الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخنساء وبنوها
أثر الإسلام في النفوس
ــ
من يجهل بكاء الخنساء على صخرها؟ فقدضربت العرب بحزنها عليه الأمثال، وشعرها الخالد من أبلغ ما قالته العرب في مرارة اللوعة البالغة، وتحرق العاطفة الشديدة. وقد كانت الخنساء قبل أن تصاب تقول البيتين والثلاثة، فلما أصيبت بفقد أخيها عمر، ثم بفقد أخيها صخر، الذي أنساها ما قبله، اندفعت بعوامل الحزن فأكثرت من الشعر وأجادت.
هذه المرأة التي بلغ بها الحزن على فقد أخوتها في الجاهلية ما بلغ، وانتهى بها الجزع إلى ما انتهى، عادت في إسلامها تقدم أبناءها، أفلاذ كبدها، الأربعة إلى الموت، وتحثهم على خوض غماره، وتحمد الله أن قتلوا كلهم في مشهد واحد، وتصبر محتسبة مصابها لله، مصدقة بوعوده.
أين إخوان من أربعة أبناء؟ وما ذلك الجزع عن ذينك وهذا الصبر عن هؤلاء؟ وما الذي قلب طباع هذه النفس من جزوعة مضطربة إلى مطمئنة راضية؟ هو -والله- الإسلام، الإسلام الصحيح كما جاء به محمد- صلى الله عليه وآله وسلم ديناً فطرياً، فأثر في فطر معتنقيه من العرب الأميين. وإذا لم يؤثر في أقوام مثل هذا التأثير فلأنهم فهموه فهماً معكوساً، أو لبسوه لبساً مقلوباً. ولا وربك لا تتأثر به فطر معتنقيه في كل عهد إلا إذا تناولوه على فطرته في ذلك العهد كما تناوله سلفهم الأولون.
• • •
قدمت الخنساء بنت عمرو بن الشريد على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم مع قومها من بني سُلَيْم فأسلمت معهم، فذكروا أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم كان يستنشدها فَيُعْجِبُه شعرها وكانت تُنْشِده وهو يقول: هيه يا خُنَاس، ويومىء بيده. وهاك قصتها مع بنيها ملخصة باختصار من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر (1):
"حضرت حرب القادسية ومعها بنوها، أربعة رجال، فجمعتهم ليلة الوقعة وقالت لهم: يا بني، أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، وإنكم لبنو رجل واحد، كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خُنْت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجَّنْت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، وذكرتهم بآيات الوعد بجزيل الثواب، للصابرين في مواطن الضراب. وقالت لهم: فإن أصبحتم غدا- إن شاء الله- سالمين، فاغدوا إلى قتال عدوِّكم مستبصرين، فإذا رأيتم الحرب شمَّرت عن ساقها، واضطرمت لظى على ساقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام خميسها، تظفروا بالخلد (2) والكرامة، في دار الخلد والمقامة.
فلما أضاء لهم الصبح باكروا مراكزهم وباشروا القتال واحداً بعد واحد، حتى قتلوا كلهم، وكل واحد أنشد قبل أن يستشهد رجزاً:
فأنشد الأول:
لا إخوتي إن العجوز النَاصِحَة
…
قد نصحتنا إذ دَعَتنا البارحة
مقالة ذات بيان واضحة
…
فباكِرُوا الحرب الضروس الكالحة
وإنما تَلقَوْنَ عند الصائحة
…
من آل ساسان الكلابَ النابحة
(1) الإستيعاب 4/ 1827، وانظر خزانة الأدب 1/ 395.
(2)
في الإستيعاب 1828: (بالغنم).
قد أيقنوا منكم بوَقع الجائحة
…
وأنتم بين حياةٍ صالحة
أو ميتة تورثُ غنما رابحة
وأنشد الثاني:
إنَّ العجوزَ ذات حَزْم وجلد
…
والنظر الأوفق والرأي السدد
وقد أمَرَتتَا بالسداد والرشد
…
نصيحة منها وبِرًّا بالولد
فباكِروا الحرب حماة في العدد
…
إمَّا لِفَوْزِ بارد على الكبد
أو ميتة تورثكم عِزُّ الأَبَدْ
…
في جنة الفِرْدَوْس والعيش الرغد
وأنشد الثالث:
والله لا نَعصى العجوزَ حَرْفاً
…
قد أمَرتنا حرباً وعطفاً
نًصْحاً وبرَّا صادقاً ولطفا
…
فبادروا الحربَ الضروسَ زَحفا
حتى تلفوا آلَ كسرى لَفا
…
أو يكشفوكم عن حِمَاكم كَشْفا
إنا نرى التقصير منكم ضَعفا
…
والقتل فيكم نَجدة وزلفى
وأنشد الرابع:
لست لخنساء ولا للأخرم
…
ولا لعَمروٍ ذي السناء الأقدم
إن لم أردفي الجيش جيش الأعجم
…
ماض على الهول خِضَّم خضرم
إما لفَوْزٍ عاجل وَمغْنَم
…
أو لوفاةٍ في السبيل الأكرم
فلما بلغ الخبر الخنساء، أمهم قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني في مستقر رحمته" (1).
(1) ش: ج 2، م 5، ص 22 - 24 غرة شوال 1347ه - مارس 1929م.