الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السر كل السر في الأرواح
قد ينبثق الفرعان من أصل واحد ويهبط الإخوان من صلب واحد وتجمعهما رحم واحدة ويعيشان عيشة واحدة ثم يكون هذا في مستوى وهذا في مستوى دونه بمنازل.
ما ذلك الإختلاف مع ذلك الإتفاق إلا لسر في النفس هو خفي كحقيقة النفس ..
وهذه القصة التي ننقلها عن ابن أبي الحديد في الأخوين الكريمين الشريفين العظيمين: أبي الحسن الرضي وأبي القاسم المرتضى- عبرة بالغة في ذلك. قال: "حكى أبو حامد بن محمد الأسفرايني الفقيه الشافعي، قال: كنت يوماً عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة "من بني بويه" فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بين يديه من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف، ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم- رضي الله عنه فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الإكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلاً وسأله أمراً فقضاه ثم انصرف.
قال أبو حامد: فتقدمت إليه وقلت: أصلح الله الوزير، هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الأمثل والأفضل منهما، وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة وكنت مجمعاً على الإنصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب، فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن انفضَّ الناس
واحداً فواحداً فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه دعا بالطعام فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي، إتصل بي أنه قد ولد له ولد فنفذت إليه ألف دينار وقلت هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فأقرأه.
قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد ومن جملته: "إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة وإنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا ولسن ممن يأخذن أجرة ولا يقبلن صلة".
قال الوزير: فهذا هذا، وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادوريا "بالجانب الغربي من بغداد" تقسيطاً نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكاً للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهماً ثمنها دينار واحد، وقد كتب إليَّ منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب، فأقرأه.
قال أبو حامد: فقرأته فإذا هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه.
قال الوزير فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل، هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟ فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقاً، والله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه، ولا أحله إلا في محله، وقمت فانصرفت.
وفي هذه القصة إلى ما قصدناه منها نموذج من مجالس الوزراء
وآدابهم ومعاملتهم للناس على منازلهم وضبطهم لمكاتبهم والعناية بالري وحفر الأنهار مما ازدهر به عماران (1) العراقي من الناحية في تلك العصور أي ازدهار وآثار تلك العناية باقية على الزمان إلى اليوم (2).
(1) كذا في الأصل ولعله: عمران العراق.
(2)
ش: ج 5، م 15، ص 213 - 215 غرة جمادى الأولى 1358ه - جوان 1939م.