الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في سبيل الوحدة:
في تونس العزيزة
ــ
حقا أن لتونس هوى روحياً بقلبي لا يضارعه إلا هوى تلمسان أعرف ذلك من انشراح في الصدر، ونشاط في الفكر، وغبطة في القلب، لا أجد مثلها إلا في ربوعهما. ومن نعم الله عليَّ في العهد القريب أن يسر لي التردد بين الخضراء والبهجة مرتين، وقد كانت أخراهما في تونس ذات مظهر ممتاز ومغزى سام.
حللت بتونس في منتصف أشرف ربيعي العام لأحضر حفلة الذكرى التي أقيمت للرجل العظيم السيد البشير صفر رحمه الله، وكنت ممن تشرفوا فيها بالخطابة ثم دعتني جمعية التلامذة الجزائريين الزيتونيين والجمعية الودادية الجزائرية بتونس إلى الخطابة فما وسعني إلا الإجابة وحظيت بلقاء الكثيرين من رجال العلم والأدب والسياسة ورجال الأعمال والعمال، من كل من كانت تونس بهم وبأمثالهم عروس الشمال الإفريقي وواسطة عقد وحدته وقد كانت من الأمة التونسية الكريمة وصحافتهما وبعض الصحافة الفرنسية عناية ظاهرة بما كان ظاهرا من مقاصد الرحلة، وقد رغب إليَّ بعض الإخوان أن أنشر عليهم ما ألقيته في الخطبة الأولى والثانية فاعتذرت عن نفس النص لأنني لم ألقهما إلا ارتجالا ولكنني رجحت إلى ما نشرته منهما وعنهما بعض الرصيفات الكريمة فأثبته هنا تخليداً له- لما اشتمل عليه من مبدأ وغاية- في هذه المجلة التي ما أسست إلا على ذلك المبدأ ولتلك الغاية.
قالت (النهضة) الناهضة:
"ثم تلاه ضيف تونس الأستاذ ابن باديس الذي وفد خصيصاً
[صورة: منصة الاحتفال بإحياء ذكرى البشير صفر بتونس]
…
من القطر الجزائري الشقيق ليحضر هذه الحفلة وألقى خطاباً ارتجالياً بفصاحة نادرة وامتلاك لناصية الموضوع أثر كثيراً على الحاضرين وهز مشاعرهم وذكرهم ببعض خصال الفقيد المحتفل بذكراه لأن الخطيب هو من تلاميذه المعترفين بفضله والمقرين بجميله الذي لا يزول وبعد هذا الخطاب الذي قوبل بعاصفة من الهتاف الحار جاء دور شيخ الأدباء الأستاذ الشيخ العربي الكبادي".
قالت (الزهرة) الزاهرة:
"وأحيلت الكلمة إلى حضرة الأستاذ الجليل والمصلح الكبير فضيلة الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس (ممثل الجزائر) فتقدم وارتجل خطاباً فياضاً بالشعور الإسلامي الصميم والعاطفة الإفريقية السامية.
إفتتحه بحمد الله والصلاة والسلام على نبيه ورسوله ومصطفاه وآله وصحبه ومن والاه. ثم قال:
أيها الإخوان الكرام
أيتها الأخوات الكرائم:
أرجو أن تعتبروني جنديا من جنود الإسلام والعروبة في القطر الجزائري لا أكثر ولا أقل وإني أحمل تحيات الأمة الجزائرية إلى شقيقتها الأمة التونسية ومشاركة الجزائر لتونس في هذه الذكرى الطيبة وهذا الحفل الكريم، كما أقدم مشاركتي الخاصة.
وأن الروابط عديدة بين تونس والجزائر، بل بين المغرب العربي بصفة عامة: طرابلس، وتونس، والجزائر، والمغرب الأقصى، كالروابط العلمية والروابط السياسية التي ذاقت بها هذه الأقطار حلاوة الاستقلال تحت ظل الإسلام والتاريخ يشهد بذلك.
وأنا شخصياً أصرح بأن كراريس البشير صفر الصغيرة الحجم الغزيرة العلم هي التي كان لها الفضل في اطلاعي على تاريخ أمتي وقومي والتي زرعت في صدري هذه الروح التي انتهت بي اليوم لأن أكون جندياً من جنود الجزائر.
وهذه الذكرى التي تقام اليوم إنما هي تقام لرجل واحد كان سببا في حياة أمة والقصد منها هو اعتراف بالجميل وهو من أعظم مظاهر الكمال الإنساني والشكر كما لا يخفاكم سبب في المزيد عند الله عز وجل، وعند عباده.
وطالما وصفت الأمم الشرقية بكفران النعم، وعدم تقديرها لعظمائها.
وها نحن نقيم الدليل بهذه الذكرى وأمثالها على أننا من الشاكرين للنعم لا الكافرين بها!
ثم أخذ الأستاذ ابن باديس بعد هذه المقدمة المفيدة في ذكر نواحي الفقيد المحتفل بذكراه فقال: إن لهذا السيد العظيم البشير صفر نواحي ثلاثا جديرة بالتنويه أذكرها لكم فيما يلي:
أولا- أنه رجل بنى ما أخذه من العلوم باللغات الأجنبية على ثقافة إسلامية عربية، وبذلك استطاع أن يخدم أمته وأن يحتل قلبها.
ثانيا- أن هذا الرجل لما تخرج من الصادقية ورجع بما رجع به من الديار الباريسية من العلم عرض عليه الوظيف فأباه ..... ولم يقبله حتى أشار عليه بقبوله الوزير المرحوم السيد العزيز بوعتور فقبل إذ ذاك الوظيف وجعله آلة لنفع أمته لا آلة لإشباع معدته.
ثالثا- أنه دخل الوظيف فلم يكن الوظيف له سجنا أو قفصا أو قيداً - كما قد يقصد به- إذ الوظيف لا يكون إلا (1) بمثابة السجن والقيد إلا للصغار من الناس لا لعظماء الرجال. فلقد أدى السيد البشير صفر- وهو في الوظيف- للصحافة والفلاحة والمعارف أجل الخدمات.
فهذه هي نواحي الكمال الثلاث التي يمجد بها الرجل. لكنه لما دخل العمل المخزني قصر في العمل، ولعله كان معذورا وقد عذرته الأمة.
وختم الأستاذ عبد الحميد بن باديس خطابه الارتجالي البليغ ببسطة عن مشاركة المرحوم الشيخ النخلي للفقيد في تشييد النهضة العلمية المباركة ومقاومة الركود والجمود وقال: هذان الرجلان العظيمان نقدمهما لأبنائنا لينحوا نحوهم ويقتفوا أثرهم لنصل إلى سعادة البشرية كلها لا سعادة الشمال الإفريقي أو تونس فقط.
والسلام عليكم ورحمة الله.
(1) كذا في الأصل ويمكن أن يكون التعبير: لا يكون بمثابة السجن والقيد إلا للصغار.
وبأثر انتهاء خطاب الشيخ السيد عبد الحميد بن باديس الذي قوبل وقوطع بعواطف متوالية من تصفيق الاستحسان" (1).
(1) كذا في الأصل والجملة غير تامة.
ش: ج 5، م 13، ص 225 - 228 غرة جمادى الأولى 1356ه - جوليت 1937م.