المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قسم العرب في القرآن - آثار ابن باديس - جـ ٤

[ابن باديس، عبد الحميد]

فهرس الكتاب

- ‌قسم التاريخ

- ‌تبليغ الرسالة

- ‌مقدمة:

- ‌المقصد:

- ‌فصل علمي:

- ‌الدرجة الأولى الأمر بالتبليغ المطلق:

- ‌الدرجة الثانية الأمر بتبليغ العشيرة:

- ‌الدرجة الثالثة الأمر بتبليغ العرب حوالي مكة:

- ‌الدرجة الرابعة الأمر بالتبليغ العام لمن في عصره ولمن بعدهم:

- ‌فصل عملي:

- ‌الخاتمة:

- ‌محمدصلى الله عليه وآله وسلم

- ‌شكوى الجزائر وبلواها

- ‌محمد عثمان باشاداي الجزائر

- ‌كلمة عن الجامع الأخضر

- ‌فاجعة قسنطينة

- ‌إبتداء الاعتداء:

- ‌ليلة السبت

- ‌استنتاجات من حوادث هذه الليلة:

- ‌صبيحة السبت4 أوت:

- ‌مساء السبت:

- ‌استنتاجات من حوادث يوم السبت وليلة الأحد:

- ‌يوم الأحد 5 أوت:

- ‌كيف ابتدأت الفتنة وكيف انتهت:

- ‌استنتاج وتعليل:

- ‌المصائب على الجانبين:

- ‌ليلة الإثنين ويومها:

- ‌في ليلة الإثنين جدد اليهود اعتداءهم على بيوت الله:

- ‌استنتاجات وملاحظات:

- ‌صبيحة الثلاثاء:

- ‌وفاء الوفد بوعده:

- ‌يوم السبت 11 أوت:

- ‌تنظير بين المسلمين واليهود:

- ‌النواب:

- ‌مفتي المسلمين وحبر اليهود:

- ‌الشرطة:

- ‌الأمة:

- ‌القتلى:

- ‌الخاتمة:

- ‌قسم العرب في القرآن

- ‌العرب في القرآن-2

- ‌قسم التراجم

- ‌رجال الإسلام ونساؤه

- ‌عبادة بن الصامت

- ‌أم حرام بنت ملحان

- ‌سعد بن الربيع

- ‌صدق ما عاهد الله عليه:

- ‌الحجاج بن عِلَاط

- ‌نسبه:

- ‌إسلامه ووفاته:

- ‌مسكنه وإقامته:

- ‌حاله في الجاهلية:

- ‌حاله في الإسلام:

- ‌الأسوة:

- ‌كيف كان إسلامه:

- ‌عمله:

- ‌زهده وورعه:

- ‌صدقه وصدعه بالحق:

- ‌تربيته:

- ‌مذهبه في المال:

- ‌جواب الأئمة عن استدلاله:

- ‌إعلانه رأيه وإثارته الفقراء:

- ‌حرية النظر:

- ‌النتيجة:

- ‌استقدام عثمان رضي الله عنه له من الشام:

- ‌فقه عثمان:

- ‌خروجه إلى الربذة:

- ‌تحذير:

- ‌وفاته:

- ‌سيدنا بلال الحبشي

- ‌نسبه:

- ‌إسلامه:

- ‌تعذيبه في الله وصبره:

- ‌ترجيح واقتداء:

- ‌عتقه:

- ‌جهاده:

- ‌وظيفته:

- ‌جزاء الحكيم:

- ‌ثناء عمر رضي الله عنه

- ‌تبشيره بالجنة:

- ‌سنه ووفاته:

- ‌عكاشة بن محصن

- ‌إسمه ونسبه:

- ‌سبقته ومشاهده:

- ‌أخبار تتعلق به:

- ‌‌‌بيان:

- ‌بيان:

- ‌إقادة رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم له من نفسه:

- ‌تنبيه وتحذير:

- ‌القدوة:

- ‌الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ

- ‌إسمها ونسبها:

- ‌سابقتها ومشاهدها:

- ‌قدرها ومنزلتها:

- ‌حكاية طريفة عنها:

- ‌الفوائد والأحكام

- ‌النساء في الحرب:

- ‌إقرار الحق وإنكار الباطل:

- ‌حزازات النفوس:

- ‌القدرة:

- ‌سمية بنت خياط

- ‌بيتها:

- ‌إسلامها وسابقتها:

- ‌تعذيبها واستشهادها:

- ‌أوليات النساء في الإسلام:

- ‌الأسوة:

- ‌هند بنت عتبة

- ‌كيف أسلمت:

- ‌صدق إسلامها:

- ‌أخلاقها:

- ‌عبرة وقدوة:

- ‌نُعَيْمَانُ بْنُ عَمْرٍو النِّجَارِي الأَنْصَارِي

- ‌سابقته ومشاهده:

- ‌ظرفه ونوادره:

- ‌الإسلام دين السماحة والسجاحة:

- ‌نقص رجح به الكمال:

- ‌الشفاء بنت عبد الله القرشية العدوية

- ‌سابقتها:

- ‌منزلتها الشخصية:

- ‌منزلتها في المجتمع:

- ‌الإقتداء:

- ‌تحذير:

- ‌النّعمان بنُ عديّ العدويّ

- ‌نسبه:

- ‌سابقته:

- ‌ولايته وعزله:

- ‌خاصتان له:

- ‌أدب وقدوة:

- ‌التعريف بكتاب العواصم من القواصم

- ‌ترجمة الإمام ابن العربى

- ‌نسبه وأوليته:

- ‌نشأته:

- ‌ رحلته

- ‌أشياخه:

- ‌تلامذته:

- ‌منزلته في العلم والفضل:

- ‌ولايته للقضاء:

- ‌محنته:

- ‌تصانيفه:

- ‌مولده ووفاته:

- ‌عبد العزيز الثعالبي

- ‌أبناء المغرب العربي

- ‌شيخي:

- ‌السيد محمد الخضر حسين:

- ‌جانب عامر من جوانب القيادة:

- ‌صديقنا:

- ‌الأستاذ الهلالي:

- ‌قصة الشهر:

- ‌الشيخ طاهر الجزائري:

- ‌أصله ونشأته:

- ‌علمه وعمله:

- ‌أخلاقه وعاداته:

- ‌غريب عاداته:

- ‌تآليفه ورسائله:

- ‌رسائله الخاصة:

- ‌رزء الإسلام

- ‌السيد محمد رشيد رضاــ-1

- ‌مولده:

- ‌بيته:

- ‌نشأته:

- ‌تعلمه وشيوخه:

- ‌الكتب التي خرجته:

- ‌تنسكه:

- ‌تخلص نسكه من الباطل والضلال:

- ‌تعليمه وإرشاده:

- ‌أمره بالمعروف وتغييره للمنكر:

- ‌ما وقع بينه وبين شيخه الجسر بسبب هذا الإنكار:

- ‌ السيد محمد رشيد رضاــ-2

- ‌البيئة المنزلية:

- ‌أثر المعلم:

- ‌التحصيل الدرسي والتحصيل النفسي:

- ‌تعيين الغاية والاستعداد لها:

- ‌التفكير والاستقلال فيه:

- ‌بعده من الوظيف:

- ‌سبب الهجرة إلى مصر:

- ‌سبب تعلقه بالأستاذ الإمام وأول تعرفه به:

- ‌آثار اتصاله بالأستاذ الإمام:

- ‌وفاء السيد للأستاذ الإمام في حياته وبعد وفاته:

- ‌مواقفه بعد الأستاذ الإمام:

- ‌غايته السياسية:

- ‌أثر السيد رشيد في العالم الإسلامي:

- ‌العلامة الأستاذ الشيخ محمد بخيت المطيعي

- ‌منزلته العلمية:

- ‌منزلته في القضاء والفتوى:

- ‌موقفه من الإصلاح الديني:

- ‌إنصافه للأستاذ الإمام وشهادته له:

- ‌علاقتي به:

- ‌مصطفى كمال

- ‌قسم القصص الديني والتاريخي

- ‌محاورة الرشيدمع محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة

- ‌الخنساء وبنوها

- ‌كيف كان بناء الكعبة المشرفة

- ‌ملك العرب

- ‌مناظرة بين سلفي ومعتزليفي مجلس الواثق

- ‌هذه نعلي ونعل آبائيمحافظة الرشيد على زي قومه

- ‌العامة المتعلمة

- ‌النجاة من العطب بقليل من الأدب

- ‌أباة الضيميزيد بن المهلب

- ‌أعظم قائد

- ‌ضلال شيخين واهتداء غلام

- ‌الراعي

- ‌خلوا بيني وبين ناقتي

- ‌كن خير آخد

- ‌لا أثر للعبودية مع الأحرار

- ‌من خان قوما فليس منهم

- ‌العبرة:

- ‌من ذكريات بدر

- ‌بيان وإيضاح:

- ‌بئس حامل القرآن أنا إذاً

- ‌العبرة:

- ‌هكذا تكون النزاهة

- ‌الأسوة الحسنة:

- ‌رقية الله

- ‌العبرة:

- ‌الأسوة:

- ‌نعوذ بالله من السلب بعد العطاء

- ‌وأنا أغتنمها

- ‌العبرة:

- ‌القدوة:

- ‌مصرع ظالم

- ‌إباء وعدالة:

- ‌عبرة في مقتله:

- ‌السر كل السر في الأرواح

- ‌قسم الرحلات

- ‌للتعارف والتذكير

- ‌الحروش:

- ‌عزابة:

- ‌سكيكدة:

- ‌سانطارنو

- ‌مجاز الدشيش- وسيدي مزريش:

- ‌عين مليلة:

- ‌أم لباقي:

- ‌عين البيضاء:

- ‌مسكيانة:

- ‌جولة صحافية

- ‌ مليانة

- ‌بعض التفصيل:

- ‌خميس مليانة:

- ‌الأصنام:

- ‌غليزان:

- ‌مستغانم:

- ‌زاوية الشيخ ابن طكوك:

- ‌في بعض جهات الوطن-2

- ‌قرية آرزيو:

- ‌وهران:

- ‌رحلتنا إلى العمالة الوهرانية

- ‌تمهيد:

- ‌تاريخ بداية الرحلة ونهايتها:

- ‌البلدان التي زرتها:

- ‌ماذا كنت أقوم به في كل بلدة:

- ‌موضوع الدرس ومادته:

- ‌الإشاعات الباطلة:

- ‌الأسئلة والأجوبة:

- ‌طريفتان في الموضوع:

- ‌مظاهر الاتحاد:

- ‌تعلق الأمة بحكومتها:

- ‌كرم الأمة وإقبالها:

- ‌فضل الحكومة ورجالها:

- ‌فضل الصحافة العربية والفرنسية:

- ‌فضل الرفاق علينا:

- ‌خدماتنا بهذه الرحلة:

- ‌دفع توهم:

- ‌في تونس العزيزة

- ‌محاضرة الأستاذ عبد الحميد بن باديس:

- ‌الحالة العلمية:

- ‌الحالة السياسية:

- ‌الشيخ عبد الحميد بن باديس في قالمة

- ‌قسم تطور الشهاب

- ‌خاتمة المجلد الخامس

- ‌فاتحة المجلد السادس

- ‌خاتمة المجلد السادس

- ‌تنبيه

- ‌فاتحة المجلد التاسع

- ‌مجلة الشهاب والحركة الإصلاحية

- ‌بعد عقد من السنين

- ‌في العشيرة الصحافية:

- ‌ما جاء في "البلاغ" الذائع

- ‌نفحة من الجزائر:

- ‌ما جاء في "القلم" البليغ

- ‌ما جاء في "الزهرة" الزاهرة

- ‌الشهاب النيرفي عقده الثاني الحفيل

- ‌ما جاء في " الزهو" العذبة

- ‌مجلة "الشهاب" الغراء

- ‌فاتحة العام الثاني من العقد الثاني

- ‌عمل الماضي:

- ‌التعليم:

- ‌الإصلاح:

- ‌أمل المستقبل:

- ‌فاتحة السنة (13)

- ‌بيان واعتذار

- ‌فاتحة السنة الرابعة عشرة

- ‌الشباب:

- ‌ الوطن

- ‌فرنسا:

- ‌الإدارة:

- ‌الأمة:

- ‌العلماء:

- ‌النواب:

- ‌المصلحون:

- ‌الطرقية:

- ‌فاتحة السنة الخامسة عشرة

- ‌قسم الصلاة على النبي

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-1

- ‌تمهيد

- ‌ القسم العلمي

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-2

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-3

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-4

- ‌وفسر بقرابته:

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-5

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-6

- ‌الصلاة على النبيصلى الله عليه وآله وسلم-7

- ‌القسم العملي:

- ‌التحذير:

- ‌قسم الفقه والفتاوى

- ‌الأسئلة والأجوبة

- ‌المباحثة والمناظرة:

- ‌من الإجارة لا من المكس

- ‌الدواء لمنع الحمل والعزل:

- ‌كراء الأسواق-2

- ‌قسم الفتوى-1

- ‌سؤال:

- ‌ الجواب

- ‌قسم الفتوى-2

الفصل: ‌قسم العرب في القرآن

آثار ابن باديس

‌قسم العرب في القرآن

ص: 57

العرب في القرآن

الخطاب الذي ارتجله الأستاذ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في اجتماعها العام بنادي الترقي لهذه السنة. وموضوعه (العرب في القرآن) وقد حافظنا على معانيه وعلى الكثير من ألفاظه، وهيهات هيهات لما نود من نقله للقراء بألفاظه وجمله. فإنه خطاب عظيم في موضوع خطير لا يضطلع به غير أستاذ في علمه بفنون القرآن وغوصه على مغازيه البعيدة ونفاذه في معانيه العالية.

وعلى كل فإننا نرجو أننا قدمنا الموضوع للقراء كامل المعاني وحسبنا هذا (1).

ــ

-1 -

حق على كل من يدين بالإسلام ويهتدي بهدي القرآن أن يعتني بتاريخ العرب ومدنيتهم وما كان من دولهم وخصائصهم قبل الإسلام ذلك لارتباط تاريخهم بتاريخ الإسلام ولعناية القرآن بهم ولاختيار الله لهم لتبليغ دين الإسلام وما فيه من آداب وحكم وفضائل إلى أمم الأرض فأما أنهم قد ارتبط تاريخهم بالإسلام فلأن العرب هُيِّئوا تاريخيا لأجل أن ينهضوا بأعباء هذه الرسالة الإسلامية العالمية، ولأن الله الحكم العدل الذي يضع الأشياء في مواضعها بحكمة ويأمرنا أن ننزل الناس منازلهم في شريعته، ما كان ليجعل هذه الرسالة العظيمة لغير أمة عظيمة، إذ لا ينهض بالجليل من الأعمال إلا الجليل من الأمم والرِّجال. ولا يقوم بالعظائم إلا العظام من الناس.

(1) تعليق ناسخ المحاضرة.

ص: 59

وأما عناية القرآن بالعرب فلأجل تربيتهم لأنهم هم الذين هُيِّئوا لتبليغ الرسالة فيجب أن يأخذوا حظهم كاملا من التربية قبل الناس كلهم، ولهذا نجد كثيرا من الآيات القرآنية في مراميها البعيدة إصلاحا لحال العرب وتطهيرا لمجتمعهم وإثارة لمعاني العزة والشرف في نفوسهم، ومن هذا الباب الآيات التي يذكر بها العرب أن هذا القرآن أنزل بلسانهم مثل:{إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} والذين يعقلون القرآن قبل الناس كلهم هم العرب. ومن أول القصد إلى العرب والعناية بلسانهم وتنبيههم إلى أن القرآن أنزل بلسانهم دون جميع الألسنة، جلبا لهم حتى يعلموا أنه أنزل لهم وفيهم قبل الناس كلهم.

إنّ العرب قوم يعتزون بقوميتهم وهم ذوو عزة وإباء خصوصاً في الجاهلية فكان من حكمة القرآن أن يجلب نافرهم ويقرب بعيدهم بأن هذا القرآن أنزل بلسانهم.

ومن هذا الباب توسعة الله في قراءة القرآن على سبعة أحرف وهي اللهجات التي تجتمع على صميم العربية وتختلف في غير ذلك. وسع عليهم في ذلك لتشعر كل قبيلة أن هذا القرآن قرآنها، لأن اللسان الذي أنزل به لسانها. وهذا هو ما يقصده القرآن، ومن هذا الباب أيضاً إشعارهم بأن صاحب الرسالة منهم:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} الآية.

فمن الطبيعة العربية الخالصة أنها لا تخضع للأجنبي في شيء لا في لغتها ولا في شيء من مقوماتها، ولذلك ترى القرآن يذكرها بالشرف ويحدثها كثيرا عن أمة اليهود التي لا يناديها إلا بيا بني إسرائيل تذكيراً لها بجدها الذي هو مناط فخرها كل ذلك لأنها أمة تحيا بالشرف والسمو والعلو - ويذكرها بالذكر - وهو في لسانها الشهرة الطائرة

ص: 60

والثناء المستفيض يقول تعالى لنبيه وهو يعني القرآن: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} . والأنبياء لم يبعثوا إلا في مناسب الشرف ومنابع القوة ومنابت العزة ليبنى المجد الطريف من الدين على المجد التليد من أحساب الأمة وأنسابها وشرفها وعزتها. وما كان لها من مناقب تلتئم مع أصول الدين. فقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني أنه شرف لكم وقومه هم العرب لا محالة.

ويقول بعد ذلك: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} ليُشعرهم أن عليهم من الواجبات في مقابلة هذا الشرف الذي أعطوه ما ليس على غيرهم ولا شك أن ثمن المجد غال.

وهذا الشرط الذي ذكره الله وذكر به العرب هو شرط واجب الاعتبار والتنفيذ.

لأن الأمة التي لا تؤدي ثمن المجد لا تحافظ عليه. ثم هي أمة لا يعتمد عليها في النهوض بنفسها ولا بغيرها. وإنما ذكرهم الله بذلك لينهضوا بالأمم على ذلك الأساس وهو إحياء الشرف الإنساني في نفوسها وليعاملوها على ذلك الأساس بالعدل والرحمة والتكريم وما ذكر القرآن العرب بتكريم بني آدم وخلقهم في أحسن تقويم إلا ليعاملوهم على هذه القاعدة التي وضعها الخالق، وإن أعداء البشرية اليوم وقبل اليوم يعمدون إلى قتل الشرف من النفوس ليستذلوا من هذا النوع ما أعز الله ويهينوا منه ما كرم الله.

والخلاصة أن عناية القرآن بإحياء الشرف في نفوس العرب ضرورية لإعدادهم لما هيئوا له من سياسة البشر. وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل.

ص: 61

وهذا السر هو أنهم ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.

وانظروا واعتبروا ذلك بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب وهي أمة إسرائيل فإنها لم تكن مهيأة لإنقاذ غيرها. وإنما هيئت لإنقاذ نفسها فقط لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى تلك الدرجة العليا: ولذلك عانى موسى معها ما عانى مما قصه القرآن علينا لنعتبر به في الحكم على الأمم.

ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلا وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.

وقد تقولون إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين، والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون وليكونوا مظهرا للنبوة والدين في أول أطوارهما وأضيق أدوارهما وهذا هو الواقع فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله وأن تظهر دين الله على الدين كله، وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا حتى بأنفسهم وإنما نهض بهم موسى نهضة قائمة على الخوارق وما نهضوا بأنفسهم إلا بعد موسى بزمن مع اتصال حبل النبوة فيهم ومغاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.

فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بحديث القرآن عنهما وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ

ص: 62

فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}.

فالسر المتجلي من هذه الآية هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا العالم الإنساني من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم وهو إخراج الضد من الضد وإخراج الحي من الميت وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية ولا من وسائل القوة المادية، من العباد الأقوياء المتألهين فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخالب أقوى الأقوياء وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين، والتمكين لهم في الأرض، وإراءة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم:{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} .

وإلى هذا المثل العملي تشير الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} .

وأمّا العرب فإنهم اختيروا لوظيفة عالمية عامة لما فيهم شرف متأصل واستعداد كامل وصفات مهيأة ولهذا كان منبع الرسالة بمكة وشأنها عند العرب هو شأنها، فهم مجمعون على تخليصها ولأنها في وسط الجزيرة وصميمها، ووسط الجزيرة بعيد كل البعد عن المؤثرات الخارجية في الطباع والألسنة تلك المؤثرات التي يجلبها الاحتكاك بالأجانب والاختلاط بهم. وكل أطراف الجزيرة لم تخل من لوثة في الطباع وعجمة في الألسنة، جاءت من الاختلاط بالأجنبي، ولا أضر على

ص: 63

مقومات الأمم من العروق الدساسة. فاليمن دخلتها الدخائل الأجنبية من الحبشة والفرس على طباع أهلها وألسنتهم، والشام ومشارفه كانت مشرفة على الاستعجام والعراق والجزيرة لم يسلما من التأثر بالطباع الفارسية. فكانت هذه الأطراف تنطوي على عروبة مزعزعة المقومات، ولم يحافظ على الطبع العربي الصميم إلا صميم الجزيرة ومنه مكة التي ظهر فيها الإسلام وهذا الوسط وإن كان عريقا في الصفات التي تسمى العصر لأجلها جاهليا، ولكنه كان بعيدا عن الذل الذي يقتل العزة والشرف من النفوس والجاهل يمكن أن تعلمه والجافي يمكن أن تهذبه. ولكن الذليل الذي نشأ على الذل يعسر أو يتعذر أن تغرس في نفسه الذليلة المهينة عزة وإباء وشهامة تلحقه بالرجال.

هذا توجيه موجز مقرب لاختيار الله تعالى العرب للنهوض بالرسالة العامة.

وشيء آخر يرتبط بهذا وهو أن الله كما اختار العرب للنهوض بالعالم كذلك اختار لسانهم ليكون لسان هذه الرسالة وترجمان هذه النهضة، ولا عجب في هذا فاللسان الذي اتسع للوحي الإلهي لا يضيق أبدا بهذه النهضة العالمية مهما اتسعت آفاقها وزخرت علومها وهذا جانب لا أتحدث عنه فقد كفانا مؤنته أخونا الأستاذ محمد البشير الإبراهيمي في محاضرته التي سمعتموها بالأمس (1).

(1) ش: ج 1، م 15، ص 21 - 25 غرة محرم 1358ه - فيفري 1936م.

ص: 64