الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضلال شيخين واهتداء غلام
كانت مدينة الطائف- وما زالت- مصطاف أهل مكة وكان بين البلدين صلة وقرابة. حتى قرنتا في قول المشركين الذي حكاه الكتاب: {لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} ، فخرج النبي- صلى الله عليه وآله وسلم إليها بعد وفاة أبي طالب واشتداد الأذى من قريش عليه. يدعو أهلها ثقيفاً ويلتمس عندهم النصرة والمنعة بهم من قومه فلقي من أذاهم أشد مما كان يلقى فأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجأوه إلى حائط مصطاف لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة القرشيان الأمويان وهما فيه ينظران إليه ويريان ما لقيه من سفهاء ثقيف لم يغيرا من ذلك شيئا وكان ذلك الجمع من العبيد والسفهاء لما رأوه التجأ إلى حائط فيه رجلان من قومه قريش ومن بني عبد مناف رجعوا عنه فعمد إلى ظل حبلة (كرمة) من عنب فجلس فيه.
رأى ابنا ربيعة ما لقي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم، وهما من بني عبد مناف، فتحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عدَّاس فقالا له خذ قطفاً (عنقوداً) من العنب فضعه في الطبق إذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه.
جاء عدَّاس بالقطف في الطبق فوضعه بين يدي النبي- صلى الله عليه وآله وسلم، فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم باسم الله وتناول منه، فسمع عدَّاس ما لم يكن يسمعه في تلك الأرض من المشركين فنظر في وجه النبي- صلى الله عليه وآله وسلم وقال
له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذا البلاد، فعرف النبي- صلى الله عليه وآله وسلم أنه ليس من تلك الأرض فسأله عن بلده وعن دينه فقال له أنه نصراني وأنه من أهل قرية نينوى من قرى الموصل فقال له النبي- صلى الله عليه وآله وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فدهش عدَّاس، وقال له- صلى الله عليه وآله وسلم: وما يدريك ما يونس بن متى وإنني فارقت نينوي وما يعرفه من أهلها إلا قليل فمن أين عرفت أنت هنا هذا وأنت أمي في أمة أمية فقال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي.
كان عدَّاس على يقين بما خبر من أهل تلك الأرض وعرف من جهلهم وأميتهم، من أنهم بعداء كل البعد عما شاهده من أدب النبي- صلى الله عليه وآله وسلم عند الأكل بذكر اسم الله، وما سمعه منه من العلم بيونس وبلدته فتحقق أن هذا ما وصل إليه إلا بوحي من الله فلم يتردد في تصديقه والإيمان به وأكب على رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
لم يكن عند عدَّاس مال يطغيه ولا جاه ينفخه ولا رئاسة يتعالى ويتعاظم بها ولا سلطة كهنوتية تفسد عليه إدراكه وتغل فكره فلذلك نظر نظراً صحيحاً وفكر تفكيراً مستقيماً فاستنتج من علم النبي- صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يعلمه الناس في أرض جهل وأمية أنه نبي موحى إليه من الله وكل من سلم من تلك القواطع التي سلم منها عدَّاس فهو أقرب الناس إلى قبول الحق واتباعه وما يتباطأ من يتباطأ عن قبول الحق والإذعان لأدلته إلا من تلك الموانع ويكون تباطؤه بقدر ما عنده منها.
بينما كان الغلام الصحيح العقل النقي القلب السليم الصدر الحر الضمير يستعمل فكره فيشرح الله صدره فيهتدي إلى الإسلام- كان
ذانك الشيخان الضالان اللذان أطغاهما المال ونفخهما الجاه وأعماهما الحرص على الرياسة، عتبة وشيبة- يقول أحدهما للآخر:(أما غلامك فقد أفسده عليك).
رجع عدَّاس- وقد اهتدى- إلى الشيخين الضالين فقالا له: (ويلك يا عدَّاس ما لك تقبل رأس هذا الرجل- يتجاهلانه- ويديه وقدميه) فقال لهما: "يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا لقد أخبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي" فقالا له: "ويحك يا عدَّاس لا يصرفنك عن دينك- وقد كان عدَّاس نصرانياً- فإن دينك خير من دينه".
لا يسوءهما أن يكون عدَّاس على أي ملة وإنما يسوءهما أن يتبع محمداً- صلى الله عليه وآله وسلم الذي يحسدانه ويخافان منه على رياستهما فحاولا أن يصرفاه عنه ويصداه عن اتباعه بما قالاه له، لكن عدَّاساً الذي عرف الحق بالدليل، وذاق حلاوة الإيمان وبرد اليقين، لم يقم لكلامهما وزناً، ولم يحر لهما جواباً، وأعرض عنهما كما يعرض عن الجاهلين وثبت على الدين الحق. وكذلد الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب (1).
(1) ش: ج 2، م 11، ص 79 - 81 غرة صفر 1354ه -1935م.