واستوى عليها» ثم قال لهم: «وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار» فقد استحق النار لو مات على تلك الحال فأشفق عليه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم فعالجه بما أنقذه منها وهكذا تكون رعاية الأفراد والأمم باللين والإحسان والإنقاذ من مصارع السوء والحمل بالرفق والعلم على السير في أحسن السبل فصلى الله عليه وسلم من نبي حريص على الخير رفيق بالخلق عليم بطبهم، {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (1)} (2).
(1) ذكرها فى الشفاء وأصلها في البزار كلما ذكره الشراح.
(2)
ش: ج 4، م 11، ص 207 - 208 غرة ربيع الثاني 1354ه - جوان 1935م.