الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد العزيز الثعالبي
هكذا أذكره دون لقب أو صفة فإن هذا الإسم لم يبق علما على ذات مشخصه تحتاج إلى صفاتها وألقابها، بل صار في أذهان الناس علما على الرجولة والبطولة والزعامة، وعلى التفكير والعمل والتضحية وعلى الإسلام والشرق والعروبة وعلى وحدة إفريقيا. فإذا قلت عبد العزيز الثعالبي فقد قلت هذا كله. أسرة الثعالبي جزائرية، وهو مولود بالجزائر وجده ممن شاهد بعضا من معارك الجزائر في رد الحملة الفرنسية وأصيب برصاص العدو، وبقيت آثاره في صدره، فكان يكشف عن ذلك الصدر لعبد العزيز في صغره ويذكر له الجزائر والاستيلاء عليها وهجرته هو وغيره من الجزائريين من ذلك الاستيلاء.
نشأ الثعالبي تونسيا ودرج للعلم زيتونيا وتعدت به عبقريته دائرة الكتب الزيتونية الدراسية الضيقة فأخذ يتناول كل ما تصل إليه يده من خزانة الجامع ومكتبة العبدلية وكانت مبائته بضع سنوات عدة. وكان ذهنه الحاد وحافظته القوية ورغبته الملحة مواهب أكسبته مما درس وقرأ نبوغا في الفهم والخطابة والكتابة: فبرز من جامع الزيتونة نابغة عبقريا غريبا شاذا بين أهل عصره شأن كل نابغة عبقري.
لقي عبد العزيز من الجامدين والمستبدين- وما زالا على الدهر متوالين- ما يلقاه مثله فعوكس وأوذي وسجن ولكنه لم يتزحزح قيد شعرة عما حبس نفسه عليه من إصلاح المجتمع من جميع نواحيه.
رحل الثعالبي للأزهر وحضر دروس البشري، وعاد إلى تونس وقد فتحت له الرحلة عالما آخرا وابتدأ تكونه العالمي بعد الإقليمي ورحل إلى
[صورة: الأستاذ الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ عبد العزيز الثعالبي]
ــ
الجزائر والمغرب فتم تكونه الإفريقي. أعطى الثعالبي تونس حقها ووضع لها كل أسس نهضتها ثم فارقها في رحلته الأخيرة ليعطي حق الشرق والعروبة والإسلام فكان نظام العقد وعنوان الوحدة وروح الاتصال والعلم الإفريقي الخفاق الذي لفت أنظار الشرق إلى الشمال الإفريفي وإلى تونس عروس ذلك الشمال. وكان الثعالبي في الشرق من جهة أخرى برهانا ساطعا ودليلا متنقلا على ظلم الاستعمار واستبداده، وما يلاقيه الأفارقة من كيده وبلائه، ويكذب كل ما يتظاهر به هنالك حيث لم ترسخ قدمه ولم يتم سلطانه. شعرت فرانسا- أخيرا- بعظيم ضرر ذلك على سياستها في الشرق العربي والإسلامي فأذنت للثعالبي في العودة لوطنه.
فالإستعمار هو انفى الثعالبي لمصلحته هنا والاستعمار هو رد الثعالبي لمصلحته هنالك. وأبى الله إلا أن يستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هناك ويستفيد الشرق والعروبة والإسلام من الثعالبي هنا. فاعتبروا يا أولي الأبصار!
عاد الثعالبي فاهتزت فرحا إفريقيا الشمالية كلها وتونس وطنه والجزائر مسقط رأسه ووطن أسلافه ورأت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في قدومه اعتزاز الإصلاح الإجتماعي الإسلامي من ناحية الفكر والعلم والأخلاق والسلوك في الحياة- وهذا ما تعمل له الجمعية- فأبرقت تهنئه وتهنيء الأمة التونسية الشقيقة به، ثم رأت أن تعرب عن سرورها بقدومه وإعجابها بمواهبه وتعظيمها لجانبه بذهاب رئيسها لتحيته وتهنئه بقدومه وإبلاغه كل ما تحمله الجمعية والجزائر العربية المسلمة من الحب والاحترام والتعظيم لشخصه.
ذهبت يوم الخميس 14 جمادى الأولى إلى تونس وزرت الثعالبي في داره وبلغته عن الجمعية رسالتها فقابلها بالشكر والثناء وتلقاها بالفرح والسرور وأي سرور هو؟ سرور من وقف نفسه على الإصلاح وفارق الشمال الإفريقي ولا دعوة للإصلاح فيه، ثم جاءه بعد مدة من الدهر فوجد للإصلاح جندا قويا وقيادة منظمة وصوتا عاليا وكلمة نافذة وتقديرا لأمثاله من الرجال المصلحين.
انتهت بهذه المقابلة مهمتي كرئيس للجمعية وموفد من طرفها. وكانت بعد ذلك المجالس والاجتماعات والحفلات والزيارات في دار الشيخ وغيرها مع الشيخ ودونه- كانت وكنت فيها كجندي بسيط من جنود العروبة والإسلام. فما شئت من أنس، ونعيم نفس، وكل ما يغذي الروح ويحيي الوجدان ويرضي العروبة والإسلام.
وَحَدِيثٍ أَلَذُّهُ هُوَ مِمَّا
…
تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ يُوزَنُ وَزْنَا
مَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَنُ أَحْيَا
…
ناً وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْناً (1)
عبد الحميد بن باديس
(1) ش: ج 7 م 13، ص 316 - 318 رجب 1356ه - سبتمبر 1937م.